وَشُكْرًا لَا كُفْرًا وَعَجَبًا، فَإِنَّمَا يَنْتَصِبُ هَذَا عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ كَأَنَّكَ قُلْتَ أَحْمَدُ اللَّهَ حَمْدًا وَإِنَّمَا اخْتُزِلَ الْفِعْلُ هَاهُنَا لِأَنَّهُمْ جَعَلُوا هَذَا بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ كَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ فِي بَابِ الدُّعَاءِ وَقَدْ جَاءَ بَعْضُ هَذَا رَفْعًا يُبْتَدَأُ بِهِ ثُمَّ يُبْنَى عَلَيْهِ (أَيْ يُخْبَرُ عَنْهُ) ثُمَّ قَالَ بَعْدَ بَابٍ آخَرَ: هَذَا بَابٌ يُخْتَارُ فِيهِ أَنْ تَكُونَ الْمَصَادِرُ مُبْتَدَأَةً مَبْنِيًّا عَلَيْهَا مَا بَعْدَهَا، وَذَلِكَ قَوْلُكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ،
وَالْعَجَبُ لَكَ، وَالْوَيْلُ لَهُ، وَإِنَّمَا اسْتَحَبُّوا الرَّفْعَ فِيهِ لِأَنَّهُ صَارَ مَعْرِفَةً وَهُوَ خَبَرٌ (أَيْ غَيْرُ إِنْشَاءٍ) فَقَوِيَ فِي الِابْتِدَاءِ (أَيْ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ خَبَرًا لَا دُعَاءً وَكَانَ مَعْرِفَةً بِأَلْ تَهَيَّأَتْ فِيهِ أَسْبَابُ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّ كَوْنَهُ فِي معنى الْإِخْبَار يهّيىء جَانِبَ الْمَعْنَى لِلْخَبَرِيَّةِ وَكَوْنَهَ مَعْرِفَةً يُصَحِّحُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً) بِمَنْزِلَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَالرَّجُلِ، وَالَّذِي تَعْلَمُ (مِنَ الْمَعَارِفِ) لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ إِنَّمَا هُوَ خَبَرٌ وَأَحْسَنُهُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعْرِفَةٌ وَنَكِرَةٌ أَن تبدأ بالأعرف وَهُوَ أَصْلُ الْكَلَامِ. وَلَيْسَ كُلُّ حَرْفٍ (أَيْ تَرْكِيبٍ) يُصْنَعُ بِهِ ذَاكَ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ حَرْفٍ (أَيْ كَلِمَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَصَادِرِ) يَدْخُلُ فِيهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ، فَلَوْ قُلْتَ السَّقْيَ لَكَ وَالرَّعْيَ لَكَ لَمْ يَجُزْ (يَعْنِي يُقْتَصَرُ فِيهِ عَلَى السَّمَاعِ).
وَاعْلَمْ أَنَّ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَإِنِ ابْتَدَأْتَهُ فَفِيهِ مَعْنَى الْمَنْصُوبِ وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ اللَّفْظِ بِقَوْلِكَ أَحْمَدُ اللَّهَ. وَسَمِعْنَا نَاسًا مِنَ الْعَرَبِ كَثِيرًا يَقُولُونَ: التُّرَابَ لَكَ وَالْعَجَبَ لَكَ، فَتَفْسِيرُ نَصْبِ هَذَا كَتَفْسِيرِهِ حَيْثُ كَانَ نَكِرَةً، كَأَنَّكَ قُلْتُ حَمْدًا وَعَجَبًا، ثمَّ جِئْت بلك لِتُبَيِّنَ مَنْ تَعْنِي وَلَمْ تَجْعَلْهُ مَبْنِيًّا عَلَيْهِ فَتَبْتَدِئَهُ». انْتَهَى كَلَامُ سِيبَوَيْهِ بِاخْتِصَارٍ. وَإِنَّمَا جَلَبْنَاهُ هُنَا لِأَنَّهُ أَفْصَحُ كَلَامٍ عَنْ أَطْوَارِ هَذَا الْمَصْدَرِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ وَاسْتِعْمَالِهِمْ، وَهُوَ الَّذِي أَشَارَ لَهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بِقَوْلِهِ: «وَأَصْلُهُ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ عَلَى أَنَّهُ مِنَ الْمَصَادِرِ الَّتِي يَنْصِبُهَا الْعَرَبُ بِأَفْعَالٍ مُضْمَرَةٍ فِي مَعْنَى الْإِخْبَارِ كَقَوْلِهِمْ شُكْرًا، وَكُفْرًا، وَعَجَبًا، يُنْزِلُونَهَا مَنْزِلَةَ أَفْعَالِهَا وَيَسُدُّونَ بِهَا مَسَدَّهَا، وَلِذَلِكَ لَا يَسْتَعْمِلُونَهَا مَعَهَا وَالْعُدُولُ بِهَا عَنِ النَّصْبِ إِلَى الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثَبَاتِ الْمَعْنَى» إِلَخْ.
وَمِنْ شَأْنِ بُلَغَاءِ الْعَرَبِ أَنَّهُمْ لَا يَعْدِلُونَ عَنِ الْأَصْلِ إِلَّا وَهُمْ يَرْمُونَ إِلَى غَرَضٍ عَدَلُوا لِأَجْلِهِ، وَالْعُدُولُ عَنِ النَّصْبِ هُنَا إِلَى الرَّفْعِ لِيَتَأَتَّى لَهُمُ الدَّلَالَةُ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ بِمَصِيرِ الْجُمْلَةِ اسْمِيَّةً وَالدَّلَالَةُ عَلَى الْعُمُومِ الْمُسْتَفَادِ فِي الْمَقَامِ مِنْ أَلِ الْجِنْسِيَّةِ، وَالدَّلَالَةُ عَلَى الِاهْتِمَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ التَّقْدِيمِ. وَلَيْسَ وَاحِدٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِمُمْكِنِ الِاسْتِفَادَةِ لَوْ بَقِيَ الْمَصْدَرُ مَنْصُوبًا إِذِ النَّصْبُ يَدُلُّ عَلَى الْفِعْلِ الْمُقَدَّرِ وَالْمُقَدَّرُ كَالْمَلْفُوظِ فَلَا تَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْمِيَّةً إِذِ الِاسْمُ فِيهَا نَائِبٌ
هَذَا الصَّوْمَ فَإِنَّ فِي الِاقْتِدَاءِ بِالْغَيْرِ أُسْوَةً فِي الْمَصَاعِبِ، فَهَذِهِ فَائِدَةٌ لِمَنْ قَدْ يَسْتَعْظِمُ الصَّوْمَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَيَمْنَعُهُ وُجُودُهُ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِيمَانِ وَلِمَنْ يَسْتَثْقِلُهُ مِنْ قَرِيبِي الْعَهْدِ بِالْإِسْلَامِ، وَقَدْ أَكَّدَ هَذَا الْمَعْنَى الضِّمْنِيَّ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ.
وَالْغَرَضُ الثَّالِثُ إِثَارَةُ الْعَزَائِمِ لِلْقِيَامِ بِهَذِهِ الْفَرِيضَةِ حَتَّى لَا يَكُونُوا مُقَصِّرِينَ فِي قَبُولِ هَذَا الْفَرْضِ بَلْ لِيَأْخُذُوهُ بِقُوَّةٍ تَفُوقُ مَا أَدَّى بِهِ الْأُمَمُ السَّابِقَة.
وَوَقع وَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» قَوْلُهُ: «كَانَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ فِي كَيْفِيَّةِ صِيَامِنَا أَنَّهُ كَانَ مِثْلَ صِيَامِ مَنْ قَبْلَنَا وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ: كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَنَتَعَرَّضُ لَهُ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَة:
١٨٧].
فَهَذِهِ الْآيَةُ شَرَعَتْ وُجُوبَ صِيَامِ رَمَضَانَ، لِأَنَّ فِعْلَ كُتِبَ يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ، وَابْتِدَاءُ نُزُولِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فَيَكُونُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ تَقَدَّمَ عَامًا ثُمَّ فُرِضَ رَمَضَانُ فِي الْعَامِ الَّذِي يَلِيهِ وَفِي «الصَّحِيحِ»
أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَامَ تِسْعَ رَمَضَانَاتٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ صَامَ أَوَّلَ رَمَضَانَ فِي الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَةِ وَيَكُونُ صَوْمُ عَاشُورَاءَ قَدْ فُرِضَ عَامًا فَقَطْ وَهُوَ أَوَّلُ الْعَامِ الثَّانِي مِنَ الْهِجْرَة.
وَالْمرَاد بالذين مِنْ قَبْلِكُمْ من كَانَ قيل الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الشَّرَائِعِ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ أَعْنِي الْيَهُودَ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَعْرِفُهُمُ الْمُخَاطَبُونَ ويعرفون ظَاهر شؤونهم وَكَانُوا عَلَى اخْتِلَاطٍ بِهِمْ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ لِلْيَهُودِ صَوْمٌ فَرَضَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَهُوَ صَوْمُ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ مِنَ الشَّهْرِ السَّابِعِ مِنْ سَنَتِهِمْ وَهُوَ الشَّهْرُ الْمُسَمَّى عِنْدَهُمْ (تِسْرِي) يَبْتَدِئُ الصَّوْمُ مِنْ غُرُوبِ الْيَوْمِ التَّاسِعِ إِلَى غُرُوبِ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ وَهُوَ يَوْمُ كَفَّارَةِ الْخَطَايَا وَيُسَمُّونَهُ (كَبُّورَ) ثُمَّ إِنَّ أَحْبَارَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أُخْرَى وَهِيَ الْأَيَّامُ الْأُوَلُ مِنَ الْأَشْهُرِ الرَّابِعِ وَالْخَامِسِ وَالسَّابِعِ وَالْعَاشِرِ مِنْ سَنَتِهِمْ تِذْكَارًا لِوَقَائِعِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَوْمَ يَوْمِ (بُورِيمْ) تِذْكَارًا لِنَجَاتِهِمْ مِنْ غَصْبِ مَلِكِ الْأَعَاجِمِ (أَحْشُويُرُوشَ) فِي وَاقِعَةِ (اسْتِيرَ)، وَعِنْدَهُمْ صَوْمُ التَّطَوُّعِ، وَفِي الْحَدِيثِ: «أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ دَاوُدَ كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا»، أَمَّا النَّصَارَى فَلَيْسَ فِي شَرِيعَتِهِمْ نَصٌّ عَلَى تَشْرِيعِ صَوْمٍ زَائِدٍ عَلَى مَا فِي التَّوْرَاةِ فَكَانُوا يَتَّبِعُونَ صَوْمَ الْيَهُودِ وَفِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ يَوْمَ عَاشُورَاءَ تُعَظِّمُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى»، ثُمَّ إِنَّ رُهْبَانَهُمْ شَرَعُوا صَوْمَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا اقْتِدَاءً بِالْمَسِيحِ إِذْ صَامَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا قَبْلَ بَعْثَتِهِ،
وَسَبَبُ وُقُوعِ الْمُتَشَابِهَاتِ فِي الْقُرْآنِ: هُوَ كَوْنُهُ دَعْوَةً، وَمَوْعِظَةً، وَتَعْلِيمًا، وَتَشْرِيعًا بَاقِيًا، وَمُعْجِزَةً، وَخُوطِبَ بِهِ قَوْمٌ لَمْ يَسْبِقْ لَهُمْ عَهْدٌ بِالتَّعْلِيمِ وَالتَّشْرِيعِ، فَجَاءَ عَلَى أُسْلُوبٍ مُنَاسِبٍ لِجَمْعِ هَذِهِ الْأُمُورِ، بِحَسَبِ حَالِ الْمُخَاطَبِينَ الَّذِينَ لَمْ يَعْتَادُوا الْأَسَالِيبَ التَّدْرِيسِيَّةَ، أَوِ الْأَمَالِيَ الْعِلْمِيَّةَ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هِجِّيرَاهُمُ الْخَطَابَةَ وَالْمُقَاوَلَةَ، فَأُسْلُوبُ الْمَوَاعِظِ وَالدَّعْوَةِ قَرِيبٌ مِنْ أُسْلُوبِ الْخَطَابَةِ، وَهُوَ لِذَلِكَ لَا يَأْتِي عَلَى أَسَالِيبِ الْكُتُبِ الْمُؤَلَّفَةِ لِلْعِلْمِ، أَوِ الْقَوَانِينِ الْمَوْضُوعَةِ لِلتَّشْرِيعِ، فأودعت الْعُلُوم الْمَقْصُود مِنْهُ فِي تَضَاعِيفِ الْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ، وَكَذَلِكَ أُودِعَ فِيهِ التَّشْرِيعُ، فَلَا تَجِدُ أَحْكَامَ نَوْعٍ مِنَ الْمُعَامَلَاتِ، كَالْبَيْعِ، مُتَّصِلًا بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، بَلْ تَلْفِيهِ مُوَزَّعًا عَلَى حَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ مَقَامَاتُ الْمَوْعِظَةِ وَالدَّعْوَةِ، لِيَخِفَّ تَلَقِّيهِ عَلَى السَّامِعِينَ، وَيَعْتَادُوا عِلْمَ مَا لَمْ يَأْلَفُوهُ فِي أُسْلُوبٍ قَدْ أَلِفُوهُ فَكَانَتْ مُتَفَرِّقَةً يُضَمُّ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ بِالتَّدَبُّرِ. ثُمَّ إِنَّ إِلْقَاءَ تِلْكَ الْأَحْكَامِ كَانَ فِي زمَان طَوِيلٍ، يَزِيدُ عَلَى عِشْرِينَ سَنَةً، أُلْقِيَ إِلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ الْأَحْكَامِ بِمِقْدَارِ مَا دَعَتْ إِلَيْهِ حَاجَتُهُمْ، وَتَحَمَّلَتْهُ مَقْدِرَتُهُمْ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ تَشْرِيعِهِ أُصُولٌ لَا تَتَغَيَّرُ، وَبَعْضَهُ فُرُوعٌ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، فَلِذَلِكَ تَجِدُ بَعْضَهَا عَامًّا، أَوْ مُطْلَقًا، أَوْ مُجْمَلًا، وَبَعْضَهَا خَاصًّا، أَوْ مُقَيَّدًا، أَوْ مُبَيِّنًا، فَإِذَا كَانَ بَعْضُ
الْمُجْتَهِدِينَ يَرَى تَخْصِيصَ عُمُومِ بَعْضِ عُمُومَاتِهِ بِخُصُوص بعض الخصوصات مَثَلًا، فَلَعَلَّ بَعْضًا مِنْهُمْ لَا يَتَمَسَّكُ إِلَّا بِعُمُومِهِ، حِينَئِذٍ، كَالَّذِي يَرَى الْخَاصَّ الْوَارِدَ بَعْدَ الْعَامِّ نَاسِخًا، فَيَحْتَاجُ إِلَى تَعْيِينِ التَّارِيخِ، ثُمَّ إِنَّ الْعُلُومَ الَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا الْقُرْآنُ هِيَ مِنَ الْعُلُومِ الْعُلْيَا: وَهِيَ عُلُومٌ فِيمَا بَعْدَ الطَّبِيعَةِ، وَعُلُومُ مَرَاتِبِ النُّفُوسِ، وَعُلُومُ النِّظَامِ الْعُمْرَانِيِّ، وَالْحِكْمَةِ، وَعُلُومُ الْحُقُوقِ. وَفِي ضِيقِ اللُّغَةِ الْمَوْضُوعَةِ عَنِ الْإِيفَاءِ بِغَايَاتِ الْمُرَادَاتِ فِي هَاتِهِ الْعُلُومِ، وَقُصُورِ حَالَةِ اسْتِعْدَادِ أَفْهَامِ عُمُومِ الْمُخَاطَبِينَ لَهَا، مَا أَوْجَبَ تَشَابُهًا فِي مَدْلُولَاتِ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَيْهَا. وَإِعْجَازُ الْقُرْآنِ: مِنْهُ إِعْجَازٌ نَظْمِيٌّ وَمِنْهُ إِعْجَازٌ عِلْمِيٌّ، وَهُوَ فَنٌّ جَلِيلٌ مِنَ الْإِعْجَازِ بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدَّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدَّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ. فَلَمَّا تَعَرَّضَ الْقُرْآنُ إِلَى بَعْضِ دَلَائِلِ الْأَكْوَانِ وَخَصَائِصِهَا، فِيمَا تَعَرَّضَ إِلَيْهِ، جَاءَ بِهِ مَحْكِيًّا بِعِبَارَةٍ تَصْلُحُ لِحِكَايَةِ حَالَتِهِ عَلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَرُبَّمَا كَانَ إِدْرَاكُ كُنْهِ حَالَتِهِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ مَجْهُولًا لِأَقْوَامٍ، فَيَعُدُّونَ تِلْكَ الْآيَ الدَّالَّةَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُتَشَابِهِ فَإِذَا جَاءَ مَنْ بَعْدَهُمْ عَلِمُوا أَنَّ مَا عَدَّهُ الَّذِينَ قَبْلَهُمْ مُتَشَابِهًا مَا هُوَ إِلَّا مُحْكَمٌ.

