بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَشْرَفِ الْمُرْسَلِينَ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى أَنْ بَيَّنَ لِلْمُسْتَهْدِينَ مَعَالِمَ مُرَادِهِ، وَنَصَبَ لِجَحَافِلِ الْمُسْتَفْتِحِينَ أَعْلَامَ أَمْدَادِهِ فَأَنْزَلَ الْقُرْآنَ قَانُونًا عَامًّا مَعْصُومًا، وَأَعْجَزَ بِعَجَائِبِهِ فَظَهَرَتْ يَوْمًا فَيَوْمًا، وَجَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَمُهَيْمِنًا، وَمَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ يَعِظُ مُسِيئًا وَيَعِدُ مُحْسِنًا، حَتَّى عَرَفَهُ الْمُنْصِفُونَ مِنْ مُؤْمِنٍ وَجَاحِدٍ، وَشَهِدَ لَهُ الرَّاغِبُ وَالْمُحْتَارُ وَالْحَاسِدُ، فَكَانَ الْحَالُ بِتَصْدِيقِهِ أَنْطَقَ مِنَ اللِّسَانِ، وَبُرْهَانُ الْعَقْلِ فِيهِ أَبْصَرَ مِنْ شَاهِدِ الْعِيَانِ، وَأَبْرَزَ آيَاتِهِ فِي الْآفَاقِ فَتَبَيَّنَ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ الْحَقُّ، كَمَا أَنْزَلَهُ عَلَى أَفْضَلِ رَسُولٍ فَبَشَّرَ بِأَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ، فَبِهِ أَصْبَحَ الرَّسُولُ الْأُمِّيُّ سَيِّدَ الْحُكَمَاءِ الْمُرَبِّينَ، وَبِهِ شُرِحَ صَدْرُهُ إِذْ قَالَ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النَّمْل: ٧٩]، فَلَمْ يَزَلْ كِتَابُهُ مُشِعًّا نَيِّرًا، مَحْفُوظًا مِنْ لَدُنْهُ أَنْ يُتْرَكَ فَيَكُونَ مُبَدَّلًا وَمُغَيَّرًا.
ثُمَّ قَيَّضَ لِتَبْيِينِهِ أَصْحَابَهُ الْأَشِدَّاءَ الرُّحَمَاءَ، وَأَبَانَ أَسْرَارَهُ مَنْ بَعْدَهُمْ فِي الْأُمَّةِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، فَصَلَاةُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَى رَسُولِهِ وَآلِهِ الطَّاهِرِينَ، وَعَلَى أَصْحَابِهِ نُجُومِ الِاقْتِدَاءِ لِلسَّائِرِينَ وَالْمَاخِرِينَ (١).
أَمَّا بَعْدُ: فَقَدْ كَانَ أَكْبَرَ أُمْنِيَتِي مُنْذُ أَمَدٍ بَعِيدٍ، تَفْسِيرُ الْكِتَابِ الْمَجِيدِ، الْجَامِعُ لِمَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَمَوْثِقٌ شَدِيدُ الْعُرَى مِنَ الْحَقِّ الْمَتِينِ، وَالْحَاوِي لِكُلِّيَّاتِ الْعُلُومِ وَمَعَاقِدِ اسْتِنْبَاطِهَا، وَالْآخِذُ قَوْسَ الْبَلَاغَةِ مِنْ مَحَلِّ نِيَاطِهَا ; طَمَعًا فِي بَيَانِ نُكَتٍ مِنَ الْعِلْمِ وَكُلِّيَّاتٍ مِنَ التَّشْرِيعِ، وَتَفَاصِيلَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، كَانَ يلوح أُنْمُوذَج مِنْ جَمِيعِهَا فِي خِلَالِ تَدَبُّرِهِ، أَوْ مُطَالَعَةِ كَلَامِ مُفَسِّرِهِ، وَلَكِنِّي كُنْتُ عَلَى كَلَفِي بِذَلِكَ أَتَجَهَّمُ التَّقَحُّمَ عَلَى هَذَاُُِِِِ
_________
(١) قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِم اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ»
فبنيت على هَذَا التَّشْبِيه تَشْبِيه المهتدين بهم بفريقين: فريق سائرون فِي الْبر- وَفِي ذَلِك تَشْبِيه عَمَلهم فِي الإهداء، وَهُوَ اتِّبَاع طَرِيق السّنة بالسير فِي طرق الْبر- وفريق ماخرون أَي سائرون فِي الْفلك المواخر فِي الْبَحْر، وتضمن ذَلِك تَشْبِيه عَمَلهم فِي الإهداء وَهُوَ الْخَوْض فِي الْعُلُوم بالمخر فِي الْبَحْر، وَمن ذَلِك الْإِشَارَة إِلَى أَن الْعلم كالبحر كَمَا هُوَ شَائِع، وَأَن السّنة كالسبيل الْمبلغ للمقصود.
(٢) أُشير بِهَذَا إِلَى أَن المهم من كَلَام الْمُفَسّرين يرشد إِلَى الزِّيَادَة على مَا ذَكرُوهُ، وَالَّذِي دون ذَلِك من كَلَامهم يُنَبه إِلَى تَقْوِيم مَا ذَكرُوهُ، والمفسر هُنَا مُرَاد بِهِ الْجِنْس.

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ١٤٢]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٤٢)
قَدْ خَفِيَ مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْآيِ الَّتِي بَعْدَهَا لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْهَا أَنَّهَا إِخْبَارٌ عَنْ أَمْرٍ يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَأَنَّ الْقِبْلَةَ الْمَذْكُورَةَ فِيهَا هِيَ الْقِبْلَةُ الَّتِي كَانَتْ فِي أَوَّلِ الْهِجْرَةِ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَنَّ التَّوَلِّيَ عَنْهَا هُوَ نَسْخُهَا بِاسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ فَكَانَ الشَّأْنُ أَنْ يُتَرَقَّبَ طَعْنُ الطَّاعِنِينَ فِي هَذَا التَّحْوِيلِ بَعْدَ وُقُوعِ النَّسْخِ أَيْ بَعْدَ الْآيَاتِ النَّاسِخَةِ لِاسْتِقْبَالِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لِمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ دَأَبِهِمْ مِنَ التَّرَصُّدِ لِلطَّعْنِ فِي تَصَرُّفَاتِ الْمُسْلِمِينَ فَإِنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ مُتَتَابِعَةً، وَالْأَصْلُ مُوَافَقَةُ التِّلَاوَةِ لِلنُّزُولِ فِي السُّورَةِ الْوَاحِدَةِ إِلَّا مَا ثَبَتَ أَنَّهُ نَزَلَ مُتَأَخِّرًا وَيُتْلَى مُتَقَدِّمًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقِبْلَةِ الْمُحَوَّلَةِ الْقِبْلَةُ الْمَنْسُوخَةُ وَهِيَ اسْتِقْبَالُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَعْنِي الشَّرْقَ وَهِيَ قِبْلَةُ الْيَهُودِ، وَلَمْ يَشْفِ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَأَصْحَابِ «أَسْبَابِ النُّزُولِ» الْغَلِيلَ فِي هَذَا، عَلَى أَنَّ الْمُنَاسَبَةَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْآيِ الَّذِي قَبْلَهَا غَيْرُ وَاضِحَةٍ فَاحْتَاجَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى تَكَلُّفِ إِبْدَائِهَا.
وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ فَهْمِي أَنَّ مُنَاسَبَةَ وُقُوعِ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا مُنَاسَبَةٌ بَدِيعَةٌ وَهِيَ أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا تَكَرَّرَ فِيهَا التَّنْوِيهُ بِإِبْرَاهِيمَ وَمِلَّتِهِ، وَالْكَعْبَةِ وَأَنَّ مَنْ يَرْغَبُ عَنْهَا قَدْ سَفِهَ نَفْسَهُ، فَكَانَتْ مَثَارًا لِأَنْ يَقُولَ الْمُشْرِكُونَ، مَا وَلَّى مُحَمَّدًا وَأَتْبَاعَهُ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا بِمَكَّةَ أَيِ اسْتِقْبَالِ الْكَعْبَةِ مَعَ أَنَّهُ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَيَأْبَى عَنِ اتِّبَاعِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، فَكَيْفَ تَرَكَ قِبْلَةَ إِبْرَاهِيمَ وَاسْتَقْبَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ؟ وَلِأَنَّهُ قَدْ تَكَرَّرَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ إِلَى هَذَا الْغَرَضِ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ [الْبَقَرَة: ١١٥]. وَقَوْلِهِ:
وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [الْبَقَرَة: ١٢٠] كَمَا ذَكَرْنَاهُ هُنَالِكَ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْهُمْ فَأَنْبَأَ رَسُولَهُ بِقَوْلِهِمْ وَأَتَى فِيهِ بِهَذَا الْمَوْقِعِ الْعَجِيبِ وَهُوَ أَنْ جَعَلَهُ
بَعْدَ الْآيَاتِ الْمُثِيرَةِ لَهُ وَقَبْلَ الْآيَاتِ الَّتِي

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٥٣]

تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (٢٥٣)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ.
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ مَوْقِعُ الْفَذْلَكَةِ لِمَا قَبْلَهَا وَالْمُقَدِّمَةِ لِمَا بَعْدَهَا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَنْبَأَ بِاخْتِبَارِ الرُّسُلِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى وَمَا عَرَضَ لَهُمْ مَعَ أَقْوَامِهِمْ وَخَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ [الْبَقَرَة: ٢٥٢]. جَمَعَ ذَلِكَ كُلَّهُ فِي قَوْلِهِ:
تِلْكَ الرُّسُلُ لَفْتًا إِلَى الْعِبَرِ الَّتِي فِي خِلَالِ ذَلِكَ كُلِّهِ. وَلَمَّا أَنْهَى ذَلِكَ كُلَّهُ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ:
وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ [الْبَقَرَة: ٢٥٢] تَذْكِيرًا بِأَنَّ إِعْلَامَهُ بِأَخْبَارِ الْأُمَمِ وَالرُّسُلِ آيَةٌ عَلَى صِدْقِ رِسَالَتِهِ. إِذْ مَا كَانَ لِمِثْلِهِ قِبَلٌ بِعِلْمِ ذَلِكَ لَوْلَا وَحْيُ اللَّهِ إِلَيْهِ. وَفِي هَذَا كُلِّهِ حُجَّةٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَعَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ جَحَدُوا رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ مِثْلُ مَوْقِعِهِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
بَنِي عَمِّهِ دُنْيَا وَعَمْرِو بْنِ عَامِرٍ أُولَئِكَ قَوْمٌ بَأْسُهُمْ غَيْرُ كَاذِبِ
وَالْإِشَارَةُ إِلَى جَمَاعَةِ الْمُرْسَلِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَجِيءَ بِالْإِشَارَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى الِاسْتِحْضَارِ حَتَّى كَأَنَّ جَمَاعَةَ الرُّسُلِ حَاضِرَةٌ لِلسَّامِعِ بَعْدَ مَا مَرَّ مِنْ ذِكْرِ عَجِيبِ أَحْوَالِ بَعْضِهِمْ وَمَا أَعْقَبَهُ مِنْ ذِكْرِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّهُ لَمَّا أُفِيضَ الْقَوْلُ فِي الْقِتَالِ وَفِي الْحَثِّ عَلَى الْجِهَادِ وَالِاعْتِبَارِ بِقِتَالِ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ عُقِّبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَمْرِ الدِّينِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ البيّنات ولكنّهم أساؤوا الْفَهْمَ فَجَحَدُوا الْبَيِّنَاتِ فأفضى بهم سود فَهْمِهِمْ إِلَى اشْتِطَاطِ الْخِلَافِ بَيْنَهُمْ حَتَّى أَفْضَى إِلَى الِاقْتِتَالِ. فَمَوْقِعُ اسْمِ الْإِشَارَةِ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ كَمَوْقِعِ
ضَمِيرِ الشَّأْنِ، أَيْ هِيَ قِصَّةُ الرُّسُلِ وَأُمَمِهِمْ، فَضَّلْنَا بَعْضَ الرُّسُلِ عَلَى بَعْضٍ فَحَسَدَتْ بَعْضُ الْأُمَمِ أَتْبَاعَ بَعْضِ الرُّسُلِ فَكَذَّبَ الْيَهُودُ عِيسَى وَمُحَمَّدًا عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَكَذَّبَ النَّصَارَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقُرِنَ اسْمُ الْإِشَارَةِ بِكَافِ الْبُعْدِ تَنْوِيهًا بِمَرَاتِبِهِمْ كَقَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ [الْبَقَرَة: ٢].

[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ٩٢]

لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢)
اسْتِئْنَافٌ وَقَعَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ [آل عمرَان: ٩١] الْآيَةَ، وَبَيْنَ جُمْلَةِ كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [آل عمرَان: ٩٣].
وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِبَيَانِ بَعْضِ وَسَائِلِ الْبِرِّ إِيذَانٌ بِأَنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ تَدُورُ عَلَى مِحْوَرِ الْبِرِّ، وَأَنَّ الْبِرَّ مَعْنًى نَفْسَانِيٌّ عَظِيمٌ لَا يَخْرِمُ حَقِيقَتَهُ إِلَّا مَا يُفْضِي إِلَى نَقْضِ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الِاسْتِقَامَةِ النَّفْسَانِيَّةِ. فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَمْرَانِ: أَوَّلُهُمَا التَّحْرِيضُ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَالتَّنْوِيهُ بِأَنَّهُ مِنَ الْبِرِّ، وَثَانِيهِمَا التَّنْوِيهُ بِالْبِرِّ الَّذِي الْإِنْفَاقُ خَصْلَةٌ مِنْ خِصَالِهِ.
وَمُنَاسِبَةُ مَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ تِلْوَ سَابِقَتِهَا أَنَّ الْآيَةَ السَّابِقَةَ لَمَّا بَيَّنَتْ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ أَعْظَمُ مَا يُنْفِقُهُ، بَيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةَ مَا يَنْفَعُ أَهْلَ الْإِيمَانِ مِنْ بَذْلِ الْمَالِ، وَأَنَّهُ يبلغ بِصَاحِبِهِ إِلَى مَرْتَبَةَ الْبِرِّ، فَبَيْنَ الطَّرَفَيْنِ مَرَاتِبُ كَثِيرَةٌ قَدْ عَلِمَهَا الْفُطَنَاءُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمُ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ خِطَابٍ لَمْ يَتَقَدَّمْ قَبْلَهُ مَا يُعَيِّنُ الْمَقْصُودَ مِنْهُ.
وَالْبِرُّ كَمَالُ الْخَيْرِ وَشُمُولُهُ فِي نَوْعِهِ: إِذِ الْخَيْرُ قَدْ يَعْظُمُ بِالْكَيْفِيَّةِ، وَبِالْكَمِّيَّةِ، وَبِهِمَا مَعًا، فَبَذْلُ النَّفْسِ فِي نَصْرِ الدِّينِ يَعْظُمُ بِالْكَيْفِيَّةِ فِي مُلَاقَاةِ الْعَدُوِّ الْكَثِيرِ بِالْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَكَذَلِكَ إِنْقَاذُ الْغَرِيقِ فِي حَالَةِ هَوْلِ الْبَحْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ تَعَدُّدٌ، وَإِطْعَامُ الْجَائِعِ يَعْظُمُ بِالتَّعَدُّدِ، وَالْإِنْفَاقُ يَعْظُمُ بِالْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، وَالْجَزَاءُ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ إِذَا بَلَغَ كَمَالَ الْجَزَاءِ وَشُمُولَهُ كَانَ بَرًّا أَيْضًا.

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٢٤]

وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (٢٤)
وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ.
عَطْفٌ عَلَى وَأَنْ تَجْمَعُوا [النِّسَاء: ٢٣] وَالتَّقْدِيرُ:
وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَخْ فَهَذَا الصِّنْفُ مِنَ الْمُحَرَّمَاتِ لِعَارِضٍ نَظِيرُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ.
وَالْمُحْصَنَاتُ- بِفَتْحِ الصَّادِ- مِنْ أَحْصَنَهَا الرَّجُلُ إِذَا حَفِظَهَا وَاسْتَقَلَّ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ،
وَيُقَالُ: امْرَأَةٌ مُحْصِنَةٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- أَحْصَنَتْ نَفْسَهَا عَنْ غَيْرِ زَوْجِهَا، وَلَمْ يُقْرَأْ قَوْلُهُ:
وَالْمُحْصَناتُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَّا بِالْفَتْحِ.
وَيُقَالُ أَحْصَنَ الرَّجُلُ فَهُوَ مُحْصِنٌ- بِكَسْرِ الصَّادِ- لَا غَيْرُ، وَلَا يُقَالُ مُحْصَنٌ: وَلِذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ: مُحْصَنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ- بِفَتْح الصَّاد-، وقريء قَوْلُهُ: ومحصنات- بِالْفَتْحِ وَالْكَسْرِ- وَقَوْلُهُ: فَإِذا أُحْصِنَّ [النِّسَاء: ٢٥]- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الصَّادِ، وَبِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الصَّادِ-. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلُ، أَيْ وَحُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ذَوَاتُ الْأَزْوَاجِ مَا دُمْنَ فِي عِصْمَةِ أَزْوَاجِهِنَّ، فَالْمَقْصُودُ تَحْرِيمُ اشْتِرَاكِ رَجُلَيْنِ فَأَكْثَرَ فِي عِصْمَةِ امْرَأَةٍ، وَذَلِكَ إِبْطَالٌ لِنَوْعٍ مِنَ النِّكَاحِ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُسَمَّى الضِّمَادَ، وَلِنَوْعٍ آخَرَ وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ: أَنْ يَشْتَرِكَ الرِّجَالُ فِي الْمَرْأَةِ وَهُمْ دُونَ الْعَشَرَةِ، فَإِذَا حَمَلَتْ وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا أَرْسَلَتْ إِلَيْهِمْ فَلَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنْ يَمْتَنِعَ، فَتَقُولُ لَهُمْ: قَدْ عَرَفْتُمُ الَّذِي كَانَ مَنْ أَمْرِكُمْ وَقَدْ وَلَدْتُ فَهُوَ ابْنُكَ يَا فُلَانُ، تُسَمِّي مَنْ أَحَبَّتْ بِاسْمِهِ فَيُلْحَقُ بِهِ. وَنَوْعٌ آخَرُ يُسَمَّى نِكَاحَ الِاسْتِبْضَاعِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الزَّوْجُ لِامْرَأَتِهِ إِذَا طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا: أَرْسِلِي إِلَى فُلَانٍ، فَاسْتَبْضِعِي مِنْهُ، وَيَعْتَزِلُهَا زَوْجُهَا وَلَا يَمَسُّهَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ حَمْلُهَا مِنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي تَسْتَبْضِعُ مِنْهُ، فَإِذَا تَبَيَّنَ حَمْلُهَا أَصَابَهَا زَوْجُهَا. قَالَتْ عَائِشَةُ: وَإِنَّمَا يَفْعَلُ هَذَا رَغْبَةً فِي

[سُورَة النِّسَاء (٤) : الْآيَات ١٤٨ إِلَى ١٤٩]

لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ الْآيِ الَّتِي قَبْلَهَا أَنَّ اللَّهَ لَمَّا شَوَّهَ حَالَ الْمُنَافِقِينَ وَشَهَّرَ بِفَضَائِحِهِمْ تَشْهِيرًا طَوِيلًا، كَانَ الْكَلَامُ السَّابِقُ بِحَيْثُ يُثِيرُ فِي نُفُوسِ السَّامِعِينَ نُفُورًا مِنَ النِّفَاقِ وَأَحْوَالِهِ، وَبُغْضًا لِلْمَلْمُوزِينَ بِهِ، وَخَاصَّةً بَعْدَ أَنْ وَصَفَهُمْ بِاتِّخَاذِ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِالْقُرْآنِ، وَنَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْقُعُودِ مَعَهُمْ، فَحَذَّرَ اللَّهُ
الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَنْ يَغِيظَهُمْ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَتَوَسَّمُونَ فِيهِ النِّفَاقَ، فَيُجَاهِرُوهُمْ بِقَوْلِ السُّوءِ، وَرَخَّصَ لِمَنْ ظُلِمَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَجْهَرَ لِظَالِمِهِ بِالسُّوءِ، لِأَنَّ ذَلِكَ دِفَاعٌ عَنْ نَفْسِهِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ: أَنَّ رِجَالًا اجْتَمَعُوا فِي بَيْتِ عِتْبَانَ بْنِ مَالِكٍ لِطَعَامٍ صَنَعَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ قَائِلٌ: أَيْنَ مَالِكُ بْنُ الدُّخْشُمِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: ذَلِكَ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «لَا تَقُلْ ذَلِكَ أَلَا تَرَاهُ قَدْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، يُرِيدُ بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ، فَقَالَ: فَإِنَّا نَرَى وَجْهَهُ وَنَصِيحَتَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ»
. الْحَدِيثَ. فَظَنَّ هَذَا الْقَائِلُ بِمَالِكٍ أَنَّهُ مُنَافِقٌ، لِمُلَازَمَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ، فَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ مُنَافِقٌ لَا يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلصَّدِّ عَنِ الْمُجَازَفَةِ بِظَنِّ النِّفَاقِ بِمَنْ لَيْسَ مُنَافِقًا. وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ مِنْ أَخَصِّ أَوْصَافِ الْمُنَافِقِينَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا يُبْطِنُونَ فَقَدْ ذُكِرَتْ نَجْوَاهُمْ وَذُكِرَ رِيَاؤُهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَذُكِرَتْ أَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ مِنْ إِظْهَارِهِمْ خِلَافَ مَا يُبْطِنُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ كَانَ ذَلِكَ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ إِظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْبَاطِنِ نِفَاقًا فَأَرَادَ اللَّهُ تَبَيُّنَ الْفَارِقِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ.
وَجُمْلَةُ لَا يُحِبُّ مَفْصُولَةٌ لِأَنَّهَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِهَذَا الْغَرَضِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ: الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ، وَقَدْ عَلِمَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْكَرَاهِيَةَ

[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : الْآيَات ٨٢ إِلَى ٨٤]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) وَإِذا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) وَما لَنا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤)
فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ مَا لَاقَى بِهِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ مِنَ الْإِعْرَاضِ عَلَى تَفَاوُتٍ فِيهِ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ فَإِنَّ اللَّهَ شَنَّعَ مِنْ أَحْوَالِ الْيَهُودِ مَا يُعْرَفُ مِنْهُ عَدَاوَتُهُمْ لِلْإِسْلَامِ إِذْ قَالَ: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً [الْمَائِدَة: ٦٤]، فَكَرَّرَهَا مَرَّتَيْنِ وَقَالَ: تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْمَائِدَة: ٨٠] وَقَالَ: وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ [الْمَائِدَة: ٦١] فَعُلِمَ تَلَوُّنُهُمْ فِي مُضَارَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَآذَاهُمْ. وَذَكَرَ مِنْ أَحْوَالِ النَّصَارَى مَا شَنَّعَ بِهِ عَقِيدَتَهُمْ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَحْكِ عَنْهُمْ مَا فِيهِ عَدَاوَتَهُمُ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ نَهَى الْمُسْلِمِينَ عَنِ اتِّخَاذِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْلِيَاءً فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [الْمَائِدَة: ٥١] الْآيَةَ. فَجَاءَ قَوْلُهُ: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً الْآيَةَ فَذْلَكَةٌ لِحَاصِلِ مَا تُكِنُّهُ ضَمَائِرُ الْفَرِيقَيْنِ نَحْوَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وَلَمْ تُعْطَفْ. وَاللَّامُ فِي لَتَجِدَنَّ لَامُ الْقَسَمِ يُقْصَدُ مِنْهَا التَّأْكِيدُ، وَزَادَتْهُ نُونُ التَّوْكِيدِ تَأْكِيدًا.

[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ١١١]

وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَا كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (١١١)
جُمْلَةُ وَلَوْ أَنَّنا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ [الْأَنْعَام: ١٠٩] بِاعْتِبَارِ كَوْنِ جُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ [الْأَنْعَام: ١٠٩]، فَتَكُونُ ثَلَاثَتُهَا رَدًّا عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ [الْأَنْعَام: ١٠٩] إِلَخْ، وَبَيَانًا لِجُمْلَةِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [الْأَنْعَام: ١٠٩].
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْمُسْتَهْزِئِينَ، الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ، وَالْعَاصِيَ بْنَ وَائِلٍ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ، وَالْأَسْوَدَ بْنَ الْمُطَّلِبِ، وَالْحَارِثَ بْنَ حَنْظَلَةَ، مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. أَتَوْا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا: «أَرِنَا الْمَلَائِكَةَ يَشْهَدُونَ لَكَ أَوِ ابْعَثْ لَنَا بَعْضَ مَوْتَانَا فَنَسْأَلْهُمْ: أَحَقٌّ مَا تَقُولُ»، وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: «لَا نُؤْمِنُ لَكَ حَتَّى يُحْشَرَ قُصَيٌّ فَيُخْبِرُنَا بِصِدْقِكَ أَوِ ائْتِنَا بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا- أَيْ كَفِيلًا-» فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ. وَحَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ- إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا فِي سُورَةِ الْإِسْرَاءِ: [٩٠- ٩٢]. وَذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ مِنْ خَوَارِقِ الْعَادَاتِ مُسَايَرَةً لِمُقْتَرَحَاتِهِمْ، لِأَنَّهُمُ اقْتَرَحُوا ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ يُشِيرُ إِلَى مَجْمُوعِ مَا سَأَلُوهُ وَغَيْرِهِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٧- سُورَةُ الْأَعْرَافِ
هَذَا هُوَ الِاسْمُ الَّذِي عُرِفَتْ بِهِ هَذِهِ السُّورَةُ، من عهد النّبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيث ابْن أَبِي مُلَيْكَةَ، عَن عُرْوَة عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ: «مَا لِي أَرَاكَ تَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِقِصَارِ السُّوَرِ وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول الله عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام يَقْرَأُ فِيهَا بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ». قَالَ مَرْوَانُ قُلْتُ: «يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا أطول الطولين»، قَالَ:
«الْأَعْرَافُ»
. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِطُولَى الطُّولَيَيْنِ
. وَالْمُرَادُ بِالطُّولَيَيْنِ سُورَةُ الْأَعْرَافِ وَسُورَةُ الْأَنْعَامِ، فَإِنَّ سُورَةَ الْأَعْرَافِ أَطْوَلُ مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ، بِاعْتِبَارِ عَدَدِ الْآيَاتِ. وَيُفَسِّرُ ذَلِكَ حَدِيثُ عَائِشَةَ رَضِيَ الله عَنْهَا.
أخرج النّسائي، عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رَضِي اللَّهُ عَنْهَا: إِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ بِسُورَةِ الْأَعْرَافِ فَرَّقَهَا فِي رَكْعَتَيْنِ
. وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أنّها ذكر فِيهَا لَفْظِ الْأَعْرَافِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ [الْأَعْرَاف: ٤٦] الْآيَةَ. وَلَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ، وَلِأَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا شَأْنُ أَهْلِ الْأَعْرَافِ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا مِنَ السُّوَرِ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ بِلَفْظِ (سُورٍ) فِي قَوْلِهِ: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [١٣].
وَرُبَّمَا تُدْعَى بِأَسْمَاءِ الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا وَهِيَ: «أَلِفْ- لَامْ- مِيمْ- صَادْ»
أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي الْأَسْوَدِ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّهُ قَالَ لِمَرْوَانَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِأَطْوَلِ الطُّولَيَيْنِ: «أَلِفْ، لَامْ، مِيمْ، صَادْ»
. وَهُوَ يَجِيءُ

[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : الْآيَات ٨٨ الى ٨٩]

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ حُجَّةِ شُعَيْبٍ جَوَابَ الْمُفْحَمِ عَنِ الْحُجَّةِ، الصَّائِرِ إِلَى الشِّدَّةِ، الْمُزْدَهِي بِالْقُوَّةِ، الْمُتَوَقِّعِ أَنْ يَكْثُرَ مُعَانِدُوهُ، فَلِذَلِكَ عَدَلُوا إِلَى إِقْصَاءِ شُعَيْبٍ وَأَتْبَاعِهِ عَنْ بِلَادِهِمْ خَشْيَةَ ظُهُورِ دَعْوَتِهِ بَيْنَ قَوْمِهِمْ، وَبَثِّ أَتْبَاعِهِ دَعْوَتَهُ بَيْنَ النَّاسِ، فَلِذَلِكَ قَالُوا:
لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا.
وَتَفْسِيرُ صَدْرِ الْآيَةِ هُوَ كَتَفْسِيرِ نَظِيرِهِ مِنْ قِصَّةِ ثَمُودَ.
وَإِيثَارُ وَصْفِهِمْ بِالِاسْتِكْبَارِ هُنَا دُونَ الْكُفْرِ، مَعَ أَنَّهُ لم يحك عنم هَنَا خِطَابُ الْمُسْتَضْعَفِينَ، حَتَّى يَكُونَ ذِكْرُ الِاسْتِكْبَارِ إِشَارَة إِلَى أمّهم اسْتَضْعَفُوا الْمُؤْمِنِينَ كَمَا اقْتَضَتْهُ قِصَّةُ ثَمُودَ، فَاخْتِيرَ وَصْفُ الِاسْتِكْبَارِ هُنَا لِمُنَاسَبَةِ مُخَاطَبَتِهِمْ شُعَيْبًا بِالْإِخْرَاجِ أَوِ الْإِكْرَاهِ عَلَى اتِّبَاعِ دِينِهِمْ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِ الْجَبَّارِينَ أَصْحَابِ الْقُوَّةِ.
وَكَانَ إِخْرَاجُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِ مِنْ دِيَارِ قَبِيلَتِهِ عُقُوبَةً مُتَّبَعَةً فِي الْعَرَبِ إِذَا أَجْمَعَتِ الْقَبِيلَةُ عَلَى ذَلِكَ وَيُسَمَّى هَذَا الْإِخْرَاجُ عِنْدَ الْعَرَبِ بِالْخَلْعِ، وَالْمُخْرَجِ يُسَمَّى خَلِيعًا.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
بِهِ الذِّئْبُ يَعْوِي كَالْخَلِيعِ الْمُعِيلِ وَأَكَّدُوا التَّوَعُّدَ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ: لِيُوقِنَ شُعَيْبٌ بِأَنَّهُمْ مُنْجِزُو ذَلِكَ الْوَعِيدِ.

