فَنَاسَبَ افْتِتَاحُ مَا بِهِ الْإِعْجَازُ بِالتَّمْهِيدِ لِمُحَاوَلَتِهِ وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْقَوْلَ أَنَّ التَّهَجِّيَ ظَاهِرٌ فِي هَذَا الْمَقْصِدِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَسْأَلُوا عَنْهُ لِظُهُورِ أَمْرِهِ وَأَنَّ التَّهَجِّيَ مَعْرُوفٌ عِنْدَهُمْ لِلتَّعْلِيمِ فَإِذَا ذَكَرْتَ حُرُوفَ الْهِجَاءِ عَلَى تِلْكَ الْكَيْفِيَّةِ الْمَعْهُودَةِ فِي التَّعْلِيمِ فِي مَقَامٍ غَيْرِ صَالِحٍ لِلتَّعْلِيمِ عَرَفَ السَّامِعُونَ
أَنَّهُمْ عُومِلُوا مُعَامَلَةَ الْمُتَعَلِّمِ لِأَنَّ حَالَهُمْ كَحَالِهِ فِي الْعَجْزِ عَنِ الْإِتْيَانِ بِكَلَامٍ بَلِيغٍ، وَيُعَضِّدُ هَذَا الْوَجْهَ تَعْقِيبُ هَاتِهِ الْحُرُوفِ فِي غَالِبِ الْمَوَاقِعِ بِذِكْرِ الْقُرْآنِ وتنزيله أَو كتابيته إِلَّا فِي كهيعص [مَرْيَم: ١] والم أَحَسِبَ النَّاسُ [العنكبوت: ١، ٢] والم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: ١، ٢] وَوَجْهُ تَخْصِيصِ بَعْضِ تِلْكَ الْحُرُوفِ بِالتَّهَجِّي دُونَ بَعْضٍ، وَتَكْرِيرِ بَعْضِهَا لِأَمْرٍ لَا نَعْلَمُهُ وَلَعَلَّهُ لِمُرَاعَاةِ فَصَاحَةِ الْكَلَامِ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ مُعْظَمَ مَوَاقِعِ هَذِهِ الْحُرُوفِ فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ عَدَا الْبَقَرَةَ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَعَلُوهَا كُلَّهَا مَدَنِيَّةً وَآلَ عِمْرَانَ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ لِأَنَّهُمَا نَزَلَتَا بِقُرْبِ عَهْدِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَّ قَصْدَ التَّحَدِّي فِي الْقُرْآنِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ قَصْدٌ أَوْلَى، وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا الْحُرُوفُ الَّتِي أَسْمَاؤُهَا مَخْتُومَةٌ بِأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ مِثْلَ الْيَاءِ وَالْهَاءِ وَالرَّاءِ وَالطَّاءِ وَالْحَاءِ قُرِئَتْ فَوَاتِحُ السُّوَرِ مَقْصُودَةً عَلَى الطَّرِيقَةِ الَّتِي يُتَهَجَّى بِهَا لِلصِّبْيَانِ فِي الْكِتَابِ طَلَبًا لِلْخِفَّةِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي آخِرِ هَذَا الْمَبْحَثِ مِنْ تَفْسِيرِ الم.
الْقَوْلُ الْخَامِسَ عَشَرَ: أَنَّهَا تَعْلِيمٌ لِلْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ حَتَّى إِذَا وَرَدَتْ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ مُؤَلَّفَةً كَانُوا قَدْ عَلِمُوهَا كَمَا يَتَعَلَّمُ الصِّبْيَانُ الْحُرُوفَ الْمُقَطَّعَةَ، ثُمَّ يَتَعَلَّمُونَهَا مُرَكَّبَةً قَالَهُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى، يَعْنِي إِذْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مَنْ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ إِلَّا بَعْضُ الْمُدُنِ كَأَهْلِ الْحِيرَةِ وَبَعْضُ طَيْءٍ وَبَعْضُ قُرَيْشٍ وَكِنَانَةَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، وَلَقَدْ تَقَلَّبَتْ أَحْوَالُ الْعَرَبِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ تَقَلُّبَاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ فِي الْعُصُورِ الْمُخْتَلفَة، فَكَانُوا بادىء الْأَمْرِ أَهْلَ كِتَابَةٍ لِأَنَّهُمْ نَزَحُوا إِلَى الْبِلَادِ الْعَرَبِيَّةِ مِنَ الْعِرَاقِ بَعْدَ تَبَلْبُلِ الْأَلْسُنِ، وَالْعِرَاقُ مَهْدُ الْقِرَاءَةِ وَالْكِتَابَةِ وَقَدْ أَثْبَتَ التَّارِيخُ أَنَّ ضَخْمَ بْنَ إِرَمَ أَوَّلُ مَنْ عَلَّمَ الْعَرَبَ الْكِتَابَةَ وَوَضَعَ حُرُوفَ الْمُعْجَمِ التِّسْعَةَ وَالْعِشْرِينَ، ثُمَّ إِنَّ الْعَرَبَ لَمَّا بَادُوا (أَيْ سَكَنُوا الْبَادِيَةَ) تَنَاسَتِ الْقَبَائِلُ الْبَادِيَةُ بِطُولِ الزَّمَانِ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَشَغَلَهُمْ حَالُهُمْ عَنْ تَلَقِّي مَبَادِئِ الْعُلُومِ، فَبَقِيَتِ الْكِتَابَةُ فِي الْحَوَاضِرِ كَحَوَاضِرِ الْيَمَنِ وَالْحِجَازِ، ثُمَّ لَمَّا تَفَرَّقُوا بَعْدَ سَيْلِ الْعَرِمِ نَقَلُوا الْكِتَابَةَ إِلَى الْمَوَاطِنِ الَّتِي نَزَلُوهَا فَكَانَتْ طَيْءٌ بِنَجْدٍ يَعْرِفُونَ الْقِرَاءَةَ وَالْكِتَابَةَ، وَهُمُ الْفِرْقَةُ الْوَحِيدَةُ مِنَ الْقَحْطَانِيِّينَ بِبِلَادِ نَجْدٍ وَلِذَلِكَ يَقُولُ أَهْلُ الْحِجَازِ وَنَجْدٍ أَنَّ الَّذِينَ وَضَعُوا الْكِتَابَةَ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِنْ بَنِي بُولَانَ مِنْ طَيْءٍ يُرِيدُونَ مِنَ الْوَضْعِ أَنَّهُمْ عَلَّمُوهَا لِلْعَدْنَانِيِّينَ بِنَجْدٍ، وَكَانَ أَهْلُ الْحِيرَةِ يُعَلِّمُونَ الْكِتَابَةَ فَالْعَرَبُ بِالْحِجَازِ تَزْعُمُ
(سَبِيل اللَّهِ) طَرِيقُهُ، وَالطَّرِيقُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى شَيْءٍ فَإِنَّمَا يُضَافُ إِلَى مَا يُوصِلُ إِلَيْهِ،
وَلَمَّا عُلِمَ أَنَّ اللَّهَ لَا يَصِلُ إِلَيْهِ النَّاسُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الطَّرِيقِ الْعَمَلَ الْمُوصِلَ إِلَى مَرْضَاةِ اللَّهِ وَثَوَابِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي اللَّفْظِ وَمَجَازٌ فِي الْإِسْنَادِ، وَقَدْ غَلَبَ (سَبِيلُ اللَّهِ) فِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ فِي الْجِهَادِ. أَيِ الْقِتَالِ لِلذَّبِّ عَنْ دِينِهِ وَإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَ (فِي) لِلظَّرْفِيَّةِ لِأَنَّ النَّفَقَةَ تَكُونُ بِإِعْطَاءِ الْعَتَادِ، وَالْخَيْلِ، وَالزَّادِ، وَكُلُّ ذَلِكَ مَظْرُوفٌ لِلْجِهَادِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ وَلَيْسَتْ (فِي) هُنَا مُسْتَعْمَلَةً لِلتَّعْلِيلِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ، عُقِّبَ الْأَمْرُ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِالنَّهْيِ عَنِ الْأَعْمَالِ الَّتِي لَهَا عَوَاقِبُ ضَارَّةٌ إِبْلَاغًا لِلنَّصِيحَةِ وَالْإِرْشَادِ لِئَلَّا يَدْفَعَ بِهِمْ يَقِينُهُمْ بِتَأْيِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ إِلَى التَّفْرِيطِ فِي وَسَائِلِ الْحَذَرِ مِنْ غَلَبَةِ الْعَدُوِّ، فَالنَّهْيُ عَنِ الْإِلْقَاءِ بِالنُّفُوسِ إِلَى التَّهْلُكَةِ يَجْمَعُ مَعْنَى الْأَمْرِ بِالْإِنْفَاقِ وَغَيْرِهِ مِنْ تَصَارِيفِ الْحَرْبِ وَحِفْظِ النُّفُوسِ، وَلِذَلِكَ فَالْجُمْلَةُ فِيهَا مَعْنَى التَّذْيِيلِ وَإِنَّمَا عُطِفَتْ وَلَمْ تُفْصَلْ بِاعْتِبَارِ أَنَّهَا غَرَضٌ آخَرُ مِنْ أَغْرَاضِ الْإِرْشَادِ.
وَالْإِلْقَاءُ رَمْيُ الشَّيْءِ مِنَ الْيَدِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ بِنَفْسِهِ وَإِلَى الْمَرْمِيِّ إِلَيْهِ بِإِلَى وَإِلَى الْمَرْمِيِّ فِيهِ بِفِي.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَيْدِيَ هِيَ الْمَفْعُولُ إِذْ لَمْ يَذْكَرْ غَيْرَهْ، وَأَنَّ الْبَاءَ زَائِدَةٌ لِتَوْكِيدِ اتِّصَالِ الْفِعْلِ بِالْمَفْعُولِ كَمَا قَالُوا لِلْمُنْقَادِ «أَعْطَى بِيَدِهِ» أَيْ أَعْطَى يَدَهُ لِأَنَّ الْمُسْتَسْلِمَ فِي الْحَرْبِ وَنَحْوِهِ يَشُدُّ بِيَدِهِ، فَزِيَادَةُ الْبَاءِ كَزِيَادَتِهَا فِي وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ [مَرْيَم: ٢٥] وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
لَكَ الْخَيْرُ إِنْ وَارَتْ بِكَ الْأَرْضُ وَاحِدًا وَالْمَعْنَى وَلَا تُعْطُوا الْهَلَاكَ أَيْدِيَكُمْ فَيَأْخُذَكُمْ أَخذ الموثق، وَجل التَّهْلُكَةَ كَالْآخِذِ وَالْآسِرِ اسْتِعَارَةً بِجَامِعِ الْإِحَاطَةِ بِالْمُلْقِي، وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ الْيَدُ مَعَ هَذَا مَجَازًا عَنِ الذَّاتِ بِعَلَاقَةِ الْبَعْضِيَّةِ لِأَنَّ الْيَدَ أَهَمُّ شَيْءٍ فِي النَّفْسِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَهَذَا فِي الْأَمْرَيْنِ كَقَوْلِ لَبِيَدٍ:
حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَدًا فِي كَافِرٍ أَيْ أَلْقَتِ الشَّمْسُ نَفْسَهَا. وَقِيلَ الْبَاءُ سَبَبِيَّةٌ وَالْأَيْدِي مُسْتَعْمَلَةٌ فِي مَعْنَى الذَّاتِ كِنَايَةً
وَالْمَالِكُ هُوَ الْمُخْتَصُّ بِالتَّصَرُّفِ فِي شَيْءٍ بِجَمِيعِ مَا يَتَصَرَّفُ فِي أَمْثَالِهِ مِمَّا يُقْصَدُ لَهُ مِنْ ذَوَاتِهَا، وَمَنَافِعِهَا، وَثَمَرَاتِهَا، بِمَا يَشَاءُ فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بِالِانْفِرَادِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ، وَقَدْ يَكُونُ بِمُشَارَكَةٍ: وَاسِعَةٍ، أَوْ ضَيِّقَةٍ.
والْمُلْكُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ اللَّامِ نَوْعٌ مِنَ الْمِلْكِ بِكَسْرِ الْمِيمِ- فَالْمِلْكُ بِالْكَسْرِ-
جِنْسٌ وَالْمُلْكُ- بِالضَّمِّ- نَوْعٌ مِنْهُ وَهُوَ أَعْلَى أَنْوَاعِهِ، وَمَعْنَاهُ التَّصَرُّفُ فِي جَمَاعَةٍ عَظِيمَةٍ، أَوْ أُمَّةٍ عَدِيدَةٍ تصرّف التَّدْبِير للشؤون، وَإِقَامَةِ الْحُقُوقِ، وَرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ، وَدَفْعِ الْعُدْوَانِ عَنْهَا، وَتَوْجِيهِهَا إِلَى مَا فِيهِ خَيْرُهَا، بِالرَّغْبَةِ وَالرَّهْبَةِ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٤٧] وَقَدْ تَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الْفَاتِحَة: ٤]، فَمَعْنَى مَالِكِ الْمُلْكِ أَنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ فِي نَوْعِ الْمُلْكِ (بِالضَّمِّ) بِمَا يَشَاءُ، بِأَن يُرَاد بِالْملكِ هَذَا النَّوْعُ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكِ الْأَوَّلِ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ: أَيْ كُلُّ مُلْكٍ هُوَ فِي الدُّنْيَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُلْكُ مَاهِيَّةً مِنَ الْمَوَاهِي، كَانَ مَعْنَى كَوْنِ اللَّهِ مَالِكَ الْمُلْكِ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِتَصْرِيفِ الْمُلْكِ، أَيْ لِإِعْطَائِهِ، وَتَوْزِيعِهِ، وَتَوْسِيعِهِ، وَتَضْيِيقِهِ، فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ فِي الْمَعْنَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُلْكَ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لِلْجِنْسِ، دُونَ اسْتِغْرَاقِ أَيِّ طَائِفَةٍ وَحِصَّةٍ مِنْ جِنْسِ الْمُلْكِ، وَالتَّعْوِيلُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَ مِقْدَارِ الْجِنْسِ عَلَى الْقَرَائِنِ. وَلِذَلِكَ بُيِّنَتْ صِفَةُ مَالِكِ الْمُلْكِ بِقَوْلِهِ: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آل عمرَان: ٢٦] فَإِنَّ إِيتَاءَهُ وَنَزْعَهُ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّشْكِيكِ: إِيجَابًا، وَسَلْبًا، وَكَثْرَةً وَقِلَّةً.