[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ١٦٢ إِلَى ١٦٣]

أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣)
تَفْرِيعٌ عَلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ فَهُوَ كَالْبَيَانِ لِتَوْفِيَةِ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارٌ لِلْمُمَاثَلَةِ الْمُسْتَفَادَةِ مِنْ كَافِ التَّشْبِيهِ فَهُوَ بِمَعْنَى لَا يَسْتَوُونَ. وَالِاتِّبَاعُ هُنَا بِمَعْنَى التَّطَلُّبِ: شَبَّهَ حَالَ الْمُتَوَخِّي بِأَفْعَالِهِ رِضَى اللَّهِ بِحَالِ الْمُتَطَلِّبِ لِطِلْبَةٍ فَهُوَ يَتْبَعُهَا حَيْثُ حَلَّ لِيَقْتَنِصَهَا، وَفِي هَذَا التَّشْبِيهِ حُسْنُ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ التَّحْصِيلَ عَلَى رِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى مُحْتَاجٌ إِلَى فَرْطِ اهْتِمَامٍ، وَفِي فِعْلِ (بَاءَ) مِنْ قَوْلِهِ: كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ صَاحِبِ الْمَعَاصِي بِالَّذِي خَرَجَ يَطْلُبُ مَا يَنْفَعُهُ فَرَجَعَ بِمَا يَضُرُّهُ، أَوْ رَجَعَ بِالْخَيْبَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦]. وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ حَالُ أَهْلِ الطَّاعَةِ وَأَهْلِ الْمَعْصِيَةِ، أَوْ أَهْلِ الْإِيمَانِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ.
وَقَوْلُهُ: هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ عَادَ الضّمير ل فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْكَلَامِ، وَلِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: دَرَجاتٌ لِأَنَّ الدَّرَجَاتِ مَنَازِلُ رِفْعَةٍ.
وَقَوْلُهُ: عِنْدَ اللَّهِ تشريف لمنازلهم.
[١٦٤]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٦٤]
لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤)
اسْتِئْنَافٌ لِتَذْكِيرِ رِجَالِ يَوْمِ أُحُدٍ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَمُنَاسَبَةِ ذِكْرِهِ هُنَا أَنَّ فِيهِ مِنَ التَّسْلِيَةِ عَلَى مُصِيبَةِ الْهَزِيمَةِ حَظًّا عَظِيمًا، إِذْ قَدْ
يَنْتَفِي قَتْلُ الْمُؤْمِنِ مُؤْمِنًا فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ عَدَمِ الْقَصْدِ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يَبْدُو فِي مَعْنَى الْآيَةِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ خَبَرًا مُرَادًا بِهِ النَّهْيُ، اسْتُعْمِلَ الْمُرَكَّبُ فِي لَازِمِ مَعْنَاهُ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ التَّمْثِيلِيِّ، وَتَجْعَلَ قَوْلَهُ: إِلَّا خَطَأً تَرْشِيحًا لِلْمَجَازِ: عَلَى نَحْوِ مَا قَرَّرْنَاهُ فِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، فَيَحْصُلُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ صُورَةَ الْخَطَأِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا النَّهْيُ، إِذْ قَدْ عَلِمَ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ الْخَطَأَ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، يَعْنِي إِنْ كَانَ نَوْعٌ مِنْ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ مَأْذُونًا فِيهِ لِلْمُؤْمِنِ، فَهُوَ قَتْلُ الْخَطَأِ، وَقَدْ عُلِمَ أَنَّ الْمُخْطِئَ لَا يَأْتِي فِعْلَهُ قَاصِدًا امْتِثَالًا وَلَا عِصْيَانًا، فَرَجَعَ الْكَلَامُ إِلَى مَعْنَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا قَتْلًا تَتَعَلَّقُ بِهِ الْإِرَادَةُ وَالْقَصْدُ بِحَالٍ أَبَدًا، فَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَبْدَأَ التَّشْرِيعِ، وَمَا بَعْدَهَا كَالتَّفْصِيلِ لَهَا وَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ لَا يُشْكِلُ الِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا خَطَأً. وَذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ إِلَى أَنَّ مَا كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً مُرَادٌ بِهِ النَّهْيُ، أَيْ خَبَرٌ فِي مَعْنَى الْإِنْشَاءِ فَالْتَجَأُوا إِلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ بِمَعْنَى (لَكِنْ) فِرَارًا مِنَ اقْتِضَاءِ مَفْهُومِ الِاسْتِثْنَاءِ إِبَاحَةَ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا خَطَأً، وَقَدْ فَهِمْتَ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ هُنَا.
وَإِنَّمَا جِيءَ بِالْقَيْدِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً مُرَادٌ بِهِ ادِّعَاءُ الْحَصْرِ أَوِ النَّهْيِ كَمَا عَلِمْتَ، وَلَوْ كَانَ الْخَبَرُ عَلَى حَقِيقَتِهِ لَاسْتَغْنَى عَنِ الْقَيْدِ لِانْحِصَارِ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ بِمُقْتَضَاهُ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، فَيُسْتَغْنَى عَنْ تَقْيِيدِهِ بِهِ.
رَوَى الطَّبَرَيُّ، وَالْوَاحِدِيُّ، فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَة: أنّ عيّاشا بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيَّ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ أَخَا أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ فَخَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ وَالْحَارِثُ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَبِي أُنَيْسَةَ فِي طَلَبِهِ، فَأَتَوْهُ بِالْمَدِينَةِ وَقَالُوا لَهُ: إِنَّ أُمَّكَ أَقْسَمَتْ أَنْ لَا يُظِلَّهَا بَيْتٌ حَتَّى تَرَاكَ، فَارْجِعْ مَعَنَا حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيْكَ ثُمَّ ارْجِعْ، وَأَعْطَوْهُ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ أَن لَا يهجوه، وَلَا يَحُولُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ دِينِهِ، فَخَرَجَ مَعَهُمْ فَلَمَّا جَاوَزُوا الْمَدِينَةَ أَوْثَقُوهُ، وَدَخَلُوا بِهِ مَكَّةَ، وَقَالُوا لَهُ «لَا نَحُلُّكَ مِنْ وَثَاقِكَ حَتَّى تَكْفُرَ بِالَّذِي آمَنْتَ بِهِ». وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ زَيْدٍ يَجْلِدُهُ وَيُعَذِّبُهُ، فَقَالَ عَيَّاشٌ لِلْحَارِثِ «وَاللَّهِ لَا أَلْقَاكَ خَالِيًا إِلَّا قَتَلْتُكَ» فَبَقِيَ بِمَكَّةَ
آدَمَ كُلَّهُمُ اسْتَحَقُّوا الْعَذَابَ الْأُخْرَوِيَّ بِخَطِيئَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ، فَجَاءَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ مُخَلِّصًا وَشَافِعًا وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِلصَّلْبِ لِيُكَفِّرَ عَنِ الْبَشَرِ خَطِيئَتَهُمُ الْمَوْرُوثَةَ، وَهَذَا يُلْزِمُهُمُ الِاعْتِرَافَ بِأَنَّ الْعَذَابَ كَانَ مَكْتُوبًا عَلَى الْجَمِيعِ لَوْلَا كَفَّارَةُ عِيسَى فَحَصَلَ الرَّدُّ عَلَيْهِمْ بِاعْتِقَادِهِمْ بِهِ بَلْهَ اعْتِقَادِنَا.
ثُمَّ أُخِذَتِ النَّتِيجَةُ مِنَ الْبُرْهَانِ بِقَوْلِهِ: بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أَيْ يَنَالُكُمْ مَا يَنَالُ سَائِرَ الْبَشَرِ. وَفِي هَذَا تَعْرِيضٌ أَيْضًا بِأَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ، لِأَنَّهُ نَالَهُ مَا يَنَالُ الْبَشَرَ مِنَ الْأَعْرَاضِ وَالْخَوْفِ، وَزَعَمُوا أَنَّهُ نَالَهُ الصَّلْبُ وَالْقَتْلُ.
وَجُمْلَةُ قَوْلِهِ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ كَالِاحْتِرَاسِ، لِأَنَّهُ لَمَّا رَتَّبَ عَلَى نَوَالِ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ أَنَّهُمْ بَشَرٌ دَفَعَ تَوَهُّمَ النَّصَارَى أَنَّ الْبَشَرِيَّةَ مُقْتَضِيَةٌ اسْتِحْقَاقَ الْعَذَابِ بِوِرَاثَةِ تَبِعَةِ خَطِيئَةِ آدَمَ فَقَالَ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ، أَيْ مِنَ الْبَشَرِ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ.