[سُورَة الْأَنْفَال (٨) : آيَة ٤١]

وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
انْتِقَالٌ لِبَيَانِ مَا أُجْمِلَ مِنْ حُكْمِ الْأَنْفَالِ، الَّذِي افْتَتَحَتْهُ السُّورَةُ، نَاسَبَ الِانْتِقَالَ إِلَيْهِ مَا جَرَى مِنَ الْأَمْرِ بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ إِنْ عَادُوا إِلَى قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ [الْأَنْفَال: ٣٩].
وافتتاحه ب فَاعْلَمُوا لِلِاهْتِمَامِ بِشَأْنِهِ، وَالتَّنْبِيهِ عَلَى رِعَايَةِ الْعَمَلِ بِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ [الْأَنْفَال: ٢٤] فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِالْعِلْمِ تَقَرُّرُ الْجَزْمِ بِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمُ اللَّهِ، وَالْعَمَلُ بِذَلِكَ الْمَعْلُوم، فَيكون فَاعْلَمُوا كِنَايَةً مُرَادًا بِهِ صَرِيحُهُ وَلَازِمُهُ. وَالْخِطَابُ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَبِالْخُصُوصِ جَيْشُ بَدْرٍ، وَلَيْسَ هَذَا نَسْخًا لِحُكْمِ الْأَنْفَالِ الْمَذْكُورِ أَوَّلَ السُّورَةِ، بَلْ هُوَ بَيَانٌ لِإِجْمَالِ قَوْلِهِ: لِلَّهِ... وَلِلرَّسُولِ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّهَا نَاسِخَةٌ، وَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ ابْتِدَاءً أَنَّ قِسْمَةَ الْمَغَانِمِ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُرِيدُ أَنَّهَا لِاجْتِهَادِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَعْيِينٍ، ثُمَّ شَرَعَ التَّخْمِيسَ. وَذَكَرُوا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ لَمْ يُخَمِّسْ مَغَانِمَ بَدْرٍ، ثُمَّ خَمَّسَ مَغَانِمَ أُخْرَى بَعْدَ بَدْرٍ، أَيْ بَعْدَ نُزُولِ آيَةِ سُورَةِ الْأَنْفَالِ،
وَفِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَعْطَاهُ شَارِفًا مِنَ الْخُمُسِ يَوْمَ بَدْرٍ
، فَاقْتَضَتْ هَذِهِ الرِّوَايَةُ أَنَّ مَغَانِمَ بَدْرٍ خُمِّسَتْ.

[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٩٣]

إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٩٣)
لَمَّا نَفَتِ الْآيَتَانِ السَّابِقَتَانِ أَنْ يَكُونَ سَبِيلٌ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ وَالْمَرْضَى وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ لَمْ يَجِدُوا حَمُولَةً، حَصَرَتْ هَذِهِ الْآيَةُ السَّبِيلَ فِي كَوْنِهِ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَ فِي التَّخَلُّفِ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ، وَهُوَ انْتِقَالٌ بِالتَّخَلُّصِ إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ [التَّوْبَة: ٩٤]، فَالْقَصْرُ إِضَافِيٌّ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَصْنَافِ الَّذِينَ نُفِيَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ.
وَفِي هَذَا الْحَصْرِ تَأْكِيدٌ لِلنَّفْيِ السَّابِقِ، أَيْ لَا سَبِيلَ عِقَابٍ إِلَّا عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ. وَالْمُرَادُ بِهِمُ الْمُنَافِقُونَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِينَ يَكْرَهُونَ الْجِهَادَ إِذْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ وَهُمْ أُولُو الطَّوْلِ الْمَذْكُورُونَ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ [التَّوْبَة: ٨٦] الْآيَةَ.
وَالسَّبِيلُ: حَقِيقَتُهُ الطَّرِيقُ. وَمَرَّ فِي قَوْلِهِ: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: ٩١].
وَقَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى السُّلْطَانِ وَالْمُؤَاخَذَةِ بِالتَّبِعَةِ، شُبِّهَ السُّلْطَانُ وَالْمُؤَاخَذَةُ بِالطَّرِيقِ لِأَنَّ السُّلْطَةَ يَتَوَصَّلُ بِهَا مَنْ هِيَ لَهُ إِلَى
تَنْفِيذِ الْمُؤَاخَذَةِ فِي الْغَيْرِ. وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) الْمُفِيدِ لِمَعْنَى الِاسْتِعْلَاءِ، وَهُوَ اسْتِعْلَاءٌ مَجَازِيٌّ بِمَعْنَى التَّمَكُّنِ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَدْخُولِ (عَلَى). فَكَانَ هَذَا التَّرْكِيبُ اسْتِعَارَةً مَكْنِيَّةً رُمِزَ إِلَيْهَا بِمَا هُوَ مِنْ مُلَائِمَاتِ الْمُشَبَّهِ بِهِ وَهُوَ حَرْفُ (عَلَى). وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ تَبْعِيَّةٌ.
وَالتَّعْرِيفُ بِاللَّامِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّمَا السَّبِيلُ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَالْمَعْهُودُ هُوَ السَّبِيلُ الْمَنْفِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ [التَّوْبَة: ٩١] عَلَى قَاعِدَةِ النَّكِرَةِ

[سُورَة هود (١١) : آيَة ٦]

وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ [هود: ٥]. وَالتَّقْدِيرُ: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا، وَإِنَّمَا نُظِمَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ تَفَنُّنًا لِإِفَادَةِ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ بِالنَّفْيِ الْمُؤَكَّدِ بِ (مِنْ)، وَلِإِدْمَاجِ تَعْمِيمِ رِزْقِ اللَّهِ كُلَّ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ فِي أَثْنَاءِ إِفَادَةِ عُمُومِ عِلْمِهِ بِأَحْوَالِ كُلِّ دَابَّةٍ، فَلِأَجْلِ ذَلِكَ أُخِّرَ الْفِعْلُ الْمَعْطُوفُ لِأَنَّ فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ اللَّهَ رَازِقُ الدَّوَابِّ الَّتِي لَا حِيلَةَ لَهَا فِي الِاكْتِسَابِ اسْتِدْلَالًا عَلَى أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَحْوَالِهَا، فَإِنَّ كَوْنَهُ رَازِقًا لِلدَّوَابِّ قَضِيَّةٌ مِنَ الْأُصُولِ الْمَوْضُوعَةِ الْمَقْبُولَةِ عِنْدَ عُمُومِ الْبَشَرِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ جُعِلَ رِزْقُ اللَّهِ إِيَّاهَا دَلِيلًا عَلَى عِلْمِهِ بِمَا تَحْتَاجُهُ.
وَالدَّابَّةُ فِي اللُّغَةِ: اسْمٌ لِمَا يَدِبُّ أَيْ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ غَيْرِ الْإِنْسَانِ.
وَزِيَادَةُ فِي الْأَرْضِ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى دَابَّةٍ فِي التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ الْعُمُومَ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ.
وَالرِّزْقُ: الطَّعَامُ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: ٣٧].
وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ التَّابِعِ لِعُمُومِ الذَّوَاتِ وَالْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِذِكْرِ رِزْقِهَا الَّذِي هُوَ مِنْ أَحْوَالِهَا.
وَتَقْدِيمُ عَلَى اللَّهِ قَبْلَ مُتَعَلِّقِهِ وَهُوَ رِزْقُها لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ، أَيْ عَلَى اللَّهِ لَا عَلَى غَيْرِهِ، وَلِإِفَادَةِ تَرْكِيبِ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ تَكَفَّلَ بِرِزْقِهَا وَلَمْ

[سُورَة يُوسُف (١٢) : آيَة ٥٣]

وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥٣)
ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا مِنْ كَلَامِ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، مَضَتْ فِي بَقِيَّةِ إِقْرَارِهَا فَقَالَتْ:
وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي. وَذَلِكَ كَالِاحْتِرَاسِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ قَوْلُهَا: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سُورَة يُوسُف: ٥٢] مِنْ أَنَّ تَبْرِئَةَ نَفْسِهَا مِنْ هَذَا الذَّنْبِ الْعَظِيمِ ادِّعَاءٌ بِأَنَّ نَفْسَهَا بَرِيئَةٌ بَرَاءَةً عَامَّةً فَقَالَتْ: وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، أَي مَا أبرىء نَفْسِي مِنْ مُحَاوَلَةِ هَذَا الْإِثْمِ لِأَنَّ النَّفْسَ أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ وَقَدْ أَمَرَتْنِي بِالسُّوءِ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ.
فَالْوَاوُ الَّتِي فِي الْجُمْلَةِ اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَالْجُمْلَةُ ابْتِدَائِيَّةٌ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي، أَيْ لَا أَدَّعِي بَرَاءَةَ نَفْسِي مِنِ ارْتِكَابِ الذَّنْبِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ كَثِيرَةُ الْأَمْرِ بِالسُّوءِ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَزْمَانِ، أَيْ أَزْمَانِ وُقُوعِ السُّوءِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّفْسِ بِهِ يَبْعَثُ عَلَى ارْتِكَابِهِ فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ إِلَّا وَقْتَ رَحْمَةِ اللَّهِ عَبْدَهُ، أَيْ رَحْمَتُهُ بِأَنْ يُقَيِّضَ لَهُ مَا يَصْرِفُهُ عَنْ فِعْلِ السُّوءِ، أَوْ يُقَيِّضُ حَائِلًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ فِعْلِ السُّوءِ، كَمَا جَعَلَ إِبَايَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ إِجَابَتِهَا إِلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ حَائِلًا بَيْنَهَا وَبَيْنَ التَّوَرُّطِ فِي هَذَا الْإِثْمِ، وَذَلِكَ لُطْفٌ مِنَ اللَّهِ بِهِمَا.
وَلِذَلِكَ ذَيَّلَتْهُ بِجُمْلَةِ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ثَنَاءً عَلَى اللَّهِ بِأَنَّهُ شَدِيدُ الْمَغْفِرَةِ لِمَنْ أَذْنَبَ، وَشَدِيدُ الرَّحْمَةِ لِعَبْدِهِ إِذَا أَرَادَ صَرْفَهُ عَنِ الذَّنْبِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٥- سُورَةُ الْحِجْرِ
سُمِّيَتْ هَذِه السُّورَة سُورَة الْحِجْرَ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرَهُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ اسْمَ الْحِجْرِ لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا.
وَالْحِجْرُ اسْمُ الْبِلَادِ الْمَعْرُوفَةِ بِهِ وَهُوَ حِجْرُ ثَمُودَ. وَثَمُودُ هُمْ أَصْحَابُ الْحِجْرِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ. وَالْمُكْتِبُونَ فِي كَتَاتِيبِ تُونُسَ يَدْعُونَهَا سُورَةَ رُبَما لِأَنَّ كَلِمَةَ «رُبَمَا» لَمْ تَقَعْ فِي الْقُرْآنِ كُلِّهِ إِلَّا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا وَحُكِيَ الِاتِّفَاقُ عَلَيْهِ.
وَعَنِ الْحَسَنِ اسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي هِيَ سُورَةُ الْفَاتِحَةِ وَعَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ الْفَاتِحَةَ مَكِّيَّةٌ.
وَاسْتِثْنَاءُ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ بِنَاءً عَلَى تَفْسِيرِهِمُ الْمُقْتَسِمِينَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ وَهُوَ صَحِيحٌ، وَتَفْسِيرُ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا وَافَقَ مِنْهُ كِتَابَنَا فَهُوَ صِدْقٌ وَمَا خَالَفَ كِتَابَنَا فَهُوَ كَذِبٌ. وَلَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إِلَّا يَهُودُ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا لَا نُصَحِّحُهُ كَمَا نُبَيِّنُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى تِلْكَ الْآيَةِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٧- سُورَةُ الْإِسْرَاءِ
سُمِّيَتْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ سُورَةَ الْإِسْرَاءِ. وَصَرَّحَ الْأُلُوسِيُّ بِأَنَّهَا سُمِّيَتْ بِذَلِكَ، إِذْ قَدْ ذُكِرَ فِي أَولهَا الْإِسْرَاء بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاخْتُصَّتْ بِذِكْرِهِ.
وَتُسَمَّى فِي عَهْدِ الصَّحَابَةِ سُورَةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» فِي (أَبْوَابِ الدُّعَاءِ) عَنْ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: «كَانَ النَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ الزُّمَرَ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ»
. وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ: «إِنَّهُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي». وَبِذَلِكَ تَرْجَمَ لَهَا الْبُخَارِيُّ فِي (كِتَابِ التَّفْسِيرِ)، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي (أَبْوَابِ التَّفْسِيرِ). وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا مِنْ أَحْوَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَا لَمْ يُذْكَرْ فِي غَيْرِهَا. وَهُوَ اسْتِيلَاءُ قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ (الْآشُورِيِّينَ) عَلَيْهِمْ ثُمَّ اسْتِيلَاءُ قَوْمٍ آخَرِينَ وَهُمُ (الرُّومُ) عَلَيْهِمْ.
وَتُسَمَّى أَيْضًا سُورَةَ سُبْحانَ، لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِهَذِهِ الْكَلِمَة. قَالَه فِي «بَصَائِرِ ذَوِي التَّمْيِيزِ».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْكَهْفِ
[٧٥، ٧٦]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : الْآيَات ٧٥ إِلَى ٧٦]
قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٧٥) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (٧٦)
كَانَ جَوَابُ الْخَضِرِ هَذَا عَلَى نَسَقِ جَوَابِهِ السَّابِقِ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ مَا حُكِيَ فِي الْآيَةِ بِكَلِمَةِ لَكَ وَهُوَ تَصْرِيحٌ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقَوْلِ. وَإِذْ كَانَ الْمَقُولُ لَهُ مَعْلُومًا مِنْ مَقَامِ الْخِطَابِ كَانَ فِي التَّصْرِيحِ بِمُتَعَلِّقِ فِعْلِ الْقَوْلِ تَحْقِيقٌ لِوُقُوعِ الْقَوْلِ وَتَثْبِيتٌ لَهُ وَتَقْوِيَةٌ، وَالدَّاعِي لِذَلِكَ أَنَّهُ أَهْمَلَ الْعَمَلَ بِهِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ لَكَ لَامُ التَّبْلِيغِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى اسْمِ أَوْ ضَمِيرِ السَّامِعِ لِقَوْلٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ، نَحْوَ: قَلْتُ لَهُ، وَأَذِنْتُ لَهُ، وَفَسَّرْتُ لَهُ وَذَلِكَ عِنْد مَا يَكُونُ الْمَقُولُ لَهُ الْكَلَامُ مَعْلُومًا مِنَ السِّيَاقِ فَيَكُونُ ذِكْرُ اللَّامِ لِزِيَادَةِ تَقَوِّي الْكَلَامِ وَتَبْلِيغِهِ إِلَى السَّامِعِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ لَامُ التَّبْلِيغِ. أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّامَ لَمْ يَحْتَجْ لِذِكْرِهِ فِي جَوَابِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، فَكَانَ التَّقْرِيرُ وَالْإِنْكَارُ مَعَ ذِكْرِ لَامِ تَعْدِيَةِ الْقَوْلِ أَقْوَى وَأَشَدَّ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢١- سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
سَمَّاهَا السَّلَفُ «سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ»، فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ:
«بَنُو إِسْرَائِيلَ، وَالْكَهْفُ، وَمَرْيَمُ، وَطَهَ، وَالْأَنْبِيَاءُ، هُنَّ مِنَ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي».
وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ غَيْرُ هَذَا.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا سُورَةَ الْأَنْبِيَاءِ أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا أَسْمَاءُ سِتَّةَ عَشَرَ نَبِيئًا وَمَرْيَمَ وَلَمْ يَأْتِ فِي سُوَرِ الْقُرْآنِ مِثْلُ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ أَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةٍ مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ عَدَا مَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ. فَقَدْ ذُكِرَ فِيهَا أَسْمَاءُ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ نَبِيئًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ إِلَى قَوْلِهِ: وَيُونُسَ وَلُوطاً [الْأَنْعَام: ٨٣- ٨٦] فَإِنْ كَانَتْ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ هَذِهِ نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْأَنْعَامِ فَقَدْ سَبَقَتْ بِالتَّسْمِيَةِ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ وَإِلَّا فَاخْتِصَاصُ سُورَةِ الْأَنْعَامِ بِذِكْرِ أَحْكَامِ الْأَنْعَامِ أَوْجَبَ تَسْمِيَتَهَا بِذَلِكَ الِاسْمِ فَكَانَتْ سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ أَجْدَرَ مِنْ بَقِيَّةِ سُوَرِ الْقُرْآنِ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ، عَلَى أَنَّ مِنَ الْحَقَائِقِ الْمُسَلَّمَةِ أَنَّ وَجْهَ التَّسْمِيَةِ لَا يُوجِبُهَا.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ وَالْقُرْطُبِيُّ، الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ وَنَقَلَ السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٣- سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ
وَيُقَالُ «سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ».
فَالْأَوَّلُ عَلَى اعْتِبَارِ إِضَافَةِ السُّورَةِ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِافْتِتَاحِهَا بِالْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَفْلَحُوا. وَوَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِمِثْلِ هَذَا فِيمَا
رَوَاهُ النَّسَائِيُّ: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ:
حَضَرْتُ رَسُولَ اللَّهِ يَوْمَ الْفَتْحِ فَصَلَّى فِي قِبَلِ الْكَعْبَةِ فَخَلَعَ نَعْلَيْهِ فَوَضَعَهُمَا عَنْ يَسَارِهِ فَافْتَتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمَّا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى أَوْ عِيسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ»

. وَالثَّانِي عَلَى حِكَايَةِ لَفْظِ الْمُؤْمِنُونَ الْوَاقِعِ أَوَّلَهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١] فَجُعِلَ ذَلِكَ اللَّفْظُ تَعْرِيفًا لِلسُّورَةِ.
وَقَدْ وَرَدَتْ تَسْمِيَةُ هَذِهِ السُّورَةِ «سُورَةُ الْمُؤْمِنِينَ» فِي السُّنَّةِ،
رَوَى أَبُو دَاوُدَ: «عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ السَّائِبِ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ الصُّبْحَ بِمَكَّةَ فَاسْتَفْتَحَ سُورَةَ الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوسَى وَهَارُونَ أَوْ ذِكْرُ مُوسَى وَعِيسَى أَخَذَتِ النَّبِيءَ سَعْلَةٌ فَحَذَفَ فَرَكَعَ»
. وَمِمَّا جَرَى عَلَى الْأَلْسِنَةِ أَنْ يُسَمُّوهَا سُورَةَ «قَدْ أَفْلَحَ»، وَوَقَعَ ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْجَامِعِ مِنَ «الْعُتْبِيَّةِ» فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ، قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَخْرَجَ لَنَا مَالِكٌ مُصْحَفًا لِجَدِّهِ فَتَحَدَّثْنَا أَنَّهُ كَتَبَهُ عَلَى عَهْدِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَغَاشِيَتُهُ مِنْ كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ فَوَجَدْنَا..» إِلَى أَنْ قَالَ: «وَفِي قَدْ أَفْلَحَ كُلِّهَا الثَّلَاثِ لِلَّهِ» أَيْ خِلَافًا لِقِرَاءَةِ: سيقولون الله [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٥]. وَيُسَمُّونَهَا أَيْضًا سُورَةَ الْفَلَاحِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ. وَلَا اعْتِدَادَ بِتَوَقُّفِ مَنْ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ بِأَنَّ الْآيَةَ الَّتِي ذُكِرَتْ فِيهَا الزَّكَاةُ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤] تُعَيِّنَ أَنَّهَا