وَالنَّزْعُ: حَقِيقَةً إِزَالَةُ الْجِرْمِ مِنْ مَكَانِهِ: كَنَزْعِ الثَّوْبِ، وَنَزْعِ الْمَاءِ مِنَ الْبِئْرِ، وَيُسْتَعَارُ لِإِزَالَةِ الصِّفَاتِ وَالْمَعَانِي كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ [الْأَعْرَاف: ٤٣] بِتَشْبِيهِ الْمَعْنَى الْمُتَمَكِّنِ بِالذَّاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْمَكَانِ، وَتَشْبِيهِ إِزَالَتِهِ بِالنَّزْعِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ هُنَا:
تَنْزِعُ الْمُلْكَ أَيْ تُزِيلُ وَصْفَ الْمُلْكِ مِمَّنْ تَشَاءُ.
وَقَوْلُهُ: بِيَدِكَ الْخَيْرُ تَمْثِيلٌ لِلتَّصَرُّفِ فِي الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُتَصَرِّفَ يَكُونُ أَقْوَى تَصَرُّفِهِ بِوَضْعِ شَيْءٍ بِيَدِهِ، وَلَوْ كَانَ لَا يُوضَعُ فِي الْيَدِ، قَالَ عَنْتَرَةُ بْنُ الْأَخْرَسِ الْمَعْنِيُّ الطَّائِيُّ:

فَمَا بِيَدَيْكَ خَيْرٌ أَرْتَجِيهِ وَغَيْرُ صُدُودِكَ الْخَطْبُ الْكَبِيرُ
وَهَذَا يُعَدُّ مِنَ الْمُتَشَابِهِ لِأَنَّ فِيهِ إِضَافَةَ الْيَدِ إِلَى ضَمِيرِ الْجَلَالَةِ، وَلَا تَشَابُهَ فِيهِ: لِظُهُورِ
وَسِوَى التَّهْدِيدِ بِالْقِتَالِ، وَقَطْعِ مَعْذِرَةِ الْمُتَقَاعِدِينَ عَنِ الْهِجْرَةِ، وَتَوْهِينِ بَأْسِهِمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ الْمُشْرِكِينَ قَدْ صَارَ إِلَى وَهْنٍ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ فِي قُوَّةٍ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّ مُعْظَمَهَا، بَعْدَ التَّشْرِيعِ، جِدَالٌ كَثِيرٌ مَعَ الْيَهُودِ وَتَشْوِيهٌ لِأَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَجِدَالٌ مَعَ النَّصَارَى لَيْسَ بِكَثِيرٍ، وَلَكِنَّهُ أَوْسَعُ مِمَّا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَطَةَ الْمُسْلِمِينَ لِلنَّصَارَى أَخَذَتْ تَظْهَرُ بِسَبَبِ تَفَشِّي الْإِسْلَامِ فِي تُخُومِ الْحِجَازِ الشَّامِيَّةِ لِفَتْحِ مُعْظَمِ الْحِجَازِ وَتِهَامَةَ.
وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةُ وَالتِّسْعِينَ مِنَ السُّوَرِ. نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُمْتَحَنَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ: إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ [الزلزلة: ١].
وَعَدَدُ آيِهَا مِائَةٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ، وَمِائَةٌ وَسِتٌّ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَمِائَةٌ وَسَبْعٌ وَسَبْعُونَ فِي عَدَدِ أَهْلِ الشَّامِ.
وَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى أَغْرَاضٍ وَأَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ أَكْثَرُهَا تَشْرِيعُ مُعَامَلَاتِ الْأَقْرِبَاءِ وَحُقُوقِهِمْ، فَكَانَتْ فَاتِحَتُهَا مُنَاسِبَةً لِذَلِكَ بِالتَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِأَنْ يَشْكُرُوا رَبَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنْ يُرَاعُوا حُقُوقَ النَّوْعِ الَّذِي خُلِقُوا مِنْهُ، بِأَنْ يَصِلُوا أَرْحَامَهُمُ الْقَرِيبَةَ وَالْبَعِيدَةَ، وَبِالرِّفْقِ بِضُعَفَاءَ النَّوْعِ مِنَ الْيَتَامَى، وَيُرَاعُوا حُقُوقَ صِنْفِ النِّسَاءِ مِنْ نَوْعِهِمْ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي مُعَامَلَاتِهِنَّ، وَالْإِشَارَة إِلَى عُقُود النِّكَاحِ وَالصَّدَاقِ، وَشَرْعِ قَوَانِينِ الْمُعَامَلَةِ مَعَ النِّسَاءِ فِي حَالَتَيِ الِاسْتِقَامَةِ وَالِانْحِرَافِ مِنْ كِلَا الزَّوْجَيْنِ، وَمُعَاشَرَتِهِنَّ وَالْمُصَالَحَةِ مَعَهُنَّ، وَبَيَانِ مَا يَحِلُّ لِلتَّزَوُّجِ مِنْهُنَّ، وَالْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ أَوِ الصِّهْرِ، وَأَحْكَامِ الْجَوَارِي بِمِلْكِ الْيَمِينِ. وَكَذَلِكَ حُقُوقُ مَصِيرِ الْمَالِ إِلَى الْقَرَابَةِ، وَتَقْسِيمِ ذَلِكَ، وَحُقُوقُ حِفْظِ الْيَتَامَى فِي أَمْوَالِهِمْ وَحِفْظِهَا لَهُمْ وَالْوِصَايَةِ عَلَيْهِمْ.
ثُمَّ أَحْكَامُ الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْوَالِ وَالدِّمَاءِ وَأَحْكَامُ الْقَتْلِ عَمْدًا وَخَطَأً، وَتَأْصِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُقُوقِ وَالدِّفَاعِ عَنِ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِ، وَالْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الْعَدْلِ بِدُونِ مُصَانَعَةٍ، وَالتَّحْذِيرُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَالْأَمْرُ بِالْبِرِّ، وَالْمُوَاسَاةُ، وَأَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَالتَّمْهِيدُ لِتَحْرِيمِ شُرْبِ الْخَمْرِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً [الْكَهْف: ٧٨]. وَتَقْدِيمُ اسْمِ الْجَلَالَةِ لِلتَّنْوِيهِ بِشَأْنِ هَذِهِ الْفُتْيَا.
وَقَوْلُهُ: وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ عُطِفَ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ، أَيْ وَيُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، أَيِ الْقُرْآنِ، وَإِسْنَادُ الْإِفْتَاءِ إِلَى مَا يُتْلَى إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ، لِأَنَّ مَا يُتْلَى دَالٌّ عَلَى إِفْتَاءِ اللَّهِ فَهُوَ سَبَبٌ فِيهِ، فَآلَ الْمَعْنَى إِلَى: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ بِمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ، وَالْمرَاد بذلك بِمَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ، وَمَا سَيُتْلَى بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّ التَّذْكِيرَ بِهِ وَتَكْرِيرَهُ إِفْتَاءٌ بِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً، وَمَا أَتْبَعَ بِهِ مِنَ الْأَحْكَامِ إِفْتَاءٌ أَيْضًا. وَقَدْ أَلَمَّتِ الْآيَةُ بِخُلَاصَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً [النِّسَاء:
٢- ٦]. وَكَذَلِكَ أَشَارَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى فِقَرٍ مِمَّا تَقَدَّمَ: بِقَوْلِهِ هُنَا: فِي يَتامَى النِّساءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ فَأَشَارَ إِلَى قَوْلِهِ: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا إِلَى قَوْلِهِ: فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً [النِّسَاء: ٣، ٤].
وَلِحَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ بَعْدَ تَرْغَبُونَ- هُنَا- مَوْقِعٌ عَظِيمٌ مِنَ الْإِيجَازِ وَإِكْثَارِ الْمَعْنَى، أَيْ تَرْغَبُونَ عَنْ نِكَاحِ بَعْضِهِنَّ، وَفِي نِكَاحِ بَعْضٍ آخَرَ، فَإِنَّ فِعْلَ رَغِبَ يَتَعَدَّى بِحَرْفِ (عَنْ) لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُحَبُّ وَبِحَرْفِ (فِي) لِلشَّيْءِ الْمَحْبُوبِ. فَإِذَا حُذِفَ حَرْفُ الْجَرِّ احْتَمَلَ الْمَعْنَيَيْنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ، وَذَلِكَ قَدْ شَمَلَهُ قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا [النِّسَاء: ٣] إِلَخْ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ هُنَا وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ- إِلَى- كَبِيراً [النِّسَاء: ٢] وَإِلَى قَوْلِهِ: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ إِلَى قَوْله: مَعْرُوفاً [النِّسَاء: ٥].
وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ إِلَى قَوْلِهِ هُنَالِكَ وَابْتَلُوا الْيَتامى - إِلَى- حَسِيباً [النِّسَاء: ٦].
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يُتْلَى فِي الْكِتَابِ هُوَ مِنْ إِفْتَاءِ اللَّهِ، إِلَّا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ عَلَى وَقْتِ الِاسْتِفْتَاءِ كَانَ مُغَايِرًا لِلْمَقْصُودِ مِنْ قَوْلِهِ: اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ، فَلِذَلِكَ صَحَّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ عَطْفَ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ. وَالْإِفْتَاءُ الْأُنُفُ هُوَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً- إِلَى- واسِعاً حَكِيماً [النِّسَاء: ١٢٨- ١٣٠].
وَ (فِي) مِنْ قَوْلِهِ: فِي يَتامَى النِّساءِ لِلظَّرْفِيَّةِ الْمَجَازِيَّةِ، أَيْ فِي شَأْنِهِنَّ، أَوْ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ لِأَجْلِهِنَّ، وَمَعْنَى كُتِبَ لَهُنَّ فُرِضَ لَهُنَّ إِمَّا مِنْ أَمْوَالِ مَنْ يَرِثْنَهُمْ، أَوْ مِنَ
بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ. وَهَذَا تَأْوِيلٌ ثَالِثٌ فِي الْآيَةِ، لِأَنَّ الَّذِي لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا حَكَمَ بِغَيْرِهِ، بِأَنْ تَرَكَ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ، أَوْ دَعَا إِلَى الصُّلْحِ، لَا تَخْتَلِفُ الْأُمَّةُ فِي أَنَّهُ لَيْسَ بِكَافِرٍ وَلَا آثِمٍ، وَإِلَّا لَلَزِمَ كُفْرُ كُلِّ حَاكِمٍ فِي حَالِ عَدَمِ مُبَاشَرَتِهِ لِلْحُكْمِ، وَكُفْرُ كُلِّ مَنْ لَيْسَ بِحَاكِمٍ. فَالْمَعْنَى: وَمَنْ حَكَمَ فَلَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنزل الله.
[٤٥]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٤٥]
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥)
عُطِفَتْ جُمْلَةُ كَتَبْنا عَلَى جُمْلَةِ أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ [الْمَائِدَة: ٤٤]. وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ هَذَا الْحُكْمِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُمْ غَيَّرُوا أَحْكَامَ الْقِصَاصِ كَمَا غَيَّرُوا أَحْكَامَ حَدِّ الزِّنَى، فَفَاضَلُوا بَيْنَ الْقَتْلَى وَالْجَرْحَى، كَمَا سَيَأْتِي، فَلِذَلِكَ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، كَمَا ذَيَّلَ الْآيَةَ الدَّالَّةَ عَلَى تَغْيِيرِ حُكْمِ حَدِّ الزِّنَى بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ [الْمَائِدَة: ٤٤].
وَالْكَتْبُ هُنَا مَجَازٌ فِي التَّشْرِيعِ وَالْفَرْضِ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهِ بِحَرْفِ (عَلَى)، أَيْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا، أَيْ فِي التَّوْرَاةِ مَضْمُونَ أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، وَهَذَا الْحُكْمُ مَسْطُورٌ فِي التَّوْرَاةِ أَيْضًا، كَمَا اقْتَضَتْ تَعْدِيَةُ فِعْلِ كَتَبْنا بِحَرْفِ (فِي) فَهُوَ مِنِ اسْتِعْمَالِ اللَّفْظِ فِي حَقِيقَتِهِ، وَمَجَازِهِ.
وَفِي هَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ لَا يُسْتَطَاعُ جَحْدُهُ لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ وَالْكِتَابَةُ تَزِيدُ الْكَلَامَ تَوَثُّقًا، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٨٢]، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ:
وَهَلْ يَنْقُضُ مَا فِي الْمَهَارِقِ الْأَهْوَاءُ
الْأُولَى. وَهَذَا يُبْطِلُ الْقَاعِدَةَ الْمُتَدَاوَلَةَ بَيْنَ الْمُعَرَّبِينَ مِنْ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُنَكَّرَ إِذَا أُعِيدَ فِي الْكَلَامِ مُنَكَّرًا كَانَ الثَّانِي غَيْرَ الْأَوَّلِ. وَقَدْ ذَكَرَهَا ابْنُ هِشَامٍ فِي «مُغْنِي اللَّبِيبِ» فِي الْبَابِ السَّادِسِ وَنَقَضَهَا. وَمِمَّا مَثَّلَ بِهِ لِإِعَادَةِ النَّكِرَةِ نَكِرَةً وَهِيَ عَيْنُ الْأُولَى لَا غَيْرُهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [الرّوم: ٥٤]. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ فِي سُورَة النِّسَاء [١٢٨].