[١٩]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٩]
يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩)
كَرَّرَ اللَّهُ مَوْعِظَتَهُمْ وَدَعْوَتَهُمْ بَعْدَ أَنْ بَيَّنَ لَهُمْ فَسَادَ عَقَائِدِهِمْ وَغُرُورَ أَنْفُسِهِمْ بَيَانًا لَا يَدَعُ لِلْمُنْصِفِ مُتَمَسَّكًا بِتِلْكَ الضَّلَالَاتِ، كَمَا وَعَظَهُمْ وَدَعَاهُمْ آنِفًا بِمِثْلِ هَذَا عَقِبَ بَيَانِ نَقْضِهِمُ الْمَوَاثِيقَ. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ تَكْرِيرٌ لِمَوْقِعِ قَوْلِهِ: يَا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ [الْمَائِدَة: ١٥] الْآيَاتِ، إِلَّا أَنَّهُ ذَكَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا بِوَصْفِ مَجِيئِهِ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ لِيُذَكِّرَهُمْ بِأَنَّ كُتُبَهُمْ مُصَرِّحَةٌ بِمَجِيءِ رَسُولٍ عَقِبَ رُسُلِهِمْ، وَلِيُرِيَهُمْ أَنَّ مَجِيئَهُ لَمْ يَكُنْ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ إِذْ كَانُوا يَجِيئُونَ عَلَى فِتَرٍ بَيْنَهُمْ. وَذُكِرَ الرَّسُولُ هُنَالِكَ بِوَصْفِ تَبْيِينِهِ مَا يُخْفُونَهُ مِنَ الْكِتَابِ لِأَنَّ
بِجَمِيعِ
اسْتِعْمَالَاتِهِ أَنْ يَلِيَهَا جُزْءُ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفْهَمِ عَنْهُ كَالْمُنْكَرِ هُنَا، فَالتَّقْدِيمُ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ مِنْ جُزْئِيَّاتِ الْعِنَايَةِ الَّتِي قَالَ فِيهَا عَبْدُ الْقَاهِرِ أَنْ لَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ وَجْهِ الْعِنَايَةِ، وَلَيْسَ مُفِيدًا لِلتَّخْصِيصِ فِي مِثْلِ هَذَا لِظُهُورِ أَنَّ دَاعِيَ التَّقْدِيمِ هُوَ تَعْيِينُ الْمُرَادِ بِالِاسْتِفْهَامِ فَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ لِغَرَضٍ غَيْرِ ذَلِكَ. فَمَنْ جَعَلَ التَّقْدِيمَ هُنَا مُفِيدًا لِلِاخْتِصَاصِ، أَيِ انْحِصَارِ إِنْكَارِ اتِّخَاذِ الْوَلِيِّ فِي غَيْرِ اللَّهِ كَمَا مَالَ إِلَيْهِ بَعْضُ شُرَّاحِ «الْكَشَّافِ» فَقَدْ تَكَلَّفَ مَا يَشْهَدُ الِاسْتِعْمَالُ وَالذَّوْقُ بِخِلَافِهِ، وَكَلَامُ «الْكَشَّافِ» بَرِيءٌ مِنْهُ بَلِ الْحَقُّ أَنَّ التَّقْدِيمَ هُنَا لَيْسَ إِلَّا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِ الْمُقَدَّمِ- لِيَلِيَ أَدَاةَ الِاسْتِفْهَامِ فَيُعْلَمُ أَنَّ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ هُوَ اتِّخَاذُ غَيْرِ اللَّهِ وَلِيًّا، وَأَمَّا مَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِ. وَلَعَلَّ الَّذِي حَدَاهُمْ إِلَى ذَلِكَ أَنَّ الْمَفْعُولَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَنَظَائِرِهَا مِثْلَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ [الزمر: ٦٤] أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ [الْأَنْعَام: ٤٠] هُوَ كَلِمَةُ غَيْرَ الْمُضَافَةُ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَا عَدَا اللَّهَ، فَكَانَ اللَّهُ مَلْحُوظًا مِنْ لَفْظِ الْمَفْعُولِ فَكَانَ إِنْكَارُ اتِّخَاذِ اللَّهِ وَلِيًّا لِأَنَّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِهِ وَلِيًّا مُسْتَلْزِمًا عَدَمَ إِنْكَارِ اتِّخَاذِ اللَّهِ وَلِيًّا، لِأَنَّ إِنْكَارَ اتِّخَاذِ غَيْرِ اللَّهِ لَا يَبْقَى مَعَهُ إِلَّا اتِّخَاذُ اللَّهِ وَلِيًّا فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ مُسْتَلْزِمًا مَعْنَى الْقَصْرِ وَآئِلًا إِلَيْهِ وَلَيْسَ هُوَ بِدَالٍّ عَلَى الْقَصْرِ مُطَابَقَةً، وَلَا مُفِيدًا لِمَا يُفِيدُهُ الْقصر الإضافي مقن قَلْبِ اعْتِقَادٍ أَوْ إِفْرَادٍ أَوْ تَعْيِينٍ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ خِلَافَ كَلِمَةِ (غَيْرَ) لَمَا صَحَّ اعْتِبَارُ الْقَصْرِ، كَمَا لَوْ قُلْتَ: أَزَيْدًا أَتَتَّخِذُ صَدِيقًا، لَمْ يَكُنْ مُفِيدًا إِلَّا إِنْكَارَ اتِّخَاذِ زَيْدٍ صَدِيقًا مِنْ غَيْرِ الْتِفَاتٍ إِلَى اتِّخَاذِ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِأَنَّكَ تَرَاهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلصَّدَاقَةِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِكَ: أَتَتَّخِذُ زَيْدًا صَدِيقًا، إِلَّا أَنَّكَ أَرَدْتَ تَوَجُّهَ الْإِنْكَارِ لِلْمُتَّخِذِ لَا لِلِاتِّخَاذِ اهْتِمَامًا بِهِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا دَقِيقٌ فَأَجِدَّ فِيهِ نَظَرَكَ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ سَأَلُوا مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَّخِذَ أَصْنَامَهُمْ أَوْلِيَاءَ كَانَ لِتَقْدِيمِ الْمَفْعُولِ نُكْتَةُ اهْتِمَامٍ ثَانِيَةٍ وَهِيَ كَوْنُهُ جَوَابًا لِكَلَامٍ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤] وَقَوْلِهِ: قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ- إِلَى قَوْلِهِ- قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً [الْأَعْرَاف: ١٢]. وَأَشَارَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» فِي قَوْلِهِ: أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا الْآتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ إِلَى أَنَّ تَقْدِيمَ غَيْرَ اللَّهِ عَلَى أَبْغِي لِكَوْنِهِ جَوَابًا عَنْ نِدَائِهِمْ لَهُ إِلَى عِبَادَةِ آلِهَتِهِمْ. قَالَ الطَّيْبِيُّ: لِأَنَّ كُلَّ تَقْدِيمٍ إِمَّا لِلِاهْتِمَامِ أَوْ لِجَوَابِ إِنْكَارٍ.
وَ (تَعَالَ) فِعْلُ أَمْرٍ، أَصْلُهُ يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ يُرَادُ صُعُودُهُ إِلَى مَكَانٍ مُرْتَفِعٍ فَوْقَ مَكَانِهِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا نَادَوْا إِلَى أَمْرٍ مُهِمٍّ ارْتَقَى الْمُنَادِي عَلَى رَبْوَةٍ لِيُسْمَعَ صَوْتُهُ، ثُمَّ شَاعَ إِطْلَاقُ (تَعَالَ) عَلَى طَلَبِ الْمَجِيءِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ فَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً، فَأَصْلُهُ فِعْلُ أَمْرٍ لَا مَحَالَةَ مِنَ التَّعَالِي وَهُوَ تَكَلُّفُ الِاعْتِلَاءِ ثُمَّ نُقِلَ إِلَى طَلَبِ الْإِقْبَالِ مُطْلَقًا، فَقِيلَ: هُوَ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ بِمَعْنَى (اقْدَمْ)، لِأَنَّهُمْ وَجَدُوهُ غَيْرَ مُتَصَرِّفٍ فِي الْكَلَامِ إِذْ لَا يُقَالُ: تَعَالَيْتُ بِمَعْنَى (قَدِمْتُ)، وَلَا تَعَالَى إِلَيَّ فُلَانٌ بِمَعْنَى جَاءَ، وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدْ لَزِمَتْهُ عَلَامَاتٌ مُنَاسِبَةٌ لِحَالِ الْمُخَاطَبِ بِهِ فَيُقَالُ: تَعَالَوْا وَتَعَالَيْنَ. وَبِذَلِكَ رَجَّحَ جُمْهُورُ النُّحَاةِ أَنَّهُ فِعْلُ أَمْرٍ وَلَيْسَ بِاسْمِ فِعْلٍ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ اسْمَ فِعْلٍ لَمَا لَحِقَتْهُ الْعَلَامَاتُ، وَلَكَانَ مِثْلَ: هَلُمَّ وَهَيْهَاتَ.
وأَتْلُ جَوَابُ تَعالَوْا، وَالتِّلَاوَةُ الْقِرَاءَةُ، وَالسَّرْدُ وَحِكَايَةُ اللَّفْظِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ [الْبَقَرَة: ١٠٢]. وأَلَّا تُشْرِكُوا تَفْسِيرٌ لِلتِّلَاوَةِ لِأَنَّهَا فِي مَعْنَى الْقَوْلِ.
وَذُكِرَتْ فِيمَا حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أَشْيَاءَ لَيْسَتْ مِنْ قَبِيلِ اللُّحُومِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الِاهْتِمَامَ بِالْمُحَرَّمَاتِ الْفَوَاحِشِ أَوْلَى مِنَ الْعُكُوفِ عَلَى دِرَاسَةِ أَحْكَامِ الْأَطْعِمَةِ، تَعْرِيضًا بِصَرْفِ الْمُشْرِكِينَ هِمَّتَهُمْ إِلَى بَيَانِ الْأَطْعِمَةِ وَتَضْيِيعِهِمْ تَزْكِيَةَ نُفُوسِهِمْ وَكَفِّ الْمَفَاسِدِ عَنِ النَّاسِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها [الْأَعْرَاف: ٣٢، ٣٣] الْآيَةَ.
وَقَدْ ذُكِرَتِ الْمُحَرَّمَاتُ: بَعْضُهَا بِصِيغَةِ النَّهْيِ، وَبَعْضُهَا بِصِيغَةِ الْأَمْرِ الصَّرِيحِ أَوِ الْمُؤَوَّلِ، لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ، وَنُكْتَةُ الِاخْتِلَافِ فِي صِيغَةِ الطَّلَبِ لَهَاتِهِ الْمَعْدُودَاتِ سَنُبَيِّنُهَا.
وَأَن تَفْسِيرِيَّةٌ لِفِعْلِ: أَتْلُ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ فِيهَا مَعْنَى الْقَوْلِ. فَجُمْلَةُ: أَلَّا تُشْرِكُوا فِي مَوْقِعِ عَطْفِ بَيَانٍ.
وَإِذْ كَانَتْ جُمْلَةُ لَنا مِنْ شُفَعاءَ وَاقِعَةً فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ، فَالَّتِي عُطِفَتْ عَلَيْهَا تَكُونُ وَاقِعَةً فِي حَيِّزِ الِاسْتِفْهَامِ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ رَفْعُ الْفِعْلِ الْمُضَارِعِ فِي الْقِرَاءَاتِ الْمَشْهُورَةِ، وَرَفْعُهُ بِتَجَرُّدِهِ عَنْ عَامِلِ النَّصْبِ وَعَامِلِ الْجَزْمِ، فَوَقَعَ مَوْقِعَ الِاسْمِ كَمَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ تَبَعًا لِلْفَرَّاءِ، فَهُوَ مَرْفُوعٌ بِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إِلَى تَأْوِيلِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، بِرَدِّهَا إِلَى جُمْلَةٍ
فِعْلِيَّةٍ، بِتَقْدِيرِ: هَلْ يَشْفَعُ لَنَا شُفَعَاءُ كَمَا قَدَّرَهُ الزَّجَّاجُ، لِعَدَمِ الْمُلْجِئِ إِلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ انْتَصَبَ: فَنَعْمَلَ فِي جَوَابِ نُرَدُّ كَمَا انْتَصَبَ فَيَشْفَعُوا فِي جَوَابِ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ فِي قَوْلِهِمْ: فَنَعْمَلَ مَا يَشْمَلُ الِاعْتِقَادَ، وَهُوَ الْأَهَمُّ، مِثْلُ اعْتِقَادِ الْوَحْدَانِيَّةِ وَالْبَعْثِ وَتَصْدِيقِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ عَمَلُ الْقَلْبِ، وَلِأَنَّهُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ آثَارٌ عَمَلِيَّةٌ، مِنْ أَقْوَالٍ وَأَفْعَالٍ وَامْتِثَالٍ. وَالْمُرَادُ بِالْصِلَةِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَهُ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ بِقَرِينَةِ سِيَاقِ قَوْلِهِمْ: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أَيْ فَنَعْمَلُ مَا يُغَايِرُ مَا صَمَّمْنَا عَلَيْهِ بَعْدَ مَجِيءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَجُمْلَةُ: قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا تَذْيِيلًا وَخُلَاصَةً لِقِصَّتِهِمْ، أَيْ فَكَانَ حَاصِلُ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْآنِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ.
وَالْخَسَارَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِمَا يُرْجَى مِنْهُ النَّفْعُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، [١٢] وَقَوْلِهِ: فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [٩]. وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَا أَقْحَمُوا فِيهِ نُفُوسَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ قَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مُفْضٍ بِهِمْ إِلَى تَحَقُّقِ الْوَعِيدِ فِيهِمْ، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ الْقُرْآنُ، فَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّهُمْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ الْآنِ، وَإِنْ كَانُوا لَا يَشْعُرُونَ.
الْإِسْلَامَ، أَيْ لَغَفُورٌ لِمَنْ تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الْحَقِّ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ اللَّهَ قَدْ يُنَفِّسُ عَلَيْهِمْ فِي فَتَرَاتٍ مِنَ الزَّمَنِ لِأَنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ سَبَقَتْ غَضَبَهُ، وَقَدْ أَلَمَّ بِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا [الْإِسْرَاء: ٤- ٨].
[١٦٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٦٨]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
عَطْفُ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى قَصَصِ الْإِخْبَارِ عَنْ أَحْوَالِهِمْ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ إِشَارَةً إِلَى تَفَرُّقِهِمْ بَعْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَالتَّقْطِيعُ التَّفْرِيقُ، فَيَكُونُ مَحْمُودًا مِثْلَ وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً [الْأَعْرَاف: ١٦٠]، وَيَكُونُ مَذْمُومًا، فَالتَّعْوِيلُ عَلَى الْقَرِينَةِ لَا عَلَى لَفْظِ التَّقْطِيعِ.
فَالْمُرَادُ مِنَ الْأَرْضِ الْجِنْسُ أَيْ فِي أَقْطَارِ الْأَرْضِ.
