أَوَّلُهَا: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمرَان: ١٩] إِلَى آخِرِ السُّورَةِ.
وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي عصر النبوءة وَمَا بَعْدَهُ يُقَدِّرُونَ تَارَةً بَعْضَ الْأَوْقَاتِ بِمِقْدَارِ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ عَدَدًا مِنَ الْآيَاتِ كَمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ سُحُورِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِقْدَارُ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ خَمْسِينَ آيَةً.
قَالَ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ: «وَتَحْدِيدُ الْآيَةِ مِنْ مُعْضِلَاتِ الْقُرْآنِ، فَمِنْ آيَاتِهِ طَوِيلٌ
وَقَصِيرٌ، وَمِنْهُ مَا يَنْقَطِعُ وَمِنْهُ مَا يَنْتَهِي إِلَى تَمَامِ الْكَلَامِ»
، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «الْآيَاتُ عِلْمٌ تَوْقِيفِيٌّ».
وَأَنَا أَقُولُ: لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ تَعْيِينُ مِقْدَارِ الْآيَةِ تَبَعًا لِانْتِهَاءِ نُزُولِهَا، وَأَمَارَتُهُ وُقُوعُ الفاصلة.
وَالَّذِي استخصلته أَنَّ الْفَوَاصِلَ هِيَ الْكَلِمَاتُ الَّتِي تَتَمَاثَلُ فِي أَوَاخِرِ حُرُوفِهَا أَوْ تَتَقَارَبُ، مَعَ تَمَاثُلِ أَوْ تَقَارُبِ صِيَغِ النُّطْقِ بِهَا وَتُكَرَّرُ فِي السُّورَةِ تَكَرُّرًا يُؤْذِنُ بِأَنَّ تَمَاثُلَهَا أَوْ تَقَارُبَهَا مَقْصُودٌ مِنَ النّظم فِي آيَاته كَثِيرَةٍ مُتَمَاثِلَةٍ، تَكْثُرُ وَتَقِلُّ، وَأَكْثَرُهَا قَرِيبٌ مِنَ الْأَسْجَاعِ فِي الْكَلَامِ الْمَسْجُوعِ. وَالْعِبْرَةُ فِيهَا بِتَمَاثُلِ صِيَغِ الْكَلِمَاتِ مِنْ حَرَكَاتٍ وَسُكُونٍ وَهِيَ أَكْثَرُ شَبَهًا بِالْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُ فِي الْقَوَافِي. وَأَكْثَرُهَا جَارٍ عَلَى أُسْلُوبِ الْأَسْجَاعِ.
وَالَّذِي اسْتَخْلَصْتُهُ أَيْضًا أَنَّ تِلْكَ الْفَوَاصِلَ كُلَّهَا مُنْتَهَى آيَاتٍ وَلَوْ كَانَ الْكَلَامُ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ لَمْ يَتِمَّ فِيهِ الْغَرَضُ الْمَسُوقُ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ إِذَا انْتَهَى الْغَرَضُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ وَلَمْ تَقَعْ عِنْدَ انْتِهَائِهِ فَاصِلَةٌ لَا يَكُونُ مُنْتَهَى الْكَلَامِ نِهَايَةَ آيَةٍ إِلَّا نَادِرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ [ص: ١]، فَهَذَا الْمِقْدَارُ عَدُّ آيَةٍ وَهُوَ لَمْ يَنْتَهِ بِفَاصِلَةٍ، وَمِثْلُهُ نَادِرٌ، فَإِنَّ فَوَاصِلَ تِلْكَ الْآيَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أُقِيمَتْ عَلَى حرف مَفْتُوح بعد أَلِفُ مَدٍّ بَعْدَهَا حَرْفٌ، مِثْلَ:
شِقَاقٍ، مَنَاصٍ، كَذَّابٍ، عُجَابٍ.
وَفَوَاصِلُ بُنِيَتْ عَلَى حَرْفٍ مَضْمُومٍ مُشْبَعٍ بِوَاوٍ، أَوْ عَلَى حَرْفٍ مَكْسُورٍ مُشْبَعٍ بِيَاءٍ سَاكِنَةٍ، وَبَعْدَ ذَلِكَ حَرْفٌ، مِثْلَ: أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ [ص: ٦٨] إِذْ يَسْتَمِعُونَ [الْإِسْرَاء:
٤٧]، نَذِيرٌ مُبِينٌ [الْأَعْرَاف: ١٨٤]، مِنْ طِينٍ [الْأَنْعَام: ٢].
فَلَوِ انْتَهَى الْغَرَضُ الَّذِي سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ، وَكَانَتْ فَاصِلَةٌ تَأْتِي بَعْدَ انْتِهَاءِ الْكَلَامِ تَكُونُ
إِذْ أَصْلُ النَّعْتِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا ثَابِتًا وَأَصْلُ الْخَبَرِ أَنْ يَكُونَ وَصْفًا حَادِثًا، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ مُتَّبَعٌ فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ أَنْ يُعَادَ الِاسْمُ أَوِ الْفِعْلُ بَعْدَ ذكره ليبنى على وَصْفٌ أَوْ مُتَعَلِّقٌ كَقَوْلِهِ إِلهاً واحِداً [الْبَقَرَة: ١٣٣]. وَقَوْلِهِ: وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً [الْفرْقَان: ٢٧] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:... وَالتَّنْكِيرُ فِي إِلهٌ لِلنَّوْعِيَّةِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ تَقْرِيرُ مَعْنَى الْأُلُوهِيَّةِ، وَلَيْسَ لِلْإِفْرَادِ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ اسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ واحِدٌ خِلَافًا لِصَاحِبِ «الْمِفْتَاحِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [الْأَنْعَام: ١٩] إِذْ جَعَلَ التَّنْكِيرَ فِي إِلهٌ لِلْإِفْرَادِ وَجَعَلَ تَفْسِيرَهُ بِالْوَاحِدِ بَيَانًا لِلْوَحْدَةِ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى الْإِفْرَادِ فِي الْقَصْدِ مِنَ التَّنْكِيرِ مَصِيرٌ لَا يَخْتَارُهُ الْبَلِيغُ مَا وَجَدَ عَنْهُ مَنْدُوحَةً.
وَقَوْلُهُ: لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الْوَحْدَةِ وَتَنْصِيصٌ عَلَيْهَا لِرَفْعِ احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ الْكَمَالَ كَقَوْلِهِمْ فِي الْمُبَالَغَةِ هُوَ نَسِيجُ وَحْدِهِ، أَوْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إِلَهَ الْمُسْلِمِينَ خَاصَّةً كَمَا يَتَوَهَّمُهُ الْمُشْرِكُونَ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ أَبِي سُفْيَانَ: «لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ».
وَقَدْ أَفَادَتْ جُمْلَةُ لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ التَّوْحِيدَ لِأَنَّهَا نَفَتْ حَقِيقَةَ الْأُلُوهِيَّةِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى. وَخَبَرُ لَا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا فِي لَا مِنْ مَعْنَى النَّفْيِ لِأَنَّ كُلَّ سَامِعٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ هَذِهِ الْحَقِيقَةِ فَالتَّقْدِيرُ لَا إِلَه مَوْجُود إِلَّا هُوَ. وَقَدْ عَرَضَتْ حَيْرَةٌ لِلنُّحَاةِ فِي تَقْدِيرِ الْخَبَرِ فِي هَاتِهِ الْكَلِمَةِ لِأَنَّ تَقْدِيرَ مَوْجُودٍ يُوهِمُ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ إِلَهٌ لَيْسَ هُوَ مَوْجُودًا فِي وَقْتِ التَّكَلُّمِ بِهَاتِهِ الْجُمْلَةِ، وَأَنَا أُجِيبُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِبْطَالُ وُجُودِ إِلَهٍ غَيْرِ اللَّهِ رَدًّا عَلَى الَّذِينَ ادَّعَوْا آلِهَةً مَوْجُودَةً الْآنَ وَأَمَّا انْتِفَاءُ وُجُودِ إِلَهٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَمَعْلُومٌ لِأَنَّ الْأَجْنَاسَ الَّتِي لَمْ تُوجَدْ لَا يُتَرَقَّبُ وَجُودُهَا مِنْ بَعْدُ لِأَنَّ مُثْبِتِي الْآلِهَةَ يُثْبِتُونَ لَهَا الْقِدَمَ فَلَا يُتَوَهَّمُ تَزَايُدُهَا، وَنُسِبَ إِلَى الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ لَا تَقْدِيرَ لِخَبَرٍ هُنَا وَأَنَّ أَصْلَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ هُوَ إِلَهٌ فَقَدَّمَ إِلهٌ وَأَخَّرَ (هُوَ) لِأَجْلِ الْحَصْرِ بِإِلَّا وَذَكَرُوا أَنَّهُ أَلَّفَ فِي ذَلِكَ «رِسَالَةً»، وَهَذَا تَكَلُّفٌ وَالْحَقُّ عِنْدِي أَنَّ الْمُقَدَّرَاتِ لَا مَفَاهِيمَ لَهَا فَلَيْسَ تَقْدِيرُ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ بِمَنْزِلَةِ النُّطْقِ بِقَوْلِكَ لَا إِلَهَ مَوْجُودٌ بَلْ إِنَّ التَّقْدِيرَ لِإِظْهَارِ مَعَانِي الْكَلَامِ وَتَقْرِيبِ الْفَهْمِ وَإِلَّا فَإِنَّ لَا النَّافِيَةَ إِذَا نَفَتِ النَّكِرَةَ فَقَدْ دَلَّتْ عَلَى نَفْيِ الْجِنْسِ أَيْ نَفْيِ تَحَقُّقِ الْحَقِيقَةِ فَمَعْنَى لَا إِلَهَ انْتِفَاءُ الْأُلُوهِيَّةِ إِلَّا اللَّهُ أَي إلّا الله.
وَقَوْلُهُ: الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ وَصْفَانِ لِلضَّمِيرِ، أَيِ الْمُنْعِمِ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ وَدَقَائِقِهَا وَهُمَا وَصْفَانِ لِلْمَدْحِ وَفِيهِمَا تَلْمِيحٌ لِدَلِيلِ الْأُلُوهِيَّةِ وَالِانْفِرَادِ بهَا لِأَنَّهُ منعم، وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِمُنْعِمٍ وَلَيْسَ فِي الصِّفَتَيْنِ دَلَالَةٌ عَلَى الْحَصْرِ وَلَكِنَّهُمَا تَعْرِيضٌ بِهِ هُنَا لِأَنَّ الْكَلَامَ مَسُوقٌ لِإِبْطَالِ
أُلُوهِيَّةِ غَيْرِهِ
وَجُمْلَةُ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا، وَأَنْ تَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ أُحْصِرُوا.
وَقَوْلُهُ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ حَالٌ مِنَ الْفُقَرَاءِ، أَيِ الْجَاهِلُ بِحَالِهِمْ مِنَ الْفَقْرِ يَظُنُّهُمْ أَغْنِيَاءَ، وَمن لِلِابْتِدَاءِ لِأَنَّ التَّعَفُّفَ مبدأ هَذَا الحسبان.
وَالتَّعَفُّفُ تَكَلُّفُ الْعَفَافِ وَهُوَ النَّزَاهَةُ عَمًّا يَلِيقُ.
وَفِي «الْبُخَارِيِّ» بَابُ الِاسْتِعْفَافِ عَنِ الْمَسْأَلَةِ، أَخْرَجَ فِيهِ حَدِيثَ أَبِي سَعِيدٍ: أَنَّ الْأَنْصَارَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مَنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ
يَسْتَعْفِفْ يُعِفُّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ»

. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ وَيَعْقُوبُ يَحْسِبُهُمْ بِكَسْرِ السِّينِ وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِفَتْحِ السِّينِ، وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَمَعْنَى تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ أَيْ بِعَلَامَةِ الْحَاجَةِ وَالْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَعُمَّ كُلَّ مُخَاطَبٍ، وَلَيْسَ لِلرَّسُولِ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بحالهم. والمخاطب بتعرفهم هُوَ الَّذِي تَصَدَّى لِتَطَلُّعِ أَحْوَالِ الْفُقَرَاءِ، فَهُوَ الْمُقَابِلُ لِلْجَاهِلِ فِي قَوْلِهِ: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ.
وَالْجُمْلَةُ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ، كأنّه قيل: فبمَاذَا تَصِلُ إِلَيْهِمْ صَدَقَاتُ الْمُسْلِمِينَ إِذَا كَانَ فَقْرُهُمْ خَفِيًّا، وَكَيْفَ يَطَّلِعُ عَلَيْهِمْ فَأُحِيلَ ذَلِكَ عَلَى مَظِنَّةِ الْمُتَأَمِّلِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ [الْحجر: ٧٥].
وَالسِّيمَا الْعَلَّامَةُ، مُشْتَقَّةٌ مِنْ سَامَ الَّذِي هُوَ مَقْلُوبُ وَسَمَ، فَأَصْلُهَا وِسْمَى، فَوَزْنُهَا عِفْلَى، وَهِيَ فِي الصُّورَةِ فِعْلَى، يَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُمْ سِمَةٌ فَإِنَّ أَصْلَهَا وَسْمَةٌ. وَيَقُولُونَ سِيمَى بِالْقَصْرِ وَسِيمَاءُ بِالْمَدِّ وَسِيمِيَاءُ بِزِيَادَةِ يَاءٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَبِالْمَدِّ، وَيَقُولُونَ سَوَّمَ إِذَا جَعَلَ سِمَةً.
وَكَأَنَّهُمْ إِنَّمَا قَلَبُوا حُرُوفَ الْكَلِمَةِ لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ إِلَى التَّخْفِيفِ بِهَذِهِ الْأَوْزَانِ لِأَنَّ قَلْبَ عَيْنِ الْكَلِمَةِ مُتَأَتٍّ بِخِلَافِ قَلْبِ فَائِهَا. وَلَمْ يُسْمَعْ مِنْ كَلَامِهِمْ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ مِنْ سَوَّمَ الْمقْلُوبِ، وَإِنَّمَا سُمِعَ مِنْهُ فِعْلٌ مُضَاعَفٌ فِي قَوْلِهِمْ سَوَّمَ فَرَسَهُ.