[٣٨]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٣٨]
وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ مَا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (٣٨)
مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ غَامِضٌ بَدْءًا. وَنِهَايَتُهَا أَشَدُّ غُمُوضًا، وَمَوْقِعُهَا فِي هَذَا السِّيَاقِ خَفِيُّ الْمُنَاسِبَةِ. فَاعْلَمْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ- إِلَى قَوْلِهِ- إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ أَنَّ لَهَا خَصَائِصَ لِكُلِّ جِنْسٍ وَنَوْعٍ مِنْهَا كَمَا لِأُمَمِ الْبَشَرِ خَصَائِصُهَا، أَيْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ نَوْعٍ مَا بِهِ قِوَامُهُ وَأَلْهَمَهُ اتِّبَاعَ نِظَامِهِ وَأَنَّ لَهَا حَيَاةً مُؤَجَّلَةً لَا مَحَالَةَ.
فَمَعْنَى أَمْثالُكُمْ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْحَيَاةِ الْحَيَوَانِيَّةِ وَفِي اخْتِصَاصِهَا بِنِظَامِهَا.
وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ أَنَّهَا صَائِرَةٌ إِلَى الْمَوْتِ. وَيُعَضِّدُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حَشْرُ الْبَهَائِمِ مَوْتُهَا، أَيْ فَالْحَشْرُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَجَازٍ قَرِيبٍ إِلَى حَقِيقَتِهِ اللُّغَوِيَّةِ الَّتِي فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ [النَّمْل: ١٧]. فَمَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ بَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الدَّلِيلِ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [الْأَنْعَام: ٣٧]، فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً [الْأَنْعَام: ٣٧] عَلَى أَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أُمِرَ النَّبِيءُ بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمْ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ: قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ [الْأَنْعَام: ٣٧] عَلَى أَنَّهَا مِنْ خِطَابِ اللَّهِ لَهُمْ. أَيْ أَنَّ الَّذِي خَلَقَ أَنْوَاعَ الْأَحْيَاءِ كُلَّهَا وَجَعَلَهَا كَالْأُمَمِ ذَاتَ خَصَائِصَ جَامِعَةٍ لِأَفْرَادِ كُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا فَكَانَ خَلْقُهَا
وَالسُّلْطَانُ: الْحُجَّةُ الَّتِي يُصَدِّقُ بِهَا الْمُخَالِفُ، سُمِّيَتْ سُلْطَانًا لِأَنَّهَا تَتَسَلَّطُ عَلَى نَفْسِ الْمَعَارِضِ وَتُقْنِعُهُ، وَنَفَى أَنَ تَكُونَ الْحُجَّةُ مُنَزَّلَةً مِنَ اللَّهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْحُجَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ مُخْبَرًا بِهَا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّ أُمُورَ الْغَيْبِ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ. وَأَعْظَمُ الْمُغَيَّبَاتِ ثُبُوت الإلهيّة لأنّها قَدْ يَقْصِرُ الْعَمَلُ عَنْ إِدْرَاكِهَا فَمِنْ شَأْنِهَا أَنْ تُتَلَقَّى مِنْ قِبَلِ الْوَحْيِ الْإِلَهِيِّ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْله: فَانْتَظِرُوا لِتَفْرِيعِ هَذَا الْإِنْذَارِ وَالتَّهْدِيدِ السَّابِقِ، لِأَنَّ وُقُوعَ الْغَضَبِ وَالرِّجْسِ عَلَيْهِمْ، وَمُكَابَرَتَهُمْ وَاحْتِجَاجَهُمْ لِمَا لَا حُجَّةَ لَهُ، يَنْشَأُ عَنْ ذَلِكَ التَّهْدِيدُ بِانْتِظَارِ الْعَذَابِ.
وَصِيغَةُ الْأَمْرِ لِلتَّهْدِيدِ مِثْلُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠]. وَالِانْتِظَارُ افْتِعَالٌ مِنَ النَّظَرِ بِمَعْنَى التَّرَقُّبِ، كَأَنَّ الْمُخَاطَبَ أُمِرَ بِالتَّرَقُّبِ فَارْتَقَبَ.
ومفعول: فَانْتَظِرُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَيْ فَانْتَظَرُوا عِقَابًا.
وَقَوْلُهُ: إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ استيناف بَيَانِيٌّ لِأَنَّ تَهْدِيدَهُ إِيَّاهُمْ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نُفُوسِهِمْ أَنْ يَقُولُوا: إِذَا كُنَّا نَنْتَظِرُ الْعَذَابَ فَمَاذَا يَكُونُ حَالُكَ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ يَنْتَظِرُ مَعَهُمْ، وَهَذَا مَقَامُ أَدَبٍ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى
كَقَوْلِهِ تَعَالَى تَلْقِينًا لرَسُوله محمّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ»
فَهُودٌ يَخَافُ أَنْ يَشْمَلَهُ الْعَذَابُ النَّازِلُ بِقَوْمِهِ وَذَلِكَ جَائِزٌ كَمَا
فِي الْحَدِيثِ: أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «أَنَهْلَكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ» قَالَ: «نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ».
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «ثُمَّ يُحْشَرُونَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ»
وَيَجُوزُ أَنْ يَنْزِلَ بِهِمُ الْعَذَابُ وَيَرَاهُ هُودٌ وَلَكِنَّهُ لَا يُصِيبُهُ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ فِي قِصَّتِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يُبْعِدَهُ اللَّهُ وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا فِي قِصَّتِهِ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِمُبَارَحَةِ دِيَارِ قَوْمِهِ قَبْلَ نزُول الْعَذَاب:
[٧٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٧٢]
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما أَنَّ كُلَّ أَبَوَيْنِ يَدْعُوَانِ بِذَلِكَ، فَإِنْ حُمِلَ عَلَى ظَاهِرِهِ قُلْنَا لَا يَخْلُو أَبْوَاب مُشْرِكَانِ مِنْ أَنْ يَتَمَنَّيَا أَنْ يَكُونَ لَهُمَا مِنَ الْحَمْلِ مَوْلُودٌ صَالِحٌ، سَوَاءٌ نَطَقَا بِذَلِكَ أَمْ أَضْمَرَاهُ فِي نُفُوسِهِمَا، فَإِنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ طَوِيلَةٌ، لَا تَخْلُو أَنْ يَحْدُثَ هَذَا التَّمَنِّي فِي خِلَالِهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ التَّمَنِّي مِنْهُمْ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعْتَرِفُونَ لِلَّهِ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَبِأَنَّهُ هُوَ خَالِقُ الْمَخْلُوقَاتِ وَمُكَوِّنُهَا، وَلَا حَظَّ لِلْآلِهَةِ إِلَّا فِي التَّصَرُّفَاتِ فِي أَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ، كَمَا دلّت علبه مُحَاجَّاتُ الْقُرْآنِ لَهُمْ نَحْوُ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [يُونُس: ٣٤] وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي هَذَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ فِي الْأَنْعَامِ [١].
وَإِنْ حُمِلَ دَعَوَا عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ مَخْصُوصٌ بِبَعْضِ الْأَزْوَاجِ الَّذِينَ يَخْطُرُ بِبَالِهِمُ الدُّعَاءُ.
وَإِجْرَاءُ صِفَةِ رَبَّهُما الْمُؤْذِنَةِ بِالرِّفْقِ وَالْإِيجَادِ: لِلْإِشَارَةِ إِلَى اسْتِحْضَارِ الْأَبَوَيْنِ هَذَا الْوَصْفَ عِنْدَ دُعَائِهِمَا اللَّهَ، أَيْ يَذْكُرُ أَنَّهُ بِاللَّفْظِ أَوْ مَا يُفِيدُ مَفَادَهُ، وَلَعَلَّ الْعَرَبَ كَانُوا إِذَا دَعَوْا بِصَلَاحِ الْحَمْلِ قَالُوا: رَبَّنَا آتِنَا صَالِحًا.
وَجُمْلَةُ: لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ دَعَوَا اللَّهَ.
وصالِحاً وَصْفٌ جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، وَظَاهِرُ التَّذْكِيرِ أَنَّ الْمَحْذُوفَ تَقْدِيرُهُ: (ذَكَرًا) وَكَانَ الْعَرَبُ يَرْغَبُونَ فِي وِلَادَةِ الذُّكُورِ وَقَالَ تَعَالَى: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ [النَّحْل: ٥٧] أَيِ الذُّكُورُ.
فَالدُّعَاءُ بِأَنْ يُؤْتَيَا ذَكَرًا، وَأَنْ يَكُونَ صَالِحًا، أَيْ نَافِعًا: لِأَنَّهُمْ لَا يَعْرِفُونَ الصَّلَاحَ الْحَقَّ، وَيُنْذِرَانِ: لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ.
وَمَعْنَى فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما وَضَمِيرُ جَعَلا لِلنَّفْسِ الْوَاحِدَةِ وَزَوْجِهَا، أَيْ جَعَلَ الْأَبَوَانِ الْمُشْرِكَانِ.
وَ «الشِّرْكُ» مُصْدَرُ شَرَكَهُ فِي كَذَا، أَيْ جَعَلَا لِلَّهِ شَرِكَةً، وَالشَّرِكَةُ تَقْتَضِي شَرِيكًا أَيْ جَعَلَا لِلَّهِ شَرِيكًا فِيمَا آتَاهُمَا اللَّهُ، وَالْخَبَرُ مُرَادٌ مِنْهُ مَعَ الْإِخْبَارِ التَّعْجِيبُ مِنْ سَفَهِ آرَائِهِمْ، إِذْ لَا يَجْعَلُ رَشِيدُ الرَّأْيِ شَرِيكًا لِأَحَدٍ فِي مِلْكِهِ وَصُنْعِهِ بِدُونِ حَقٍّ، فَلِذَلِكَ عُرِفَ الْمَشْرُوكُ فِيهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ فَقِيلَ فِيما آتاهُما دُونَ الْإِضْمَارِ بِأَنْ يُقَالَ:
وَالسَّامِعُ الْبَلِيغُ يُقَدِّرُ لِكُلِّ كَلَامٍ مَا يُنَاسِبُ إِرَادَةَ الْمُتَكَلِّمِ الْبَلِيغِ، وَكُلٌّ عَلَى مِنْوَالِهِ يَنْسِجُ.
وَعَطْفُ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ عَلَى الصِّلَةِ وَهِيَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالِارْتِيَابِ الِارْتِيَابُ فِي ظُهُورِ أَمْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلِأَجْلِ ذَلِكَ الِارْتِيَابِ كَانُوا ذَوِي وَجْهَيْنِ مَعَهُ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ لِئَلَّا يَفُوتَهُمْ مَا يَحْصُلُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْعِزِّ وَالنَّفْعِ، عَلَى تَقْدِيرِ ظُهُورِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ، وَأَبْطَنُوا الْكُفْرَ حِفَاظًا عَلَى دِينِهِمُ الْفَاسِدِ وَعَلَى صِلَتِهِمْ بِأَهْلِ مِلَّتِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمُ: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ١٤١].
وَلَعَلَّ أَعْظَمَ ارْتِيَابِهِمْ كَانَ فِي عَاقِبَةِ غَزْوَةِ تَبُوكَ لِأَنَّهُمْ لِكُفْرِهِمْ مَا كَانُوا يُقَدِّرُونَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَغْلِبُونَ الرُّومَ، هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ كَمَا آذَنَ بِهِ قَوْلُهُ: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ.
وَجِيءَ فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَجَدُّدِ نَفْيِ إِيمَانِهِمْ، وَفِي وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ بِصِيغَةِ الْمَاضِي لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِدَمِ ذَلِكَ الِارْتِيَابِ وَرُسُوخِهِ فَلِذَلِكَ كَانَ أَثَرُهُ اسْتِمْرَارَ انْتِفَاءِ إِيمَانِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ الِارْتِيَابُ مُلَازِمًا لِانْتِفَاءِ الْإِيمَانِ كَانَ فِي الْكَلَامِ شِبْهُ الِاحْتِبَاكِ إِذْ يَصِيرُ بِمَنْزِلَةِ أَنْ يُقَالَ: الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا وَلَا يُؤْمِنُونَ وَارْتَابَتْ وَتَرْتَابُ قُلُوبُهُمْ.
وَفَرَّعَ قَوْلَهُ: فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ عَلَى وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ تَفْرِيعَ الْمُسَبَّبِ عَلَى السَّبَبِ: لِأَنَّ الِارْتِيَابَ هُوَ الشَّكُّ فِي الْأَمْرِ بِسَبَبِ التَّرَدُّدِ فِي تَحْصِيلِهِ، فَلِتَرَدُّدِهِمْ لَمْ يُصَارِحُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعِصْيَانِ لِاسْتِنْفَارِهِ، وَلَمْ يَمْتَثِلُوا لَهُ فَسَلَكُوا مَسْلَكًا يَصْلُحُ لِلْأَمْرَيْنِ، وَهُوَ مَسْلَكُ الِاسْتِئْذَانِ فِي الْقُعُودِ، فَالِاسْتِئْذَانُ مُسَبَّبٌ عَلَى التَّرَدُّدِ، وَالتَّرَدُّدُ مُسَبَّبٌ عَلَى
الِارْتِيَابِ وَقَدْ دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ صِلَةِ الْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. هُوَ قَوْلُهُ: وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ. لِأَنَّهُ الْمُنْتِجُ لِانْحِصَارِ الِاسْتِئْذَانِ فِيهِمْ.