وأُمَماً جَمْعُ أُمَّةٍ بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هُنَا تَقْطِيعًا مَذْمُومًا أَيْ تَفْرِيقًا بَعْدَ اجْتِمَاعِ أُمَّتِهِمْ فَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى أَسْرِ بني إِسْرَائِيل عِنْد مَا غَزَا مَمْلَكَةَ إِسْرَائِيلَ (شَلَمْنَاصِرُ) مَلِكُ بَابِلَ. وَنَقَلَهُمْ إِلَى جِبَالِ أَنْشُورَ وَأَرْضِ بَابِلَ سَنَةَ ٧٢١ قَبْلَ الْمِيلَادِ. ثُمَّ أَسَرَ (بُخْتَنَصَّرُ) مَمْلَكَةَ يَهُوذَا وَمَلَكَهَا سَنَةَ ٥٧٨ قَبْلَ الْمِيلَادِ، وَنَقَلَ الْيَهُودَ مِنْ (أُرْشَلِيمَ) وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْفُقَرَاءُ وَالْعُجَّزُ. ثُمَّ عَادُوا إِلَى أُرْشَلِيمَ سَنَةَ ٥٣٠، وَبَنَوُا الْبَيْتَ الْمُقَدَّسَ إِلَى أَنْ أَجْلَاهُمْ (طَيْطُوسُ) الرُّومَانِيُّ، وَخُرِّبَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ الثَّانِي بَعْدَ الْمِيلَادِ، فَلَمْ تَجْتَمِعْ أُمَّتُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَتَمَزَّقُوا أَيْدِي سَبَأٍ.
وَوَصْفُ الْأُمَمِ بِأَنَّهُمْ مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ إِيذَانٌ بِأَنَّ التَّفْرِيقَ شَمِلَ الْمُذْنِبِينَ وَغَيْرَهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلصَّالِحِينَ مَنْزِلَةَ إِكْرَامٍ عِنْدَ الْأُمَمِ الَّتِي حلّوا بَينهمَا، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ.
فَالضِّيقُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِما رَحُبَتْ اسْتُعِيرَ وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ تَمْثِيلًا لِحَالِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْخَلَاصَ مِنْ شِدَّةٍ بِسَبَبِ اخْتِلَالِ قُوَّةِ تَفْكِيرِهِ، بِحَالِ مَنْ هُوَ فِي مَكَانٍ ضَيِّقٍ مِنَ الْأَرْضِ يُرِيدُ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ فَلَا يَسْتَطِيعُ تَجَاوُزَهُ وَلَا الِانْتِقَالَ مِنْهُ.
فالباء للملابسة، وبِما مَصْدَرِيَّةٌ، وَالتَّقْدِيرُ: ضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ حَالَةَ كَوْنِهَا مُلَابِسَةً لِرُحْبِهَا أَيْ سِعَتِهَا: أَيْ فِي حَالَةِ كَوْنِهَا لَا ضِيقَ فِيهَا وَهَذَا الْمَعْنَى كَقَوْلِ الطِّرِمَّاحِ بْنِ حَكِيمٍ:
مَلَأْتُ عَلَيْهِ الْأَرْضَ حَتَّى كَأَنَّهَا مِنَ الضِّيقِ فِي عَيْنَيْهِ كِفَّةُ حَابِلِ
قَالَ الْأَعْلَمُ «أَي من الزعر» هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِ الْآخَرِ:
كَأَنَّ فِجَاجَ الْأَرْضِ وَهِيَ عَرِيضَةٌ عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ
وَهَذَا أَحْسَنُ مِنْ قَوْلِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ مَعْنَى وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ لَمْ تَهْتَدُوا إِلَى مَوْضِعٍ مِنَ الْأَرْضِ تَفِرُّونَ إِلَيْهِ فَكَأَنَّ الْأَرْضَ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَجْمَلَ فَقَالَ: أَيْ لِشِدَّةِ الْحَالِ وَصُعُوبَتِهَا.
وَمَوْقِعُ ثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ مَوْقِعُ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ، أَيْ: وَأَعْظَمُ مِمَّا نَالَكُمْ مِنَ الشَّرِّ أَنْ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ.
وَالتَّوَلِّي: الرُّجُوعُ، ومُدْبِرِينَ حَالٌ: إِمَّا مُؤَكِّدَةٌ لِمَعْنَى وَلَّيْتُمْ أَوْ أُرِيدَ بِهَا إِدْبَارٌ أَخَصُّ مِنَ التَّوَلِّي، لِأَنَّ التَّوَلِّيَ مُطْلَقٌ يَكُونُ لِلْهُرُوبِ، وَيَكُونُ لِلْفَرِّ فِي حِيَلِ الْحُرُوبِ، وَالْإِدْبَارُ شَائِعٌ فِي الْفِرَارِ الَّذِي لَمْ يُقْصَدُ بِهِ حِيلَةً فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوَلِّي اصْطِلَاحا حَرْبِيّا.
[٢٦]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٢٦]
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (٢٦)
عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التَّوْبَة: ٢٥].
وثُمَّ دَالَّةٌ عَلَى التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ فَإِنَّ نُزُولَ السَّكِينَةِ وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ أَعْظَمُ مِنَ النَّصْرِ
الْمَأْمُورِ بِهِ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَنزل فعل فَقُلْ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ:
إِنْ تَقُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا [الْإِسْرَاء: ٥١، ٥٢].
وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ نَظِيرُ تَنْزِيلِ الْأَمْرِ مِنَ الْقَوْلِ مَنْزِلَةَ الشَّرْطِ فِي جَزْمِ الْفِعْلِ الْمَقُولِ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ [إِبْرَاهِيم: ٣١] وَقَوْلِهِ: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [الْإِسْرَاء: ٥٣]. التَّقْدِيرُ: إِنْ تَقُلْ لَهُمْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ يُقِيمُوا وَإِنْ تَقُلْ لَهُمْ قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا. وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ عَلَى رَأْيِ الْمُحَقِّقِينَ مِنَ النُّحَاةِ وَعَادَةُ الْمُعْرِبِينَ أَنْ يُخَرِّجُوهُ عَلَى حَذْفِ شَرْطٍ مُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ.
وَالرَّأْيَانِ مُتَقَارِبَانِ إِلَّا أَنَّ مَا سَلَكَهُ الْمُحَقِّقُونَ تَقْدِيرُ مَعْنًى وَالتَّقْدِيرُ عِنْدَهُمُ اعْتِبَارٌ لَا اسْتِعْمَالٌ، وَمَا سَلَكَهُ الْمُعْرِبُونَ تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ وَالْمُقَدَّرُ عِنْدَهُمْ كَالْمَذْكُورِ.
وَلَوْ لَمْ يُنَزَّلِ الْأَمْرُ بِمَنْزِلَةِ الشَّرْطِ لَمَا جَاءَتِ الْفَاءُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٤، ٨٥] الْآيَاتِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَقُلْ فَاءُ الْفَصِيحَةِ، أَيْ إِنْ قَالُوا ذَلِكَ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ. وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: أَفَلا تَتَّقُونَ فَاءُ التَّفْرِيعِ، أَيْ يَتَفَرَّعُ عَلَى اعْتِرَافِكُمْ بِأَنَّهُ الْفَاعِلُ الْوَاحِدُ إِنْكَارُ عَدَمِ التَّقْوَى عَلَيْكُمْ. وَمَفْعُولُ تَتَّقُونَ مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ تَتَّقُونَهُ، أَيْ بِتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ.
وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ سَيَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ الرَّازِقَ وَالْخَالِقَ وَالْمُدَبِّرَ هُوَ اللَّهُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَعْتَقِدُونَ غَيْرَ ذَلِكَ كَمَا تَكَرَّرَ الْإِخْبَارُ بِذَلِكَ عَنْهُمْ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ. وَفِيهِ تَحَدٍّ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوِ اسْتَطَاعُوا لَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مَا نُسِبَ إِلَيْهِمْ صَحِيحًا، وَلَكِنَّ خَوْفَهُمْ عَارَ الْكَذِبِ صَرَفَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَلِذَلِكَ قَامَتْ عَلَيْهِمُ الْحُجَّةُ بِقَوْلِهِ: فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ.
وَجُمْلَةُ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ وَالضَّمِيرُ الْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ الْمَحْذُوفِ هُوَ الرَّابِطُ وَهُوَ تَجْرِيدٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بِئْسَ الشَّرابُ [الْكَهْف: ٢٩]، لِأَنَّ الْوِرْدَ الْمُشَبَّهَ بِهِ لَا يَكُونُ مَذْمُومًا.
وَالْإِتْبَاعُ: الْإِلْحَاقُ.
وَاللَّعْنَةُ: هِيَ لَعْنَةُ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ.
ويَوْمَ الْقِيامَةِ مُتَعَلق ب فَاتَّبَعُوا، فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أُتْبِعُوا لَعْنَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ اللَّعْنَةَ الْأُولَى قُيِّدَتْ بِالْمَجْرُورِ بِحَرْفِ فِي الظَّرْفِيَّةِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْإِتْبَاعَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ بِلَعْنَةٍ أُخْرَى.
وَجُمْلَةُ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِإِنْشَاءِ ذَمِّ اللَّعْنَةِ. وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ ذِكْرُ اللَّعْنَةِ، أَيْ بِئْسَ الرِّفْدُ هِيَ.
وَالرِّفْدُ- بِكَسْرِ الرَّاءِ- اسْمٌ عَلَى وَزْنِ فِعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِثْلَ ذِبْحٍ، أَيْ مَا يُرْفَدُ بِهِ.
أَيْ يُعْطَى. يُقَالُ: رَفَدَهُ إِذَا أَعْطَاهُ مَا يُعِينُهُ بِهِ مِنْ مَالٍ وَنَحْوِهِ.
وَفِي حَذْفِ الْمَخْصُوصِ بِالْمَدْحِ إِيجَازٌ لِيَكُونَ الذَّمُّ مُتَوَجِّهًا لِإِحْدَى اللَّعْنَتَيْنِ لَا عَلَى التَّعْيِينِ لِأَنَّ كِلْتَيْهِمَا بَئِيسٌ.
وَإِطْلَاقُ الرِّفْدِ عَلَى اللَّعْنَةِ اسْتِعَارَةٌ تَهَكُّمِيَّةٌ، كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيكَرِبَ:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ وَالْمَرْفُودُ: حَقِيقَتُهُ الْمُعْطَى شَيْئًا. وَوُصِفَ الرِّفْدُ بِالْمَرْفُودِ لِأَنَّ كِلْتَا اللَّعْنَتَيْنِ مَعْضُودَةٌ بِالْأُخْرَى، فَشُبِّهَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِمَنْ أُعْطِيَ عَطَاءً فَهِيَ مَرْفُودَةٌ. وَإِنَّمَا أُجْرِيَ الْمَرْفُودُ عَلَى التَّذْكِيرِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ أُطْلِقَ عَلَيْهِ رفد.
كَانُوا قَدْ سُرُّوا بِنُزُولِ الْقُرْآنِ مُصَدِّقًا لِلتَّوْرَاةِ، وَكَانُوا يَحْسَبُونَ دَعْوَةَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقْصُورَةً عَلَى الْعَرَبِ فَكَانَ الْيَهُودُ يَسْتَظْهِرُونَ بِالْقُرْآنِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ تَعَالَى: وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [سُورَة الْبَقَرَة: ٨٩]. وَكَانَ النَّصَارَى يَسْتَظْهِرُونَ بِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَفَرِيقٌ لَمْ يَثْبُتْ لَهُمُ الْفَرَحُ بِالْقُرْآنِ وَهُمْ مُعْظَمُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الْبُعَدَاءُ عَنْ مَكَّةَ وَمَا كَفَرَ الْفَرِيقَانِ بِهِ إِلَّا حِينَ عَلِمُوا أَنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ عَامَّةٌ.
وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ تَظْهَرُ بَلَاغَةُ التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِ يَفْرَحُونَ دُونَ يُؤْمِنُونَ. وَإِنَّمَا سَلَكْنَا هَذَا الْوَجْهَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ كَانَ نُزُولُهَا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وَسَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ وَبَعْضُ نَصَارَى نَجْرَانَ وَبَعْضُ نَصَارَى الْيَمَنِ، فَإِنْ كَانَت السُّورَة مَدِينَة أَوْ كَانَ هَذَا مِنَ الْمَدَنِيِّ فَلَا إِشْكَالَ. فَالْمُرَادُ بِالَّذِينِ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ الَّذِينَ أُوتُوهُ إِيتَاءً كَامِلًا، وَهُوَ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْعَصَبِيَّةِ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَعَنِ الْحَسَدِ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٢١].
فَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَحْزَابِ أَحْزَابُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ، كَمَا جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٣٧]، أَيْ وَمِنْ أَحْزَابِهِمْ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَ الْقُرْآنِ، فَاللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَلَعَلَّ هَؤُلَاءِ هُمْ خُبَثَاؤُهُمْ وَدُهَاتُهُمُ الَّذِينَ تَوَسَّمُوا أَنَّ الْقُرْآنَ يُبْطِلُ شَرَائِعَهُمْ فَأَنْكَرُوا بَعْضَهُ، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنِ الْإِيمَاءِ إِلَى ذَلِكَ مِنْ إِبْطَالِ أُصُولِ عَقَائِدِهِمْ مِثْلَ عُبُودِيَّةِ عِيسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصَارَى، وَنُبُوءَتِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَهُودِ.
وَفِي التَّعْبِيرِ عَنْهُمْ بِالْأَحْزَابِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ هُمُ الْمُتَحَزِّبُونَ الْمُتَصَلِّبُونَ لِقَوْمِهِمْ وَلِمَا كَانُوا عَلَيْهِ. وَهَكَذَا كَانَتْ حَالَةُ اضْطِرَابِ أهل الْكتاب عِنْد مَا دَمْغَتْهُمْ بَعْثَةُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخَذَ أَمْرُ الْإِسْلَامِ يَفْشُو.