[سُورَة الْفرْقَان (٢٥) : آيَة ٢١]

وَقالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (٢١)
حِكَايَةُ مُقَالَةٍ أُخْرَى مِنْ مَقَالَاتِ تَكْذِيبِهِمُ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَقَدْ عَنْوَنَ عَلَيْهِمْ فِي هَذِهِ الْمَقَالَةِ بِ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَعَنْوَنَ عَلَيْهِمْ فِي الْمَقَالَاتِ السَّابِقَةِ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفرْقَان: ٤] وب الظَّالِمُونَ [الْفرْقَان: ٨] لِأَنَّ بَيْنَ هَذَا الْوَصْفِ وَبَين مقالتهم انْتِقَاض، فهم قد كَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ بِمَا فِيهِ مِنْ رُؤْيَةِ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ، وَطَلَبُوا رُؤْيَةَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا، وَنُزُولَ الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَأَرَادُوا تَلَقِّيَ الدِّينِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ مِنَ اللَّهِ مُبَاشَرَةً، فَكَانَ فِي حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ وَذِكْرِ وَصْفِهِمْ تَعْجِيبٌ مِنْ تَنَاقُضِ مَدَارِكِهِمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الشِّرْكِ شَهِدُوا أَنْفُسُهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ وَتَوَهَّمُوا أَنَّ شُبْهَتَهُمْ فِي إِنْكَارِهِ أَقْوَى حُجَّةٍ لَهُمْ فِي تَكْذِيبِ الرُّسُلِ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَيْضًا جَعَلَ قَوْلَهُمْ ذَلِكَ طَرِيقًا لِتَعْرِيفِهِمْ بِالْمَوْصُولِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ فِي سُورَةِ يُونُسَ [١٥].
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ وَالِاسْتِحَالَةِ، أَيْ هَلَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ فَنُؤْمِنُ بِمَا جِئْتَ بِهِ، يَعْنُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ صَادِقًا فَلْيَسْأَلْ مِنْ رَبِّهِ وَسِيلَةً أُخْرَى لِإِبْلَاغِ الدِّينِ إِلَيْهِمْ.
وَمَعْنَى: لَا يَرْجُونَ لَا يَظُنُّونَ ظَنًّا قَرِيبًا، أَيْ يَعُدُّونَ لِقَاءَ اللَّهِ مُحَالًا. وَمَقْصِدُهُمْ مِنْ مَقَالِهِمْ أَنَّهُمْ أَعْلَى مِنْ أَنْ يَتَلَقَّوُا الدِّينَ مِنْ رَجُلٍ مِثْلِهِمْ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً عَلَى مَعْنَى التَّعْجِيبِ مِنَ ازْدِهَائِهِمْ وَغُرُورِهِمُ الْبَاطِلِ.

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٥٦ إِلَى ٥٨]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨)
تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَاتِهِ الْآيَةِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٨٢]، وَخَالَفَتْهَا هَذِهِ بِوُقُوعِ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ دُونَ الْوَاوِ، وَبِقَوْلِهِ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ عوض أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٢] وَبِقَوْلِهِ قَدَّرْناها عوض كانَتْ [الْأَعْرَاف: ٨٣]، وَبِقَوْلِهِ فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ عِوَضَ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ [الْأَعْرَاف: ٨٤].
فَأَمَّا مَوْقِعُ الْفَاءِ هُنَا فَهُوَ لِتَعْقِيبِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِالْفَاءِ عَلَى الَّتِي قَبْلَهَا تَعْقِيبَ جُزْءِ
الْقِصَّةِ عَلَى أَوَّلِهِ فَلَا تُفِيدُ إِلَّا تَعْقِيبَ الْإِخْبَارِ، وَهِيَ فِي ذَلِكَ مُسَاوِيَةٌ لِلْوَاوِ. وَلَكِنْ أُوثِرَ حَرْفُ التَّعْقِيبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِكَوْنِهَا عَلَى نَسْجِ مَا حُكِيَتْ بِهِ قِصَّةُ ثَمُودَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ [النَّمْل: ٤٥]، فَالِاخْتِلَافُ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَآيَةِ الْأَعْرَافِ تَفَنُّنٌ فِي الْحِكَايَةِ، وَمُرَاعَاةٌ لِلنَّظِيرِ فِي النَّسْجِ. وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ قِصَصِ الْقُرْآنِ كَمَا بَيَّنْتُهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ السَّابِعَة من مُقَدمَات هَذَا التَّفْسِيرِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ دون أَخْرِجُوهُمْ [الْأَعْرَاف: ٨٢] لِأَنَّ الْمَحْكِيَّ مِنْ كَلَامِ الْقَوْمِ هُوَ تَآمُرُهُمْ عَلَى إِخْرَاجِ آلِ لُوطٍ فَمَا هُنَا حِكَايَةٌ بِمُرَادِفِ كَلَامِهِمْ وَمَا فِي الْأَعْرَافِ حِكَايَةٌ بِالْمَعْنَى وَالْغَرَضُ هُوَ التَّفَنُّنُ أَيْضًا.
وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ قَدَّرْناها هُنَا وَبَيْنَ كانَتْ فِي الْأَعْرَافِ [٨٣]. وَأَمَّا

[٤٦]

[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤٦]
وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ [العنكبوت: ٤٥] الْآيَةَ، بِاعْتِبَارِ مَا
تَسْتَلْزِمُهُ تِلْكَ مِنْ مُتَارَكَةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْكَفِّ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا. وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ تَوْطِئَةٌ لِمَا سَيَحَدُثُ مِنَ الدَّعْوَةِ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ هِجْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّ مُجَادَلَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا تَعْرِضُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي مَكَّةَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي إِبَّانِ نُزُولِ أَوَاخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ عَلَى وَشْكِ الْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ وَكَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مُجَادِلَةً لِلْمُشْرِكِينَ غَلِيظَةً عَلَيْهِمْ مِنْ تَمْثِيلِ حَالِهِمْ بِحَالِ الْعَنْكَبُوتِ، وَقَوْلُهُ وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ هَيَّأَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ طَرِيقَةَ مُجَادَلَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَالْعَوْدِ إِلَيْهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ [العنكبوت: ٤٧] الْآيَاتِ.
وَجِيءَ فِي النَّهْيِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ لِيَعُمَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ إِذْ قَدْ تَعْرِضُ لِلْمُسْلِمِينَ مُجَادَلَاتٌ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي غَيْرِ حَضْرَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ قَبْلَ قُدُومِهِ الْمَدِينَةَ.
وَالْمُجَادَلَةُ: مُفَاعَلَةٌ مِنَ الْجَدَلِ، وَهُوَ إِقَامَةُ الدَّلِيلِ عَلَى رَأْيٍ اخْتَلَفَ فِيهِ صَاحِبُهُ مَعَ غَيْرِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ
فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٠٧]. وَبِهَذَا يُعْلَمُ أَنْ لَا عَلَاقَةَ لِهَذِهِ الْآيَةِ بِحُكْمِ قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ حَتَّى

[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٣١]

وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١)
أَعْقَبَ الْوَعِيدَ بِالْوَعْدِ جَرْيًا عَلَى سُنَّةِ الْقُرْآنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
وَالْقُنُوتُ: الطَّاعَةُ، وَالْقُنُوتُ لِلرَّسُولِ: الدَّوَامُ عَلَى طَاعَتِهِ وَاجْتِلَابُ رِضَاهُ لِأَنَّ فِي رِضَاهُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ تَعَالَى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النِّسَاء: ٨٠].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَقْنُتْ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ مُرَاعَاةً لِمَدْلُولِ مَنْ الْشَرْطِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ [الْأَحْزَاب: ٣٠]. وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوله مُرَاعَاة لما صدق مَنْ، أَيْ إِحْدَى النِّسَاءِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ.
وَأُسْنِدَ فِعْلُ إِيتَاءِ أَجْرِهِنَّ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ بِوَجْهٍ صَرِيحٍ تَشْرِيفًا لِإِيتَائِهِنَّ الْأَجْرَ لِأَنَّهُ الْمَأْمُولُ بِهِنَّ، وَكَذَلِكَ فِعْلُ وَأَعْتَدْنا.
وَمَعْنَى مَرَّتَيْنِ تَوْفِيرُ الْأَجْرِ وَتَضْعِيفُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضِعْفَيْنِ [الْأَحْزَاب:
٣٠].
وَضَمِيرُ أَجْرَها عَائِدٌ إِلَى مَنْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا صَادِقَةٌ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَفِي إِضَافَةِ الْأَجْرِ إِلَى ضَمِيرِهَا إِشَارَةٌ إِلَى تَعْظِيمِ ذَلِكَ الْأَجْرِ بِأَنَّهُ يُنَاسِبُ مَقَامَهَا وَإِلَى تَشْرِيفِهَا بِأَنَّهَا مُسْتَحِقَّةٌ ذَلِكَ الْأَجْرَ. وَمُضَاعَفَةُ الْأَجْرِ لَهُنَّ عَلَى الطَّاعَاتِ كَرَامَةٌ لِقَدْرِهِنَّ، وَهَذِهِ الْمُضَاعَفَةُ فِي الْحَالَيْنِ