وَلَا يَجُوزُ وَعَيْبًا جَمَعْتَ غِيبَةً وَنَمِيمَةً. وَأَمَّا قَوْلُهُ:
عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ السَّلَامُ فَمِمَّا قَرُبَ مَأْخَذُهُ عَنْ سِيبَوَيْهِ، وَلَكِنَّ الْجَمَاعَةَ لَمْ تَتَلَقَّ هَذَا الْبَيْتَ إِلَّا عَلَى اعْتِقَادِ التَّقْدِيمِ فِيهِ، وَوَافَقَهُ الْمَرْزُوقِيُّ عَلَى ذَلِكَ، وَلَيْسَ فِي كَلَامِهِمَا أَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْطُوفِ فِي مِثْلِ مَا حَسُنَ تَقْدِيمُهُ فِيهِ خَاصٌّ بِالضَّرُورَةِ فِي الشِّعْرِ، فَلِذَلِكَ خَرَّجْنَا عَلَيْهِ هَذَا الْوَجْهَ فِي الْآيَةِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ، عَلَى أَنَّ عَطْفَ الْجُمَلِ أَوْسَعُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ لِأَنَّهُ عَطْفٌ صُورِيٌّ.
وَوَقَعَ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» - فِي حَرْفِ الْوَاوِ- أَنَّ تَقْدِيمَ مَعْطُوفِهَا عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ضَرُورَةٌ، وَسَبَقَهُ إِلَى ذَلِكَ ابْنُ السِّيدِ فِي شَرْحِ أَبْيَات الْجمل، والتفتازانيّ فِي شَرْحِ الْمِفْتَاحِ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُ الدَّمَامِينِيُّ فِي «تُحْفَةِ الْغَرِيبِ».
وَجَعَلَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ضَمِيرَيِ الْغَيْبَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ عَائِدَيْنَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، بَلَغَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُمْ سَيَمُدُّونَ جَيْشَ الْعَدُوِّ يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ كُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ، وَمَنْ مَعَهُ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَخَافُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الْآيَةَ، وَعَلَيْهِ دَرَجَ «الْكَشَّافُ» وَمُتَابِعُوهُ. فَيَكُونُ مُعَادُ الضَّمِيرَيْنِ غَيْرَ مَذْكُورٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ لِلنَّاسِ الَّذِينَ حَضَرُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ يَأْتُوكُمْ مَعْطُوفًا عَلَى الشَّرْطِ: أَيْ إِنْ صَبَرْتُمْ وَاتَّقَيْتُمْ وَأَتَاكُمْ كُرْزٌ وَأَصْحَابُهُ يُعَاوِنُونَ الْمُشْرِكِينَ عَلَيْكُمْ يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِأَكْثَرِ مِنْ أَلْفٍ وَمِنْ ثَلَاثَةِ آلَافٍ بِخَمْسَةِ آلَافٍ، قَالُوا فَبَلَغَتْ كُرْزًا وَأَصْحَابَهُ هَزِيمَةُ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ بَدْرٍ فَعَدَلَ عَنْ إِمْدَادِهِمْ فَلَمْ يُمِدَّهُمُ اللَّهُ بِالْمَلَائِكَةِ، أَيْ بِالْمَلَائِكَةِ الزَّائِدِينَ عَلَى الْأَلْفِ. وَقِيلَ: لَمْ يُمِدَّهُمْ بِمَلَائِكَةٍ أَصْلًا، وَالْآثَارُ تَشْهَدُ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَوَّلِينَ: مِثْلُ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَالضَّحَّاكِ، وَالزُّهْرِيِّ: إِلَى أَنَّ الْقَوْلَ الْمَحْكِيَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ قَوْلٌ صَادِرٌ يَوْمَ أُحُدٍ، قَالُوا وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِالْمَدَدِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى شَرْطِ أَنْ يَصْبِرُوا، فَلَمَّا لَمْ يَصْبِرُوا
وَالتَّحْرِيفُ: الْمَيْلُ بِالشَّيْءِ إِلَى الْحَرْفِ وَهُوَ جَانِبُ الشَّيْءِ وَحَافَّتُهُ، وَسَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ [١٣]، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمَيْلِ عَنْ سَوَاءِ الْمَعْنَى وَصَرِيحِهِ إِلَى التَّأْوِيلِ الْبَاطِلِ، كَمَا يُقَالُ: تَنَكَّبَ عَنِ الصِّرَاطِ، وَعَنِ الطَّرِيقِ، إِذَا أَخْطَأَ الصَّوَابَ وَصَارَ إِلَى سُوءِ الْفَهْمِ أَوِ التَّضْلِيلِ، فَهُوَ عَلَى هَذَا تَحْرِيفُ مُرَادِ اللَّهِ فِي التَّوْرَاةِ إِلَى تَأْوِيلَاتٍ بَاطِلَةٍ، كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ فِي تَحْرِيفِ مَعَانِي الْقُرْآنِ
بِالتَّأْوِيلَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يكون التحريف مشقّا مِنَ الْحَرْفِ وَهُوَ الْكَلِمَةُ وَالْكِتَابَةُ، فَيَكُونُ مُرَادًا بِهِ تَغْيِيرُ كَلِمَاتِ التَّوْرَاةِ وَتَبْدِيلُهَا بِكَلِمَاتٍ أُخْرَى لِتُوَافِقَ أَهْوَاءَ أَهْلِ الشَّهَوَاتِ فِي تَأْيِيدِ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ فَاسِدِ الْأَعْمَالِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ قَدِ ارْتَكَبَهُ الْيَهُودُ فِي كِتَابِهِمْ. وَمَا يُنْقَلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّحْرِيفَ فَسَادُ التَّأْوِيلِ وَلَا يَعْمِدُ قَوْمٌ عَلَى تَغْيِيرِ كِتَابِهِمْ، نَاظِرٌ إِلَى غَالِبِ أَحْوَالِهِمْ، فَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ يَكُونُ اسْتِعْمَالُ عَنْ فِي قَوْلِهِ:
عَنْ مَواضِعِهِ مَجَازًا، وَلَا مُجَاوَزَةَ وَلَا مَوَاضِعَ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ حَقِيقَةً إِذِ التَّحْرِيفُ حِينَئِذٍ نَقْلٌ وَإِزَالَةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَيَقُولُونَ عَطْفٌ عَلَى يُحَرِّفُونَ ذُكِرَ سُوءُ أَفْعَالِهِمْ وَسُوء أَقْوَالهم، وَهِي أَقْوَالِهِمُ الَّتِي يُوَاجِهُونَ بهَا الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام-: يَقُولُونَ سَمِعْنَا دَعْوَتَكَ وَعَصَيْنَاكَ، وَذَلِكَ إِظْهَارٌ لِتَمَسُّكِهِمْ بِدِينِهِمْ لِيَزُولَ طَمَعُ الرَّسُولِ فِي إِيمَانِهِمْ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرَوْا فِي قَوْلِهِمْ هَذَا أَذًى لِلرَّسُولِ فَأَعْقَبُوهُ بِقَوْلِهِمْ لَهُ: وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ إِظْهَارٌ لِلتَّأَدُّبِ مَعَهُ.
وَمَعْنَى اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ مُرَاجَعَتِهِ فِي أَمْرِ الْإِسْلَامِ:
اسْمَعْ مِنَّا، وَيُعَقِّبُونَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ يُوهِمُونَ أَنَّهُمْ قَصَدُوا الظَّاهِرَ الْمُتَبَادِرَ مِنْ قَوْلِهِمْ: غَيْرَ مُسْمَعٍ، أَيْ غَيْرَ مَأْمُورٍ بِأَنْ تَسْمَعَ، فِي مَعْنَى قَوْلِ الْعَرَبِ: (افْعَلْ غَيْرَ مَأْمُورٍ).
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: غَيْرَ مُسْمَعٍ مَكْرُوهًا، فَلَعَلَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَقُولُونَ: أَسْمَعَهُ بِمَعْنَى سَبَّهُ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الْكَلِمَةَ كَانَتْ مَعْرُوفَةَ الْإِطْلَاقِ بَيْنَ الْعَرَبِ فِي مَعْنَى الْكَرَامَةِ وَالتَّلَطُّفِ.
إِطْلَاقًا مُتَعَارَفًا، وَلَكِنَّهُمْ لَمَّا قَالُوهَا لِلرَّسُولِ أَرَادُوا بِهَا مَعْنًى آخَرَ انْتَحَلُوهُ لَهَا مِنْ شَيْءٍ يَسْمَحُ بِهِ تَرْكِيبُهَا الْوَضْعِيُّ، أَيْ أَنْ لَا يَسْمَعَ صَوْتًا من متكلّم. لِأَن يَصِيرَ أَصَمَّ، أَوْ

قَوْمٌ إِذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ شَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا
فَذَكَرَ مَعَ الْعَقْدِ الْعِنَاجَ وَهُوَ حَبْلٌ يَشُدُّ الْقِرْبَةَ، وَذَكَرَ الْكَرَبَ وَهُوَ حَبْلٌ آخَرُ لِلْقِرْبَةِ:
فَرَجَعَ بِالْعَقْدِ الْمَجَازِيِّ إِلَى لَوَازِمِهِ فَتَخَيَّلَ مَعَهُ عِنَاجًا وَكَرَبًا، وَأَرَادَ بِجَمِيعِهَا تَخْيِيلَ الِاسْتِعَارَةِ. فَالْعَقْدُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ سُمِّيَ بِهِ مَا يُعْقَدُ، وَأُطْلِقَ مَجَازًا عَلَى الْتِزَامٍ مِنْ جَانِبَيْنِ لِشَيْءٍ وَمُقَابِلِهِ، وَالْمَوْضِعُ الْمَشْدُودُ مِنَ الْحَبْلِ يُسَمَّى عُقْدَةً. وَأُطْلِقَ الْعَقْدُ أَيْضًا عَلَى الشَّيْءِ الْمَعْقُودِ إِطْلَاقًا لِلْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، فَالْعُهُودُ عُقُودٌ، وَالتَّحَالُفُ مِنَ الْعُقُودِ، وَالتَّبَايُعُ وَالْمُؤَاجَرَةُ وَنَحْوُهُمَا مِنَ الْعُقُودِ، وَهِيَ الْمُرَادُ هُنَا. وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْأَحْكَامُ الَّتِي شرعها الله لنا لِأَنَّهَا كَالْعُقُودِ، إِذْ قَدِ الْتَزَمَهَا الدَّاخِلُ فِي الْإِسْلَامِ ضِمْنًا، وَفِيهَا عَهْدُ اللَّهِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ.
وَيَقَعُ الْعَقْدُ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ عَلَى «إِنْشَاءِ تَسْلِيمٍ أَوْ تَحَمُّلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ» فَقَدْ يَكُونُ إِنْشَاءُ تَسْلِيمٍ كَالْبَيْعِ بِثَمَنٍ نَاضٍّ وَقَدْ يَكُونُ إِنْشَاءُ تَحَمُّلٍ كَالْإِجَارَةِ بِأَجْرٍ نَاضٍّ، وَكَالسِّلْمِ وَالْقِرَاضِ وَقَدْ يَكُونُ إِنْشَاءُ تَحَمُّلٍ مِنْ جَانِبَيْنِ كَالنِّكَاحِ، إِذِ الْمَهْرُ لَمْ يُعْتَبَرْ عِوَضًا وَإِنَّمَا الْعِوَضُ هُوَ تَحَمُّلُ كُلٍّ مِنَ الزَّوْجَيْنِ حُقُوقًا لِلْآخَرِ. وَالْعُقُودُ كُلُّهَا تَحْتَاجُ إِلَى إِيجَابٍ وَقَبُولٍ.
وَالْأَمْرُ بِالْإِيفَاءِ بِالْعُقُودِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ إِيفَاءَ الْعَاقِدِ بِعَقْدِهِ حَقٌّ عَلَيْهِ، فَلِذَلِكَ يُقْضَى بِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعُقُودَ شُرِعَتْ لِسَدِّ حَاجَاتِ الْأُمَّةِ فَهِيَ مِنْ قِسْمِ الْمُنَاسِبِ الْحَاجِيِّ، فَيَكُونُ إِتْمَامُهَا حَاجِيًّا لِأَنَّ مُكَمِّلَ كُلِّ قِسْمٍ مِنْ أَقْسَامِ الْمُنَاسِبِ الثَّلَاثَةِ يَلْحَقُ بِمُكَمِّلِهِ: إِنْ ضَرُورِيًّا، أَوْ حَاجِيًّا، أَوْ تَحْسِينًا.
وَفِي الْحَدِيثِ «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إِلَّا شَرْطًا أَحَلَّ حَرَامًا أَوْ حَرَّمَ حَلَالًا»
. فَالْعُقُودُ الَّتِي اعْتَبَرَ الشَّرْعُ فِي انْعِقَادِهَا مُجَرَّدُ الصِّيغَةِ تُلْزِمُ بِإِتْمَامِ الصِّيغَةِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهَا، كَالنِّكَاحِ وَالْبَيْعِ. وَالْمُرَادُ بِمَا يَقُومُ مَقَامَ
وَفِي تَسْمِيَةِ مَا فَعَلَهُ الْكُفَّارُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ افْتِرَاءً وَكَذِبًا وَنَفْيِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَمَرَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَحْدَاثَ لَا تَمُتُّ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتَيْنِ: إِحْدَاهُمَا:
أَنَّهَا تَنْتَسِبُ إِلَى الْآلِهَةِ وَالْأَصْنَامِ، وَذَلِكَ إِشْرَاكٌ وَكُفْرٌ عَظِيمٌ. الثَّانِيَةُ: أَنَّ مَا يُجْعَلُ مِنْهَا لِلَّهِ تَعَالَى مِثْلُ السَّائِبَةِ هُوَ عَمَلٌ ضَرُّهُ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِهِ، لِأَنَّ فِي تسييب الْحَيَوَان إِضْرَار بِهِ إِذْ رُبَّمَا لَا يَجِدُ مَرْعًى وَلَا مَأْوًى، وَرُبَّمَا عَدَتْ عَلَيْهِ السِّبَاعُ، وَفِيهِ تَعْطِيلُ مَنْفَعَتِهِ حَتَّى يَمُوتَ حَتْفَ أَنْفِهِ. وَمَا يَحْصُلُ مِنْ دَرِّ بَعْضِهَا لِلضَّيْفِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنَّمَا هُوَ مَنْفَعَةٌ ضَئِيلَةٌ فِي جَانِبِ الْمَفَاسِدِ الحافّة بِهِ.