وَ (كَانَ) تَامَّةٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَيَكُونُ- بِالرَّفْعِ- أَيْ فَهُوَ يَكُونُ، عَطْفًا عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ جُمْلَةُ أَنْ نَقُولَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ- بِالنَّصْبِ- عَطْفًا عَلَى نَقُولَ، أَيْ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ وَأَن يكون.
[٤١، ٤٢]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٤١ إِلَى ٤٢]
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٤٢)
لَمَّا ثَبَتَتْ حِكْمَةُ الْبَعْثِ بِأَنَّهَا تَبْيِينُ الَّذِي اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ مِنْ هُدًى وَضَلَالَةٍ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ بِتَبْيِينٍ بِالْبَعْثِ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا كَانُوا صَادِقِينَ بِدَلَالَةِ الْمُضَادَّةِ وَأَنَّهُمْ مُثَابُونَ وَمُكَرَّمُونَ. فَلَمَّا عُلِمَ ذَلِكَ مِنَ السِّيَاقِ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَأُدْمِجَ مَعَ ذَلِكَ وَعْدُهُمْ بِحُسْنِ الْعَاقِبَةِ فِي الدُّنْيَا مُقَابَلَةَ وَعِيدِ الْكَافِرِينَ بِسُوءِ الْعَاقِبَةِ فِيهَا الْوَاقِعِ بِالتَّعْرِيضِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [سُورَة النَّحْل: ٣٦].
فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ [سُورَة النَّحْل:
٣٩].
وَالْمُهَاجِر: مُتَارَكَةُ الدِّيَارِ لِغَرَضٍ مَا.
وفِي مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ. وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَظْهَرُ مِنَ السِّيَاقِ. تَقْدِيرُهُ: هَاجَرُوا لِأَجْلِ مَرْضَاةِ اللَّهِ.
وَإِسْنَادُ فِعْلِ ظُلِمُوا إِلَى الْمَجْهُولِ لِظُهُورِ الْفَاعِلِ مِنَ السِّيَاقِ وَهُوَ الْمُشْرِكُونَ.
وَالظُّلْمُ يَشْمَلُ أَصْنَافَ الِاعْتِدَاءِ مِنَ الْأَذَى وَالتَّعْذِيبِ.
رَسُولَهُ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَنْفُسَهُمْ
عِبَادًا لِلَّهِ مُتَطَلِّبِينَ شُكْرَ نِعْمَتِهِ، فَشَتَّانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَإِنْ سَخُفَتْ فِي شَأْنِهِمْ عَقِيدَةُ أَهْلِ الِاعْتِزَالِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [٩٩- ١٠٠].
فَالْمُؤْمِنُ لَا يَتَوَلَّى الشَّيْطَانَ أَبَدًا وَلَكِنَّهُ قَدْ يَنْخَدِعُ لِوَسْوَاسِهِ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَلْعَنُهُ فِيمَا أَوْقَعَهُ فِيهِ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَبِمِقْدَارِ ذَلِكَ الِانْخِدَاعِ يَقْتَرِبُ مِنْ سُلْطَانِهِ. وَهَذَا مَعْنَى
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي بَلَدِكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ بِمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تُحَقِّرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ»
. فَجُمْلَةُ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ تَكْمِلَةً لِتَوْبِيخِ الشَّيْطَانِ، فَيَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضَمِيرَ الشَّيْطَانِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُعْتَرِضَةً فِي آخِرِ الْكَلَامِ فَتَكُونُ كَافُ الْخِطَابِ ضمير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَقْرِيبًا لِلنَّبِيءِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ. وَمَآلُ الْمَعْنَى عَلَى الْوَجْهَيْنِ وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتلف الِاعْتِبَار.
[٦٦]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٦٦]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَهُوَ عَوْدٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَدِلَّةِ الِانْفِرَادِ بِالتَّصْرِيفِ فِي الْعَالَمِ الْمَشُوبَةِ بِمَا فِيهَا مِنْ نِعَمٍ عَلَى الْخَلْقِ، وَالدَّالَّةِ بِذَلِكَ الشَّوْبِ عَلَى إِتْقَانِ الصُّنْعِ وَمُحْكَمِ التَّدْبِيرِ لِنِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ وَسِيَادَةِ الْإِنْسَانِ فِيهِ وَعَلَيْهِ. وَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْكَلَامُ عَوْدًا إِلَى قَوْله: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ [الْإِسْرَاء: ١١]
وَحَرْفُ الِاسْتِقْبَالِ لِتَوْكِيدِ حُصُولِ الْعِلْمِ لَهُمْ حِينَئِذٍ وَلَيْسَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ اسْتُفِيدَ مِنَ الْغَايَةِ.
وإِمَّا حَرْفُ تَفْصِيلٍ لِ مَا يُوعَدُونَ، أَيْ مَا أُوعِدُوا مِنَ الْعَذَابِ إِمَّا عَذَابُ الدُّنْيَا وَإِمَّا عَذَابُ الْآخِرَةِ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَعْدُو أَنْ يَرَى أَحَدَ الْعَذَابَيْنِ أَوْ كِلَيْهِمَا.
وَانْتَصَبَ لَفْظُ الْعَذابَ عَلَى المفعولية ل رَأَوْا. وَحَرْفُ إِمَّا غَيْرُ عَاطِفٍ، وَهُوَ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْعَامِلِ وَمَعْمُولِهِ، كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إسَارٍ ومِنَةٍ وَإِمَّا دَمٍ وَالْمَوْتُ بِالْحُرِّ أَجْدَرُ
بِجَرِّ (إِسَارٍ، وَمِنَّةٍ، وَدَمٍ).
وَقَوْلُهُ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً مُقَابِلُ قَوْلِهِمْ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مَرْيَم: ٧٣] فَالْمَكَانُ يُرَادِفُ الْمَقَامَ، وَالْجُنْدُ الْأَعْوَانُ، لِأَنَّ النّدِيَّ أُرِيدَ بِهِ أَهْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَقُوبِلَ خَيْرٌ نَدِيًّا بِ أَضْعَفُ جُنْداً.
وَجُمْلَةُ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا لِمَا تَضَمَّنَهُ ذَلِكَ مِنَ الْإِمْهَالِ الْمُفْضِي إِلَى الِاسْتِمْرَارِ فِي الضَّلَالِ، وَالِاسْتِمْرَارُ: الزِّيَادَةُ. فَالْمَعْنَى عَلَى الِاحْتِبَاكِ، أَيْ فليمدد لَهُ الرحمان مَدًّا فَيَزْدَدْ ضَلَالًا، وَيَمُدُّ لِلَّذِينِ اهْتَدَوْا فَيَزْدَادُوا هُدًى.
وَجُمْلَةُ وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً. وَهُوَ ارْتِقَاءٌ مِنْ بِشَارَتِهِمْ بِالنَّجَاةِ إِلَى بِشَارَتِهِمْ بِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ، أَيْ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ مِنَ السَّلَامَةِ مِنَ الْعَذَابِ الَّتِي اقْتَضَاهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً، أَيْ فَسَيَظْهَرُ أَنَّ مَا كَانَ فِيهِ الْكَفَرَةُ مِنَ النِّعْمَةِ وَالْعِزَّةِ هُوَ أَقَلُّ مِمَّا كَانَ
وَذَلِكَ مُفَادُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمُ الْحُسْنَى هُمُ الْمُرَادُ مِنَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ [النَّمْل: ٨٧].
وَالتَّلَقِّي: التَّعَرُّضُ لِلشَّيْءِ عِنْدَ حُلُولِهِ تَعَرُّضَ كَرَامَةٍ. وَالصِّيغَةُ تُشْعِرُ بِتَكَلُّفِ لِقَائِهِ وَهُوَ تَكَلُّفُ تَهَيُّؤٍ وَاسْتِعْدَادٍ.
وَجُمْلَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ يَقُولُونَ لَهُمْ:
هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ، تَذْكِيرًا لَهُمْ بِمَا وُعِدُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الثَّوَابِ، لِئَلَّا يَحْسَبُوا أَنَّ الْمَوْعُودَ بِهِ يَقَعُ فِي يَوْمٍ آخَرَ. أَيْ هَذَا يَوْمُ تَعْجِيلِ وَعْدِكُمْ. وَالْإِشَارَةُ بِاسْمِ إِشَارَةِ الْقَرِيبِ لِتَعْيِينِ الْيَوْمِ وَتَمْيِيزِهِ بِأَنَّهُ الْيَوْمُ الْحَاضِرُ.
وَإِضَافَةُ (يَوْمٍ) إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ لِإِفَادَةِ اخْتِصَاصِهِ بِهِمْ وَكَوْنِ فَائِدَتِهِمْ حَاصِلَةً فِيهِ كَقَوْلِ جَرِيرٍ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ هَذَا زَمَانُكَ إِنِّي قَدْ خَلَا زَمَنِي
أَيْ هَذَا الزَّمَنُ الْمُخْتَصُّ بِكَ، أَيْ لتتصرف فِيهِ.
[١٠٤]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ١٠٤]
يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (١٠٤)
جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ قُصِدَ مِنْهَا إِعَادَةُ ذِكْرِ الْبَعْثِ وَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُقُوعِهِ وَإِمْكَانِهِ إِبْطَالًا لِإِحَالَةِ الْمُشْرِكِينَ وُقُوعَهُ بِعِلَّةِ أَنَّ الْأَجْسَادَ الَّتِي يُدَّعَى بَعْثُهَا قَدِ انْتَابَهَا الفناء الْعَظِيم وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠].
وَابْتُدِئَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِذِكْرِ الزَّانِي قَبْلَ ذِكْرِ الزَّانِيَةِ عَلَى عَكْسِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ [النُّور: ٢] فَإِنَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ الزَّانِيَةِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ هُوَ مَا عَرَفْتَهُ، فَأَمَّا هُنَا فَإِنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ رَغْبَةَ رَجُلٍ فِي تَزَوُّجِ امْرَأَةٍ تَعَوَّدَتِ الزِّنَى فَكَانَ الْمَقَامُ مُقْتَضِيًا الِاهْتِمَامَ بِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ مِنْ مَذَمَّةِ الرَّجُلِ الَّذِي يَتَزَوَّجُ مِثْلَ تِلْكَ الْمَرْأَةِ.
وَجُمْلَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ تَكْمِيلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنَ الْجُمْلَتَيْنِ قَبْلَهَا، وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمَا أُرِيدَ مِنْ تَفْظِيعِ نِكَاحِ الزَّانِيَةِ وَبِبَيَانِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ فِي الْقَضِيَّةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَتَانِ مِنْ قَبْلُ وَهُوَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ، أَيْ وَحُرِّمَ نِكَاحُ الزَّانِيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، فَلِذَلِكَ عُطِفَتْ جُمْلَةُ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهَا أَفَادَتْ تَكْمِيلًا لِمَا قَبْلَهَا وَشَأْنُ التَّكْمِيلِ أَنْ يَكُونَ بِطَرِيقِ الْعَطْفِ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ حَمَلَ الْآيَةَ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنَ التَّحْرِيمِ وَقَالُوا: هَذَا حُكْمٌ مَنْسُوخٌ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ بَعْدَهَا وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ [النُّور: ٣٢] فَدَخَلَتِ الزَّانِيَةُ فِي الْأَيَامَى، أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّ الْإِسْلَامُ وَذَهَبَ الْخَوْفُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ تُعَاوِدَهُمْ أَخْلَاقُ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ.
وَرُوِيَ هَذَا عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَابْنِ عُمَرَ، وَبِهِ
أَخَذَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، وَلَمْ يُؤْثَرْ أَنَّ أَحَدًا تَزَوَّجَ زَانِيَةً فِيمَا بَيْنَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَنُزُولِ نَاسِخِهَا، وَلَا أَنَّهُ فُسِخَ نِكَاحُ مُسْلِمٍ امْرَأَةً زَانِيَةً. وَمُقْتَضَى التَّحْرِيمِ الْفَسَادُ وَهُوَ يَقْتَضِي الْفَسْخَ. وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ: هَذَا خَاصٌّ بِهَذِهِ الْمَرْأَةِ إِذْ كَانَتْ كَافِرَةً فَأَمَّا الزَّانِيَةُ الْمُسْلِمَةُ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَيْهَا لَا يُفْسَخُ. وَمِنْهُمْ مَنْ رَأَى حُكْمَهَا مُسْتَمِرًّا. وَنَسَبَ الْفَخْرُ الْقَوْلَ بِاسْتِمْرَارِ حُكْمِ التَّحْرِيمِ إِلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَنَسَبَهُ غَيْرُهُ إِلَى التَّابِعِينَ وَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ من بعد.
يُقَالُ:
قَالَتْ قُرَيْشٌ (١)، وَقَالَتْ بَنُو عَامِرٍ (٢)، وَذَلِكَ قِيَاسٌ فِي كُلِّ اسْمِ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ
إِذَا كَانَ لِلْآدَمِيِّ مِثْلُ نَفَرٍ وَرَهْطٍ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ لِغَيْرِ الْآدَمِيِّينَ نَحْوُ إِبِلٍ فَمُؤَنَّثٌ لَا غَيْرُ. قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ وَتَبِعَهُ صَاحب «اللِّسَان» و «الْمِصْبَاح».