[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]

وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩)
رُجُوعٌ إِلَى قِصَّةِ أَصْحَابِ الْقَرْيَةِ بَعْدَ أَنِ انْقَطَعَ الْحَدِيثُ عَنْهُمْ بِذِكْرِ الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ الَّذِي جَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ نَاصِحًا لَهُمْ وَكَانَ هَذَا الرُّجُوعُ بِمُنَاسَبَةِ أَنَّ الْقَوْمَ قَوْمُ ذَلِكَ الرَّجُلِ.
فَجُمْلَةُ وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ إِلَخْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ [يس: ٢٦] فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ أَيْضًا اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ يَتَشَوَّفُ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا كَانَ مِنْ هَذَا الرَّجُلِ وَمِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ الَّذِينَ نَصَحَهُمْ فَلَمْ يَنْتَصِحُوا فَلَمَّا بَيَّنَ لِلسَّامِعِ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ عُطِفَ عَلَيْهِ بَيَانُ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ الْقَوْمِ بَعْدَهُ.
وَافْتِتَاحُ قِصَّةِ عِقَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا بِنَفْيِ صُورَةٍ مِنْ صُوَرِ الِانْتِقَامِ تَمْهِيدٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ أَنَّهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ إِلَّا مِثْلُ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِنْ عَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ، أَيْ لَمْ نُنْزِلْ جُنُودًا مِنَ السَّمَاءِ مَخْلُوقَةً لِقِتَالِ قَوْمِهِ، أَوْ لَمْ نُنْزِلْ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ مِنَ السَّمَاءِ لِإِهْلَاكِهِمْ، وَمَا كَانَتْ عُقُوبَتُهُمْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مِنْ مَلَكٍ وَاحِدٍ أَهْلَكَتْهُمْ جَمِيعًا.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِهِ مَزِيدَةٌ فِي الظَّرْفِ لِتَأْكِيدِ اتِّصَالِ الْمَظْرُوفِ بِالظَّرْفِ وَأَصْلُهَا مِنْ الِابْتِدَائِيَّةِ، وَإِضَافَةُ بَعْدِ إِلَى ضَمِيرِ الرَّجُلِ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ شَائِعِ الْحَذْفِ، أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِذْ قالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي [الْبَقَرَة: ١٣٣].

[٣٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(سُورَةُ الزُّمَرِ)
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٣٢]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٣٢)
أَفَادَتِ الْفَاءُ تَفْرِيعَ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا تَفْرِيعَ الْقَضَاءِ عَنِ الْخُصُومَةِ الَّتِي فِي قَوْلِهِ:
ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ [الزمر: ٣١] إِذْ قد عَلِمْتَ أَنَّ الِاخْتِصَامَ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمْ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ وَأَنْكَرُوهُ، وَالْمَعْنَى: يَقْضِي بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَكُونُ
الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ إِذْ هُوَ الَّذِي لَا أَظْلَمَ مِنْهُ، أَيْ فَيَكُونُ الْقَضَاءُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ إِذْ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بِنِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ إِلَيْهِ وَالْبَنَاتِ، وَكَذَّبُوا بِالصِّدْقِ وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَمَا صدق مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ الْفَرِيقُ الَّذِينَ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠] وَهُمُ الْمَعْنِيُّونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ [الزمر: ٢٤].
وَقَدْ كُنِّيَ عَنْ كَوْنِهِمْ مَدِينِينَ بِتَحْقِيقِ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ لِأَنَّ مِنَ الْعَدْلِ أَنْ لَا يُقَرَّ الظَّالِمُ عَلَى ظُلْمِهِ فَإِذَا وُصِفَ الْخَصْمُ بِأَنَّهُ ظَالِمٌ عُلِمَ أَنَّهُ مَحْكُومٌ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَن دَاوُد:
قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ [ص: ٢٤]. وَقَدْ عُدِلَ عَنْ صَوْغِ الْحُكْمِ عَلَيْهِمْ بِصِيغَةِ الْإِخْبَارِ إِلَى صَوْغِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ السَّامِعَ لَا يَسَعُهُ إِلَّا الْجَوَابُ بِأَنَّهُمْ أَظْلَمُ.
فَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ مَجَازًا مُرْسَلًا أَوْ كِنَايَةً مُرَادٌ بِهِ أَنَّهُمْ أَظْلَمُ الظَّالِمِينَ وَأَنَّهُ لَا ظَالِمَ أَظْلَمُ مِنْهُمْ، فَآلَ مَعْنَاهُ إِلَى نَفْيِ أَنْ يَكُونَ فَرِيقٌ أَظْلَمَ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ أَتَوْا أَصْنَافًا مِنَ

[٤٧، ٤٨]

[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ٤٧ الى ٤٨]
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (٤٧) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٤٨)
إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ.
كَانُوا إِذَا أُنْذِرُوا بِالْبَعْثِ وساعته استهزأوا فَسَأَلُوا عَنْ وَقْتِهَا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يَتَكَرَّرُ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها [الْأَعْرَاف: ١٨٧] فَلَمَّا جَرَى ذِكْرُ دَلِيلِ إِحْيَاءِ الْمَوْتَى وَذِكْرُ إِلْحَادِ الْمُشْرِكِينَ فِي دَلَالَتِهِ بِسُؤَالِهِمْ عَنْهَا اسْتِهْزَاءً انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى حِكَايَةِ سُؤَالِهِمْ تَمْهِيدًا لِلْجَوَابِ عَنْ ظَاهِرِهِ وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، أَيْ إِلَى اللَّهِ يُفَوَّضُ عِلْمُ السَّاعَةِ لَا إِلَيَّ، فَهُوَ قَصْرُ قَلْبٍ. وَرَدَّ عَلَيْهِمْ بِطَرِيقِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ، أَيِ الْأَجْدَرُ أَنْ تَعْلَمُوا أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدٌ مَتَى السَّاعَةُ وَأَنْ تُؤْمِنُوا بِهَا وَتَسْتَعِدُّوا لَهَا. وَمِثْلُهُ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ: مَتَى السَّاعَةُ؟ فَقَالَ لَهُ: «مَاذَا أَعْدَدْتَ لَهَا»
، أَيِ اسْتِعْدَادُكَ لَهَا أَوْلَى بِالِاعْتِنَاءِ مِنْ أَنْ تَسْأَلَ عَنْ وَقْتِهَا.
وَالرَّدُّ: الْإِرْجَاعُ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِتَفْوِيضِ عِلْمِ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّبَرُّؤِ مِنْ أَن يكون للمسؤول عِلْمٌ بِهِ، فَكَأَنَّهُ جِيءَ بِالسُّؤَالِ إِلَى النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَدَّهُ إِلَى اللَّهِ.
وَفِي حَدِيثِ مُوسَى مَعَ الْخَضِرِ فِي «الصَّحِيحِ» «فَعَاتَبَ اللَّهُ مُوسَى أَنْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ إِلَيْهِ»
وَقَالَ تَعَالَى: وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ [النِّسَاء: ٨٣] الْآيَةَ. وَعَطْفُ جُمْلَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَمَا بَعْدَهَا تَوْجِيهٌ لِصَرْفِ الْعِلْمِ بِوَقْتِ السَّاعَةِ إِلَى اللَّهِ بِذِكْرِ نَظَائِرَ لَا يَعْلَمُهَا النَّاسُ، وَلَيْسَ عِلْمُ السَّاعَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٦- سُورَةُ الْأَحْقَافِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ الْأَحْقَافِ» فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ، وَوَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِهَذَا الِاسْمِ فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ.
رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ سُورَةً مِنْ آل حم وَهِيَ الْأَحْقَافُ»،
وَكَانَتِ السُّورَةُ إِذَا كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِينَ آيَةً سُمِّيَتْ ثَلَاثِينَ. وَكَذَلِكَ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي كَلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ بِسَنَدٍ صَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «قَالَ: أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ سُورَةَ الْأَحْقَافِ» الْحَدِيثَ. وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ السَّابِقُ يَقْتَضِي أَنَّهَا تُسَمَّى ثَلَاثِينَ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ لَا يَخْتَصُّ بِهَا فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَسْمَائِهَا وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ ذَاتِ أَكْثَرَ مِنِ اسْمٍ.
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «الْأَحْقَافَ» وُرُودُ لِفْظِ (الْأَحْقَافِ) فِيهَا وَلَمْ يَرِدْ فِي غَيْرِهَا مِنْ سُوَرِ الْقُرْآنِ. وَهِيَ مَكِّيَّةٌ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: بِاتِّفَاقِ جَمِيعِهِمْ، وَفِي إِطْلَاقِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ نَسَبُوا اسْتِثْنَاءَ آيَاتٍ مِنْهَا إِلَى بَعْضِ الْقَائِلِينَ، فَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ اسْتِثْنَاءَ آيَتَيْنِ هُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ إِلَى الظَّالِمِينَ [الْأَحْقَاف: ١٠] فَإِنَّهَا أَشَارَتْ إِلَى إِسْلَامِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَهُوَ إِنَّمَا أَسْلَمَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَقَوْلُهُ: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَاف: ٣٥]. وَفِي «الْإِتْقَانِ» ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ بِاسْتِثْنَاءِ آيَاتٍ ثَلَاث مِنْهَا الثنتان اللَّتَانِ ذَكَرَهُمَا ابْنُ عَطِيَّةَ وَالثَّالِثَةُ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِلَى قَوْله:
خاسِرِينَ [الْأَحْقَاف: ١٥- ١٨]. وَسَيَأْتِي مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ مُضِيِّ عَامَيْنِ

[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ٣١ إِلَى ٣٤]

