أَحْوَالِهِمْ بِتَطْهِيرِهَا مِمَّا كَانَ سَبَبَ هَلَاكِ مَنْ قَبْلَهُمْ، فَكَانَ فِي ذِكْرِ قِصَصِ الْأُمَمِ تَوْسِيعٌ لِعِلْمِ الْمُسْلِمِينَ بِإِحَاطَتِهِمْ بِوُجُودِ الْأُمَمِ وَمُعْظَمِ أَحْوَالِهَا، قَالَ مُشِيرًا إِلَى غَفْلَتِهِمْ قَبْلَ الْإِسْلَامِ: وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ [إِبْرَاهِيم: ٤٥].
الْفَائِدَةُ السَّابِعَةُ:
تَعْوِيدُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَعْرِفَةِ سَعَةِ الْعَالِمِ وَعَظَمَةِ الْأُمَمِ وَالِاعْتِرَافِ لَهَا بِمَزَايَاهَا حَتَّى تُدْفَعَ عَنْهُمْ وَصْمَةُ الْغُرُورِ كَمَا وَعَظَهُمْ قَوْلُهُ تَعَالَى عَنْ قَوْمِ عَادٍ: وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً [فصلت: ١٥] فَإِذَا عَلِمَتِ الْأُمَّةُ جَوَامِعَ الْخَيْرَاتِ وَمُلَائِمَاتِ حَيَاةِ النَّاسِ تَطَلَّبَتْ كُلَّ مَا يَنْقُصُهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَالُ حَيَاتِهَا وَعَظَمَتِهَا.
الْفَائِدَةُ الثَّامِنَة:
أَن ينشىء فِي الْمُسْلِمِينَ هِمَّةَ السَّعْيِ إِلَى سِيَادَةِ الْعَالَمِ كَمَا سَادَهُ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِهِمْ لِيَخْرُجُوا مِنَ الْخُمُولِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ الْعَرَبُ إِذْ رَضُوا مِنَ الْعِزَّةِ بِاغْتِيَالِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا فَكَانَ مُنْتَهَى السَّيِّدِ مِنْهُمْ أَنْ يَغْنَمَ صُرَيْمَةً، وَمُنْتَهَى أَمَلُ الْعَامِّيِّ أَنْ يَرْعَى غُنَيْمَةً، وَتَقَاصَرَتْ هِمَمُهُمْ عَنْ تَطَلُّبِ السِّيَادَةِ حَتَّى آلَ بِهِمُ الْحَالُ إِلَى أَنْ فَقَدُوا عِزَّتَهُمْ فَأَصْبَحُوا كَالْأَتْبَاعِ لِلْفُرْسِ وَالرُّومِ، فَالْعِرَاقُ كُلُّهُ وَالْيَمَنُ كُلُّهُ وَبِلَادُ الْبَحْرَيْنِ تَبَعٌ لِسِيَادَةِ الْفُرْسِ، وَالشَّامُ وَمَشَارِفُهُ تَبَعٌ لِسِيَادَةِ الرُّومِ، وَبَقِيَ الْحِجَازُ وَنَجْدٌ لَا غُنْيَةَ لَهُمْ عَنِ الِاعْتِزَازِ بِمُلُوكِ الْعَجَمِ وَالرُّومِ فِي رِحْلَاتِهِمْ وَتِجَارَتِهِمْ.
الْفَائِدَةُ التَّاسِعَةُ:
مَعْرِفَةُ أَنَّ قُوَّةَ اللَّهِ تَعَالَى فَوْقَ كُلِّ قُوَّةٍ، وَأَنَّ اللَّهَ يَنْصُرُ مَنْ يَنْصُرُهُ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَخَذُوا بِوَسِيلَتَيِ الْبَقَاءِ: مِنَ الِاسْتِعْدَادِ وَالِاعْتِمَادِ سَلِمُوا مِنْ تَسَلُّطِ غَيْرِهِمْ عَلَيْهِمْ.
وَذِكْرُ الْعَوَاقِبِ الصَّالِحَةِ لِأَهْلِ الْخَيْرِ. وَكَيْفَ يَنْصُرُهُمُ اللَّهُ تَعَالَى كَمَا فِي قَوْلِهِ: فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ [الْأَنْبِيَاء: ٨٧، ٨٨].