وَوَقَعَ فِي «الْكَشَّافِ» هَذِهِ الْعِبَارَةُ «الْقَوْمُ مُؤَنَّثَةٌ وَتَصْغِيرُهَا قُوَيْمَةُ» فَظَاهِرُ عِبَارَتِهِ أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مُؤَنَّثُ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ لَا غَيْرُ، وَهَذَا لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ وَسَكَتَ شُرَّاحُهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يُعَرِّجِ الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَيْهِ فِي «الْأَسَاسِ» فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِ الْعِبَارَةِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لِكَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنُ سِيدَهْ. وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَادَ جَوَازَ تَأْنِيثِ (قَوْمٍ) وَأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُصَغَّرَ عَلَى قُوَيْمَةَ فَيُجْمَعُ بَيْنَ كَلَامِهِ وَكَلَامِ الْجَوْهَرِيِّ وَابْنِ سِيدَهْ، وَهُوَ احْتِمَالٌ بَعِيدٌ مِنْ ظَاهِرِ كَلَامِهِ الْمُوَكَّدِ بِقَوْلِهِ: وَتَصْغِيرُهُ قُوَيْمَةُ، لِمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مِنْ أَنَّ التَّصْغِيرَ يَرُدُّ الْأَسْمَاءَ إِلَى أُصُولِهَا. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ تَأْنِيثَهُ لَيْسَ بِتَأْوِيلِهِ بِمَعْنَى الْأُمَّةِ لِأَنَّ التَّأْوِيلَ اعْتِبَارٌ لِلْمُتَكَلِّمِ فَلَا يَكُونُ لَهُ أَثَرٌ فِي إِجْرَاءِ الصِّيَغِ مِثْلَ التَّصْغِيرِ، فَإِنَّ الصِّيَغَ مِنْ آثَارِ الْوَضْعِ دُونَ الِاسْتِعْمَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا تُجْعَلُ لِلْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ صِيَغٌ خَاصَّةٌ بِالْمَجَازِ.
وَجُمِعَ الْمُرْسَلِينَ وَإِنَّمَا كَذَّبُوا رَسُولًا وَاحِدًا أَوَّلَ الرُّسُلِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَهُ رَسُولٌ وَهُمْ أَوَّلُ الْمُكَذِّبِينَ، فَإِنَّمَا جُمِعَ لِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَمْ يَكُنْ لِأَجْلِ ذَاتِهِ وَلَكِنَّهُ كَانَ لِإِحَالَتِهِمْ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ بَشَرًا، وَأَنْ تَكُونَ عِبَادَةُ أَصْنَامِهِمْ ضَلَالًا فَكَانَ تَكْذِيبُهُمْ إِيَّاهُ مُقْتَضِيًا تَكْذِيبَ كُلِّ رَسُولٍ لِأَنَّ كُلَّ رَسُولٍ يَقُولُ مِثْلَ مَا قَالَهُ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلِذَلِكَ تَكَرَّرَ فِي قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ [الشُّعَرَاء: ١٢٣] وَمَا بَعْدَهُ. وَقَدْ حُكِيَ تَكْذِيبُهُمْ أَنْ يَكُونَ الرَّسُولُ بَشَرًا فِي قَوْلِهِ:
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ فِي الْأَعْرَافِ [٦٣].
وَسَيَأْتِي حِكَايَةُ تَكْذِيبِ عَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَأَصْحَابِ لَيْكَةِ عَلَى هَذَا النَّمَطِ فِيمَا تَكَرَّرَ مِنْ قَوْلِهِ: كَذَّبَتْ وَقَوْلِهِ: الْمُرْسَلِينَ.
_________
(١) أَشرت إِلَى قَول الشَّاعِر:
إِذا قتلنَا وَلم يثأر لنا أحد قَالَت قُرَيْش أَلا تِلْكَ الْمَقَادِير
(٢) أَشرت إِلَى قَول النَّابِغَة:
وَجُرِّدَتْ جُمْلَةُ قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ لِأَنَّهَا وَقَعَتْ فِي مَوْقِعِ الْمُحَاوَرَةِ فَهِيَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ.
وَالَّذِينَ تَصَدَّوْا لِلْجَوَابِ هُمْ بَعْضُ الْمُنَادَيْنَ بِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ عَلِمُوا أَنَّهُمُ الْأَحْرِيَاءُ بِالْجَوَابِ. وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَيِمَّةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مِثْلُ أَبِي جَهْلٍ وَأُمِّيَّةَ بْنِ خَلَفٍ وَسَدَنَةِ أَصْنَامِهِمْ كَسَادِنِ الْعُزَّى. وَلِذَلِكَ عَبَّرَ عَنْهُمْ بِ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وَلَمْ يُعَبِّرْ عَنْهُمْ بِ (قَالُوا).
وَمَعْنَى حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى تَحَقَّقَ وَثَبَتَ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلًا مَعْهُودًا وَهُوَ مَا عُهِدَ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْله تَعَالَى وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي (١) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [السَّجْدَة: ١٣] وَقَوْلِهِ أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ [الزمر: ١٩ فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمُ الَّذِينَ حَلَّ الْإِبَّانُ الَّذِي يَحِقُّ عَلَيْهِمْ فِيهِ هَذَا الْقَوْلُ. وَالْمَعْنَى:
أَنَّ اللَّهَ أَلْجَأَهُمْ إِلَى الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهُمْ أَضَلُّوا الضَّالِّينَ وَأَغْوَوْهُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَقَّ بِمَعْنَى وَجَبَ وَتَعَيَّنَ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْجَوَابُ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ بُدٌّ مِنْ
إِجَابَةِ ذَلِكَ السُّؤَالِ. وَيَكُونُ الْمُرَادُ بِالْقَوْلِ جِنْسَ الْقَوْلِ، أَيِ الْكَلَامُ الَّذِي يُقَالُ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ وَهُوَ الْجَوَابُ عَنِ الِاسْتِفْهَامِ بِقَوْلِهِ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَعَلَى كِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ فَالَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ هُمْ أَيِمَّةُ الْكُفْرِ كَمَا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا... إِلَخْ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْقَوْلُ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قالَ، أَيْ قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقُولُوا، أَيِ الَّذِينَ كَانُوا أَحْرَى بِأَنْ يُجِيبُوا لِعِلْمِهِمْ بِأَنَّ تَبِعَةَ الْمَسْئُولِ عَنْهُ وَاقِعَةٌ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ لَمَّا وُجِّهَ التَّوْبِيخُ إِلَى جُمْلَتِهِمْ تَعَيَّنَ أَنْ يَتَصَدَّى لِلْجَوَابِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ ثَبَّتُوا الْعَامَّةَ عَلَى الشِّرْكِ وأضلوا الدهماء.
وابتدأوا جَوَابَهُمْ بِتَوْجِيهِ النِّدَاءِ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ أَنَّهُ رَبُّهُمْ، نِدَاءً أُرِيدَ مِنْهُ الِاسْتِعْطَافُ بِأَنَّهُ الَّذِي خَلَقَهُمُ اعْتِرَافًا مِنْهُمْ بِالْعُبُودِيَّةِ وَتَمْهِيدًا لِلتَّنَصُّلِ مِنْ أَنْ يَكُونُوا هُمُ الْمُخْتَرِعِينَ لِدِينِ الشِّرْكِ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا تَلَقَّوْهُ عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِهِمْ، وَالْإِشَارَةُ
_________
(١) فِي المطبوعة: «حقّت كلمة رَبك لأملان... ». [.....]
الْأُسْلُوبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ آيَتَيْ سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ وَسُورَةِ الْأَحْقَافِ لِأَنَّ مَا هُنَا حِكَايَةُ مَا سَبَقَ فِي أُمَّةٍ أُخْرَى وَالْأُخْرَيَيْنِ خِطَابٌ أَنِفَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ. وَقَدْ
رُوِيَ أَنَّ لُقْمَانَ لَمَّا أَبْلَغَ ابْنَهَ هَذَا قَالَ لَهُ: إِنِ اللَّهَ رَضِيَنِي لَكَ فَلَمْ يُوصِنِي بِكَ وَلَمْ يَرْضَكَ لِي فَأَوْصَاكَ بِي.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ هُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي إِلَى آخِرِهِ...
وَمَا قَبْلَهُ تَمْهِيدٌ لَهُ وَتَقْرِيرٌ لِوَاجِبِ بِرِّ الْوَالِدَيْنِ لِيَكُونَ النَّهْيُ عَنْ طَاعَتِهِمَا إِذًا أَمَرًا بِالْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ نَهْيًا عَنْهُ فِي أَوْلَى الْحَالَاتِ بِالطَّاعَةِ حَتَّى يَكُونَ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِنَ الْأَحْوَالِ مَفْهُومًا بِفَحْوَى الْخِطَابِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ مِنْ حُسْنِ الْإِدْمَاجِ الْمُنَاسِبِ لِحِكْمَةِ لُقْمَانَ سَوَاءٌ كَانَ هَذَا مِنْ كَلَامِ لُقْمَانَ أَوْ كَانَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَعَلَى كِلَا الِاعْتِبَارَيْنِ لَا يَحْسُنُ مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَضِيَّةِ إِسْلَامِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَامْتِعَاضِ أُمِّهِ، لِعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ السِّيَاقَ، وَلِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَظِيرَ هَذِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْعَنْكَبُوتِ نَزَلَ فِي ذَلِكَ، وَأَنَّهَا الْمُنَاسِبَةُ لِسَبَبِ النُّزُولِ فَإِنَّهَا أُخْلِيَتْ عَنِ الْأَوْصَافِ الَّتِي فِيهَا تَرْقِيقٌ عَلَى الْأُمِّ بِخِلَافِ هَذِهِ، وَلَا وَجْهَ لِنُزُولِ آيَتَيْنِ فِي
غَرَضٍ وَاحِدٍ وَوَقْتٍ مُخْتَلِفٍ وَسَيَجِيءُ بَيَانُ الْمُوصَى بِهِ.
وَالْوَهْنُ- بِسُكُونِ الْهَاءِ- مَصْدَرُ وَهَنَ يَهِنُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ. وَيُقَالُ: وَهَنٌ- بِفَتْحِ الْهَاءِ- عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ وَهَنَ يُوهِنُ كَوَجِلَ يَوْجَلُ. وَهُوَ الضَّعْفُ وَقِلَّةُ الطَّاقَةِ عَلَى تَحَمُّلِ شَيْءٍ.
وَانْتَصَبَ وَهْناً عَلَى الْحَالِ مِنْ أُمُّهُ مُبَالَغَةً فِي ضَعْفِهَا حَتَّى كَأَنَّهَا نَفْسُ الْوَهْنِ، أَيْ وَاهِنَةً فِي حَمْلِهِ، وعَلى وَهْنٍ صِفَةٌ لِ وَهْناً أَيْ وَهْنًا وَاقِعًا عَلَى وَهْنٍ، كَمَا يُقَالُ:
رَجَعَ عَوْدًا عَلَى بَدْءٍ، إِذَا اسْتَأْنَفَ عَمَلًا فَرَغَ مِنْهُ فَرَجَعَ إِلَيْهِ، أَيْ: بَعْدَ بَدْءٍ، أَوْ عَلى بِمَعْنَى (مَعَ) كَمَا فِي قَوْلِ الْأَحْوَصِ:
قَالَت بَنو عَامر خانوا بني أَسد يَا بؤس للْجَهْل ضِرَارًا لأقوام
إِنِّي عَلَى مَا قَدْ عَلِمْتَ مُحَسَّدٌ أَنْمِي عَلَى الْبَغْضَاءِ وَالشَّنَآنِ
فَإِنَّ حَمْلَ الْمَرْأَةِ يُقَارِنُهُ التَّعَبُ مَنْ ثِقَلِ الْجَنِينِ فِي الْبَطْنِ، وَالضُّعْفُ مِنِ انْعِكَاسِ
الدُّرُوعِ بِالسَّابِغَاتِ وَالسَّوَابِغِ حَتَّى اسْتَغْنَوْا عِنْدَ ذِكْرِ هَذَا الْوَصْفِ عَنْ ذِكْرِ الْمَوْصُوفِ.
وَمَعْنَى قَدِّرْ اجْعَلْهُ عَلَى تَقْدِيرٍ، وَالتَّقْدِيرُ: جَعْلُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مَخْصُوصٍ.
والسَّرْدِ صُنْعُ دِرْعِ الْحَدِيدِ، أَيْ تَرْكِيبُ حَلَقِهَا وَمَسَامِيرِهَا الَّتِي تَشُدُّ شُقَقَ الدِّرْعِ بَعْضهَا بِبَعْض فَهِيَ للحديد كَالْخِيَاطَةِ لِلثَّوْبِ، وَالدِّرْعُ تُوصَفُ بِالْمَسْرُودَةِ كَمَا تُوصَفُ بِالسَّابِغَةِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذَلِيُّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغِ تُبَّعُ
وَيُقَالُ لِنَاسِجِ الدروع: سرّاد وزرّاد بِالسِّينِ وَالزَّايِ، وَقَالَ الْمَعَرِّيُّ يَصِفُ دِرْعًا:
وَدَاوُدُ قَيْنَ السَّابِغَاتِ أَذَالَهَا وَتِلْكَ أَضَاةٌ صَانَهَا الْمَرْءُ تُبَّعُ
فَلَمَّا سَخَّرَ اللَّهُ لَهُ مَا اسْتَصْعَبَ عَلَى غَيْرِهِ أَتْبَعَهُ بِأَمْرِهِ بِالشُّكْرِ بِأَنْ يَعْمَلَ صَالِحًا لِأَنَّ الشُّكْرَ يَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي يُرْضِي المشك والمنعم.
وَضَمِيرُ اعْمَلُوا لِدَاوُدَ وَآلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها [طه: ١٣٢] أَوْ لَهُ وَحْدَهُ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ.