[١٠٤]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٠٤]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا مَا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤)
الْوَاوُ لِلْحَالِ. وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمَائِدَة: ١٠٣]، أَيْ أَنَّهُمْ يَنْسِبُونَ إِلَى اللَّهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِهِ كَذِبًا، وَإِذَا دُعُوا إِلَى اتِّبَاعِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ حَقًّا أَوِ التَّدَبُّرِ فِيهِ أَعْرَضُوا وَتَمَسَّكُوا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ. فَحَالُهُمْ عَجِيبَةٌ فِي أَنَّهُمْ يَقْبَلُونَ ادِّعَاءَ آبَائِهِمْ أَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُمْ بِمَا اخْتَلَقُوا لَهُمْ مِنَ الضَّلَالَاتِ، مِثْلِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَمَا ضاهاهما، ويعرضون على دَعْوَةِ الرَّسُولِ الصَّادِقِ بِلَا حُجَّةٍ لَهُمْ فِي الْأُولَى، وَبِالْإِعْرَاضِ عَنِ النَّظَرِ فِي حُجَّةِ الثَّانِيَةِ أَوِ الْمُكَابَرَةِ فِيهَا بَعْدَ عِلْمِهَا.
وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ تَعالَوْا مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الْإِقْبَالِ، وَفِي إِصْغَاءِ السَّمْعِ، وَنَظَرِ الْفِكْرِ، وَحُضُورِ مجْلِس الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَدَمِ الصَّدِّ عَنْهُ، فَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى فِعْلِ (تَعَالَ) عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ.
وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ: هُوَ الْقُرْآنُ. وَعَطَفَ وَإِلَى الرَّسُولِ لِأَنَّهُ يُرْشِدُهُمْ إِلَى فَهْمِ الْقُرْآنِ. وَأُعِيدَ حَرْفُ (إِلَى) لِاخْتِلَافِ مَعْنَيَيِ الْإِقْبَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مُتَعَلِّقَيْ تَعالَوْا فَإِعَادَةُ الْحَرْفِ قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ مَعْنَيَيْ تَعالَوْا الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ الِاعْتِبَارُ وَالْمَوْعِظَة، والتّحذير مَعَ الِاغْتِرَارِ بِوِلَايَةِ الظَّالِمِينَ.
وَتَوَخِّي الْأَتْبَاعِ صَلَاحَ الْمَتْبُوعِينَ. وَبَيَانُ سُنَّةً مِنْ سُنَنِ اللَّهِ فِي الْعَالمين.
[١٣٠]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١٣٠]
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (١٣٠)
هَذَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُقَاوَلَةِ الَّتِي تَجْرِي يَوْمَ الْحَشْرِ، وَفُصِلَتِ الْجُمْلَةُ لِأَنَّهَا فِي مَقَامِ تَعْدَادِ جَرَائِمِهِمِ الَّتِي اسْتَحَقُّوا بِهَا الْخُلُودَ، إِبْطَالًا لِمَعْذِرَتِهِمْ، وَإِعْلَانًا بِأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِمَا جُزُوا بِهِ، فَأَعَادَ نِدَاءَهُمْ كَمَا يُنَادَى الْمُنَدَّدُ عَلَيْهِ الْمُوَبَّخُ فَيَزْدَادُ رَوْعًا.
والهمزة فِي لَمْ يَأْتِكُمْ
لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيرِيِّ، وَإِنَّمَا جُعِلَ السُّؤَالُ عَنْ نَفْيِ إِتْيَانِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ الْمُقَرَّرَ إِذَا كَانَ حَالُهُ فِي مُلَابَسَةِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ حَالُ مَنْ يُظَنُّ بِهِ أَنْ يُجِيبَ بِالنَّفْيِ، يُؤْتَى بِتَقْرِيرِهِ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الْأَمْرِ الَّذِي الْمُرَادُ إِقْرَارُهُ بِإِثْبَاتِهِ، حَتَّى إِذَا أَقَرَّ بِإِثْبَاتِهِ كَانَ إِقْرَارُهُ أَقْطَعَ لِعُذْرِهِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ لِلْجَانِي: أَلَسْتَ الْفَاعِلَ كَذَا وَكَذَا، وأ لست الْقَائِلَ كَذَا، وَقَدْ يَسْلُكُ ذَلِكَ فِي مَقَامِ اخْتِبَارِ مِقْدَارِ تَمَكُّنِ الْمَسْئُولِ الْمُقَرَّرِ مِنَ الْيَقِينِ فِي الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ، فَيُؤْتَى بِالِاسْتِفْهَامِ دَاخِلًا عَلَى نَفْيِ الشَّيْءِ الْمُقَرَّرِ عَلَيْهِ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ لَهُ شُبْهَةٌ فِيهِ ارتبك وتعلثم. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الْأَعْرَاف: ١٧٢]، وَلَمَّا كَانَ حَالُ هَؤُلَاءِ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي التَّمَرُّدِ عَلَى اللَّهِ، وَنَبْذِ الْعَمَلِ الصَّالِحِ ظِهْرِيًّا، وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الْإِيمَانِ، حَالَ مَنْ لَمْ يَطْرُقْ سَمْعَهُ أَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَلَا نَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، جِيءَ
وَالرِّيشُ لِبَاسُ الزِّينَةِ الزَّائِدِ عَلَى مَا يَسْتُرُ الْعَوْرَةَ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ مِنْ رِيشِ الطَّيْرِ لِأَنَّهُ زِينَتُهُ، وَيُقَالُ لِلِبَاسِ الزِّينَةِ رِيَاشٌ.
وَعَطْفُ (رِيشًا) عَلَى: لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ عَطْفُ صِنْفٍ عَلَى صِنْفٍ، وَالْمَعْنَى يَسَّرْنَا لَكُمْ لِبَاسًا يَسْتُرُكُمْ وَلِبَاسًا تَتَزَيَّنُونَ بِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلِباسُ التَّقْوى قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ: بِالنَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى لِباساً فَيَكُونُ مِنَ اللِّبَاسِ الْمُنَزَّلِ أَيِ الْمُلْهَمِ، فَيَتَعَيَّنُ أَنَّهُ لِبَاسُ حَقِيقَةٍ أَيْ شَيْءٌ يُلْبَسُ. وَالتَّقْوَى، عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْوِقَايَةِ، فَالْمُرَادُ: لَبُوسُ الْحَرْبِ، مِنَ الدُّرُوعِ وَالْجَوَاشِنِ وَالْمَغَافِرِ. فَيَكُونُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [النَّحْل: ٨١]. وَالْإِشَارَةُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ الْمُفْرَدِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ اللِّبَاسُ بِأَصْنَافِهِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ خَيْرٌ أَعْطَاهُ اللَّهُ بَنِي آدَمَ. فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ أَوْ حَالٌ مِنْ لِباساً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَأَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: بِرَفْعِ لِباسُ التَّقْوى عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِلِبَاسِ التَّقْوَى مِثْلَ مَا يَرِدُ بِهِ فِي قِرَاءَةِ النَّصْبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّقْوَى تَقْوَى اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اللِّبَاسُ إِمَّا بِتَخْيِيلِ التَّقْوَى بِلِبَاسٍ يُلْبَسُ، وَإِمَّا بِتَشْبِيهِ مُلَازَمَةِ تَقْوَى اللَّهِ بِمُلَازَمَةِ اللَّابِسِ لِبَاسَهُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [الْبَقَرَة: ١٨٧] مَعَ مَا يُحَسِّنُ هَذَا الْإِطْلَاقَ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الرَّفْعُ أَلْيَقُ بِهِ. وَيَكُونُ اسْتِطْرَادًا لِلتَّحْرِيضِ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ، فَإِنَّهَا خَيْرٌ لِلنَّاسِ مِنْ مَنَافِعِ الزِّينَةِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لِتَعْظِيمِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ.
وَجُمْلَةُ: ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ عَلَى قِرَاءَةِ: وَلِباسُ التَّقْوى بِالنَّصْبِ بِأَنِ اسْتَأْنَفَ. بَعْدَ الِامْتِنَانِ بِأَصْنَافِ اللِّبَاسِ، اسْتِئْنَافَيْنِ يُؤْذِنَانِ بِعَظِيمِ النِّعْمَةِ: الْأَوَّلُ بِأَنَّ اللِّبَاسَ خَيْرٌ لِلنَّاسِ، وَالثَّانِي بِأَنَّ اللِّبَاسَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَدُلُّ عَلَى عِلْمِهِ وَلُطْفِهِ، وَتَدُلُّ عَلَى
وَكَانَ إِغْرَاقُهُمُ انْتِقَامًا مِنَ اللَّهِ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُمْ جَحَدُوا انْفِرَاد الله بالإلهية، أَوْ جَحَدُوا إِلَاهِيَّتَهُ أَصْلًا، وَانْتِقَامًا أَيْضًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ ظَلَمُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَذَلُّوهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ بَاطِلًا.
وَالْإِغْرَاقُ: الْإِلْقَاءُ فِي الْمَاءِ الْمُسْتَبْحِرِ الَّذِي يَغْمُرُ الْمُلْقَى فَلَا يَتْرُكُ لَهُ تَنَفُّسًا، وَهُوَ بَيَانٌ لِلِانْتِقَامِ وَتَفْصِيلٌ لِمُجْمَلِهِ، فَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَغْرَقْناهُمْ لِلتَّرْتِيبِ الذِّكْرِيِّ، وَهُوَ عَطْفُ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة: ٥٤].
وَحَمَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّاف» الْفِعْل الْمَعْطُوف عَلَيْهِ هُنَا عَلَى مَعْنَى الْعَزْمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى:
فَأَرَدْنَا الِانْتِقَامَ مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٥٤].
وَالْيَمُّ: الْبَحْرُ وَالنَّهْرُ الْعَظِيمُ، قِيلَ هُوَ كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ. وَهُوَ صَنِيعُ «الْكَشَّافِ» إِذْ جَعَلَهُ مُشْتَقًّا مِنَ التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ يُقْصَدُ لِلْمُنْتَفِعِينَ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ: هُوَ مُعَرَّبٌ عَنِ السُّرْيَانِيَّةِ وَأَصْلُهُ فِيهَا (يَمَا) وَقَالَ شَيْدَلَةُ: هُوَ مِنَ الْقِبْطِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: هُوَ مِنَ الْعِبْرِيَّةِ، وَلَعَلَّهُ مَوْجُودٌ فِي هَذِهِ اللُّغَاتِ. وَلَعَلَّ أَصْلَهُ عَرَبِيٌّ وَأَخَذَتْهُ لُغَاتٌ أُخْرَى سَامِيَّةٌ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا بَحْرُ الْقُلْزُمِ، الْمُسَمَّى فِي التَّوْرَاةِ بَحْرَ سُوفَ، وَهُوَ الْبَحْرُ الْأَحْمَرُ. وَقَدْ أُطْلِقَ (الْيَمُّ) عَلَى نَهْرِ النِّيلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه: ٣٩] وَقَوْلِهِ:
فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ [الْقَصَص: ٧]، فَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْيَمِّ هُنَا تَعْرِيفُ الْعَهْدِ الذِّهْنِيِّ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْمَعَانِي الْمَعْرُوفُ بِتَعْرِيفِ الْجِنْسِ عِنْدَ النُّحَاةِ إِذْ لَيْسَ فِي الْعِبْرَةِ
اهْتِمَامٌ بِبَحْرٍ مَخْصُوصٍ وَلَكِنْ بِفَرْدٍ مِنْ هَذَا النَّوْعِ.
وَقَدْ أُغْرِقَ فِرْعَوْنُ وَجُنْدُهُ فِي الْبَحْرِ الْأَحْمَرِ حِينَ لَحِقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ يُرِيدُ صَدَّهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ، وَتَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَسَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٩٠].
وَالْبَاءُ فِي بِأَنَّهُمْ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: أَغْرَقْنَاهُمْ جَزَاءً عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْآيَاتِ.
وَالْغَفْلَةُ ذُهُولُ الذِّهْنِ عَنْ تَذَكُّرِ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَتْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١٥٦]، وَأُرِيدَ بِهَا التَّغَافُلُ عَنْ عَمْدٍ وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي الْآيَاتِ، وَإِبَايَةُ النَّظَرِ فِي دَلَالَتِهَا عَلَى صِدْقِ مُوسَى، فَإِطْلَاقُ الْغَفْلَةِ عَلَى هَذَا مَجَازٌ،
وَالْإِثْخَانُ الشِّدَّةُ وَالْغِلْظَةُ فِي الْأَذَى. يُقَالُ أَثْخَنَتْهُ الْجِرَاحَةُ وَأَثْخَنَهُ الْمَرَضُ إِذَا ثَقُلَ عَلَيْهِ، وَقَدْ شَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى شِدَّةِ الْجِرَاحَةِ عَلَى الْجَرِيحِ. وَقَدْ حَمَلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ. فَالْمَعْنَى: حَتَّى يَتَمَكَّنَ فِي الْأَرْضِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ سُلْطَانُهُ وَأَمْرُهُ.
وَقَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ عَلَى هَذَا جَارٍ عَلَى حَقِيقَةِ الْمَعْنَى مِنَ الظَّرْفِيَّةِ، أَيْ يَتَمَكَّنَ فِي الدُّنْيَا. وَحَمَلَهُ فِي «الْكَشَّافِ» عَلَى مَعْنَى إِثْخَانِ الْجِرَاحَةِ، فَيَكُونُ جَرْيًا عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِ بِتَشْبِيهِ حَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمقَاتل الَّذِي يجرج قِرْنَهُ جِرَاحًا قَوِيَّةً تُثْخِنُهُ، أَيْ حَتَّى يُثْخِنَ أَعْدَاءَهُ فَتَصِيرَ لَهُ الْغَلَبَةُ عَلَيْهِمْ فِي مُعْظَمِ الْمَوَاقِعِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فِي الْأَرْضِ قَرِينَةَ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَالْكَلَامُ عِتَابٌ لِلَّذِينَ أَشَارُوا بِاخْتِيَارِ الْفِدَاءِ وَالْمَيْلِ إِلَيْهِ، وَغَضِّ النَّظَرِ عَنِ الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ فِي قَطْعِ دَابِرِ صَنَادِيدِ الْمُشْرِكِينَ، فَإِنَّ فِي هَلَاكِهِمْ خَضْدًا لِشَوْكَةِ قَوْمِهِمْ فَهَذَا تَرْجِيحٌ لِلْمُقْتَضَى السِّيَاسِيِّ الْعَرَضِيِّ عَلَى الْمُقْتَضَى الَّذِي بُنِيَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامُ وَهُوَ التَّيْسِيرُ والرفق فِي شؤون الْمُسْلِمِينَ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ
[الْفَتْح: ٢٩]. وَقَدْ كَانَ هَذَا الْمَسْلَكُ السِّيَاسِيُّ خَفِيًّا حَتَّى كَأَنَّهُ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِهِ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ، عَنِ الْأَعْمَشِ: أَنَّهُمْ فِي يَوْمِ بَدْرٍ سَبَقُوا إِلَى الْغَنَائِمِ قَبْلَ أَنْ تَحِلَّ لَهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ غَرِيبٌ فَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَشَارَهُمْ، وَهُوَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ يَكُونَ لَهُ- بِتَحْتِيَّةٍ- عَلَى أُسْلُوبِ التَّذْكِيرِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ- عَلَى صِيغَةِ التَّأْنِيثِ، لِأَنَّ ضَمِيرَ جَمْعِ التَّكْسِيرِ يَجُوزُ تَأْنِيثُهُ بِتَأْوِيلِ الْجَمَاعَةِ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُرِيدُونَ لِلْفَرِيقِ الَّذِينَ أَشَارُوا بِأَخْذِ الْفِدَاءِ وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ غَيْرُ مُعَاتَبٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخَذَ بِرَأْيِ الْجُمْهُورِ وَجُمْلَةُ: تُرِيدُونَ إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيِ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ آيَةُ مَا كَانَ لِنَبِيءٍ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، لِأَنَّ الْعِلَّةَ بِمَنْزِلَةِ الْجُمْلَةِ الْمُبَيِّنَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّ آخِرَ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةُ الْكَلَالَةِ خَاتِمَةُ سُورَةِ النِّسَاءِ. وَقِيلَ آخِرُهُ نُزُولًا قَوْلُهُ:
وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨١].
فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» مِنْ طَرِيقِ شُعَيْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ السَّبَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ فِي حَدِيثِ جَمْعِ الْقُرْآنِ فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ زَيْدٌ: «حَتَّى وَجَدْتُ مِنْ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ مَعَ خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ لَمْ أَجِدْهُمَا مَعَ أَحَدٍ غَيْرِهِ لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ إِلَى آخِرِهِمَا. وَمِنْ طَرِيقِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ مَعَ أَبِي خُزَيْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ. وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُ بَحَثَ عَنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِي مَا هُوَ مَكْتُوبٌ مِنَ الْقُرْآنِ فَلَمْ يَجِدْهُمَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ آيَتَيْنِ خَاتِمَتَيْنِ أَوْ هُوَ يَحْفَظُهُمَا (فَإِنَّ زَيْدًا اعْتَنَى فِي جَمْعِ الْقُرْآنِ بِحِفْظِهِ وَبِتَتَبُّعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِإِمْلَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِقِرَاءَةِ حُفَّاظِ الْقُرْآنِ غَيْرَهُ) فَوَجَدَ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبَا خُزَيْمَةَ يَحْفَظُهُمَا. فَلَمَّا أَمْلَاهُمَا خُزَيْمَةُ أَوْ أَبُو خُزَيْمَةَ عَلَيْهِ تَذَكَّرَ زَيْدٌ لَفْظَهُمَا وَتَذَكَّرَهُمَا مَنْ سَمِعَهُمَا مِنَ الصَّحَابَة حِين قرأوهما، كَيْفَ وَقَدْ قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ: إِنَّهُمَا آخِرُ مَا أُنْزِلَ، فَلَفْظُهُمَا ثَابِتٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَتَوَاتُرُهُمَا حَاصِلٌ إِذْ لَمْ يَشُكُّ فِيهِمَا أَحَدٌ وَلَيْسَ إِثْبَاتُهُمَا قَاصِرًا عَلَى إِخْبَارِ خُزَيْمَةَ أَوْ أَبِي خُزَيْمَةَ.
الْوَارِدَةِ مِنَ السُّيُولِ وَالْتِقَاءِ الْأَوْدِيَةِ الْمَاءَ السَّابِقَ لَهَا، فَإِنَّ حَادِثَ الطُّوفَانِ مَا كَانَ إِلَّا عَنْ مِثْلِ زَلَازِلَ تَفَجَّرَتْ بِهَا مِيَاهُ الْأَرْضِ وَأَمْطَارٌ جَمَّةٌ تَلْتَقِي سُيُولُهَا مَعَ مِيَاهِ الْعُيُونِ فَتَخْتَلِطُ وَتَجْتَمِعُ وَتَصُبُّ فِي الْمَاءِ الَّذِي كَانَ قَبْلَهَا حَتَّى عَمَّ الْمَاءُ جَمِيعَ الْأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ اللَّهُ إِغْرَاقَ أَهْلِهَا، كَمَا سَيَأْتِي.
وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (٤٣).
عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَنادى عَلَى أَعْلَقِ الْجُمَلِ بِهَا اتِّصَالًا وَهِيَ وَقالَ ارْكَبُوا فِيها [هود: ٤١] لِأَنَّ نِدَاءَهُ ابْنَهُ كَانَ قَبْلَ جَرَيَانِ السَّفِينَةِ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ، إِذْ يَتَعَذَّرُ إِيقَافُهَا بَعْدَ جَرْيِهَا لِأَنَّ الرَّاكِبِينَ كُلُّهُمْ كَانُوا مُسْتَقِرِّينَ فِي جَوْفِ السَّفِينَةِ.
وَابْنُ نُوحٍ هَذَا هُوَ ابْنٌ رَابِعٌ فِي أَبْنَائِهِ مِنْ زَوْجٍ ثَانِيَةٍ لِنُوحٍ كَانَ اسْمُهَا (وَاعِلَةَ) غَرِقَتْ، وَأَنَّهَا الْمَذْكُورَةُ فِي آخِرِ سُورَةِ التَّحْرِيمِ. قِيلَ كَانَ اسْمُ ابْنِهِ (يَامَا) وَقِيلَ اسْمُهُ (كَنْعَانُ) وَهُوَ غَيْرُ كَنْعَانَ بْنِ حَامٍ جَدِّ الْكَنْعَانِيِّينَ. وَقَدْ أَهْمَلَتِ التَّوْرَاةُ الْمَوْجُودَةُ الْآنَ ذِكْرَ هَذَا الِابْنِ وَقَضِيَّةِ غَرَقِهِ وَهَلْ كَانَ ذَا زَوْجَةٍ أَوْ كَانَ عَزَبًا.
وَجُمْلَةُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ حَالٌ مِنِ ابْنَهُ. وَالْمَعْزِلُ: مَكَانُ الْعُزْلَةِ أَيِ الِانْفِرَادِ، أَيْ فِي مَعْزِلٍ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ لَمْ يُؤْمِنْ بِنُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَلَمْ يُصَدِّقْ بِوُقُوعِ الطُّوفَانِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ ارْتَدَّ فَأَنْكَرَ وُقُوعَ الطُّوفَانِ فَكَفَرَ بِذَلِكَ لِتَكْذِيبِهِ الرَّسُولَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٣- سُورَةُ الرَّعْدِ
هَكَذَا سُمِّيَتْ مِنْ عَهْدِ السَّلَفِ. وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مُسَمَّاةٌ بِذَلِكَ مِنْ عَهْدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي اسْمِهَا.
وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِإِضَافَتِهَا إِلَى الرَّعْدِ لِوُرُودِ ذِكْرِ الرَّعْدِ فِيهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ [الرَّعْد: ١٣]. فَسُمِّيَتْ بِالرَّعْدِ لِأَنَّ الرَّعْدَ لَمْ يُذْكَرْ فِي سُورَةٍ مِثْلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَإِنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا أَوْ مُعْظَمُهَا. وَإِنَّمَا ذُكِرَ الرَّعْدُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَهِيَ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَإِذَا كَانَتْ آيَاتُ هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً إِلَى قَوْلِهِ: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ [الرَّعْد: ١٢] مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ، كَمَا سَيَأْتِي تَعَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ نَزَلَ قَبْلَ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَرِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ. وَعَنْ أَبِي بِشْرٍ قَالَ: سَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ- أَيْ فِي آخِرِ سُورَةِ الرَّعْدِ [٤٣]- أَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ؟ فَقَالَ: كَيْفَ وَهَذِهِ سُورَةٌ مَكِّيَّةٌ، وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَتَادَةَ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ، وَهُوَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَجَمَعَ السُّيُوطِيُّ وَغَيْرُهُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ بِأَنَّهَا مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَاتٍ مِنْهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ يَعْنِي قَوْلَهُ: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً- إِلَى قَوْلِهِ-: شَدِيدُ الْمِحالِ وَقَوْلِهِ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: ٤٣].
عَلَى أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ الْعَطْفُ فِي الْحَالَيْنِ لِجَعْلِهَا مُسْتَقِلَّةً بِإِفَادَةِ مَضْمُونِهَا لِأَهَمِّيَّتِهِ مَعَ كَوْنِهَا مُكَمِّلَةً لِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا أَكْسَبَهَا هَذَا الْمَوْقِعُ الْبَدِيعُ نَظْمَ الْجُمَلِ الْمُعْجِزِ وَالتَّنَقُّلَ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ بِمَا بَيْنَهَا مِنَ الْمُنَاسَبَةِ.
وَتَشْمَلُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما أَصْنَافَ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيَوَانٍ وَجَمَادٍ، فَشَمَلَ الْأُمَمَ الَّتِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا حَلَّ بِهَا، وَشَمَلَ الْمَلَائِكَةَ الْمُوَكَّلِينَ بِإِنْزَالِ الْعَذَابِ، وَشَمَلَ الْحَوَادِثَ الْكَوْنِيَّةَ الَّتِي حَلَّتْ بِالْأُمَمِ مِنَ الزَّلَازِلِ وَالصَّوَاعِقِ وَالْكِسَفِ.
وَالْبَاءُ فِي إِلَّا بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ خَلَقْنَا، أَيْ خَلْقًا مُلَابِسًا لِلْحَقِّ وَمُقَارِنًا لَهُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْحَقُّ بَادِيًا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ.
وَالْمُلَابَسَةُ هُنَا عُرْفِيَّةٌ فَقَدْ يَتَأَخَّرُ ظُهُورُ الْحَقِّ عَنْ خَلْقِ بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَالْحَوَادِثِ تَأَخُّرًا مُتَفَاوِتًا. فَالْمُلَابَسَةُ بَيْنَ الْخَلْقِ وَالْحَقِّ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ وَخَفَائِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَلْبَثُ أَنْ يَظْهَرَ فِي عَاقِبَةِ الْأُمُورِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ [سُورَة الْأَنْبِيَاء: ١٨].
وَالْحَقُّ: هُنَا هُوَ إِجْرَاءُ أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى نِظَامٍ مُلَائِمٍ لِلْحِكْمَةِ وَالْمُنَاسَبَةِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْكَمَالِ وَالنَّقْصِ، وَالسُّمُوِّ وَالْخَفْضِ، فِي كُلِّ نَوْعٍ بِمَا يَلِيقُ بِمَاهِيَّتِهِ وَحَقِيقَتِهِ وَمَا يُصْلِحُهُ، وَمَا يَصْلُحُ هُوَ لَهُ، بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ النِّظَامُ الْعَامُّ لَا بِحَسَبِ الْأَمْيَالِ وَالشَّهَوَاتِ، فَإِذَا لَاحَ ذَلِكَ الْحَقُّ الْمَوْصُوفُ مُقَارَنًا وَجُودُهُ لِوُجُودِ مَحْقُوقِهِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، وَإِذَا لَاحَ تَخَلُّفُ شَيْءٍ عَنْ مُنَاسَبَةٍ فَبِالتَّأَمُّلِ وَالْبَحْثِ يَتَّضِحُ أَنَّ وَرَاءَ ذَلِكَ مُنَاسَبَةً قَضَتْ بِتَعْطِيلِ الْمُقَارَنَةِ الْمَحْقُوقَةِ، ثُمَّ لَا يَتَبَدَّلُ الْحَقُّ آخِرَ الْأَمْرِ.
وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُظْهِرُهُ مَوْقِعُ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ عِقَابِ الْأُمَمِ الَّتِي طَغَتْ وَظَلَمَتْ، فَإِنَّ ذَلِكَ جَزَاءٌ مُنَاسِبٌ تَمَرُّدَهَا وَفَسَادَهَا، وَأَنَّهَا وَإِنْ أُمْهِلَتْ حِينًا بِرَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ عُمْرَانِ جُزْءٍ مِنَ الْعَالَمِ زَمَانًا فَهِيَ لَمْ تُفْلِتْ مِنَ الْعَذَابِ الْمُسْتَحَقِّ لَهَا، وَهُوَ مِنَ الْحَقِّ أَيْضًا فَمَا كَانَ إِمْهَالُهَا
وَلَمَّا كَانَ مَا ذُكِرَ فِي تَضَاعِيفِ ذَلِكَ وَمَا يَقْتَضِيهِ يَعْتَمِدُ خُلُوصَ النِّيَّةِ لِيَجْرِيَ الْعَمَلُ
عَلَى ذَلِكَ الْخُلُوصِ كَامِلًا لَا تَكَلُّفَ فِيهِ وَلَا تَكَاسُلَ، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِأَنَّهُ الْمُطَّلِعُ عَلَى النُّفُوسِ وَالنَّوَايَا، فَوَعَدَ الْوَلَدَ بِالْمَغْفِرَةِ لَهُ إِنْ هُوَ أَدَّى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ لِوَالِدَيْهِ وَافِيًا كَامِلًا. وَهُوَ مِمَّا يَشْمَلُهُ الصَّلَاحُ فِي قَوْلِهِ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أَيْ مُمْتَثِلِينَ لِمَا أُمِرْتُمْ بِهِ. وَغُيِّرَ أُسْلُوبُ الضَّمِيرِ فَعَادَ إِلَى ضَمِيرِ جَمْعِ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّ هَذَا يَشْتَرِكُ فِيهِ النَّاسُ كُلُّهُمْ فَضَمِيرُ الْجَمْعِ أَنْسَبُ بِهِ.
وَلَمَّا شَمِلَ الصَّلَاحُ الصَّلَاحَ الْكَامِلَ وَالصَّلَاحَ الْمَشُوبَ بِالتَّقْصِيرِ ذَيَّلَهُ بِوَصْفِ الْأَوَّابِينَ الْمُفِيدِ بِعُمُومِهِ مَعْنَى الرُّجُوعِ إِلَى اللَّهِ، أَيِ الرُّجُوعِ إِلَى أَمْرِهِ وَمَا يُرْضِيهِ، فَفُهِمَ مِنَ الْكَلَامِ مَعْنَى احْتِبَاكٍ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ. وَالتَّقْدِيرُ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ أَوَّابِينَ إِلَى اللَّهِ فَإِنَّهُ كَانَ لِلصَّالِحِينَ مُحْسِنًا وَلِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا. وَهَذَا يَعُمُّ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرَهُمْ، وَبِهَذَا الْعُمُومِ كَانَ تَذْيِيلًا.
وَهَذَا الْأَوْبُ يَكُونُ مُطَّرِدًا، وَيَكُونُ مُعَرَّضًا لِلتَّقْصِيرِ وَالتَّفْرِيطِ، فَيَقْتَضِي طَلَبَ الْإِقْلَاعِ عَمَّا يَخْرِمُهُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْحَالَةِ الْمُرْضِيَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ أَوب وَصَاحبه آئب، فَصِيغَ لَهُ مِثَالُ الْمُبَالَغَةِ (أَوَّابٌ) لِصُلُوحِيَّةِ الْمُبَالَغَةِ لِقُوَّةِ كَيْفِيَّةِ الْوَصْفِ وَقُوَّةِ كميته. فالملازم للامتثال فِي سَائِرِ الْأَحْوَالِ الْمُرَاقِبُ لِنَفْسِهِ أَوَّابٌ لِشِدَّةِ مُحَافَظَتِهِ عَلَى الْأَوْبَةِ إِلَى اللَّهِ، والمغلوب بالتفريط يؤوب كُلَّمَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَذَكَرَ رَبَّهُ، فَهُوَ أَوَّابٌ لِكَثْرَةِ رُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ رَبِّهِ، وَكُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَفِي قَوْلِهِ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ مَا يَشْمَلُ جَمِيعَ أَحْوَالِ النُّفُوسِ وَخَاصَّةً حَالَةَ التَّفْرِيطِ وَبَوَادِرَ الْمُخَالَفَةِ. وَهَذَا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِخَلْقِهِ.
وَقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ إِيجَازِهَا تَيْسِيرًا بَعْدَ تَعْسِيرٍ مَشُوبًا بِتَضْيِيقٍ وَتَحْذِيرٍ لِيَكُونَ الْمُسْلِمُ عَلَى نَفْسِهِ رَقِيبًا
الْعِبَادَةِ فِي الْأُمَمِ السَّالِفَةِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مَرْيَم: ٢٦]. فَأَوْمَأَ إِلَيْهِمْ أَنْ يَشْرَعُوا فِيمَا اعْتَادُوهُ مِنَ التَّسْبِيحِ أَوْ أَرَادَ أَنْ يُسَبِّحُوا اللَّهَ تَسْبِيحَ شُكْرٍ عَلَى أَنْ وَهَبَ نَبِيئَهُمُ ابْنًا يَرِثُ عِلْمَهُ، وَلَعَلَّهُمْ كَانُوا عَلِمُوا تَرَقُّبَهُ اسْتِجَابَةَ دَعْوَتِهِ، أَوْ أَنَّهُ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ أَمْرًا مُبْهما يفسره عِنْد مَا تَزُولُ حبسة لِسَانه.
[١٢- ١٤]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ١٢ إِلَى ١٤]
يَا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (١٢) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (١٣) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (١٤)
مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، بِقَرِينَةِ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ خِطَابٌ لِيَحْيَى، فَلَا مَحَالَةَ أَنَّهُ صَادِرٌ مِنْ قَائِلٍ، وَلَا يُنَاسِبُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَوْلًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْبِشَارَةِ بِهِ إِلَى نُبُوءَتِهِ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا مِنْ إِخْبَارِ الْقُرْآنِ لِلْأُمَّةِ لَا مِنْ حِكَايَةِ مَا قِيلَ لِزَكَرِيَّاءَ. فَهَذَا ابْتِدَاءُ ذِكْرِ
فَضَائِلِ يَحْيَى.
وَطُوِيَ مَا بَيْنَ ذَلِكَ لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِهِ. وَالسِّيَاقُ يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: قُلْنَا يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ.
وَالْكِتَابُ: التَّوْرَاةُ لَا مَحَالَةَ، إِذْ لَمْ يَكُنْ لِيَحْيَى كِتَابٌ مُنَزَّلٌ عَلَيْهِ.
وَالْأَخْذُ: مُسْتَعَارٌ لِلتَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ، كَمَا يُقَالُ: أَخَذْتُ الْعِلْمَ عَنْ فُلَانٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَنِى بِالشَّيْءِ يُشْبِهُ الْآخِذَ.
وَالْقُوَّةُ: الْمُرَادُ بِهَا قُوَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ، وَهِيَ الْعَزِيمَةُ وَالثَّبَاتُ.
وَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ أَخْذًا مُلَابِسًا لِلثَّبَاتِ عَلَى الْكِتَابِ، أَيْ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ وَحَمْلِ الْأُمَّةِ عَلَى اتِّبَاعِهِ، فَقَدْ أَخَذَ الْوَهَنُ يَتَطَرَّقُ إِلَى الْأُمَّةِ الْيَهُودِيَّةِ فِي الْعَمَلِ بِدِينِهَا.
ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِهْزَاءِ بِالْوَعِيدِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ، أَيْ فَمَا هُمْ مُسْتَمِرُّونَ فِيهِ مِنَ النِّعْمَةِ إِنَّمَا هُوَ تَمْتِيعٌ وَإِمْهَالٌ كَمَا مَتَّعْنَا آبَاءَهُمْ مِنْ قَبْلُ، وَكَمَا كَانَ لِآبَائِهِمْ آجَالٌ انْتَهَوْا إِلَيْهَا كَذَلِكَ يَكُونُ لِهَؤُلَاءِ، وَلَكِنَّ الْآجَالَ تَخْتَلِفُ بِحَسْبِ مَا عَلِمَ اللَّهُ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي مَدَاهَا حَتَّى طَالَتْ أَعمار آبَائِهِم. وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّ أَعْمَارَ هَؤُلَاءِ لَا تَبْلُغُ أَعْمَارَ آبَائِهِمْ، وَأَنَّ اللَّهَ يُحِلُّ بِهِمُ الْهَلَاكَ لِتَكْذِيبِهِمْ إِلَى أَمَدٍ عَلِمَهُ.
وَقَدْ وُجِّهَ الْخِطَابُ إِلَيْهِمُ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ، ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهُمْ مِنْ طَرِيقِ الْخِطَابِ إِلَى طَرِيقِ الْغَيْبَةِ لِأَنَّ مَا وُجِّهَ إِلَيْهِمْ مِنْ إِنْكَارِ أَنْ يَكْلَأَهُمْ أَحَدٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ جَعَلَهُمْ أَحْرِيَاءَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها الْآيَةَ فِي سُورَةِ [يُونُسَ: ٢٢].
ويُصْحَبُونَ إِمَّا مُضَارِعُ صَحِبَهُ إِذَا خَالَطَهُ وَلَازَمَهُ، وَالصُّحْبَةُ تَقْتَضِي النَّصْرَ وَالتَّأْيِيدَ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الَّذِي نَابَ عَنْهُ مَنْ أُسْنِدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الْمَبْنِيُّ لِلنَّائِبِ مُرَادًا بِهِ اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ لَا يَصْحَبُهُمُ اللَّهُ، أَيْ لَا يُؤَيِّدُهُمْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَّا مُتَعَلِّقًا بِ يُصْحَبُونَ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) الِاتِّصَالِيَّةِ، أَيْ صُحْبَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِنَا بِمَعْنَى صُحْبَةٍ مَتِينَةٍ. وَهَذَا نَفْيٌ لِمَا اعْتَقَدَهُ الْمُشْرِكُونَ بِقَوْلِهِمْ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣].
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ الْمَحْذُوفُ مَحْذُوفًا لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ لَا يَصْحَبُهُمْ صَاحِبٌ، أَيْ لَا يُجِيرُهُمْ جَارٌ فَإِنَّ الْجِوَارَ يَقْتَضِي حِمَايَةَ الْجَارِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَّا مُتَعَلِّقًا بِ يُصْحَبُونَ عَلَى مَعْنَى (مِنْ) الَّتِي بِمَعْنَى (عَلَى) كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا [غَافِر: ٢٩].
وَإِمَّا مُضَارِعٌ أَصْحَبَهُ الْمَهْمُوزُ بِمَعْنَى حِفْظَهُ وَمَنْعِهِ، أَيْ مِنَ السُّوءِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ لِحَاضِرِينَ فِي الْأَذْهَانِ وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ.
وَقَوْلُهُ: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ [آل عمرَان: ١٩٦، ١٩٧].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَيَحْسَبُونَ إِنْكَارِيٌّ وَتَوْبِيخٌ عَلَى هَذَا الْحُسْبَانِ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا الْحُسْبَانُ حَاصِلًا لِجَمِيعِ الْمُشْرِكِينَ أَمْ غَيْرُ حَاصِلٍ لِبَعْضٍ، لِأَنَّ حَالَهُمْ حَالُ مَنْ هُوَ مَظِنَّةُ هَذَا الْحُسْبَانِ فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ هَذَا الْحُسْبَانُ لِإِزَالَتِهِ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لِدَفْعِ حُصُولِهِ فِيهَا.
وأَنَّما هُنَا كَلِمَتَانِ (أَنَّ) الْمُؤَكِّدَةُ (وَمَا) الْمَوْصُولَةُ وَكُتِبَتَا فِي الْمُصْحَفِ مُتَّصِلَتَيْنِ كَمَا تُكْتَبُ (إِنَّمَا) الْمَكْسُورَةُ الَّتِي هِيَ أَدَاةُ حَصْرٍ لِأَنَّ الرَّسْمَ الْقَدِيمَ لَمْ يَكُنْ مُنْضَبِطًا كُلَّ الضَّبْطِ وَحَقُّهَا أَنْ تُكْتَبَ مَفْصُولَةً.
وَالْإِمْدَادُ: إِعْطَاءُ الْمَدَدِ وَهُوَ الْعَطَاءُ. ومِنْ مالٍ وَبَنِينَ بَيَانٌ لِ (مَا) الْمَوْصُولَةِ.
وَالْمُسَارَعَةُ: التَّعْجِيلُ، وَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِتَوَخِّي الْمَرْغُوبِ وَالْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِهِ.
وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَت للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ» أَيْ يُعْطِيكَ مَا
تُحِبُّهُ لِأَنَّ الرَّاغِبَ فِي إِرْضَاءِ شَخْصٍ يَكُونُ مُتَسَارِعًا فِي إِعْطَائِهِ مَرْغُوبَهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَجْرِي فِي حُظُوظِكَ. وَمُتَعَلِّقُ نُسارِعُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ، أَيْ بِمَا نَمُدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. وَحُذِفَ لِدَلَالَةِ نُمِدُّهُمْ بِهِ عَلَيْهِ.
وَظَرْفِيَّةُ (فِي) مَجَازِيَّةٌ. جُعِلَتِ الْخَيْراتِ بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ يَقَعُ فِيهِ الْمُسَارَعَةُ بِالْمَشْيِ فَتَكُونُ (فِي) قَرِينَةٌ مَكْنِيَّةٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: ٤١] وَقَوْلِهِ: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ [الْمَائِدَة: ٥٢] كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْعُقُودِ، وَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ [٩٠].
وَالْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ من الْمَجْمُوع النَّادِرَةِ مِثْلَ سُرَادِقَاتٍ.