اللَّهِ تَعَالَى على طَريقَة الاحتباس كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا كُنْتُمْ وَتَكُونُ وَهَكَذَا، إِلَّا كُنَّا وَنَكُونُ عَلَيْكُمْ شُهُودًا.
ومِنْ عَمَلٍ مَفْعُولُ تَعْمَلُونَ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ وَأُدْخِلَتْ عَلَيْهِ (مِنْ)
لِلتَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ لِيَشْمَلَ الْعَمَلَ الْجَلِيلَ وَالْحَقِيرَ وَالْخَيْرَ وَالشَّرَّ.
وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً اسْتِثْنَاءٌ مِنْ عُمُومِ الْأَحْوَالِ الَّتِي اقْتَضَاهَا عُمُومُ الشَّأْنِ وَعُمُومُ التِّلَاوَةِ وَعُمُومُ الْعَمَلِ، أَيْ إِلَّا فِي حَالَةِ عِلْمِنَا بِذَلِكَ، فَجُمْلَةُ كُنَّا عَلَيْكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَوُجُودُ حَرْفِ الِاسْتِثْنَاءِ أَغْنَى عَنِ اتِّصَالِ جُمْلَةِ الْحَالِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِأَنَّ الرَّبْطَ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِثْنَاءِ.
وَالشُّهُودُ: جَمْعُ شَاهِدٍ. وَأُخْبِرَ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ عَنِ الْوَاحِدِ وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى تَبَعًا لِضَمِيرِ الْجَمْعِ الْمُسْتَعْمَلِ لِلتَّعْظِيمِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ [الْأَنْبِيَاء: ١٠٤]. وَنَظِيرُهُ فِي ضَمِيرِ جَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ فِي خِطَابِ الْوَاحِدِ فِي قَوْلِ جَعْفَرِ بْنِ عُلْبَةَ الْحَارِثِيِّ:
فَلَا تَحْسَبِي أَنِّي تَخَشَّعْتُ بَعْدَكُمْ لِشَيْءٍ وَلَا أَنِّي مِنَ الْمَوْتِ أَفْرَقُ
وَذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْوَاحِدِ بِالْجَمَاعَةِ فِي الْقُوَّةِ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تَخْلُو مِنْ مَزَايَا كَثِيرَةٍ مُوَزَّعَةٍ فِي أَفْرَادِهَا.
وَالشَّاهِدُ: الْحَاضِرُ، وَأُطْلِقَ عَلَى الْعَالِمِ بِطَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى).
وإِذْ ظَرْفٌ، أَيْ حِين تفيضون.
وَالْإِضَافَة فِي الْعَمَلِ: الِانْدِفَاعُ فِيهِ، أَيِ الشُّرُوعُ فِي الْعَمَلِ بِقُوَّةٍ وَاهْتِمَامٍ، وَهَذِهِ الْمَادَّةُ مُؤْذِنَةٌ بِأَنَّ الْمُرَادَ أَعْمَالُهُمْ فِي مَرْضَاةِ اللَّهِ وَمُصَابَرَتُهُمْ عَلَى أَذَى الْمُشْرِكِينَ. وَخُصَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ وَهَذَا الزَّمَانُ بِالذِّكْرِ بَعْدَ تَعْمِيمِ الْأَعْمَالِ اهْتِمَامًا بِهَذَا النَّوْعِ فَهُوَ كَذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، كَأَنَّهُ قِيلَ: وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ مَا وَعَمَلٍ عَظِيمٍ تُفِيضُونَ فِيهِ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا حِينَ تَعْمَلُونَهُ وَحِينَ تُفِيضُونَ فِيهِ.
الَّتِي اجْتُلِبَتْ لِأَجْلِهَا عَلَى يَاءِ التَّصْغِيرِ دَلَالَةً عَلَى الْيَاءِ الْمَحْذُوفَةِ. وَحَذْفُ يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ مِنَ الْمُنَادَى الْمُضَافِ شَائِعٌ، وَبِخَاصَّةٍ إِذَا كَانَ فِي إِبْقَائِهَا ثِقَلٌ كَمَا هُنَا، لِأَنَّ الْتِقَاءَ يَاءَاتٍ ثَلَاثٍ فِيهِ ثِقَلٌ.
وَهَذَا التَّصْغِيرُ كِنَايَةٌ عَنْ تَحْبِيبٍ وَشَفَقَةٍ. نَزَّلَ الْكَبِيرَ مَنْزِلَةَ الصَّغِيرِ لِأَنَّ شَأْنَ الصَّغِيرِ أَنْ يُحَبَّ وَيُشْفَقَ عَلَيْهِ. وَفِي ذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ إِمْحَاضِ النُّصْحِ لَهُ.
وَالْقَصُّ: حِكَايَةُ الرُّؤْيَا. يُقَالُ: قَصَّ الرُّؤْيَا إِذَا حَكَاهَا وَأَخْبَرَ بِهَا. وَهُوَ جَاءَ مِنَ الْقَصَصِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا.
وَالرُّؤْيَا- بِأَلِفِ التَّأْنِيثِ- هِيَ: رُؤْيَةُ الصُّوَرِ فِي النَّوْمِ، فَرَّقُوا بَيْنَهَا وَبَيْنَ رُؤْيَةِ الْيَقَظَةِ بِاخْتِلَافِ عَلَامَتَيِ التَّأْنِيثِ، وَهِيَ بِوَزْنِ الْبُشْرَى وَالْبُقْيَا.
وَقَدْ عَلِمَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْعَشَرَةَ كَانُوا يَغَارُونَ مِنْهُ لِفَرْطِ فَضْلِهِ عَلَيْهِمْ خُلُقًا وَخَلْقًا، وَعَلِمَ أَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ الرُّؤْيَا إِجْمَالًا وَتَفْصِيلًا، وَعَلِمَ أَنَّ تِلْكَ الرُّؤْيَا تُؤْذِنُ بِرِفْعَةٍ يَنَالُهَا يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَى إِخْوَتِهِ الَّذِينَ هُمْ أَحَدَ عَشَرَ فَخَشِيَ إِنْ قَصَّهَا يُوسُفُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- عَلَيْهِمْ أَنْ تَشْتَدَّ بِهِمُ الْغَيْرَةُ إِلَى حَدِّ الْحَسَدِ،
وَأَنْ يَعْبُرُوهَا عَلَى وَجْهِهَا فَيَنْشَأُ فِيهِمْ شَرُّ الْحَاسِدِ إِذَا حَسَدَ، فَيَكِيدُوا لَهُ كَيْدًا لِيَسْلَمُوا مِنْ تَفَوُّقِهِ عَلَيْهِمْ وَفَضْلِهِ فِيهِمْ.
وَالْكَيْدُ: إِخْفَاءُ عَمَلٍ يَضُرُّ الْمَكِيدَ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٣].
وَاللَّامُ فِي لَكَ لِتَأْكِيدِ صِلَةِ الْفِعْلِ بِمَفْعُولِهِ كَقَوْلِهِ: شَكَرْتُ لَكَ النُّعْمَى.
وَتَنْوِينُ كَيْداً لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّهْوِيلِ زِيَادَةٌ فِي تَحْذِيرِهِ مِنْ قَصِّ الرُّؤْيَا عَلَيْهِمْ.
وَقَصَدَ يَعْقُوبُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنْ ذَلِكَ نَجَاةَ ابْنِهِ مِنْ أَضْرَارٍ تَلْحَقُهُ، وَلَيْسَ قَصْدُهُ إِبْطَالَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الرُّؤْيَا فَإِنَّهُ يَقَعُ بَعْدَ أَضْرَارٍ وَمَشَاقَّ. وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّ بَنِيهِ لَمْ يَبْلُغُوا فِي الْعِلْمِ مَبْلَغَ غَوْصِ النَّظَرِ الْمُفْضِي إِلَى أَنَّ الرُّؤْيَا إِنْ كَانَتْ
وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْعَاصِفِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، أَيْ عَاصِفٌ رِيحُهُ، كَمَا يُقَالُ: يَوْمٌ مَاطِرٌ، أَيْ سَحَابُهُ.
وَالرَّمَادُ: مَا يَبْقَى مِنَ احْتِرَاقِ الْحَطَبِ وَالْفَحْمِ. وَالْعَاصِفُ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٢٢].
وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنِ اخْتِيرَ لَهُ التَّشْبِيهُ بهيئة الرماد المتجمع، لِأَنَّ الرَّمَادَ أَثَرٌ لِأَفْضَلِ أَعْمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَشْيَعِهَا بَيْنَهُمْ وَهُوَ قِرَى الضَّيْفِ حَتَّى صَارَتْ كَثْرَةُ الرَّمَادِ كِنَايَةً فِي لِسَانِهِمْ عَنِ الْكَرَمِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو جَعْفَرٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيَاحُ. وَقَرَأَهُ الْبَقِيَّةُ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ بِالْإِفْرَادِ، وَهَمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ.
وَجُمْلَةُ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ التَّشْبِيهِ، أَيْ ذَهَبَتْ أَعْمَالُهُمْ سُدًى فَلَا يَقْدِرُونَ أَنْ يَنْتَفِعُوا بِشَيْءٍ مِنْهَا.
وَجُمْلَةُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِخُلَاصَةِ حَالِهِمْ، وَهِيَ أَنَّهَا ضَلَالٌ بَعِيدٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْبَعِيدِ الْبَالِغُ نِهَايَةَ مَا تَنْتَهِي إِلَيْهِ مَاهِيَّتُهُ، أَيْ بِعِيدٌ فِي مَسَافَاتِ الضَّلَالِ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَقْصَى الضَّلَالِ أَوْ جِدُّ ضَلَالٍ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً فِي سُورَة النِّسَاء [١١٦].
[١٩، ٢٠]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ جُمْلَةِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ فَإِنَّ هَلَاكَ فِئَةٍ كَامِلَةٍ شَدِيدَةِ الْقُوَّةِ وَالْمِرَّةِ أَمْرٌ عَجِيبٌ يُثِيرُ فِي النُّفُوسِ السُّؤَالَ:
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ تَذْيِيلٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْجُمْلَةِ الدَّلَالَةُ عَلَى عِظَمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَعِظَمِ عِلْمِهِ. وَقُدِّمَ وَصْفُ الْعَلِيمِ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ تَتَعَلَّقُ عَلَى وَفْقِ الْعِلْمِ، وَبِمِقْدَارِ سِعَةِ الْعِلْمِ يَكُونُ عِظَمُ الْقُدْرَةِ، فَضَعِيفُ الْقُدْرَةِ يَنَالُهُ تَعَبٌ مِنْ قُوَّةِ عِلْمِهِ لِأَنَّ هِمَّتَهُ تَدْعُوهُ إِلَى مَا لَيْسَ بِالنَّائِلِ، كَمَا قَالَ أَبُو الطَّيِّبِ:
وَإِذَا كَانَتِ النُّفُوسُ كِبَارًا تَعِبَتْ فِي مرادها الْأَجْسَام
[٧١]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧١]
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٧١)
هَذَا مِنْ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى أَنَّ التَّصَرُّفَ الْقَاهِرَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَذَلِكَ أَنَّهُ أَعْقَبَ الِاسْتِدْلَالَ بِالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ وَمَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَرَمٍ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالرِّزْقِ.
وَلَمَّا كَانَ الرِّزْقُ حَاصِلًا لِكُلِّ مَوْجُودٍ بُنِيَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى التَّفَاوُتِ فِيهِ بِخِلَافِ الِاسْتِدْلَالِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ [سُورَة النَّحْل: ٧٠].
وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى التَّصَرُّفِ الْقَاهِرِ أَنَّ الرِّزْقَ حَاصِلٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ وَأَنَّ تَفَاضُلَ النَّاسِ فِيهِ غَيْرُ جَارٍ عَلَى رَغَبَاتِهِمْ وَلَا عَلَى اسْتِحْقَاقِهِمْ فَقَدْ تَجِدُ أَكْيَسَ النَّاسِ وَأَجْوَدَهُمْ عَقْلًا وَفَهْمًا مُقَتَّرًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَبِضِدِّهِ تَرَى أَجْهَلَ النَّاسِ وَأَقَلَّهُمْ تَدْبِيرًا مُوَسَّعًا عَلَيْهِ فِي الرِّزْقِ، وَكِلَا الرَّجُلَيْنِ قد حصل لَهُ مَا حَصَلَ قَهْرًا عَلَيْهِ، فَالْمُقَتَّرُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ التَّقْتِيرِ، وَالْمُوَسَّعُ عَلَيْهِ لَا يَدْرِي أَسْبَابَ تَيْسِيرِ رِزْقِهِ، ذَلِك لِأَنَّ الْأَسْبَابَ كَثِيرَةٌ مُتَوَالِدَةٌ وَمُتَسَلْسِلَةٌ وَمُتَوَغِّلَةٌ فِي الْخَفَاءِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّ أَسْبَابَ الْأَمْرَيْنِ مَفْقُودَةٌ وَمَا هِيَ بِمَفْقُودَةٍ وَلَكِنَّهَا غَيْرُ مُحَاطٍ بِهَا. وَمِمَّا يُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ:
وَقَالَ مِثْلَهُ عَنْ هُودٍ وَصَالِحٍ، وَقَالَ عَنْ مُوسَى وَهَارُونَ، فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ [الْمُؤْمِنُونَ: ٤٨]، فَقَدِ ادَّخَرَ اللَّهُ لِرَسُولِهِ قَوَاطِعَ الْأَدِلَّةِ عَلَى إِبْطَالِ الشِّرْكِ وَشُبَهِ الضَّلَالَةِ بِمَا يُنَاسِبُ كَوْنَهُ خَاتَمَ الرُّسُلِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَئِسَ أَنْ يُعْبَدَ فِي أَرْضِكُمْ هَذِهِ وَلَكِنَّهُ قَدْ رَضِيَ أَنْ يُطَاعَ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ مِمَّا تَحْقِرُونَ مِنْ أَعْمَالِكُمْ».