وَقَوْلُهُ: إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ مَوُقِعُ «إِنَّ» فِيهِ مَوُقِعَ فَاءِ التَّسَبُّبِ كَقَوْلِ بَشَّارٍ:
إِنَّ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ.
وَالْبَصِيرُ: الْمُطَّلِعُ الْعَلِيمُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْجَزَاءِ عَنِ الْعَمَل الصَّالح.
[١٢]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ١٢]
وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢)
عَطْفُ فَضِيلَةِ سُلَيْمَانَ عَلَى فَضِيلَةِ دَاوُدَ لِلِاعْتِبَارِ بِمَا أُوتِيَهُ سُلَيْمَانُ مِنْ فَضْلٍ
بِعَشَرَةٍ مِنَ الْإِبِلِ وَأَنْ يَسْتَقْسِمَ بِالْأَزْلَامِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْإِبِلِ فَإِنْ خَرَجَ سَهْمُ الْإِبِلِ نَحَرَهَا، فَفَعَلَ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ، فَقَالُوا: أَرْضِ الْآلِهَةَ، أَيِ الْآلِهَةَ الَّتِي فِي الْكَعْبَةِ يَوْمَئِذٍ، فَزَادَ عَشَرَةً مِنَ الْإِبِلِ وَاسْتَقْسَمَ فَخَرَجَ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمْ يَزَالُوا يَقُولُونَ: أَرْضِ الْآلِهَةَ وَيَزِيدُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ عَشَرَةً مِنَ الْإِبِلِ وَيُعِيدُ الِاسْتِقْسَامَ وَيَخْرُجُ سَهْمُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى أَنْ بَلَغَ مَائَةً مِنَ الْإِبِل واستقسم عَلَيْهِمَا فَخَرَجَ سَهْمُ الْإِبِلِ فَقَالُوا رَضِيَتِ الْآلِهَةُ فَذَبَحَهَا فِدَاءً عَنْهُ.
وَكَانَتْ مَنْقَبَةً لِعَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَلِابْنِهِ أبي النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُشْبِهُ مَنْقَبَةَ جَدِّهِ إِبْرَاهِيمَ وَإِنْ كَانَتْ جَرَتْ عَلَى أَحْوَالِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّهَا يُسْتَخْلَصُ مِنْهَا غَيْرُ مَا حَفَّ بِهَا مِنَ الْأَعْرَاضِ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ الزَّمَانُ زَمَانَ فَتْرَةٍ لَا شَرِيعَةَ فِيهِ وَلَمْ يَرِدْ فِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا يُخَالِفُ هَذَا. إِلَّا أَنَّهُ شَاعَ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّ الذَّبِيحَ هُوَ إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِنَاءً عَلَى مَا جَاءَ فِي «سِفْرِ التَّكْوِينِ» فِي «الْإِصْحَاحِ» الثَّانِي وَالْعِشْرِينَ وَعَلَى مَا كَانَ يَقُصُّهُ الْيَهُودُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا عَلِمُوهُ مِنْ أَقْوَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يُخَالِفُهُ وَلَا كَانُوا يَسْأَلُونَهُ.
وَالتَّأَمُّلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ يُقَوِّي الظَّنَّ بِأَنَّ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلُ، فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ قَوِيٌّ فِي أَنَّ الْمَأْمُورَ بِذَبْحِهِ هُوَ الْغُلَامُ الْحَلِيمُ فِي قَوْلِهِ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: ١٠١] وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي سَأَلَ إِبْرَاهِيمُ رَبَّهَ أَنْ يَهَبَ لَهُ فَسَاقَتِ الْآيَةُ قِصَّةَ الِابْتِلَاءِ بِذَبْحِ هَذَا الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الْمَوْهُوبِ لِإِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَعْقَبَتْ قِصَّتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيئًا مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١١٢]، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ دَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ إِسْحَاقَ هُوَ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي
مَضَى الْكَلَامُ عَلَى قِصَّتِهِ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَوْله: وَبَشَّرْناهُ [الصافات: ١١٢] بِشَارَةٌ ثَانِيَةٌ وَأَنَّ ذِكْرَ اسْمِ إِسْحَاقَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْغُلَامِ الْحَلِيمِ الَّذِي أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ الْمُتَقَدِّمَةُ.
فَهَذَا دَلِيلٌ أَوَّلُ.
الدَّلِيلُ الثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ لَمَّا ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ بِذَبْحِ وَلَدِهِ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّ الِابْتِلَاءَ وَقَعَ حِينَ لَمْ يَكُنْ لِإِبْرَاهِيمَ ابْنٌ غَيْرُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ أَكْمَلُ فِي الِابْتِلَاءِ كَمَا تَقَدَّمَ.
الدَّلِيلُ الثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ: فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ [الصافات: ١٠١] عَقِبَ مَا ذَكَرَ مِنْ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ [الصافات: ١٠٠]، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْغُلَامَ الْحَلِيمَ الَّذِي أُمِرَ
وَيَدُلُّ لِمَعْنَى الِانْتِصَافِ تَعْقِيبُهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ مُعَلِّلًا تَفْوِيضَ أَمْرِهِ مَعَهُمْ إِلَى اللَّهِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِ جَمِيعِ الْعِبَادِ فَعُمُومُ الْعِبَادِ شَمِلَهُ وَشَمِلَ خُصُومَهُ.
وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» قَوْلُهُ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ لأَنهم توعدوه اهـ. يَعْنِي أَنَّ فِيهِ إِشْعَارًا بِذَلِكَ بِمَعُونَةِ مَا بعده.
وبِالْعِبادِ النَّاسُ يُطْلَقُ عَلَى جَمَاعَتِهِمُ اسْمُ الْعِبَادِ، وَلَمْ أَرَ إِطْلَاقَ الْعَبْدِ عَلَى الْإِنْسَانِ الْوَاحِدِ وَلَا إِطْلَاقَ الْعَبِيدِ عَلَى النَّاسِ.
وَالْبَصِيرُ: الْمُطَّلِعُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ الْأَمْرُ. وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ [الْقَصَص: ١١]، فَإِذَا أَرَادُوا تَعْدِيَةَ فِعْلِ الْبَصَرِ بِنَفْسِهِ قَالُوا:
أبصره.
[٤٥- ٤٦]
[سُورَة غَافِر (٤٠) : الْآيَات ٤٥ إِلَى ٤٦]
فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ مَا مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (٤٥) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (٤٦)
تَفْرِيعُ فَوَقاهُ اللَّهُ مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا مَكْرًا بِهِ. وَتَسْمِيَتُهُ مَكْرًا مُؤْذِنٌ بِأَنَّهُمْ لَمْ يُشْعِرُوهُ بِهِ وَأَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِوِقَايَتِهِ لِأَنَّهُ فَوَّضَ أَمْرَهُ إِلَيْهِ. وَالْمَعْنَى: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَجَا مَعَ مُوسَى وَبَنِي إِسْرَائِيلَ فَخَرَجَ مَعَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يكون فرّ من فِرْعَوْنَ وَلَمْ يَعْثُرُوا عَلَيْهِ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: سَيِّئَاتُ مَكْرِهِمْ. وَإِضَافَةُ سَيِّئاتِ إِلَى (مَكْرِ) إِضَافَةٌ بَيَانِيَّةٌ، وَهِيَ هُنَا فِي قُوَّةِ إِضَافَةِ الصِّفَةِ إِلَى الْمَوْصُوفِ لِأَنَّ الْمَكْرَ سَيْءٌ. وَإِنَّمَا جَمَعَ السَّيِّئَاتِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ أَنْوَاعِ مَكْرِهِمُ الَّتِي بَيَّتُوهَا.
وَحَاقَ: أَحَاطَ. وَالْعَذَابُ: الْغَرَقُ. وَالتَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ لِأَنَّهُ مَشْهُورٌ مَعْلُومٌ. وَتَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ فِي السُّوَرِ النَّازِلَةِ قَبْلَ هَذِهِ السُّورَةِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٤٣- سُورَة الزخرف
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ الْعَتِيقَةِ وَالْحَدِيثَةِ سُورَةَ الزُّخْرُفِ وَكَذَلِكَ وَجدتهَا فِي جُزْء عَتِيقٍ مِنْ مُصْحَفٍ كُوفِيِّ الْخَطِّ مِمَّا كُتِبَ فِي أَوَاخِرِ الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهَا التِّرْمِذِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «جَامِعِهِ»، وَسُمِّيَتْ كَذَلِكَ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَسَمَّاهَا الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ مِنْ «صَحِيحِهِ» سُورَةَ حم الزخرف بِإِضَافَة كَلِمَةِ حم إِلَى الزُّخْرُفِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّاهُ فِي تَسْمِيَةِ سُورَةِ حم الْمُؤْمِنِ، رَوَى الطَّبَرْسِيُّ عَنِ الْبَاقِرِ أَنَّهُ سَمَّاهَا كَذَلِكَ.
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ كَلِمَةَ وَزُخْرُفاً [٣٥] وَقَعَتْ فِيهَا وَلَمْ تَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ فَعَرَّفُوهَا بِهَذِهِ الْكَلِمَةِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ. وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ قَتَادَة وَعبد الرحمان بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَن آيَة وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ [الزخرف: ٤٥] نَزَلَتْ بِالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فَإِذَا صَحَّ لَمْ يَكُنْ مُنَافِيًا لِهَذَا لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَكِّيِّ مَا أُنْزِلَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ.
وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السُّورَةَ الثَّانِيَةَ وَالسِتِّينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ فُصِّلَتْ وَقَبْلَ سُورَةِ الدُّخَانِ. وَعُدَّتْ آيُهَا عِنْدَ الْعَادِّينَ مِنْ مُعْظَمِ الْأَمْصَارِ تِسْعًا وَثَمَانِينَ، وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ ثَمَانِيًا وَثَمَانِينَ.
فَزِيدَ فِي صِفَات النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي الْآيَةِ هَذِهِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِبْطَالِ شَكِّ الَّذِينَ شَكُّوا فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِوَعْدِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ اطْمَأَنُّوا لِذَلِكَ فَاقْتُصِرَ مِنْ أَوْصَاف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَصْفِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ شَاهَدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَكَوْنِهِ مُبَشِّرًا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَنَذِيرًا لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ آيَةِ الْأَحْزَابِ فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ تَنْزِيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَطَاعِنِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي تَزَوُّجِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُزَادَ فِي صِفَاتِهِ مَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمْحِيصِ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَا هُوَ مِنَ الْأَوْهَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَزَاعِمَ كَاذِبَةٍ مِثْلَ التَّبَنِّي، فَزِيدَ كَوْنُهُ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُ مَزَاعِمَ النَّاسِ وَرَغَبَاتِهِمْ وَأَنَّهُ سِرَاجٌ مُنِيرٌ يَهْتَدِي بِهِ مَنْ هِمَّتُهُ فِي الِاهْتِدَاءِ دُونَ التَّقْعِيرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العَاصِي فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «التَّوْرَاةِ» فَارْجِع إِلَيْهِ.
[١٠]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
شُرُوعٌ فِي الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَأَكَّدَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُبايِعُونَكَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمُبَايَعَةِ الْجَلِيلَةِ لِتَكُونَ كَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا قَدِ انْقَضَتْ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨].
وَالْحَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ إِنَّما حَصْرُ الْفِعْلِ فِي مَفْعُولِهِ، أَيْ لَا يُبَايِعُونَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِادِّعَاءِ أَنَّ غَايَةَ الْبَيْعَةِ وَغَرَضَهَا هُوَ النَّصْرُ لِدِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَنَزَلَ الْغَرَضُ مَنْزِلَةَ الْوَسِيلَةِ فَادَّعَى أَنَّهُمْ بَايَعُوا اللَّهَ لَا الرَّسُولَ.
وَالْمَعْنَى: فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ يُشَكِّكُونَكَ، وَهَذَا يُنْظَرُ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى [النَّجْم: ١٢]، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يُشَكِّكُوكَ فِي حُصُولِ آلَاءِ رَبِّكَ الَّتِي هِيَ نعم النبوءة وَالَّتِي مِنْهَا رُؤْيَته جِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى. فَالْكَلَامُ مَسُوقٌ لِتَأْيِيسِ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الطَّمَعِ فِي الْكَفِّ عَنْهُمْ.
وَإِنْ كَانَ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ كَانَ تَتَمارى تَفَاعُلًا مُسْتَعْمَلًا فِي الْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْفِعْلِ، وَلَا يُعْرَفُ فِعْلٌ مُجَرَّدٌ لِلْمِرَاءِ، وَإِنَّمَا يُقَالُ: امْتَرَى، إِذا شكّ.
[٥٦]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : آيَة ٥٦]
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (٥٦)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ أَوْ فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي مَرْجِعِ اسْمِ الْإِشَارَةِ فَإِنْ جَعَلَتَ اسْمَ الْإِشَارَةِ رَاجِعًا إِلَى الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ لِحُضُورِهِ فِي الْأَذْهَانِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ شَيْءٍ مَحْسُوسٍ حَاضِرٍ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِ، فَالْكَلَامُ انْتِقَالٌ اقْتِضَابِيٌّ تَنْهِيَةٌ لِمَا قَبْلَهُ وَابْتِدَاءٌ لِمَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى أُسْلُوبِ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ [إِبْرَاهِيم: ٥٢].