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤)
عَلِمَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ مُحَاوَرَتِهِمْ فِيمَا ذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَا وَرَدَ ذِكْرُهُ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُمْ مَلَائِكَةٌ مُرْسَلُونَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَسَأَلَهُمْ عَنِ الشَّأْنِ الَّذِي أُرْسِلُوا لِأَجْلِهِ. وَإِنَّمَا سَأَلَهُمْ بَعْدَ أَنْ قَرَاهُمْ جَرْيًا عَلَى سُنَّةِ الضِّيَافَةِ أَنْ لَا يُسْأَلَ الضَّيْفُ عَنِ الْغَرَضِ الَّذِي أَوْرَدَهُ ذَلِكَ الْمَنْزِلَ إِلَّا بَعْدَ اسْتِعْدَادِهِ لِلرَّحِيلِ كَيْلَا يَتَوَهَّمَ سَآمَةَ مُضَيِّفِهِ مِنْ نُزُولِهِ بِهِ، وَلِيُعِينَهُ عَلَى أَمْرِهِ إِنْ كَانَ مُسْتَطِيعًا، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ بَشَّرُوهُ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ هَلْ ذَلِكَ هُوَ قُصَارَى مَا جَاءُوا لِأَجْلِهِ؟
وَحُكِيَ فِعْلُ الْقَوْلِ بِدُونِ عَاطِفٍ لِأَنَّهُ فِي مَقَاوِلِهِ مُحَاوَرَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَيْفِهِ.
وَالْفَاءُ فِيمَا حُكِيَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَصِيحَةٌ مُؤْذِنَةٌ بِكَلَام مَحْذُوف ناشىء عَنِ الْمُحَاوَرَةِ الْوَاقِعَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ضَيْفِهِ وَهُوَ مِنْ عَطْفِ كَلَامٍ عَلَى كَلَامِ مُتَكَلِّمٍ آخَرَ وَيَقَعُ كَثِيرًا فِي الْعَطْفِ بِالْوَاوِ نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي [الْبَقَرَة: ١٢٤] بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً [الْبَقَرَة: ١٢٤] وَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ نُوحٍ: قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [الشُّعَرَاء: ١١٢]. فَإِبْرَاهِيمُ خَاطَبَ الْمَلَائِكَةَ بَلُغَتِهِ مَا يُؤَدَّى مِثْلُهُ بِفَصِيحِ الْكَلَامَ الْعَرَبِيِّ بِعِبَارَةِ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. وَتَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: إِذْ كُنْتُمْ مُرْسَلِينَ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى فَمَا خَطْبُكُمُ الَّذِي أرسلتم لأَجله.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٥٨- سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ «سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ» بِكَسْرِ الدَّالِ أَوْ بِفَتْحِهِ كَمَا سَيَأْتِي. وَتُسَمَّى «سُورَةَ قَدْ سَمِعَ» وَهَذَا الِاسْمُ مُشْتَهِرٌ فِي الْكَتَاتِيبِ فِي تُونُسَ، وَسُمِّيَتْ فِي مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ «سُورَةَ الظِّهَارِ».
وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا «سُورَةَ الْمُجَادَلَةِ» لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِقَضِيَّةِ مُجَادَلَةِ امْرَأَةِ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ لَدَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِ مُظَاهَرَةِ زَوْجِهَا.
وَلَمْ يَذْكُرِ الْمُفَسِّرُونَ وَلَا شَارِحُو كُتُبِ السُّنَّةِ ضَبْطَهُ بِكَسْرِ الدَّالِ أَوْ فَتْحِهَا. وَذَكَرَ الْخَفَاجِيُّ فِي «حَاشِيَةِ الْبَيْضَاوِيِّ» عَنِ «الْكَشْفِ» أَنَّ كَسْرَ الدَّالِ هُوَ الْمَعْرُوفُ (وَلَمْ أَدْرِ مَا أَرَادَ الْخَفَاجِيُّ بِالْكَشْفِ الَّذِي عَزَا إِلَيْهِ هَذَا)، فَكَشْفُ الْقَزْوِينِيِّ عَلَى «الْكَشَّافِ» لَا يُوجَدُ فِيهِ ذَلِكَ، وَلَا فِي التَّفْسِيرِ الْمُسَمَّى «الْكَشْفَ وَالْبَيَانَ» لِلثَّعْلَبِيِّ. فَلَعَلَّ الْخَفَاجِيَّ رَأَى ذَلِكَ فِي «الْكَشْفِ» الَّذِي يَنْقُلُ عَنْهُ الطِّيبِيُّ فِي مَوَاضِعِ تَقْرِيرَاتٍ لِكَلَامِ «الْكَشَّافِ» وَهُوَ غَيْرُ مَعْرُوفٍ فِي عِدَادِ شُرُوحِ «الْكَشَّافِ»، وَكَسْرُ الدَّالِ أَظْهَرُ لِأَنَّ السُّورَةَ افْتُتِحَتْ بِذِكْرِ الَّتِي تُجَادِلُ فِي زَوْجِهَا فَحَقِيقَةٌ أَنْ تُضَافَ إِلَى صَاحِبَةِ الْجِدَالِ، وَهِيَ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ بِقَوْلِهِ: الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: ١]. وَرَأَيْتُ فِي نُسْخَةٍ مِنْ حَاشِيَة مُحَمَّد الْهَمدَانِي عَلَى «الْكَشَّافِ» الْمُسَمَّاةِ «تَوْضِيحَ الْمُشْكِلَاتِ»، بِخَطِّ مُؤَلِّفِهَا جَعَلَ عَلَامَةَ كَسْرَةٍ تَحْتَ دَالِ الْمُجَادِلَةِ. وَأَمَّا فَتْحُ الدَّالِ فَهُوَ مَصْدَرٌ مَأْخُوذٌ مِنْ فِعْلِ تُجادِلُكَ كَمَا عَبَّرَ عَنْهَا بِالتَّحَاوُرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما [المجادلة: ١].
وَهَذِهِ السُّورَةُ مَدَنِيَّةٌ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بِالْإِجْمَاعِ. وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عَنْ عَطَاءٍ: أَنَّ الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْهَا مَدَنِيٌّ وَبَاقِيهِا مَكِّيٌّ. وَفِيهِ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى:
مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: ٧] الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٦٧- سُورَةُ الْمُلْكِ
سَمَّاهَا النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «سُورَةَ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»
فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ سُورَةً مِنَ الْقُرْآنِ ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لرجل حَتَّى غفر لَهُ وَهِيَ «سُورَةُ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ»
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ.
فَهَذَا تَسْمِيَةٌ لِلسُّورَةِ بِأَوَّلِ جُمْلَةٍ وَقَعَتْ فِيهَا فَتَكُونُ تَسْمِيَةً بِجُمْلَةٍ كَمَا سُمِّيَ ثَابِتُ بْنُ جَابِرٍ (تَأَبَّطَ شَرًّا) وَلَفْظُ «سُورَةٍ» مُضَافٌ إِلَى تِلْكَ الْجُمْلَةِ الْمَحْكِيَّةِ.
وَسُمِّيَتْ أَيْضًا «تَبَارَكَ الْمُلْكُ» بِمَجْمُوعِ الْكَلِمَتَيْنِ فِي عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيسمع مِنْهُ فِيمَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ: ضَرَبْتُ خِبَائِي عَلَى قَبْرٍ وَأَنَا لَا أَحْسَبُ أَنَّهُ قَبْرٌ فَإِذَا فِيهِ إِنْسَانٌ (أَيْ دَفِينٌ فِيهِ) يَقْرَأُ سُورَةَ «تَبَارَكَ الْمُلْكُ» حَتَّى خَتَمَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هِيَ الْمُنْجِيَةُ تُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ»
حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ فَيَكُونُ اسْمُ السُّورَةِ مَجْمُوعَ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى طَرِيقَةِ عَدِّ الْكَلِمَاتِ فِي اللَّفْظِ دُونَ إِضَافَةِ إِحْدَاهُمَا إِلَى

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

٧٨- سُورَةُ النَّبَأِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي أَكْثَرِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِير وَكتب التَّفْسِيرِ السُّنَّةِ «سُورَةَ النَّبَأِ» لِوُقُوعِ كَلِمَةِ «النَّبَأِ» فِي أَوَّلِهَا.
وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «تَفْسِيرِ ابْن عَطِيَّة» و «الْكَشَّاف» «سُورَةَ عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ». وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» سَمَّاهَا «سُورَةَ عَمَّ» أَيْ بِدُونِ زِيَادَةِ «يَتَسَاءَلُونَ» تَسْمِيَةً لَهَا بِأَوَّلِ جُمْلَةٍ فِيهَا.
وَتُسَمَّى «سُورَةَ التَّسَاؤُلِ» لِوُقُوعِ «يَتَسَاءَلُونَ» فِي أَوَّلِهَا. وَتُسَمَّى «سُورَةَ الْمُعْصِرَاتِ» لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ مَاءً ثَجَّاجاً [النبأ: ١٤]. فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ.
وَاقْتصر فِي «الْإِتْقَانُ» عَلَى أَرْبَعَةِ أَسْمَاءٍ: عَمَّ، وَالنَّبَأُ، وَالتَّسَاؤُلُ، وَالْمُعْصِرَاتُ، وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَعُدَّتِ السُّورَةَ الثَّمَانِينَ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمَعَارِجِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّازِعَاتِ.
وَفِيمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ فِي أَوَّلِ الْبَعْثِ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «كَانَتْ قُرَيْشٌ تَجْلِسُ لَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ فَتَتَحَدَّثُ فِيمَا بَيْنَهَا فَمِنْهُمُ الْمُصَدِّقُ وَمِنْهُمُ الْمُكَذِّبُ بِهِ» فَنَزَلَتْ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ لَمَّا بُعِثَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النَّبَإِ: ١، ٢] يَعْنِي الْخَبَرَ الْعَظِيمَ.
وَعَدَّ آيَهَا أَصْحَابُ الْعَدَدِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْبَصْرَةِ أَرْبَعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ مَكَّةَ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إِحْدَى وَأَرْبَعين آيَة.


الصفحة التالية
Icon