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ إِلَخْ: أَنَّ اللَّهَ يُرْسِلُ الرَّسُولَ لِلْقَوْمِ من نوعهم للتمكين مِنْ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّ اتِّحَادَ النَّوْعِ هُوَ قِوَامُ تَيْسِيرِ الْمُعَاشَرَةِ، قَالَ تَعَالَى:
وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الْأَنْعَام: ٩]، أَيْ فِي صُورَةِ رَجُلٍ لِيُمْكِنَ التَّخَاطُبُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ.
وَجُمْلَةُ يَمْشُونَ وَصْفٌ لِ مَلائِكَةٌ.
ومُطْمَئِنِّينَ حَالٌ. وَالْمُطْمَئِنُّ: السَّاكِنُ. وَأُرِيدَ بِهِ هُنَا الْمُتَمَكِّنُ غَيْرُ الْمُضْطَرِبِ، أَيْ مَشْيُ قَرَارٍ فِي الْأَرْضِ، أَيْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ قَاطِنُونَ عَلَى الْأَرْضِ غَيْرُ نَازِلِينَ برسالة للرسل لنزلنا عَلَيْهِمْ مَلَكًا.
وَلَمَّا كَانَ الْمَشْيُ وَالِاطْمِئْنَانُ فِي الْأَرْضِ مِنْ صِفَةِ الْإِنْسَانِ آلَ الْمَعْنَى إِلَى: لَوْ كُنْتُمْ مَلَائِكَةً لَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا فَلَمَّا كُنْتُمْ بَشَرًا أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ.
وَمَجِيءُ الْهُدَى هُوَ دَعْوَةُ الرُّسُلِ إِلَى الْهدى.
[٩٦]
[سُورَة الْإِسْرَاء (١٧) : آيَة ٩٦]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
بَعْدَ أَنْ خَصَّ الله مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَلْقِينِ الْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ لِلضَّلَالَةِ أَرْدَفَ ذَلِكَ بِتَلْقِينِهِ أَيْضًا مَا لَقَّنَهُ الرُّسُلَ السَّابِقِينَ مِنْ تَفْوِيضِ الْأَمْرِ إِلَى اللَّهِ
أَنْ يَجْعَلَهُ مُعِينًا لَهُ فِي أَعْمَالِهِ، وَسَأَلَهُ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ بِأَنْ يَكُونَ شَرِيكًا لِمُوسَى فِي أَمْرِهِ، أَيْ أَمْرِ رِسَالَتِهِ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِصِيغَةِ الْمُتَكَلِّمِ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَقْطُوعَةِ- فِي «أَشْدُدْ» - وَبِضَمِّ هَمْزَةِ- «أُشْرِكْهُ»، فَالْفِعْلَانِ إِذَنْ مَجْزُومَانِ فِي جَوَابِ الدُّعَاءِ كَمَا جَزَمَ يَفْقَهُوا قَوْلِي.
وهارُونَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِفِعْلِ اجْعَلْ، قُدِّمَ عَلَيْهِ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِلِاهْتِمَامِ.
وَالشَّدُّ: الْإِمْسَاكُ بِقُوَّةٍ.
وَالْأَزْرُ: أَصْلُهُ الظَّهْرُ. وَلَمَّا كَانَ الظَّهْرُ مَجْمَعَ حَرَكَةِ الْجِسْمِ وَقِوَامَ اسْتِقَامَتِهِ أُطْلِقَ اسْمُهُ عَلَى الْقُوَّةِ إِطْلَاقًا شَائِعًا يُسَاوِي الْحَقِيقَةَ فَقِيلَ الْأَزْرُ لِلْقُوَّةِ.
وَقِيلَ: آزَرَهُ إِذَا أَعَانَهُ وَقَوَّاهُ. وَسُمِّيَ الْإِزَارُ إِزَارًا لِأَنَّهُ يُشَدُّ بِهِ الظَّهْرُ، وَهُوَ فِي الْآيَةِ مُرَادٌ بِهِ الظَّهْرُ لِيُنَاسِبَ الشَّدَّ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ تَمْثِيلًا لِهَيْئَةِ الْمُعِينِ وَالْمُعَانِ بِهَيْئَةِ مَشْدُودِ الظَّهْرِ بِحِزَامٍ وَنَحْوِهِ وَشَادِّهِ.
وَعَلَّلَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ سُؤَالَهُ تَحْصِيلَ مَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ وَلِأَخِيهِ، بِأَنْ يُسَبِّحَا اللَّهَ كَثِيرًا وَيَذْكُرَا اللَّهَ كَثِيرًا. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا سَأَلَهُ لِنَفْسِهِ تَسْهِيلًا لِأَدَاءِ الدَّعْوَةِ بِتَوَفُّرِ آلَاتِهَا وَوُجُودِ الْعَوْنِ عَلَيْهَا، وَذَلِكَ مَظِنَّةُ تَكْثِيرِهَا.
وَأَيْضًا فِيمَا سَأَلَهُ لِأَخِيهِ تَشْرِيكَهُ فِي الدَّعْوَةِ وَلَمْ يَكُنْ لِأَخِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَذَلِكَ يَجْعَلُ مِنْ أَخِيهِ مُضَاعَفَةً لِدَعْوَتِهِ، وَذَلِكَ يَبْعَثُ أَخَاهُ أَيْضًا عَلَى الدَّعْوَةِ. وَدَعْوَةُ كُلٍّ مِنْهُمَا تَشْتَمِلُ عَلَى التَّعْرِيفِ بِصِفَاتِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ فَهِيَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَفِي الدَّعْوَةِ حَثٌّ عَلَى الْعَمَلِ بِوَصَايَا
وَمَعْنَى اطْمَأَنَّ: اسْتَقَرَّ وَسَكَنَ فِي مَكَانِهِ. وَمَصْدَرُهُ الِاطْمِئْنَانُ وَاسْمُ الْمَصْدَرِ الطُّمَأْنِينَةُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي فِي [سُورَةِ الْبَقَرَةِ: ٢٦٠].
وَالْمَعْنَى: اسْتَمَرَّ عَلَى التَّوْحِيدِ فَرِحًا بِالْخَيْرِ الَّذِي أَصَابَهُ، وَاسْتِقْرَارُ مِثْلِ هَذَا عَلَى الْإِيمَانِ يُصَيِّرُهُ مُؤْمِنًا إِذَا زَالَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ. وَحَالُ هَؤُلَاءِ قَرِيبٌ مِنْ حَالِ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ.
وَالِانْقِلَابُ: مُطَاوِعٌ قَلَبَهُ إِذَا كَبَّهُ، أَيْ أَلْقَاهُ عَلَى عَكْسِ مَا كَانَ عَلَيْهِ بِأَنْ جَعَلَ مَا كَانَ أَعْلَاهُ أَسْفَلَهُ كَمَا يُقْلَبُ الْقَالَبُ- بِفَتْحِ اللَّامِ-. فَالِانْقِلَابُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ. وَتَفْسِيرُنَا الِانْقِلَابَ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ عَلى وَجْهِهِ أَيْ سَقَطَ وَانْكَبَّ عَلَيْهِ، كَقَوْلِ امْرِئِ الْقَيْسِ:
يَكُبُّ عَلَى الْأَذْقَانِ دَوْحَ الْكَنَهْبَلِ
وَكَقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ»
. وَحَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ ظَاهِرٌ وَهُوَ أَيْضًا الْمُلَائِمُ لِتَمْثِيلِ أَوَّلِ حَالِهِ بِحَالِ مَنْ هُوَ عَلَى حَرْفٍ.
وَيُطْلَقُ الِانْقِلَابُ كَثِيرًا عَلَى الِانْصِرَافِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَتَاهَا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ وَبِهِ فَسَّرَ الْمُفَسِّرُونَ. وَلَا يُنَاسِبُ اعْتِبَارُهُ هُنَا لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ فِيهِ:
انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ [الْبَقَرَة: ١٤٣] إِذِ الرُّجُوعُ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ الْوَجْهِ.
وَالْفِتْنَةُ: اضْطِرَابُ الْحَالِ وَقَلَقُ الْبَالِ مِنْ حُدُوثِ شَرٍّ لَا مَدْفَعَ لَهُ، وَهِيَ مُقَابِلُ الْخَيْرِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ سُكُوتَ الْآيَةِ عَنِ الْعَمِّ وَالْخَالِ لَيْسَ لِمُخَالَفَةِ حُكْمِهِمَا حُكْمَ بَقِيَّةِ الْمَحَارِمِ وَلَكِنَّهُ اقْتِصَارٌ عَلَى الَّذِينَ تَكْثُرُ مُزَاوَلَتُهُمْ بَيْتَ الْمَرْأَةِ، فَالتَّعْدَادُ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ. وَيَلْحَقُ بِهَؤُلَاءِ الْقَرَابَةِ مَنْ كَانَ فِي مَرَاتِبِهِمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ
لقَوْل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنَ النَّسَبِ»
. وَجَزَمَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ، وَلَمْ أَرَ فِيهِ قَوْلًا لِلْمَالِكِيَّةِ. وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ فِيهِمْ مِنَ الرُّخْصَةِ مَا فِي مَحَارِمِ النَّسَبِ وَالصِّهْرِ.
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ.
الضَّرْبُ بِالْأَرْجُلِ إِيقَاعُ الْمَشْيِ بِشِدَّةٍ كَقَوْلِهِ: يَضْرِبُ فِي الْأَرْضِ.
رَوَى الطَّبَرِيُّ عَنْ حَضْرَمِيٍّ: أَنَّ امْرَأَةً اتَّخَذَتْ بُرَتَيْنِ (تَثْنِيَةُ بُرَةٍ بِضَمِّ الْبَاءِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ الْمَفْتُوحَةِ ضَرْبٌ مِنَ الْخَلْخَالِ) مِنْ فِضَّةٍ وَاتَّخَذَتْ جَزْعًا فِي رِجْلَيْهَا فَمَرَّتْ بِقَوْمٍ فَضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا فَوَقَعَ الْخَلْخَالُ عَلَى الْجَزَعِ فَصَوَّتَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
وَالتَّحْقِيقُ أَنَّ مِنَ النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ إِذَا لَبِسْنَ الْخَلْخَالَ ضَرَبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ فِي الْمَشْيِ بِشِدَّةٍ لِتُسْمَعَ قَعْقَعَةُ الْخَلَاخِلِ غَنَجًا وَتَبَاهِيًا بِالْحُسْنِ فَنَهَيْنَ عَنْ ذَلِكَ مَعَ النَّهْيِ عَنْ إِبْدَاءِ الزِّينَةِ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: سَمَاعُ هَذِهِ الزِّينَةِ أَشَدُّ تَحْرِيكًا لِلشَّهْوَةِ مِنَ النَّظَرِ لِلزِّينَةِ فَأَمَّا صَوْتُ الْخَلْخَالِ الْمُعْتَادُ فَلَا ضَيْرَ فِيهِ.
وَفِي أَحَادِيثِ ابْنِ وَهْبٍ مِنْ «جَامِعِ الْعَتَبِيِّةِ» : سُئِلَ مَالِكٌ عَنِ الَّذِي يَكُونُ فِي أَرْجُلِ
النِّسَاءِ مِنَ الْخَلَاخِلِ قَالَ: «مَا هَذَا الَّذِي جَاءَ فِيهِ الْحَدِيثُ وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ». قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «شَرْحِهِ» : أَرَادَ أَنَّ الَّذِي يَحْرُمُ إِنَّمَا هُوَ أَنْ يَقْصِدْنَ فِي مَشْيِهِنَّ إِلَى إِسْمَاعِ قَعْقَعَةِ الْخَلَاخِلِ إِظْهَارًا بِهِنَّ مِنْ زِينَتِهِنَّ.
وَهَذَا يَقْتَضِي النَّهْيَ عَنْ كُلِّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذَكِّرَ الرَّجُلَ بِلَهْوِ النِّسَاءِ وَيُثِيرَ مِنْهُ إِلَيْهِنَّ مِنْ كُلِّ مَا يَرَى أَوْ يَسْمَعُ مِنْ زِينَةٍ أَوْ حَرَكَةٍ كَالتَّثَنِّي وَالْغِنَاءِ
وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
نَاسَبَ ذِكْرُ الظُّلْمِ أَنْ يَنْتَقِلَ مِنْهُ إِلَى وَعِيدِ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الْمُسْلِمِينَ بِالْأَذَى وَالشَّتْمِ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَشْعَارِهِمْ. وَجُعِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مَوْقِعِ التَّذْيِيلِ فَاقْتَضَتِ الْعُمُومَ فِي مُسَمَّى الظُّلْمِ الشَّامِلِ لِلْكُفْرِ وَهُوَ ظُلْمُ الْمَرْءِ نَفْسَهُ وَلِلْمَعَاصِي الْقَاصِرَةِ عَلَى النَّفْسِ كَذَلِكَ، وَلِلِاعْتِدَاءِ عَلَى حُقُوقِ النَّاسِ. وَقَدْ تَلَاهَا أَبُو بَكْرٍ فِي عَهْدِهِ إِلَى عُمَرَ بِالْخِلَافَةِ بَعْدَهُ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ لِلِاسْتِئْنَافِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ تحذير عَن غَمْصِ الْحُقُوقِ وَحَثٌّ عَنِ اسْتِقْصَاءِ الْجُهْدِ فِي النُّصْحِ لِلْأُمَّةِ وَهِيَ نَاطِقَةٌ بِأَهْيَبِ مَوْعِظَةٍ وَأَهْوَلِ وَعِيدٍ لِمَنْ تَدَبَّرَهَا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ حَرْفِ التَّنْفِيسِ الْمُؤْذِنِ بِالِاقْتِرَابِ، وَمِنَ اسْمِ الْمَوْصُولِ الْمُؤْذِنِ بِأَنَّ سُوءَ الْمُنْقَلَبِ يَتَرَقَّبُ الظَّالِمِينَ لِأَجْلِ ظُلْمِهِمْ، وَمِنَ الْإِبْهَامِ فِي قَوْلِهِ: أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ إِذْ تَرَكَ تَبْيِينَهُ بِعِقَابٍ مُعَيَّنٍ لِتَذْهَلَ نُفُوسُ الْمُوعَدِينَ فِي كُلِّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ مِنْ هَوْلِ الْمُنْقَلَبِ وَهُوَ عَلَى الْإِجْمَالِ مُنْقَلَبُ سُوءٍ.
وَالْمُنْقَلَبُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنَ الِانْقِلَابِ وَهُوَ الْمَصِيرُ وَالْمَآلُ، لِأَنَّ الِانْقِلَابَ هُوَ الرُّجُوعُ. وَفِعْلُ الْعِلْمِ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ بِوُجُودِ اسْمِ الِاسْتِفْهَامِ بَعْدَهُ. وَاسْمُ الِاسْتِفْهَامِ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِالنِّيَابَةِ عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الَّذِي أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَتَوَاعَظُونَ بِهَا وَيَتَنَاذَرُونَ شِدَّتَهَا.
أَبِي وَقَّاصٍ حِينَ أَسْلَمَ قَالَتْ لَهُ أُمُّهُ حَمْنَةُ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ يَا سَعْدُ بَلَغَنِي أَنَّك صَبَأت، فو الله لَا يُظِلُّنِي سَقْفُ بَيْتٍ، وَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ عَلَيَّ حَرَامٌ حَتَّى تَكْفُرَ بِمُحَمَّدٍ، وَبَقِيَتْ كَذَلِكَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَشَكَا سَعْدٌ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُدَارِيَهَا وَيَتَرَضَّاهَا بِالْإِحْسَانِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا أَسْلَمَ عَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيُّ وَهَاجَرَ مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَبْلَ هِجْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ أَبُو جَهْلٍ وَأَخُوهُ الْحَارِثُ وَكَانَا أَخَوَيْ عَيَّاشٍ لِأُمِّهِ فَنَزَلَا بِعَيَّاشٍ وَقَالَا لَهُ: إِنَّ مُحَمَّدًا يَأْمُرُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ وَقَدْ تَرَكْتَ أُمَّكَ وَأَقْسَمَتْ أَنْ لَا تَطْعَمَ وَلَا تَشْرَبَ وَلَا تَأْوِي بَيْتًا حَتَّى تَرَاكَ وَهِيَ أَشَدُّ حُبًّا لَكَ مِنْهَا لَنَا، فَاخْرُجْ مَعَنَا. فَاسْتَشَارَ عُمَرَ فَقَالَ عُمَرُ: هُمَا يَخْدَعَانِكَ، فَلَمْ يَزَالَا بِهِ حَتَّى عَصَى نَصِيحَةَ عُمَرَ وَخَرَجَ مَعَهُمَا. فَلَمَّا انْتَهَوْا إِلَى الْبَيْدَاءِ قَالَ أَبُو جَهْلٍ: إِنَّ نَاقَتِي كَلَّتْ فَاحْمِلْنِي مَعَكَ. قَالَ عَيَّاشٌ: نَعَمْ، وَنَزَلَ لِيُوَطِّئَ لِنَفْسِهِ وَلِأَبِي جَهْلٍ. فَأَخَذَاهُ وَشَدَّاهُ وِثَاقًا وَذَهَبَا بِهِ إِلَى أُمِّهِ فَقَالَتْ لَهُ: لَا تَزَالُ بِعَذَابٍ حَتَّى تَرْجِعَ عَنْ دِينِ مُحَمَّدٍ وَأَوْثَقَتْهُ عِنْدَهَا، فَقِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِهِمَا.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ قَوْلُهُ وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي إِلَى آخِرِهِ، وَإِنَّمَا افْتُتِحَتْ بِ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً لِأَنَّهُ كَالْمُقَدِّمَةِ لِلْمَقْصُودِ لِيُعْلَمَ أَنَّ الْوِصَايَةَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ لَا تَقْتَضِي طَاعَتَهُمَا فِي السُّوءِ وَنَحْوِهِ
لِقَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ»
(١). وَلِقَصْدِ تَقْرِيرِ حُكْمِ الْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ فِي كُلِّ حَالٍ إِلَّا فِي حَالِ الْإِشْرَاكِ حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ لِلْوَالِدَيْنِ وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِعِصْيَانِهِمَا إِذَا أَمَرَا بِالشِّرْكِ لِإِبْطَالِ قَوْلِ أَبِي جَهْلٍ: أَلَيْسَ مِنْ دِينِ مُحَمَّدٍ الْبَرُّ بِالْوَالِدَيْنِ وَنَحْوِهِ.
وَهَذَا مِنْ أَسَالِيبِ الْجَدَلِ وَهُوَ الَّذِي يُسَمَّى الْقَوْلَ بِالْمُوجِبِ وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاءِ النِّزَاعِ، وَمِنْهُ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١٠، ١١] فَعُلِمَ أَنَّهُ لَا تَعَارُضَ بَيْنَ
_________
(١) رَوَاهُ أَحْمد وَالْحَاكِم بِهَذَا اللَّفْظ. وَمَعْنَاهُ ثَابت فِي «الصَّحِيحَيْنِ» بِلَفْظ أطول.
الدُّنْيَا مِنْ تَأْثِيرِ الْأَسْبَابِ. وَلَمَّا كَانَ الْجَلَالُ يُشَبَّهُ بِالرِّفْعَةِ فِي مُسْتَعْمَلِ الْكَلَامِ شُبِّهَ الْمَصِيرُ إِلَى ذِي الْجَلَالِ بِانْتِقَالِ الذَّوَاتِ إِلَى الْمَكَانِ الْمُرْتَفِعِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي اللُّغَةِ بِالْعُرُوجِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر: ١٠]، أَيْ: يَرْفَعُهُ إِلَيْهِ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لِأَنَّ مَرْجِعَ الْأَشْيَاءِ إِلَى تَصَرُّفِهِ بَعْدَ صُدُورِهَا مِنْ لَدُنْهُ أَعْظَمُ وَأَعْجَبُ.
وَقَدْ أَفَادَ التَّرْكِيبُ أَنَّ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ مِنْ وَقْتِ خَلْقِهِمَا وَخَلْقِ مَا بَيْنَهُمَا يَسْتَقِرُّ عَلَى مَا دُبِّرَ عَلَيْهِ كُلٌّ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ حَالُ تَدْبِيرِهِ مِنِ اسْتِقْرَارِهِ، وَيَزُولُ بَعْضُهُ وَيَبْقَى بَعْضُهُ مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، ثُمَّ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ فَيَصِيرُ إِلَى اللَّهِ مَصِيرًا مُنَاسِبًا لِحَقَائِقِهِ فَالذَّوَاتُ تَصِيرُ مَصِيرَ الذَّوَاتِ وَالْأَعْرَاضُ وَالْأَعْمَالُ تَصِيرُ مَصِيرَ أَمْثَالِهَا، أَيْ:
يَصِيرُ وَصْفُهَا وَوَصْفُ أَصْحَابِهَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ وَتَقْدِيرِ الْجَزَاءِ، فَذَلِكَ الْمَصِيرُ هُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْعُرُوجِ إِلَى اللَّهِ فَيَكُونُ الْحِسَابُ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ يَوْمَئِذٍ.
وَالْيَوْمُ مِنْ قَوْلِهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ هُوَ الْيَوْمُ الَّذِي جَاءَ ذِكْرُهُ فِي آيَةِ سُورَةِ الْحَجِّ [٤٧] بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ وَمَعْنَى تَقْدِيرِهِ بِأَلْفِ سَنَةٍ: أَنَّهُ تَحْصُلُ فِيهِ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ فِي كَائِنَاتِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَا لَوْ كَانَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ لَكَانَ حُصُولُ مِثْلِهِ فِي أَلْفِ سَنَةٍ، فَلَكَ أَنْ تُقَدِّرَ ذَلِكَ بِكَثْرَةِ التَّصَرُّفَاتِ، أَوْ بِقَطْعِ الْمَسَافَاتِ، وَقَدْ فُرِضَتْ فِي ذَلِكَ عِدَّةُ احْتِمَالَاتٍ. وَالْمَقْصُودُ: التَّنْبِيهُ عَلَى عِظَمِ الْقُدْرَةِ وَسَعَةِ مَلَكُوتِ اللَّهِ وَتَدْبِيرِهِ. وَيَظْهَرُ أَنَّ هَذَا الْيَوْمَ هُوَ يَوْمُ السَّاعَةِ، أَيْ سَاعَةُ اضْمِحْلَالِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ، وَلَيْسَ الْيَوْمُ الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ الْمَعَارِجِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَلَمْ يُعَيِّنْ وَاحِدًا مِنْهُمَا، وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْقُرَّاءِ تَعْيِينُ أَحَدِ الْيَوْمَيْنِ وَلَكِنْ حُصُولُ الْعِبْرَةِ بِأَهْوَالِهِمَا.
وَقَوْلُهُ فِي يَوْمٍ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ فِعْلَيْ يُدَبِّرُ ويَعْرُجُ أَيْ يَحْصُلُ الْأَمْرَانِ فِي يَوْمٍ.
بِهَا مِنَ الْعَوَارِضِ فَجَعَلُوا مَا حَفَّ بِحَالِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ مِنْ وَفْرَةِ الْمَالِ وَالْوَلَدِ حُجَّةٍ عَلَى أَنَّهُمْ مَظِنَّةُ الْعِنَايَةِ عِنْدَ اللَّهِ وَأَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ. وَهَذَا تَعْرِيضٌ مِنْهُمْ بِعَكْسِ حَالِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ حَالَ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ، وَقِلَّةِ عَدَدِهِمْ، وَشَظَفِ عَيْشِهِمْ حُجَّةٌ عَلَى أَنَّهُمْ غَيْرُ مَحْظُوظِينَ عِنْدَ اللَّهِ، وَلَمْ يَتَفَطَّنُوا إِلَى أَنَّ أَحْوَالَ الدُّنْيَا مُسَبَّبَةٌ عَلَى أَسْبَابٍ دُنْيَوِيَّةٍ لَا عَلَاقَةَ لَهَا بِأَحْوَالِ الْأَوْلَادِ. وَهَذَا الْمَبْدَأُ الْوَهْمِيُّ السِّفُسْطَائِيُّ خَطِيرٌ فِي الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ الَّتِي كَانَتْ لِأَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ وَالْمُنْتَشِرَةِ عِنْدَ غَيْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَخْلُو الْمُسْلِمُونَ مِنْ قَرِيبٍ مِنْهَا فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ فِي الدِّينِ وَمَرْجِعُهَا إِلَى قِيَاسِ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ وَهُوَ قِيَاسٌ يُصَادِفُ الصَّوَابَ تَارَةً وَيُخْطِئُهُ تَارَاتٍ.
وَمِنْ أَكْبَرِ أَخْطَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْبَابِ خَطَأُ اللَّجَأِ إِلَى الْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ فِي أَعْذَارِهِمْ، وَخَطَأُ التَّخَلُّقِ بِالتَّوَكُّلِ فِي تَقْصِيرِهِمْ وَتَكَاسُلِهِمْ.
فَجُمْلَةُ وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ [سبأ: ٣١] الَخْ، وَقَوْلُهُمْ: وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كَالنَّتِيجَةِ لِقَوْلِهِمْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً، وَإِنَّمَا جِيءَ فِيهِ بِحَرْفِ الْعَطْفِ لِتَرْجِيحِ جَانِبِ الْفَائِدَةِ الْمُسْتَقِلَّةِ على جَانب الاستنتاج الَّذِي يومىء إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَهُ وَهُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَحَصَلَ مِنْ هَذَا النَّظْمِ اسْتِدْلَالٌ لِصِحَّةِ دِينِهِمْ وَلِإِبْطَالِ مَا جَاءَ بِهِ الْإِسْلَامُ ثُمَّ الِافْتِخَارِ بِذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَالضَّعَةِ لِجَانِبِ الْمُسْلِمِينَ بِإِشَارَةٍ إِلَى قِيَاسٍ اسْتِثْنَائِيٍّ بِنَاء عَلَى مُلَازَمَةٍ مَوْهُومَةٍ، وَكَأَنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِانْتِفَاءِ التَّعْذِيبِ عَلَى أَنَّهُمْ مُقَرَّبُونَ عِنْدَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى قِيَاسِ مُسَاوَاةٍ مَطْوِيٍّ فَكَأَنَّهُمْ حَصَرُوا وَسَائِلَ الْقُرْبِ عِنْدَ اللَّهِ فِي وَفْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ. وَلَوْلَا هَذَا التَّأْوِيل لخلت كِلْتَا الْجُمْلَتَيْنِ عَنْ أَهَمِّ مَعْنَيَيْهِمَا وَبِهِ يَكُونُ مَوْقِعُ الْجَوَابِ بِ قُلْ إِنَّ رَبِّي
يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ
أَشَدَّ اتِّصَالًا بِالْمَعْنَى، أَيْ قُلْ لَهُمْ: إِنَّ بَسْطَ الرِّزْقِ وَتَقْتِيرَهُ شَأْنٌ آخَرُ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ الْمَنُوطَةِ بِمَا قَدَّرَهُ فِي نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، أَيْ فَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرُّشْدِ وَالْغَيِّ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَلَوْ تَأَمَّلْتُمْ أَسْبَابَ الرِّزْقِ لَرَأَيْتُمُوهَا لَا تُلَاقِي أَسْبَابَ الْغَيِّ وَالِاهْتِدَاءِ، فَرُبَّمَا وَسَّعَ اللَّهُ الرِّزْقَ عَلَى الْعَاصِي وَضَيَّقَهُ عَلَى الْمُطِيعِ وَرُبَّمَا عَكَسَ فَلَا يُغْرَنَّهُمْ هَذَا وَذَاكَ فَإِنَّكُمْ لَا تَعْلَمُونَ.