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِمُعْظَمِ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَلِذَلِكَ اقْتُصِرَ عَلَى وَصْفِ الْكَلَامِ بِأَنَّهُ نَذِيرٌ، دُونَ أَنْ يَقُولَ: نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ، كَمَا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [الْأَعْرَاف: ١٨٨].
وَالْإِنْذَارُ بَعْضُهُ صَرِيحٌ مِثْلُ قَوْلِهِ: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا [النَّجْم: ٣١] إِلَخْ، وَبَعْضُهُ تَعْرِيضٌ كَقَوْلِهِ: وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى [النَّجْم: ٥٠] وَقَوْلِهِ: وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى [النَّجْم: ٤٢].
وَإِنْ جَعَلْتَ اسْمَ الْإِشَارَةِ عَائِدًا إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ بِتَأْوِيلِهِ بِالْمَذْكُورِ، أَوْ إِلَى مَا لَمْ يُنَبَّأْ بِهِ الَّذِي تَوَلَّى وَأَعْطَى قَلِيلًا، ابْتَدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى [النَّجْم: ٣٦] إِلَى هُنَا على كلا التَّأْوِيلَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، فَتَكُونُ الْإِشَارَةُ إِلَى الْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ تَنْزِيلًا لِحُضُورِهِ فِي السَّمْعِ مَنْزِلَةَ حُضُورِهِ فِي الْمُشَاهَدَةِ بِحَيْثُ يُشَارُ إِلَيْهِ.
و «النّذر» حَقِيقَتُهُ الْمُخْبِرُ عَنْ حُدُوثِ حَدَثٍ مُضِرٍّ بِالْمُخْبَرِ (بِالْفَتْحِ)،
وَإِذْ قَدْ كَانَ مَحْمَلُ لَفْظِ الْحِلِّ وَمَا تصرف مِنْهُ فِي كَلَامُ الشَّارِعِ مُنْصَرِفًا إِلَى مَعْنَى الْإِبَاحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَهِيَ الْجَوَازُ وَضِدُّ التَّحْرِيمِ.
وَمِنَ الْوَاضِحِ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِمْ خِطَابَاتُ التَّكْلِيفِ بِأُمُورِ الْإِسْلَامِ إِذْ هُمْ خَارِجُونَ عَنْهُ فَمُطَالَبَتُهُمْ بِالتَّكَالِيفِ الْإِسْلَامِيَّةِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مَقْصِدُ الشَّرِيعَةِ، وَلِذَلِكَ تُعَدُّ الْمَسْأَلَةُ الْمُلَقَّبَةُ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ بِمَسْأَلَةِ: خِطَابِ الْكُفَّارِ بِالْفُرُوعِ، مَسْأَلَةً لَا طَائِلَ تَحْتَهَا وَلَا يَنْبَغِي الِاشْتِغَالُ بِهَا بَلْهَ التَّفْرِيعُ عَلَيْهَا.
وَإِذْ قَدْ عُلِّقَ حُكْمُ نَفْيِ حِلِّ الْمَرْأَةِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى حُرْمَةِ دَوَامِ عِصْمَتِهَا عَلَى ضَمِيرِ الْكُفَّارِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ. وَلَمْ يَكُنِ الْكُفَّارُ صَالِحِينَ لِلتَّكْلِيفِ بِهَذَا التَّحْرِيمِ فَقَدْ تَعَيَّنَ تَأْوِيلُ هَذَا التَّحْرِيمِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَوْنِهِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ بِإِرْجَاعِ وَصْفِ الْحِلِّ الْمَنْفِيِّ إِلَى النِّسَاءِ فِي كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ وَإِبْدَاءِ وَجْهِ الْإِتْيَانِ بِالْجُمِلَتَيْنِ وَوَجْهِ التَّعَاكُسِ فِي تَرْتِيبِ أَجْزَائِهِمَا. وَذَلِكَ أَنْ نَقُولَ: إِنَّ رُجُوعَ الْمَرْأَةِ المؤمنة إِلَى الزَّوْج الْكَافِرِ يَقَعُ عَلَى صُورَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنْ تَرْجِعَ الْمَرْأَةُ الْمُؤْمِنَةُ إِلَى زَوْجِهَا فِي بِلَادِ الْكفْر، وَذَلِكَ هُوَ مَا أَلَحَّ الْكُفَّارُ فِي طَلَبِهِ لَمَّا جَاءَتْ بَعْضُ الْمُؤْمِنَاتِ مُهَاجِرَاتٍ.
وَالثَّانِيَةُ: أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِأَنْ يُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الْكَافِرِ يُقِيمُ مَعَهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِذَا جَاءَ يَطْلُبُهَا وَمُنِعَ مِنْ تَسَلُّمِهَا. وَكِلْتَا الصُّورَتَيْنِ غَيْرُ حَلَالٍ لِلْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ فَلَا يُجِيزُهَا وُلَاةُ الْأُمُورِ، وَقَدْ عَبَّرَ عَنِ الصُّورَةِ الْأُولَى بِجُمْلَةِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ إِذْ جُعِلَ فِيهَا وَصْفُ حِلٌّ خَبَرًا عَنْ ضَمِيرِ النِّسَاءِ وَأُدْخِلَتِ اللَّامُ عَلَى ضَمِيرِ الرِّجَالِ، وَهِيَ لَامُ تَعْدِيَةِ الْحِلِّ وَأَصْلُهَا لَامُ الْمِلْكِ فَأَفَادَ أَنْ لَا يَمْلِكَ الرِّجَالُ الْكُفَّارُ عِصْمَةَ أَزْوَاجِهِمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ أَنَّ بَقَاءَ النِّسَاءِ الْمُؤْمِنَاتِ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ الْكَافِرِينَ غَيْرُ حَلَالٍ، أَيْ لَمْ يُحْلِلْهُنَّ الْإِسْلَامُ لَهُمْ.
وَقُدِّمَ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ لِأَنَّهُ رَاجِعٌ إِلَى الصُّورَةِ الْأَكْثَرِ أَهَمِّيَّةً عِنْدِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَانُوا يَسْأَلُونَ إِرْجَاعَ النِّسَاءِ إِلَيْهِمْ وَيُرْسِلُونَ الْوَسَائِطَ فِي ذَلِكَ بِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا.
وَجِيءَ فِي الْجُمْلَةِ الْأُولَى بِالصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَهِيَ حِلٌّ الْمُفِيدَةُ لِثُبُوتِ الْوَصْفِ
والْمَعارِجِ: جَمْعُ مِعْرَجٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الرَّاءِ وَهُوَ مَا يُعْرَجُ بِهِ، أَيْ يُصْعَدُ مِنْ سلم ومدرج.
[٤]
[سُورَة المعارج (٧٠) : آيَة ٤]
تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (٤)
اعْتِرَاضٌ لِبَيَانِ أَنَّ الْمَعَارِجَ مَنَازِلٌ مِنَ الرِّفْعَةِ الْاعْتِبَارِيَّةِ تَرْتَقِي فِيهَا الْمَلَائِكَةُ وَلَيْسَتْ مَعَارِجَ يُعْرَجُ إِلَيْهِ فِيهَا، أَيْ فَهِيَ مَعَارِجٌ جَعَلَهَا اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ فَقُرِّبَ بِهَا مِنْ مَنَازِلِ التَّشْرِيفِ، فَاللَّهُ مُعْرَجُ إِلَيْهِ بِإِذْنِهِ لَا عَارِجٌ، وَبِذَلِكَ الْجَعْلِ وُصِفَ اللَّهُ بِأَنَّهُ صَاحِبُهَا، أَيْ جَاعِلُهَا، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ذُو الْعَرْشِ [غَافِر: ١٥].
والرُّوحُ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمُوَكَّلُ بِإِبْلَاغِ إِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذْنِهِ وَتَخْصِيصُهُ بِالذِّكْرِ لِتَمْيِيزِهِ بِالْفَضْلِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ. وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها [الْقدر: ٤] أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ.
والرُّوحُ: يُطْلَقُ عَلَى مَا بِهِ حَيَاةُ الْإِنْسَانِ وَتَصْرِيفُ أَعْمَالِهِ وَهُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الْإِسْرَاء: ٨٥]. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا شَمِلَهُ قَوْلُهُ: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، أَيْ أَرْوَاحُ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى اخْتِلَافِ دَرَجَاتِهَا فِي الْمَعَارِجِ. وَهَذَا الْعُرُوجُ كَائِنٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي مِقْدَارُهُ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ.
وَهَذِهِ تَقْرِيبَاتٌ لِنِهَايَةِ عَظَمَةِ تِلْكَ الْمَنَازِلِ وَارْتِقَاءِ أَهْلِ الْعَالَمِ الْأَشْرَفِ إِلَيْهَا وَعَظَمَةِ يَوْمِ وُقُوعِهَا.
وَضَمِيرُ إِلَيْهِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ عَلَى تَأْوِيلِ مُضَافٍ عَلَى طَرِيقَةِ تَعَلُّقِ بَعْضِ الْأَفْعَالِ بِالذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا مِثْلُ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أَكْلُهَا. وفِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَتَنَازَعُ تَعَلُّقَهُ كُلٌّ مِنْ قَوْله: واقِعٍ [المعارج: ١] وَقَوله:
تَعْرُجُ.
[٥]
[سُورَة المعارج (٧٠) : آيَة ٥]
فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (٥)
اعْتِرَاضٌ مُفَرَّعٌ: إِمَّا على مَا يومىء إِلَيْهِ سَأَلَ سائِلٌ [المعارج: ١] مِنْ أَنَّهُ سُؤَالُ اسْتِهْزَاءٍ، فَهَذَا تَثْبِيتٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِمَّا عَلَى سَأَلَ سائِلٌ بِمَعْنَى: دَعَا دَاعٍ.
وَالْأَمِينُ: الَّذِي يَحْفَظُ مَا عُهِدَ لَهُ بِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ دُونَ نَقْصٍ وَلَا تَغْيِيرٍ، وَهُوَ فَعِيلٌ إِمَّا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَأْمُونٌ مِنْ أَمِنَهُ عَلَى كَذَا. وَعَلَى هَذَا يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَمِينٌ، وَلَا يُقَالُ:
أَمِينَةٌ، وَإِمَّا صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ أَمُنَ بِضَمِّ الْمِيمِ إِذَا صَارَتِ الْأَمَانَةُ سَجِيَّتَهُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ يُقَالُ: امْرَأَةٌ أَمِينَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ فِي الْمَرْأَةِ الْمُشْتَكِيَةِ أَضْرَارَ زَوْجِهَا: يُجْعَلَانِ عِنْدَ أمينة وَأمين.
[٢٢]
[سُورَة التكوير (٨١) : آيَة ٢٢]
وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩] فَهُوَ دَاخِلٌ فِي خَبَرِ الْقَسَمِ جَوَابًا ثَانِيًا عَنِ الْقَسَمِ، وَالْمَعْنَى: وَمَا هُوَ (أَيِ الْقُرْآنُ) بِقَوْلِ مَجْنُونٍ كَمَا تَزْعُمُونَ، فَبَعْدَ أَنْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَى الْقُرْآنِ بِأَنَّهُ قَوْلُ رَسُولٍ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ وَكَانَ قَدْ تَضَمَّنَ ذَلِكَ ثَنَاءً عَلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ صَادِقٌ فِيمَا بَلَّغَهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، أَعْقَبَهُ بِإِبْطَالِ بُهْتَانِ الْمُشْرِكِينَ فِيمَا اختلقوه عَن النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ قَوْلِهِمْ: مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ [الدُّخان: ١٤] وَقَوْلِهِمْ: أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٨]، فَأَبْطَلَ قَوْلَهُمْ إِبْطَالًا مُؤَكَّدًا وَمُؤَيَّدًا، فَتَأْكِيدُهُ بِالْقَسَمِ وَبِزِيَادَةِ الْبَاءِ بَعْدَ النَّفْيِ، وَتَأْيِيدُهُ بِمَا أَوْمَأَ إِلَيْهِ وَصْفُهُ بِأَنَّ الَّذِي بَلَّغَهُ صَاحِبُهُمْ، فَإِنَّ وَصْفَ صَاحِبٍ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِمْ يَعْلَمُونَ خُلُقَهُ وَعَقْلَهُ وَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ، إِذْ شَأْنُ الصَّاحِبِ أَنْ لَا تَخْفَى دَقَائِقُ أَحْوَالِهِ عَلَى أَصْحَابِهِ.
وَالْمَعْنَى: نَفْيُ أَنْ يَكُونَ الْقُرْآنُ مِنْ وَسَاوِسِ الْمَجَانِينِ، فَسَلَامَةُ مُبَلِّغِهِ مِنَ الْجُنُونِ تَقْتَضِي سَلَامَةَ قَوْلِهِ عَنْ أَنْ يَكُونَ وَسْوَسَةً.
وَيَجْرِي عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْقَوْلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِ رَسُولٍ كَرِيمٍ [التكوير: ١٩] النَّبِيءُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: صاحِبُكُمْ هُنَا إِظْهَارًا فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ بِصِحَّةِ الْعَقْلِ وَأَصَالَةِ الرَّأْيِ.
وَالصَّاحِبُ حَقِيقَتُهُ: ذُو الصُّحْبَةِ، وَهِيَ الْمُلَازَمَةُ فِي أَحْوَالِ التَّجَمُّعِ وَالِانْفِرَادِ
لِلْمُؤَانَسَةِ وَالْمُوَافَقَةِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلزَّوْجِ: صَاحِبَةٌ وَلِلْمُسَافِرِ مَعَ غَيْرِهِ صَاحِبٌ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بَكَى صَاحِبِي لَمَّا رَأَى الدَّرْبَ دُونَهُ


الصفحة التالية
Icon