يُنْجِي صَاحِبَهُ مِنْ تَبِعَةِ مَا يَقْتَرِفُهُ مِنَ الْجَرَائِمِ وَالْمَفَاسِدِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ لِلنَّاسِ جَاءَتْ بِالْإِقْلَاعِ عَنِ الشِّرْكِ وَعَنِ الْمَفَاسِدِ كُلِّهَا. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قَالَ مِنَ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ يَعْنُونَ خِطَابَ الْمُؤَاخَذَةِ عَلَى مَا نُهُوا عَنِ ارْتِكَابِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُطْلَبُ مِنْهُمُ الْعَمَلُ إِذْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الصَّالِحَاتُ بِدُونِ الْإِيمَانِ، وَلِذَلِكَ رَامَ بَعْضُ أَهْلِ الْأُصُولِ تَخْصِيصَ الْخِلَافِ بِخِطَابِ التَّكْلِيفِ لَا الْإِتْلَافِ وَالْجِنَايَاتِ وَخِطَابِ الْوَضْعِ كُلِّهِ.
وَأَمَّا الْخُلُودُ فِي الْعَذَابِ فَقَدِ اقْتَضَاهُ الْإِشْرَاكُ.
وَقَوْلُهُ: مُهاناً حَالٌ قُصِدَ مِنْهَا تَشْنِيعُ حَالِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، أَيْ يُعَذَّبُ وَيُهَانُ إِهَانَةً زَائِدَةً عَلَى إِهَانَةِ التَّعْذِيبِ بِأَنْ يُشْتَمَ وَيُحَقَّرَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يُضاعَفْ بِأَلْفٍ بَعْدِ الضَّادِ وَبِجَزْمِ الْفِعْلِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوب يُضاعَفْ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ وَبِالْجَزْمِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو بكر عَن عَاصِمٍ يُضاعَفْ بِأَلْفٍ بَعْدِ الضَّادِ وَبِرَفْعِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ اسْتِئْنَاف بياني.
[٧٠]
[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٧٠]
إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (٧٠)
الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الْعُمُومِ الَّذِي أَفَادَتْهُ مَنْ الشَّرْطِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ
[الْفرْقَان: ٦٨]. وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا مَنْ تَابَ فَلَا يُضَاعَفُ لَهُ الْعَذَابُ وَلَا يَخْلُدُ فِيهِ، وَهَذَا تَطْمِينٌ لِنُفُوسِ فَرِيقٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ قَدْ كَانُوا تَلَبَّسُوا بِخِصَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ ثُمَّ تَابُوا عَنْهَا بِسَبَبِ تَوْبَتِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فِي دَعْوَتِهِمْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ بَعْدَ الْعُنْوَانِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ ثَنَاءٌ زَائِدٌ.
وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» : عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ نَاسًا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ قَتَلُوا فَأَكْثَرُوا وَزَنَوْا فَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَتْ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: ٦٨] الْآيَةَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُعْفَى عَنْهُ مِنْ عَذَابِ الذُّنُوبِ الَّتِي تَابَ مِنْهَا، وَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّهُ
فَالْخَبَرَانِ هُمَا وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى وَقَوْلُهُ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يشْعر بِأَنَّهَا سَتَخَافُ عَلَيْهِ.
وَالْأَمْرَانِ هُمَا: أَرْضِعِيهِ وَ (أَلْقِيهِ).
وَالنَّهْيَانِ: وَلا تَخافِي وَلَا تَحْزَنِي.
وَالْبِشَارَتَانِ: إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
وَالْخَوْفُ: تَوَقُّعُ أَمْرٍ مَكْرُوهٍ، وَالْحُزْنُ: حَالَةٌ نَفْسِيَّةٌ تَنْشَأُ مِنْ حَادِثٍ مَكْرُوهٍ لِلنَّفْسِ كَفَوَاتِ أَمْرٍ مَحْبُوبٍ، أَوْ فَقْدِ حَبِيبٍ، أَوْ بُعْدِهِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَالْمَعْنَى: لَا تَخَافِي عَلَيْهِ الْهَلَاكَ مِنَ الْإِلْقَاءِ فِي الْيَمِّ، وَلَا تَحْزَنِي عَلَى فِرَاقِهِ.
وَالنَّهْيُ عَنِ الْخَوْفِ وَعَنِ الْحُزْنِ نَهْيٌ عَنْ سَبَبَيْهِمَا وَهُمَا تُوَقُّعُ الْمَكْرُوهِ وَالتَّفَكُّرُ فِي وَحْشَةِ الْفِرَاقِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ لِلنَّهْيَيْنِ لِأَنَّ ضَمَانَ رَدِّهِ إِلَيْهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَهْلِكُ وَأَنَّهَا لَا تَشْتَاقُ إِلَيْهِ بِطُولِ الْمَغِيبِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ فَإِدْخَالٌ للمسرة عَلَيْهَا.
[٨]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٨]
فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (٨)
الِالْتِقَاطُ افْتِعَالٌ مِنَ اللَّقْطِ، وَهُوَ تَنَاوُلُ الشَّيْءِ الْمُلْقَى فِي الْأَرْضِ وَنَحْوِهَا بِقَصْدٍ أَوْ ذُهُولٍ. أَسْنَدَ الِالْتِقَاطَ إِلَى آلِ فِرْعَوْنَ لِأَنَّ اسْتِخْرَاجَ تَابُوتِ مُوسَى مِنَ النَّهْرِ كَانَ مِنْ إِحْدَى
النِّسَاءِ الْحَافَّاتِ بِابْنَةِ فِرْعَوْنَ حِينَ كَانَتْ مَعَ أَتْرَابِهَا وَدَايَاتِهَا عَلَى سَاحِلِ النِّيلِ كَمَا جَاءَ فِي الْإِصْحَاحِ الثَّانِي مِنْ سِفْرِ الْخُرُوجِ.
وَاللَّامُ فِي لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا لَامُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ بِلَامِ كَيْ وَهِيَ لَامٌ جَارَّةٌ مِثْلُ كي، وَهِي هُنَا مُتَعَلِّقَةٌ بِ (الْتَقَطَهُ). وَحَقُّ لَامِ كَيْ أَنْ تَكُونَ جَارَّةً لِمَصْدَرٍ مُنْسَبِكٍ مِنْ (أَنِ) الْمَقَدَّرَةِ بَعْدَ اللَّامِ وَمِنَ الْفِعْلِ الْمَنْصُوبِ بِهَا فَذَلِكَ الْمَصْدَرُ هُوَ الْعِلَّةُ الْبَاعِثَةُ عَلَى صُدُورِ ذَلِكَ الْفِعْلِ مِنْ فَاعِلِهِ. وَقَدِ اسْتُعْمِلَتْ فِي
لُحُومِ الْبَشَرِ الَّتِي تَحْتَ الطَّبَقَةِ الْجِلْدِيَّةِ مُتَّحِدَةُ اللَّوْنِ. وَمِنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ انْشَقَّتْ أَلْوَانُ قَبَائِلِ الْبَشَرِ فَجَاءَ مِنْهَا اللَّوْنُ الْأَصْفَرُ وَاللَّوْنُ الْأَسْمَرُ وَاللَّوْنُ الْأَحْمَرُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كُوقْيَيْ (١) جَعَلَ أُصُولَ أَلْوَانِ الْبَشَرِ ثَلَاثَةً: الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَصْفَرُ، وَهُوَ لَوْنُ أَهْلِ الصِّينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْأَحْمَرَ وَهُوَ لَوْنُ سُكَّانِ قَارَّةِ أَمْرِيكَا الْأَصْلِيِّينَ الْمَدْعُوِّينَ هُنُودَ أَمْرِيكَا. وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ مَجْمُوعِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ تَمَايَزَتِ الْأَجْذَامُ الْبَشَرِيَّةُ وَاتَّحَدَتْ مُخْتَلِطَاتُ أَنْسَابِهَا. وَقَدْ قَسَّمُوا أَجْذَامَ الْبَشَرِ الْآنَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْذَامٍ أَصْلِيَّةٍ وَهِيَ الْجَذْمُ الْقُوقَاسِيُّ الْأَبْيَضُ، وَالْجَذْمُ الْمَغُولِيُّ الْأَصْفَرُ، وَالْجَذْمُ الْحَبَشِيُّ الْأَسْوَدُ، وَفَرَّعُوهَا إِلَى ثَمَانِيَةٍ وَهِيَ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَبَشِيُّ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَصْفَرُ وَالسَّامِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَالْمَلَايِيُّ
نِسْبَةً إِلَى بِلَادِ الْمَلَايُو.
وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَاتٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لِمَا عُلِمَتْ مِنْ تَفَاصِيلِ دَلَائِلِهِ وَعِلَلِهِ، أَيْ آيَاتٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَهُوَ نَظِيرُ قَوْلِهِ آنِفًا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [الرّوم: ٢١].
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِلْعالِمِينَ نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَاتٍ لِلْعَالَمِينَ لِأَنَّهُ مُقَرَّرٌ مَعْلُومٌ لَدَيْهِمْ يُمَكِّنُهُمُ الشُّعُورَ بِآيَاتِهِ بِمُجَرَّدِ الْتِفَاتِ الذِّهْنِ دُونَ إِمْعَانِ نَظَرٍ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِلْعالِمِينَ بِفَتْحِ اللَّامِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ لأولي الْعلم.
[٢٣]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ٢٣]
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣)
هَذِهِ آيَةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ كَائِنَةٌ فِي أَعْرَاضٍ مِنْ أَعْرَاضِ النَّاسِ لَا يَخْلُو عَنْهَا أَحَدٌ مِنْ
_________
(١) كوقيي: عَالم طبيعي فرنسي ولد سنة ١٧٦٩ وَتوفى سنة ١٨٣٢.
عَلَيْكَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ اقْتَرَنَ بِالْفَاءِ لِمُعَامَلَةِ الْمَوْصُولِ مُعَامَلَةَ الشَّرْطِ وَمَفْعُولُ عَزَلْتَ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ إِلَى مَنْ أَيِ الَّتِي ابْتَغَيْتَهَا مِمَّنْ عَزَلْتَهُنَّ وَهُوَ مِنْ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ.
ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً.
الْإِشَارَةُ إِلَى شَيْءٍ مِمَّا تَقَدَّمَ وَهُوَ أَقْرَبُهُ، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى مَعْنَى التَّفْوِيضِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ قَوْلِهِ: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِشَارَةُ إِلَى الِابْتِغَاءِ الْمُتَضَمِّنِ لَهُ فِعْلُ ابْتَغَيْتَ أَيْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ فِي ابْتِغَائِهِنَّ بَعْدَ عَزْلِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى لِأَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ. وَالِابْتِغَاءُ: الرَّغْبَةُ وَالطَّلَبُ، وَالْمُرَادُ هُنَا ابْتِغَاءُ مُعَاشَرَةِ مَنْ عَزَلَهُنَّ.
فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ الْمَعْنَى أَنَّ فِي هَذَا التَّفْوِيضِ جَعَلَ الْحَقَّ فِي اخْتِيَارِ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ بِيَدِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يُبْقِ حَقًّا لَهُنَّ فَإِذَا عَيَّنَ لِإِحْدَاهِنَّ حَالَةً مِنَ الْحَالَيْنِ رَضِيَتْهُ بِهِ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى حُكْمِ قَوْلِهِ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن تكون لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الْأَحْزَاب: ٣٦] فَقَرَّتْ أَعْيُنُ جَمِيعِهِنَّ بِمَا عَيَّنَتَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي شَيْءٍ كَانَ رَاضِيًا بِمَا أُوتِيَ مِنْهُ، وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ لَهُ حَقًّا حَسِبَ أَنَّ مَا يُؤْتَاهُ أَقَلُّ مِنْ حَقِّهِ وَبَالَغَ فِي اسْتِيفَائِهِ. وَهَذَا التَّفْسِيرُ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتَادَةَ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَهَذَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: وَيَرْضَيْنَ وَلَا يُلَائِمُ قَوْلَهُ: أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ لِأَنَّ قُرَّةَ الْعَيْنِ إِنَّمَا تَكُونُ بِالْأَمْرِ الْمَحْبُوبِ، وَقَوْلَهُ: وَلا يَحْزَنَّ لِأَنَّ الْحُزْنَ مِنَ الْأَمْرِ الْمُكَدَّرِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِيٍّ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَلَا تَلُمْنِي فِيمَا لَا أَمْلِكُ».
وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَكُونُ الْمَعْنَى: ذَلِكَ الِابْتِغَاءُ بَعْدَ الْعَزْلِ أَقْرَبُ لِأَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُ اللَّاتِي كُنْتَ عَزَلْتَهُنَّ. فَفِي هَذَا الْوَجْه ترغيب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي اخْتِيَارِ عَدَمِ عَزْلِهِنَّ عَنِ الْقَسْمِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، وَلقَوْله: «ويرضين كلّهن»، وَلِمَا فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الْحَسَنَاتِ الْوَافِرَةِ الَّتِي يرغب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي تَحْصِيلِهَا لَا مَحَالَةَ وَهِيَ إِدْخَالُ الْمَسَرَّةِ عَلَى الْمُسلم وَحُصُول الرضى بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ
فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ [النَّحْل: ٧٤]، أَيْ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ فَتَجْعَلُوا لَهُ شُرَكَاءَ لِوُقُوعِهِ بَعْدَ وَيَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً
[النَّحْل: ٧٣].
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْله: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ إِنْكَارِيٌّ. ومَنْ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ يُسْنَدُ إِلَيْهِ الْخَبَرُ. فَالْمَعْنَى: لَا أَحَدَ يُحْيِيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ. فَشَمِلَ عُمُومُهُ إِنْكَارَهُمْ أَنْ يَكُونَ اللَّهَ تَعَالَى مُحْيِيًا لِلْعِظَامِ وَهِيَ رَمِيمٌ، أَيْ فِي حَالِ كَوْنِهَا رَمِيمًا.
وَجُمْلَةُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يَا آدَمُ [طه: ١٢٠] الْآيَةَ، فَجُمْلَةُ قالَ يَا آدَمُ بَيَان لجملة فَوَسْوَسَ.
وَالنِّسْيَانُ فِي قَوْلِهِ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ مُسْتَعَارٌ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ مِنْ أَصْلِهِ، أَيْ لِعَدَمِ الِاهْتِدَاءِ إِلَى كَيْفِيَّةِ الْخَلْقِ الْأَوَّلِ، أَيْ نَسِيَ أَنَّنَا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ، أَيْ لَمْ يَهْتَدِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ أَعْجَبُ مِنْ إِعَادَةِ عَظْمِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق: ١٥].
وَذِكْرُ النُّطْفَةِ هُنَا تَمْهِيدٌ لِلْمُفَاجَأَةِ بِكَوْنِهِ خَصِيمًا مُبِينًا عَقِبَ خَلْقِهِ، أَيْ ذَلِكَ الْهَيِّنُ الْمَنْشَأِ قَدْ أَصْبَحَ خَصِيمًا عَنِيدًا، وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَنَسِيَ خَلْقَهُ أَيْ نَسِيَ خَلْقَهُ الضَّعِيفَ فَتَطَاوَلَ وَجَاوَزَ، وَلِأَنَّ خَلْقَهُ مِنَ النُّطْفَةِ أَعْجَبُ مِنْ إِحْيَائِهِ وَهُوَ عَظَمٌ مُجَارَاةٌ لِزَعْمِهِ فِي مِقْدَارِ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ يُحْيِي مَا هُوَ أَضْعَفُ مِنَ الْعِظَامِ فَيُحْيِي الْإِنْسَانَ مِنْ رَمَادِهِ، وَمِنْ تُرَابِهِ، وَمِنْ عَجْبِ ذَنَبِهِ، وَمَنْ لَا شَيْءَ بَاقِيًا مِنْهُ.
وَالرَّمِيمُ: الْبَالِي، يُقَالُ: رَمَّ الْعَظْمُ وَأَرَمَّ، إِذَا بَلِيَ فَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، يُقَالُ:
رَمَّ الْعَظْمُ رَمِيمًا، فَهُوَ خَبَرٌ بِالْمَصْدَرِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُطَابِقِ الْمُخْبَرَ عَنْهُ فِي الْجَمْعِيَّةِ وَهِيَ بِلَى.
وَأَمْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَمْرٌ بِجَوَابٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ بِحَمْلِ اسْتِفْهَامِ الْقَائِلِ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ لَمْ يَكُنْ قَاصِدًا تَطَلُّبُ تَعْيِينِ الْمُحْيِي وَإِنَّمَا أَرَادَ الِاسْتِحَالَةَ، فَأُجِيبَ جَوَابَ مَنْ هُوَ مُتَطَلَّبٌ عَلِمًا. فَقِيلَ لَهُ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٠- سُورَةُ الْمُؤْمِنِ
وَرَدَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ فِي السُّنَّةِ «حم الْمُؤْمِنِ»
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَرَأَ حم الْمُؤْمِنِ إِلَى إِلَيْهِ الْمَصِيرُ [غَافِر: ١- ٣]، وَآيَةَ الْكُرْسِيِّ حِينَ يُصْبِحُ حُفِظَ بِهِمَا»
الْحَدِيثَ. وَبِذَلِكَ اشْتُهِرَتْ فِي مَصَاحِفِ الْمَشْرِقِ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَهَا الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» وَالتِّرْمِذِيُّ فِي «الْجَامِعِ». وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا ذُكِرَتْ فِيهَا قِصَّةُ مُؤْمِنِ آلِ فِرْعَوْنَ وَلَمْ تُذْكَرْ فِي سُورَةٍ أُخْرَى بِوَجْهٍ صَرِيحٍ.
وَالْوَجْهُ فِي إِعْرَابِ هَذَا الِاسْمِ حِكَايَةُ كَلِمَةِ حم سَاكِنَةَ الْمِيمِ بِلَفْظِهَا الَّذِي يُقْرَأُ.
وَبِإِضَافَتِهِ إِلَى لَفْظِ «الْمُؤْمِنِ» بِتَقْدِيرِ: سُورَةُ حم ذِكْرِ الْمُؤْمِنِ أَوْ لَفْظِ الْمُؤْمِنِ وَتُسَمَّى أَيْضًا «سُورَةُ الطَّوْلِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِهَا: ذِي الطَّوْلِ [غَافِر: ٣] وَقَدْ تُنُوسِيَ هَذَا الِاسْمُ.
وَتُسَمَّى سُورَةُ غَافِرٍ لِذِكْرِ وَصْفِهِ تَعَالَى: غافِرِ الذَّنْبِ [غَافِرِ: ٣] فِي أَوَّلِهَا. وَبِهَذَا الِاسْمِ اشْتُهِرَتْ فِي مَصَاحِفِ الْمَغْرِبِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ وَعَنِ الْحَسَنِ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ [غَافِر: ٥٥]، لِأَنَّهُ كَانَ يَرَى أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَأَوْقَاتِهَا.
وَيَرَى أَنَّ فَرْضَ صَلَوَاتٍ خَمْسٍ وَأَوْقَاتِهَا مَا وَقَعَ إِلَّا فِي الْمَدِينَةِ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَفْرُوضُ بِمَكَّةَ رَكْعَتَيْنِ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَوْقِيتٍ، وَهُوَ مِنْ بِنَاءِ ضَعِيفٍ عَلَى ضَعِيفٍ فَإِنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى أَنَّ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ فُرِضَتْ بِمَكَّةَ فِي أَوْقَاتِهَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالتَّسْبِيحِ فِي تِلْكَ الْآيَةِ الصَّلَوَاتِ بَلْ يُحْمَلُ عَلَى ظَاهِرِ لَفْظِهِ مِنْ كُلِّ قَوْلٍ يُنَزَّهُ بِهِ اللَّهُ تَعَالَى.
وَأَشَذُّ مِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
وَفِعْلُ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ يَتَحَمَّلُ مَعْنَيَيْنِ: أَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي ثَوَابِ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ:
وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ [الْبَقَرَة: ٢٧٦] وَقَوْلِهِ: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ [الْبَقَرَة: ٢٦١]، وَسَيَأْتِي قَرِيبًا قَوْلُهُ: وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً [الشورى: ٢٣]. وَعَلَى هَذَا فَتَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ بِالْحَرْثِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ عُلِّقَتِ الزِّيَادَةُ بِالْحَرْثِ وَحَقُّهَا أَنْ تُعَلَّقَ بِسَبَبِهِ وَهُوَ الثَّوَابُ، فَالْمَعْنَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ. وَأَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي الْعَمَل، أُتِي نُقَدِّرُ لَهُ الْعَوْنَ عَلَى الِازْدِيَادِ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَنُيَسِّرُ لَهُ ذَلِكَ فَيَزْدَادُ مِنَ الصَّالِحَاتِ. وَعَلَى هَذَا فَتَعْلِيقُ الزِّيَادَةِ بِالْحَرْثِ حَقِيقَةٌ فَيَكُونُ مِنِ اسْتِعْمَالِ الْمُرَكَّبِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ الْعَقْلِيَّيْنِ.
وَمَعْنَى نُؤْتِهِ مِنْها: نُقَدِّرُ لَهُ مِنْ مَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ: مُدَّةِ حَيَاةٍ وَعَافِيَةٍ وَرِزْقٍ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِمَخْلُوقَاتِهِ أَرْزَاقَهُمْ وَأَمْدَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا، وَجَعَلَ حَظَّ الْآخِرَةِ خَاصًّا بِالْمُؤْمِنِينَ كَمَا قَالَ:
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الْإِسْرَاء: ١٩]. وَقَدْ شَمِلَتْ آيَةُ سُورَةِ الْإِسْرَاءِ فَرِيقًا آخَرَ غَيْرَ مَذْكُورٍ هُنَا، وَهُوَ الَّذِي يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ وَيَبْتَغِي النَّجَاةَ فِيهَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْإِسْلَامِ مِثْلَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا الْفَرِيقُ مَذْكُورٌ أَيْضًا فِي سُورَةِ الْبَلَدِ [١١- ١٧] بَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا.
فَلَا يَتَوَهَّمَنَّ مُتَوَهِّمٌ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ وَنَحْوَهَا تَحْجُرُ تَنَاوُلَ الْمُسْلِمِ حُظُوظَ الدُّنْيَا إِذَا أَدَّى حَقَّ الْإِيمَانِ وَالتَّكْلِيفِ، وَلَا أَنَّهَا تَصُدُّ عَنْ خَلْطِ الْحُظُوظِ الدُّنْيَوِيَّةِ مَعَ حُظُوظِ الْآخِرَةِ إِذَا وَقَعَ الْإِيفَاءُ بِكِلَيْهِمَا، وَلَا أَنَّ الْخَلْطَ بَيْنَ الْحَظَّيْنِ يُنَافِي الْإِخْلَاصَ كَطَلَبِ التَّبَرُّدِ مَعَ الْوُضُوءِ وَطَلَبِ الصِّحَّةِ مَعَ التَّطَوُّعِ بِالصَّوْمِ إِذَا كَانَ الْمَقْصِدُ الْأَصْلِيُّ الْإِيفَاءَ بِالْحَقِّ الدِّينِيِّ. وَقَدْ تَعَرَّضَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَبُو إِسْحَاقَ الشَّاطِبِيُّ فِي فَصْلٍ أَوَّلٍ مِنَ الْمَسْأَلَةِ السَّادِسَةِ مِنَ النَّوْعِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» مِنْ كِتَابِ «الْمُوَافَقَاتِ». وَذَكَرَ فِيهَا نَظَرَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ لِلْغَزَالِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ وَرَجَّحَ فِيهَا رَأْيَ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فَانْظُرْهُ.
وَهُوَ نَظِيرٌ لِوَصْفِهِ بِسَبِيلِ اللَّهِ فِي قَوْلِهِ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [مُحَمَّد: ١].
وَعُبِّرَ عَنِ الْجَلَالَةِ هَنَا بِوَصْفِ الرَّبِّ زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ:
وَأَنَّ الْكافِرِينَ لَا مَوْلى لَهُمْ [مُحَمَّد: ١١] فَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ رَبِّهِمْ.
وَتَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ غُفْرَانُهَا لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَمَّا عَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمُ الَّتِي اقْتَرَفُوهَا قَبْلَ الْإِيمَانِ، وَكَفَّرَ لَهُمُ الصَّغَائِرَ، وَكَفَّرَ عَنْهُمْ بَعْضَ الْكَبَائِرِ بِمِقْدَارٍ يَعْلَمُهُ إِذَا كَانَتْ قَلِيلَةً فِي جَانِبِ أَعْمَالِهِمُ الصَّالِحَاتِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ١٠٢].
وَالْبَالُ: يُطْلَقُ عَلَى الْقَلْبِ، أَيِ الْعَقْلُ وَمَا يَخْطُرُ لِلْمَرْءِ مِنَ التَّفْكِيرِ وَهُوَ أَكْثَرُ إِطْلَاقِهِ وَلَعَلَّهُ حَقِيقَةٌ فِيهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
فَعَادَى عِدَاءً بَيْنَ ثَوْرٍ وَنَعْجَةٍ وَكَانَ عِدَاءُ الْوَحْشِ مِنِّي عَلَى بَالٍ
وَقَالَ:
عَلَيْهِ الْقَتَامُ سَيْءُ الظَّنِّ وَالْبَالِ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مَا بَالُكَ؟ أَيْ مَاذَا ظَنَنْتَ حِينَ فَعَلْتَ كَذَا، وَقَوْلُهُمْ: لَا يُبَالِي، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، أَيْ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِ، وَمِنْهُ بَيْتُ الْعُقَيْلِيِّ فِي الْحَمَاسَةِ:
وَنَبْكِي حِينَ نَقْتُلُكُمْ عَلَيْكُمْ وَنَقْتُلُكُمْ كَأَنَّا لَا نُبَالِي
أَيْ لَا نُفَكِّرُ.
وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ، أَيْ مَعْنَى لَا أُبَالِي: لَا أَكْرَهُ اهـ. وَأَحْسَبُهُمْ أَرَادُوا تَفْسِيرَ حَاصِلِ الْمَعْنَى وَلَمْ يَضْبِطُوا تَفْسِيرَ مَعْنَى الْكَلِمَةِ.
وَيُطْلَقُ الْبَالُ عَلَى الْحَالِ وَالْقَدَرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَبْتَرُ»
. قَالَ الْوَزِيرُ الْبَطْلَيُوسِيُّ فِي شَرْحِ دِيوَانِ امْرِئِ الْقَيْسِ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كُنْتُ أَقُولُ لِلْمِعَرِّي: كَيْفَ أَصْبَحْتَ؟ فَيَقُولُ: بِخَيْرٍ أَصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ. وَلَمْ يُوفِّهِ صَاحِبُ الْأَسَاسِ حَقَّهُ مِنَ الْبَيَانِ وَأَدْمَجَهُ فِي مَادَّةِ (بَلَوَ). وَإِصْلَاحُ الْبَالِ يَجْمَعُ إِصْلَاحَ الْأُمُورِ كُلِّهَا لِأَنَّ تَصَرُّفَاتِ الْإِنْسَانِ تَأْتِي عَلَى

[٤٠]

[سُورَة الطّور (٥٢) : آيَة ٤٠]
أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠)
هَذَا مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ [الطّور: ٣٣] وَقَوْلِهِ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطّور: ٣٧] إِذْ كُلُّ ذَلِكَ إِبْطَالٌ لِلْأَسْبَابِ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى زعم انْتِفَاء النبوءة عَنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ وَسَائِلَ اكْتِسَابِ الْعِلْمِ بِمَا زَعَمُوهُ عَادَ إِلَى إِبْطَالِ الدَّوَاعِي الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْ دَعْوَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ عَلَى أُسْلُوبِ الْكَلَامِ الَّذِي اتَّصَلَ هُوَ بِهِ، وَهُوَ أُسْلُوبُ خِطَابِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ هُنَا: أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً وَقَالَ هُنَالِكَ: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ [الطّور: ٣٧].
وَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ بِهِمْ بِتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَوَجَّسُ خِيفَةً مِنْ أَنْ يَسْأَلَهُمُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْرًا عَلَى إِرْشَادِهِمْ.
وَالتَّهَكُّمُ اسْتِعَارَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلَى التَّشْبِيهِ، وَالْمَقْصُودُ، مَا فِي التَّهَكُّمِ مِنْ مَعْنَى أَنَّ مَا نَشَأَ عَنْهُ التَّهَكُّمُ أَمْرٌ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ.
وَجِيءَ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَسْأَلُهُمْ لِإِفَادَةِ التَّجَدُّدِ، أَيْ تَسْأَلُهُمْ سُؤَالًا مُتَكَرِّرًا لِأَنَّ الدَّعْوَةَ مُتَكَرِّرَةٌ، وَقَدْ شُبِّهَتْ بِسُؤَالِ سَائِلٍ.
وَتَفْرِيعُ فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيَانِ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ سُؤَالِ الْأَجْرِ وَبَيْنَ تَجَهُّمِ مَنْ يَسْأَلُ وَالتَّحَرُّجِ مِنْهُ. وَقَدْ فَرَّعَ قَوْلَهُ: فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ عَلَى الْفِعْلِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ لَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ مَا سَأَلْتَهُمْ أَجْرًا فَيَثْقُلَ غُرْمُهُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، وَالْإِثْقَالِ يَتَفَرَّعُ عَلَى سُؤَالِ الْأَجْرِ الْمَفْرُوضِ لِأَنَّ مُجَرَّدَ السُّؤَال محرج للمسؤول لِأَنَّهُ بَيْنَ الْإِعْطَاءِ فَهُوَ ثَقِيلٌ وَبَيْنَ الرَّدِّ وَهُوَ صَعْبٌ.
وَالْمَغْرَمُ بُفَتْحِ الْمِيمِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَهُوَ الْغُرْمُ. وَهُوَ مَا يُفْرَضُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ عِوَضٍ يَدْفَعُهُ.
وَالْمُثْقَلُ: أَصْلُهُ الْمُحَمَّلُ بِشَيْءٍ ثَقِيلٍ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِمَنْ يُطَالَبُ بِمَا يَعْسُرُ
وَعُطِفَ اسْم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي الْجُمْلَة الأولى لقصر تَعْظِيمِ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَعْلَمُوا أَنَّ طَاعَتَهُ طَاعَة الله لِأَنَّهُ إِنَّمَا يَدْعُو إِلَى مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَبْلِيغِهِ وَلَمْ يُعْطَفِ اسْم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ اسْتِغْنَاءً بِمَا عُلِمَ مِنَ الْجُمْلَةِ الْأُولَى.
وَأُدْغِمَ الْقَافَانِ فِي يُشَاقِّ لِأَنَّ الْإِدْغَامَ والإظهار فِي مَثَلِهِ جَائِزَانِ فِي الْعَرَبيَّة.
وقرىء بِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فِي سُورَة الْبَقَرَة [٢١٧]. وَالْفَكُّ لُغَةُ الْحِجَازِ، وَالْإِدْغَامُ لُغَةُ بَقِيَّةِ الْعَرَبِ.
وَجُمْلَةُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ دَلِيلُ جَوَابِ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ إِذِ التَّقْدِيرُ: وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ فَاللَّهُ مُعَاقِبُهُمْ إِنَّهُ شَدِيد الْعقَاب.
[٥]
[سُورَة الْحَشْر (٥٩) : آيَة ٥]
مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (٥)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَفْضَى بِهِ إِلَى الْمَقْصد من السُّورَةِ عَنْ أَحْكَامِ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ وَإِشَارَةُ الْآيَةِ إِلَى مَا حَدَثَ فِي حِصَارِ بَنِي النَّضِيرِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَبْلَ أَنْ يَسْتَسْلِمُوا اعْتَصَمُوا بِحُصُونِهِمْ فَحَاصَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَكَانَتْ حَوَائِطُهُمْ خَارِجَ قَرْيَتِهِمْ وَكَانَتِ الْحَوَائِطُ تُسَمَّى الْبُوَيْرَةُ (بِضَمِّ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَهِيَ تَصْغِيرُ بُؤْرٍ بِهَمْزَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَ الْبَاءِ فَخُفِّفَتْ وَاوًا) عَمَدَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ إِلَى قَطْعِ بَعْضِ نَخِيلِ النَّضِيرِ قِيلَ بِأَمْرٍ من النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيلَ بِدُونِ أَمْرِهِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يُغَيِّرْهُ عَلَيْهِمْ. فَقِيلَ كَانَ ذَلِكَ لِيُوَسِّعُوا مَكَانًا لِمُعَسْكَرِهِمْ، وَقِيلَ لِتَخْوِيفِ بَنِي
النَّضِيرِ وَنِكَايَتِهِمْ، وَأَمْسَكَ بَعْضُ الْجَيْشِ عَنْ قَطْعِ النَّخِيلِ وَقَالُوا: لَا تَقْطَعُوا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا. وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ النَّخَلَاتِ الَّتِي قُطِعَتْ سِتُّ نَخَلَاتٍ أَوْ نَخْلَتَانِ. فَقَالَتِ الْيَهُودُ: يَا مُحَمَّدُ أَلَسْتَ تَزْعُمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ تُرِيدُ الصَّلَاحَ أَفَمِنَ الصَّلَاحِ قَطْعُ النَّخْلِ وَحَرْقُ الشَّجَرِ، وَهَلْ وَجَدَتَ فِيمَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ إِبَاحَةُ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا قَطَعُوا مِنَ النَّخْلِ أُرِيدَ بِهِ مَصْلَحَةُ إِلْجَاءِ الْعَدُوِّ إِلَى الِاسْتِسْلَامِ وَإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ وَإِذْلَالِهِمْ بِأَنْ يَرَوْا أَكْرَمَ أَمْوَالِهِمْ عُرْضَةً لِلْإِتْلَافِ بِأَيْدِي
ذَاتِهِ مُكَمِّلَةٌ لِمَعَائِبِهِ لِأَنَّ الْعَيْبَ الْمُشَاهَدَ أَجْلَبُ إِلَى الْاشْمِئْزَازِ وَأَوْغَلُ فِي النُّفْرَةِ مِنْ صَاحِبِهِ.
وَمَوْقِعُ بَعْدَ ذلِكَ مَوْقِعُ الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، وَالظَّرْفُ خَبَرٌ لِمَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: هُوَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَيَجُوزُ اتِّصَالُ بَعْدَ ذلِكَ بِقَوْلِهِ: زَنِيمٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنْ زَنِيمٍ.
وَالزَّنِيمُ: اللَّصِيقُ وَهُوَ مَنْ يَكُونُ دَعِيًّا فِي قَوْمِهِ لَيْسَ مِنْ صَرِيحِ نَسَبِهِمْ: إِمَّا بِمَغْمَزٍ فِي نَسَبِهِ، وَإِمَّا بِكَوْنِهِ حَلِيفًا فِي قَوْمٍ أَوْ مَوْلَى، مَأْخُوذٌ مِنَ الزَّنَمَةِ بِالتَّحْرِيكِ وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ أُذُنِ
الْبَعِيرِ لَا تُنْزَعُ بَلْ تَبْقَى مُعَلَّقَةً بِالْأُذُنِ عَلَامَةً عَلَى كَرَمِ الْبَعِيرِ. وَالزَّنَمَتَانِ بِضْعَتَانِ فِي رِقَابِ الْمَعْزِ.
قِيلَ أُرِيدَ بِالزَّنِيمِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ لِأَنَّهُ ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ مَوْلِدِهِ.
وَقِيلَ أُرِيدَ الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ ثَقِيفٍ فَحَالَفَ قُرَيْشًا وَحَلَّ بَيْنَهُمْ، وَأَيًّا مَا كَانَ الْمُرَادُ بِهِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ خَاصٌّ فَدُخُولُهُ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلَّ [الْقَلَم: ١٠] إِنَّمَا هُوَ عَلَى فَرْضِ وُجُودِ أَمْثَالِ هَذَا الْخَاصِّ وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ الرَّمْزِ كَمَا يُقَالُ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَعْمَلُونَ كَذَا، وَيُرَادُ وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ. قَالَ الْخَطِيمُ التَّمِيمِيُّ جَاهِلِيُّ، أَوْ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
زَنِيمٌ تَدَاعَاهُ الرِّجَالُ زِيَادَةً كَمَا زِيدَ فِي عَرْضِ الْأَدِيمِ الْأَكَارِعُ
وَيُطْلَقُ الزَّنِيمُ عَلَى مَنْ فِي نَسَبِهِ غَضَاضَةٌ مِنْ قِبَلِ الْأُمَّهَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ حَسَّانِ فِي هِجَاءِ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، قَبْلَ إِسْلَامِ أَبِي سُفْيَانَ، وَكَانَتْ أُمُّهُ مَوْلَاةً خِلَافًا لِسَائِرِ بَنِي هَاشِمٍ إِذْ كَانَتْ أُمَّهَاتُهُمْ مِنْ صَرِيحِ نَسَبِ قَوْمِهِنَّ:
وَأَنْتَ زَنِيمٌ نِيطَ فِي آلِ هَاشِمٍ كَمَا نِيطَ خَلْفَ الرَّاكِبِ الْقَدَحُ الْفَرْدُ
وَإِنَّ سَنَامَ الْمَجْدِ مِنْ آلِ هَاشِمٍ بَنُو بِنْتِ مَخْزُومٍ وَوَالِدُكَ الْعَبْدُ
يُرِيدُ جَدَّهُ أَبَا أُمِّهِ وَهُوَ مُوهِبٌ غُلَامُ عَبْدِ مُنَافٍ وَكَانَتْ أُمُّ أَبِي سُفْيَانَ سُمَيَّةَ بِنْتَ مُوهِبٍ هَذَا.
وَالْقَوْلُ فِي هَذَا الْإِطْلَاقِ وَالْمُرَادِ بِهِ مُمَاثِلٌ لِلْقَوْلِ فِي الْإِطْلَاقِ الَّذِي قبله.
[١٤- ١٥]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ (١٤) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ
وَأُضِيفَ إِذْ إِلَى جُمْلَةِ ناداهُ رَبُّهُ وَالْمَعْنَى: هَلْ أَتَاكَ خَبَرُ زَمَانٍ نَادَى فِيهِ مُوسَى رَبُّهُ.
وَالْوَادِ: الْمَكَانُ الْمُنْخَفِضُ بَيْنَ الْجِبَالِ.
وَالْمُقَدَّسُ: الْمُطَهَّرُ. وَالْمُرَادُ بِهِ التَّطْهِيرُ الْمَعْنَوِيُّ وَهُوَ التَّشْرِيفُ وَالتَّبْرِيكُ لِأَجْلِ مَا نَزَلَ فِيهِ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ دُونَ تَوَسُّطِ مَلَكٍ يُبَلِّغُ الْكَلَامَ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ تَقْدِيسٌ خَاصٌّ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ لَهُ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ [طه:
١٢].
وَطُوًى: اسْمُ مَكَانٍ وَلَعَلَّهُ هُوَ نَوْعٌ مِنَ الْأَوْدِيَةِ يُشْبِهُ الْبِئْرَ الْمَطْوِيَّةَ، وَقَدْ سُمِّيَ مَكَانٌ بِظَاهِرِ مَكَّةَ ذَا طُوًى بِضَمِّ الطَّاءِ وَبِفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طَهَ. وَهَذَا وَادٍ فِي جَانِبِ جَبَلِ الطُّورِ فِي بَرِّيَّةِ سِينَا فِي جَانِبِهِ الْغَرْبِيِّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ طُوىً بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى أَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ بِتَأْوِيلِ الْبُقْعَةِ، أَوْ لِلْعَدْلِ عَنْ طَاوٍ، أَوْ لِلْعُجْمَةِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ مُنَوَّنًا بِاعْتِبَارِهِ اسْمَ وَادٍ مُذَكَّرَ اللَّفْظِ.
وَجُمْلَةُ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ ناداهُ رَبُّهُ وَجُمْلَةُ إِنَّهُ طَغى تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: اذْهَبْ، وَلِذَلِكَ افْتُتِحَتْ بِحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي هُوَ لِلِاهْتِمَامِ وَيُفِيدُ مُفَادَ التَّعْلِيلِ.
وَالطُّغْيَانُ إِفْرَاطُ التَّكَبُّرِ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ لِلطَّاغِينَ مَآباً فِي سُورَةِ النَّبَأِ [٢٢].
وَفِرْعَوْنُ: لَقَبُ مَلِكِ الْقِبْطِ بِمِصْرَ فِي الْقَدِيمِ، وَهُوَ اسْمٌ مُعَرَّبٌ عَنِ اللُّغَةِ الْعِبْرَانِيَّةِ وَلَا يُعْلَمُ هَلْ هُوَ اسْمٌ لِلْمَلِكِ فِي لُغَةِ الْقِبْطِ وَلَمْ يُطْلِقْهُ الْقُرْآنُ إِلَّا عَلَى مَلِكِ مِصْرَ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِ مُوسَى، وَأُطْلِقَ عَلَى الَّذِي فِي زَمَنِ يُوسُفَ اسْمُ الْمَلِكِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٠٣].
وهَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ عَرْضٌ وَتَرْغِيبٌ قَالَ تَعَالَى: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى [طه: ٤٤].


الصفحة التالية
Icon