وَهَذَا مَا جَعَلَ قَوْلَهُ: وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ مُصِيبًا الْمَحَزَّ، فَأَكْثَرُ النَّاسِ
أَثْبَتَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ، وَيَكُونُ نَفْيُ السَّمَاعِ كِنَايَةً عَنْ سَمَاعِ ضِدِّهِ وَهُوَ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدُوا بِ الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ الْمِلَّةَ الَّتِي هُمْ عَلَيْهَا وَيَكُونُ إِشَارَةً إِلَى قَوْلِ مَلَأِ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ فِي حِينِ احْتِضَارِهِ حِينَ
قَالَ لَهُ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَمِّ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ. فَقَالُوا لَهُ جَمِيعًا: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ»
. فَقَوْلُهُمْ: فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِمْرَارِ انْتِفَاءِ هَذَا إِلَى الزَّمَنِ الْأَخِيرِ فَيَعْلَمُ أَنَّ انْتِفَاءَهُ فِي مِلَّتِهِمُ الْأَوْلَى بِالْأَحْرَى.
وَجُمْلَةُ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ مَا سَمِعْنا بِهذا وَهَذَا هُوَ الْمُتَحَصَّلُ مِنْ كَلَامِهِمُ الْمَبْدُوءِ بِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ كَالْفَذْلَكَةِ لِكَلَامِهِمْ.
وَالِاخْتِلَاقُ: الْكَذِبُ الْمُخْتَرَعُ الَّذِي لَا شُبْهَة لقائله.
[٨]
[سُورَة ص (٣٨) : آيَة ٨]
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (٨)
أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا.
يجوز أَن يكون أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا مِنْ كَلَامِ عُمُومِ الْكَافِرِينَ الْمَحْكِيِّ بِقَوْلِهِ: وَقالَ الْكافِرُونَ هَذَا ساحِرٌ كَذَّابٌ [ص: ٤] فَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً [ص: ٥] وَيَكُونُ قَوْلُهُ أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ بَيَانًا لجملة كَذَّابٌ [ص: ٤]، لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ: هَذَا كَذَّابٌ إِذْ هُوَ خَبَرٌ ثَانٍ لِ (كَانَ)، وَلِكَوْنِهِ بَيَانًا لِلَّذِي قَبْلَهُ لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ قَوْلِهِ: وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ [ص: ٦] إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلاقٌ [ص: ٧] اعْتِرَاضًا بَيْنَ جُمْلَتَيِ الْبَيَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ تَمَامِ كَلَامِ الْمَلَأِ وَاسْتُغْنِيَ بِهِ عَنْ بَيَانِ جُمْلَةِ كَذَّابٌ لِأَنَّ نُطْقَ الْمَلَأِ بِهِ كَافٍ فِي قَوْلِ الْآخَرِينَ بِمُوجَبِهِ فَاسْتَغْنَوْا عَنْ بَيَانِ جُمْلَةِ كَذَّابٌ.
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَمَنَاطُ الْإِنْكَارِ هُوَ الظَّرْفُ مِنْ بَيْنِنا وَهُوَ فِي مَوْضِعِ حَالٍ مِنْ
ضَمِيرِ عَلَيْهِ، فَأَنْكَرُوا أَنْ يخص مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِرْسَالِ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْهُمْ، وَهَذَا هُوَ الْمَحْكِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] أَيْ مِنْ مَكَّةَ أَوِ الطَّائِفِ وَلَمْ يُرِيدُوا بِهَذَا الْإِنْكَارِ
قَوْلِ عُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ أَبُو قَتَادَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ «مَا شَأْنُ النَّاسِ» حِينَ انْهَزَمُوا وَفَرُّوا قَالَ عُمَرُ: «أَمْرُ اللَّهِ». وَفِي الْعُدُولِ عَنْ: إِذْنِ اللَّهِ، إِلَى أَمْرُ اللَّهِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ مَا سَيُظْهِرُهُ اللَّهُ مِنَ الْإِذْنِ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ آيَاتُ عِقَابٍ لِمُعَانِدِيهِ، فَمِنْهَا: آيَةُ الْجُوعِ سَبْعَ
سِنِينَ حَتَّى أَكَلُوا الْمَيْتَةَ، وَآيَةُ السَّيْفِ يَوْمَ بَدْرٍ إِذِ اسْتَأْصَلَ صَنَادِيدَ الْمُكَذِّبِينَ من أهل مَكَّة، وَآيَة السَّيْف يَوْم حنين إِذْ استأصل صَنَادِيد أَهْلِ الطَّائِفِ، وَآيَةُ الْأَحْزَابِ الَّتِي قَالَ الله عَنْهَا:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها [الْأَحْزَاب: ٩] ثُمَّ قَالَ: وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً [الْأَحْزَاب: ٢٥- ٢٧].
وَفِي إِيثَارِ قُضِيَ بِالْحَقِّ بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ: ظَهَرَ الْحَقُّ، أَوْ تَبَيَّنَ الصِّدْقُ، تَرْشِيحٌ لِمَا فِي قَوْلِهِ: أَمْرُ اللَّهِ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّهُ أَمْرُ انْتِصَافٍ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ أَيْ خَسِرَ الَّذِينَ جَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ.
وَالْخُسْرَانُ: مُسْتَعَارٌ لِحُصُولِ الضُّرِّ لِمَنْ أَرَادَ النَّفْعَ، كَخَسَارَةِ التَّاجِرِ الَّذِي أَرَادَ الرِّبْحَ فَذَهَبَ رَأْسُ مَالِهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦].
وهُنالِكَ أَصْلُهُ اسْمُ إِشَارَةٍ إِلَى الْمَكَانِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلْإِشَارَةِ إِلَى الزَّمَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِ (إِذَا) فِي قَوْلِهِ: فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ.
وَفِي هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ نُكْتَةٌ بَدِيعِيَّةٌ وَهِيَ الْإِيمَاءُ إِلَى أَنَّ الْمُبْطِلِينَ مِنْ قُرَيْشٍ سَتَأْتِيهِمُ الْآيَةُ فِي مَكَانٍ مِنَ الْأَرْضِ وَهُوَ مَكَانُ بَدْرٍ وَغَيْرُهُ مِنْ مَوَاقِعِ إِعْمَالِ السَّيْفِ فِيهِمْ
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ جاءَنا بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي قالَ عَائِدٌ إِلَى مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: ٣٦]، أَيْ قَالَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الَّذِي يعشو.
وَالْمعْنَى عَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ لِأَنَّ قِرَاءَةَ التَّثْنِيَةِ صَرِيحَةٌ فِي مَجِيءِ الشَّيْطَانِ مَعَ قَرِينِهِ الْكَافِرِ وَأَنَّ الْمُتَنَدِّمَ هُوَ الْكَافِرُ، وَالْقِرَاءَةُ بِالْإِفْرَادِ مُتَضَمِّنَةٌ مَجِيءَ الشَّيْطَانِ مِنْ قَوْلِهِ: يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ إِذْ عَلِمَ أَنَّ شَيْطَانَهُ الْقَرِينَ حَاضِرٌ مِنْ خِطَابِ الْآخَرِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ:
وَبَيْنَكَ. وَحَرْفُ يَا أَصْلُهُ لِلنِّدَاءِ، وَيُسْتَعْمَلُ لِلتَّلَهُّفِ كَثِيرًا كَمَا فِي قَوْلِهِ يَا حَسْرَةً [يس: ٣٠] وَهُوَ هُنَا لِلتَّلَهُّفِ وَالتَّنَدُّمِ.
وَالْمُشْرِقَانِ: الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ، غُلِّبَ اسْمُ الْمَشْرِقِ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ خُطُورًا بِالْأَذْهَانِ لِتَشَوُّفِ النُّفُوسِ إِلَى إِشْرَاقِ الشَّمْسِ بَعْدَ الْإِظْلَامِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ: إِمَّا مَكَانُ شُرُوقِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا فِي الْأُفُقِ، وَإِمَّا الْجِهَةُ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي تَبْدُو الشَّمْسُ مِنْهَا عِنْدَ شُرُوقِهَا وَتَغِيبُ مِنْهَا عِنْدَ غُرُوبِهَا فِيمَا يَلُوحُ لِطَائِفَةٍ مِنْ سُكَّانِ الْأَرْضِ. وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَهُوَ مَثَلٌ لِشِدَّةِ الْبُعْدِ. وَأُضِيفَ بُعْدَ إِلَى الْمَشْرِقَيْنِ بِالتَّثْنِيَةِ بِتَقْدِيرِ: بَعُدَ لَهُمَا، أَيْ مُخْتَصٌّ بِهِمَا بِتَأْوِيلِ الْبُعْدِ بِالتَّبَاعُدِ وَهُوَ إِيجَازٌ بَدِيعٌ حَصَلَ مِنْ صِيغَةِ التَّغْلِيبِ وَمِنَ الْإِضَافَةِ. وَمُسَاوَاتُهُ أَنْ يُقَالَ بُعْدَ الْمَشْرِقِ مِنَ الْمَغْرِبِ وَالْمَغْرِبِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَنَابَتْ كَلِمَةُ الْمَشْرِقَيْنِ عَنْ سِتِّ كَلِمَاتٍ.
وَقَوْلُهُ فَبِئْسَ الْقَرِينُ، بَعْدَ أَنْ تَمَنَّى مُفَارَقَتَهُ فَرَّعَ عَلَيْهِ ذَمًّا فَالْكَافِرُ يَذُمُّ شَيْطَانَهُ الَّذِي كَانَ قَرِينًا، وَيُعَرِّضُ بِذَلِكَ لِلتَّفَصِّي مِنَ الْمُؤَاخَذَةِ، وَإِلْقَاءِ التَّبِعَةِ عَلَى الشَّيْطَانِ الَّذِي أَضَلَّهُ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا تَفْظِيعُ عَوَاقِبِ هَذِهِ الْمُقَارَنَةِ الَّتِي كَانَتْ شَغَفَ الْمُتَقَارِنِينَ، وَكَذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ مُقَارَنَةٍ على عمل سيئ الْعَاقِبَةِ. وَهَذَا مِنْ قِبَلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف: ٦٧].

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤٩- سُورَةُ الْحُجُرَاتِ
سُمِّيَتْ فِي جَمِيعِ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَالتَّفْسِيرِ سُورَةَ الْحُجُرَاتِ وَلَيْسَ لَهَا اسْمٌ غَيْرُهُ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا أَنَّهَا ذُكِرَ فِيهَا لَفْظُ الْحُجُرَاتِ. وَنَزَلَتْ فِي قِصَّةِ نِدَاءِ بَنِي تَمِيمٍ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَرَاءِ حُجُرَاتِهِ، فَعُرِفَتْ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ. وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ التَّأْوِيلِ، أَيْ مِمَّا نَزَلَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ، وَحَكَى السُّيُوطِيُّ فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا شَاذًّا أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ وَلَا يُعْرَفُ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ.
وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى [الحجرات: ١٣] الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ فِي يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ كَمَا سَيَأْتِي، وَلَمْ يُثْبِتْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ كَمَا سَيَأْتِي. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّورِ الْمُسْتَثْنَى بَعْضُ آيَاتِهَا. وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ بَعْدَ الْمِائَةِ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْمُجَادِلَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ التَّحْرِيمِ وَكَانَ نُزُولُ هَذِهِ السُّورَةِ سَنَةَ تِسْعٍ، وَأَوَّلُ آيِهَا فِي شَأْنِ وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ كَمَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات: ١] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ [الحجرات:
٤]. وَعَدَّ جَمِيعُ الْعَادِّينَ آيَهَا ثَمَانَ عَشْرَةَ آيَةً.
أَغْرَاضُ هَاتِهِ السُّورَةِ
تَتَعَلَّقُ أَغْرَاضُهَا بِحَوَادِثَ جَدَّتْ مُتَقَارِبَةً كَانَتْ سَبَبًا لِنُزُولِ مَا فِيهَا مِنْ أَحْكَامٍ وَآدَابٍ.
وَأَوَّلُهَا تَعْلِيمُ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْأَدَبِ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي
فَقَوْلُهُ: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفِ الْجُمْلَةُ عَلَى الَّتِي قَبِلَهَا. وَهَذَا بِشَارَةٌ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ
مُنْجَزُ وَعْدِهِ وَلَا يَزِيدُ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ إِلَّا غُرُورًا فَلَا يُعِيرُوهُ جَانِبَ اهْتِمَامِهِمْ وَأَخْذَ الْعُدَّةِ لِمُقَاوَمَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي نَحْوِ ذَلِكَ: وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا [الْأَنْفَال: ٤٤].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْجَمْعُ للْعهد، أَيِ الْجَمْعِ الْمَعْهُودِ مِنْ قَوْلِهِ: نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ وَالْمَعْنَى: سَيُهْزَمُ جَمْعُهُمْ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ النُّحَاةِ: اللَّامُ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ.
وَالْهَزْمُ: الْغَلْبُ، وَالسِّينُ لِتَقْرِيبِ الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ [آل عمرَان: ١٢]. وَبُنِيَ الْفِعْلُ لِلْمَجْهُولِ لِظُهُورِ أَنَّ الْهَازِمَ الْمُسْلِمُونَ.
ويُوَلُّونَ: يَجْعَلُونَ غَيْرَهُمْ يَلِيَ، فَهُوَ يَتَعَدَّى بِالتَّضْعِيفِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، وَقَدْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ هُنَا لِلْاِسْتِغْنَاءِ عَنْهُ إِذِ الْغَرَضُ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ إِذَا جَاءَ الْوَغَى يَفِرُّونَ وَيُوَلُّونَكُمُ الْأَدْبَارَ.
والدُّبُرَ: الظَّهْرُ، وَهُوَ مَا أَدْبَرَ، أَيْ كَانَ وَرَاءً، وَعَكْسُهُ الْقُبُلُ.
وَالْآيَةُ: إِخْبَارٌ بِالْغَيْبِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ هُزِمُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ يَوْمَئِذٍ، وَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ فِي جَمْعٍ آخَرَ وَهُوَ جَمْعُ الْأَحْزَابِ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ فَفَرُّوا بِلَيْلٍ كَمَا مَضَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ
وَقَدْ ثَبَتَ فِي «الصَّحِيحِ» أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا خَرَجَ لِصَفِّ الْقِتَالِ يَوْمَ بَدْرٍ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَبْلَ الْقِتَالِ، إِيمَاءً إِلَى تَحْقِيقِ وَعْدِ اللَّهِ بِعَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
وَأَفْرَدَ الدُّبُرَ، وَالْمُرَادُ الْجَمْعُ لِأَنَّهُ جِنْسٌ يَصْدُقُ بِالْمُتَعَدِّدِ، أَيْ يُوَلِّي كُلُّ أَحَدٍ مِنْهُمْ دُبُرَهُ، وَذَلِكَ لِرِعَايَةِ الْفَاصِلَةِ وَمُزَاوَجَةُ الْقَرَائِنِ، عَلَى أَنَّ انْهِزَامَ الْجَمْعِ انْهِزَامَةً وَاحِدَةً وَلِذَلِكَ الْجَيْشِ جِهَةُ تَوَلٍّ وَاحِدَةٌ. وَهَذَا الْهَزْمُ وَقَعَ يَوْمَ بَدْرٍ.
رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتْ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ جَعَلْتُ أَقُولُ: أَيُّ جَمْعٍ يُهْزَمُ؟ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(٤)
الْإِشَارَةُ إِلَى جَمِيعِ الْمَذْكُورِ مِنْ إرْسَال مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْآيَاتِ وَالتَّزْكِيَةِ وَتَعْلِيمِ الْكِتَابِ
وَالْحِكْمَةِ وَالْإِنْقَاذِ مِنَ الضَّلَالِ وَمِنْ إِفَاضَةِ هَذِهِ الْكَمَالَاتِ عَلَى الْأُمِّيِّينَ الَّذِينَ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ سَابِقَةُ عَلَمٍ وَلَا كِتَابٍ، وَمِنْ لِحَاقِ أُمَمِ آخَرِينَ فِي هَذَا الْخَبَرِ فَزَالَ اخْتِصَاصُ الْيَهُودِ بِالْكِتَابِ وَالشَّرِيعَةِ، وَهَذَا أجدع لأنفهم إِذْ حَالُوا أَنْ يَجِيءَ رَسُولٌ أُمِّيٌّ بِشَرِيعَةٍ إِلَى أُمَّةٍ أُمِّيَّةٍ فَضْلًا عَنْ أَنْ نَلْتَحِقَ بِأُمِّيَّةِ أُمَمٍ عَظِيمَةٍ كَانُوا أَمْكَنَ فِي الْمَعَارِفِ وَالسُّلْطَانِ.
وَقَالَ: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ [آل عمرَان: ١٣] يَخْتَصُّ بِهِ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ وَمُقَدِّمَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ [الْجُمُعَة: ٥] الْآيَات.
[٥]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ٥]
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥)
بَعْدَ أَنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ تَعَالَى آتَى فَضْلَهُ قَوْمًا أُمِّيِّينَ أَعْقَبَهُ بِأَنَّهُ قَدْ آتَى فَضْلَهُ أَهْلَ الْكِتَابِ فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدِ اقْتَنَعُوا مِنَ الْعِلْمِ بِأَنْ يَحْمِلُوا التَّوْرَاةَ دُونَ فَهْمٍ وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ ادِّخَارَ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ وَانْتِقَالَهَا مِنْ بَيْتٍ إِلَى بَيْتٍ كَافٍ فِي التَّبَجُّحِ بِهَا وَتَحْقِيرِ مَنْ لَمْ تَكُنِ التَّوْرَاةَ بِأَيْدِيهِمْ، فَالْمُرَادُ الْيَهُودُ الَّذِينَ قَاوَمُوا دَعْوَة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَظَاهَرُوا الْمُشْرِكِينَ.
وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ لِهَؤُلَاءِ مَثَلًا بِحَالِ حِمَارٍ يَحْمِلُ أَسْفَارًا لَا حَظَّ لَهُ مِنْهَا إِلَّا الْحَمْلُ دُونَ عِلْمٍ وَلَا فَهْمٍ.
ذَلِكَ أَنَّ عِلْمَ الْيَهُودِ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ أَدْخَلُوا فِيهِ مَا صَيَّرَهُ مَخْلُوطًا بِأَخْطَاءٍ وَضَلَالَاتٍ وَمُتَّبَعًا فِيهِ هَوَى نُفُوسِهِمْ وَمَا لَا يَعْدُو نَفْعَهُمُ الدُّنْيَوِيَّ وَلَمْ يَتَخَلَّقُوا بِمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْهُدَى وَالدُّعَاءِ إِلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَقَدْ كَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنَ الْعَهْدِ بِاتِّبَاعِ النَّبِيءِ الَّذِي يَأْتِي لِتَخْلِيصِهِمْ مِنْ رِبْقَةِ الضَّلَالِ فَهَذَا وَجْهُ ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَبِذَلِكَ كَانَتْ هِيَ كَالتَّتِمَّةِ لِمَا قَبْلَهَا. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ
الَّذِينَ كَانُوا يَزْعُمُونَ أَنَّ الْأَصْنَامَ تَشْفَعُ لَهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الْكَوَارِثَ يَعْنِي فِي الدُّنْيَا لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ، أَيْ كَمَا لَمْ تَنْصُرِ الْأَصْنَامُ عَبَدَتَهَا مِنْ قَوْمِ نُوحٍ كَذَلِكَ لَا تَنْصُرُكُمْ أَصْنَامُكُمْ.
وَضَمِيرُ يَجِدُوا عَائِدٌ إِلَى الظَّالِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح: ٢٤] وَكَذَلِكَ ضَمِيرُ لَهُمْ.
وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يَجِدُوا لِأَنْفُسِهِمْ أَنْصَارًا دُونَ عَذَاب الله.
[٢٦- ٢٧]
[سُورَة نوح (٧١) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (٢٦) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (٢٧)
عَطْفٌ عَلَى قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي [نوح: ٢١] أَعْقَبَهُ بِالدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِالْإِهْلَاكِ وَالِاسْتِئْصَالِ بِأَنْ لَا يُبْقِي مِنْهُمْ أَحَدًا، أَيْ لَا تُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا عَلَى الْأَرْضِ.
وَأُعِيدَ فِعْلُ قالَ لِوُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ أَقْوَالِ نُوحٍ بِجُمْلَةِ مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ [نوح: ٢٥] إِلَخْ، أَوْ بِهَا وَبِجُمْلَةِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا [نوح: ٢٤].
وَقُرِنَتْ بِوَاوِ الْعَطْفِ لِتَكُونَ مُسْتَقِلَّةً فَلَا تَتْبَعُ جُمْلَةَ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ دَعْوَةَ نُوحٍ حَصَلَتْ بَعْدَ شِكَايَتِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ عَصَوْنِي.
ودَيَّاراً: اسْمٌ مَخْصُوصٌ بِالْوُقُوعِ فِي النَّفْيِ يَعُمُّ كُلَّ إِنْسَانٍ، وَهُوَ اسْمٌ بِوَزْنِ فَيْعَالٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الدَّارِ فَعَيْنُهُ وَاوٌ لِأَنَّ عَيْنَ دَارٍ مُقَدَّرَةٌ وَاوًا، فَأَصْلُ دَيَّارٍ: دَيْوَارٍ فَلَمَّا اجْتَمَعَتِ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَاتَّصَلَتَا وَسَبَقَتْ إِحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتِ الْوَاوُ يَاءً ثُمَّ أُدْغِمَتْ فِي الْيَاءِ الزَّائِدَةِ كَمَا فُعِلَ بِسَيِّدٍ وَمَيِّتٍ، وَمَعْنَى دَيَّارٍ: مَنْ يَحُلُّ بِدَارِ الْقَوْمِ كِنَايَةً عَنْ إِنْسَانٍ.
وَنَظِيرُ (دَيَّارٍ) فِي الْعُمُومِ وَالْوُقُوعِ فِي النَّفْيِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَبْلَغَهَا ابْنُ السِّكِّيتِ فِي «إِصْلَاحِ الْمَنْطِقِ» إِلَى خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ، وَزَادَ كُرَاعُ النَّمْلِ سَبْعَةً فَبَلَغَتِ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ اسماء وَزَادَ ابْنُ مَالِكٍ فِي «التَّسْهِيلِ» سِتَّةً فَصَارَتْ ثَمَانِيَةً وَثَلَاثِينَ.
وَمِنْ أَشْهَرِهَا: آحَدٌ، وَدَيَّارٌ، وَعَرِّيبٌ، وَكُلُّهَا بِمَعْنَى الْإِنْسَانِ، وَلَفْظُ (بُدَّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْمُفَارَقَةُ.
وَفَاكِهِينَ اسْمُ فَاعِلِ فَاكَهَ، وَهُوَ مِنْ فَكِهِ مِنْ بَابِ فَرِحَ إِذَا مَزَحَ وَتَحَدَّثَ فَأَضْحَكَ، وَالْمعْنَى: فاكهين بالتحدث عَنِ الْمُؤْمِنِينَ، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فَاكِهِينَ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ مِنْ قَبِيلِ مُتَعَلِّقَاتِ الْأَفْعَالِ الْمَذْكُورَةِ مَعَهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَاكِهِينَ بِصِيغَة الْفَاعِل. وقرأه حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ «فَكِهِينَ» بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدِ الْفَاءِ عَلَى أَنَّهُ جَمْعُ فَكِهَ، وَهُوَ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ مِثْلَ فَارِحٍ وَفَرح. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُمَا لُغَتَانِ.
وَجُمْلَةُ: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ حَكَتْ مَا يَقُولُهُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا فِي الْمُؤْمِنِينَ إِذَا شَاهَدُوهُمْ أَيْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْأَذَى بِالْإِشَارَاتِ وَبِالْهَيْئَةِ وَبِسُوءِ الْقَوْلِ فِي غَيْبَتِهِمْ وَسُوءِ الْقَوْلِ إِعْلَانًا بِهِ عَلَى مَسَامِعِ الْمُؤْمِنِينَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْإِسْلَامِ إِلَى الْكُفْرِ، أَمْ كَانَ قَوْلًا يَقُولُهُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ إِذَا رَأَوُا الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَفْكَهُونَ بِالْحَدِيثِ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ فِي خَلَوَاتِهِمْ، وَبِذَلِكَ أَيْضًا فَارَقَ مَضْمُونُ هَذِه الْجُمْلَة مَضْمُون الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مَعَ مَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ عُمُومِ أَحْوَالِ رُؤْيَتِهِمْ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي حَالِ الْمُرُورِ بِهِمْ أَوْ مُشَاهَدَةً فِي مَقَرِّهِمْ.
وَمُرَادُهُمْ بِالضَّلَالِ: فَسَادُ الرَّأْيِ. لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَا يَعْرِفُونَ الضَّلَالَ الشَّرْعِيَّ، أَي هَؤُلَاءِ سيئوا الرَّأْيِ إِذِ اتَّبَعُوا الْإِسْلَامَ وَانْسَلَخُوا عَنْ قَوْمِهِمْ، وَفَرَّطُوا فِي نَعِيمِ الْحَيَاةِ طَمَعًا فِي نَعِيمٍ بَعْدَ الْمَوْتِ وَأَقْبَلُوا عَلَى الصَّلَاةِ وَالتَّخَلُّقِ بِالْأَخْلَاقِ الَّتِي يَرَاهَا الْمُشْرِكُونَ أَوْهَامًا وَعَنَتَا لِأَنَّهُمْ بِمَعْزِلٍ عَنْ مَقْدِرَةِ قَدْرِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ وَمَا هَمَّهُمْ إِلَّا التَّلَذُّذَ الْجُثْمَانِيَّ.
وَكَلِمَةُ إِذا
فِي كُلِّ جملَة من الْجمل الثَّلَاث ظرف متعلّق بِالْفِعْلِ الموَالِي لَهُ فِي كل جُمْلَةٍ.
وَلَمْ يُعَرِّجْ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى بَيَانِ مُفَادِ جُمْلَةِ: وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ مَعَ مَا قَبْلَهَا. وَقَالَ الْمَهَايِمِيُّ فِي «تبصرة الرحمان» :«وَإِذَا رَأَوْهُمْ يُؤْثِرُونَ الْكَمَالَاتِ الْحَقِيقِيَّةَ عَلَى الْحِسِّيَّةِ» فَقَدَّرَ مَفْعُولًا مَحْذُوفًا لِفِعْلِ رَأَوْهُمْ لِإِبْدَاءِ الْمُغَايَرَةِ بَيْنَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ وَمَضْمُونِ الْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا وَقَدْ عَلِمْتَ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ إِلَيْهِ وَلَقَدْ أَحْسَنَ
فِي التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ.


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
وَمِنَ الدَّلِيلِ عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ بُؤْسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الْأَحْمَقِ