الْفَائِدَةُ الْعَاشِرَةُ:
أَنَّهَا يَحْصُلُ مِنْهَا بِالتَّبَعِ فَوَائِدُ فِي تَارِيخِ التَّشْرِيعِ وَالْحَضَارَةِ وَذَلِكَ يَفْتِقُ أَذْهَانَ الْمُسْلِمِينَ لِلْإِلْمَامِ بِفَوَائِدِ الْمَدَنِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ مَا كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [يُوسُف: ٧٦] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ (دِينِ) بِكَسْرِ
الدَّالِ، أَيْ فِي شَرْعِ فِرْعَوْنَ يَوْمَئِذٍ، فَعَلِمْنَا أَنَّ شَرِيعَةَ الْقِبْطِ كَانَتْ تُخَوِّلُ اسْتِرْقَاقَ السَّارِقِ.
وَقَوْلِهِ: قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ [يُوسُف: ٧٩] يَدُلُّ عَلَى أَنَّ شَرِيعَتَهُمْ مَا كَانَتْ تُسَوِّغُ أَخْذَ الْبَدَلِ فِي الِاسْتِرْقَاقِ، وَأَنَّ الْحُرَّ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِوَجْهٍ مُعْتَبَرٍ.
وَنَعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٣٦]، فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ [الشُّعَرَاء: ٥٣]
وَالْكِتْمَانُ يَكُونُ بِإِلْغَاءِ الْحِفْظِ وَالتَّدْرِيسِ وَالتَّعْلِيمِ، وَيَكُونُ بِإِزَالَتِهِ مِنَ الْكِتَابِ أَصْلًا وَهُوَ ظَاهِرُهُ قَالَ تَعَالَى: وَتُخْفُونَ كَثِيراً [الْأَنْعَام: ٩١]، يَكُونُ بِالتَّأْوِيلَاتِ الْبَعِيدَةِ عَنْ مُرَادِ الشَّارِعِ لِأَنَّ إِخْفَاءَ الْمَعْنَى كِتْمَانٌ لَهُ، وَحَذْفُ مُتَعَلَّقِ يَكْتُمُونَ الدَّالِّ عَلَى الْمَكْتُومِ عَنْهُ لِلتَّعْمِيمِ أَيْ يَكْتُمُونَ ذَلِكَ عَنْ كُلِّ أَحَدٍ لِيَتَأَتَّى نِسْيَانُهُ وَإِضَاعَتُهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مُتَعَلِّقٌ بِ (يَكْتُمُونَ) وَذَكَرَ هَذَا الظَّرْفَ لِزِيَادَةِ التَّفْظِيعِ لِحَالِ الْكِتْمَانِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَتَمُوا الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مَعَ انْتِفَاءِ الْعُذْرِ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَوْ كَتَمُوا مَا لَمْ يُبَيَّنْ لَهُمْ لَكَانَ لَهُمْ بَعْضُ الْعُذْرِ أَنْ يَقُولُوا كَتَمْنَاهُ لِعَدَمِ اتِّضَاحِ مَعْنَاهُ فَكَيْفَ وَهُوَ قَدْ بُيِّنَ وَوَضَحَ فِي التَّوْرَاةِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلنَّاسِ لَامُ التَّعْلِيلِ أَيْ بَيَّنَّاهُ فِي الْكِتَابِ لِأَجْلِ النَّاسِ أَيْ أَرَدْنَا إِعْلَانَهُ وَإِشَاعَتَهُ أَيْ جَعَلْنَاهُ بَيِّنًا، وَفِي هَذَا زِيَادَةُ تَشْنِيعٍ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَتَوْهُ مِنَ الْكِتْمَانِ وَهُوَ أَنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ كِتْمَانًا لِلْحَقِّ وَحِرْمَانًا مِنْهُ هُوَ اعْتِدَاءٌ عَلَى مُسْتَحِقِّهِ الَّذِي جُعِلَ لِأَجْلِهِ فَفِعْلُهُمْ هَذَا تَضْلِيلٌ وَظُلْمٌ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي (النَّاسِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ لِأَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الشَّرَائِعَ لِهُدَى النَّاسِ كُلِّهِمْ وَهُوَ اسْتِغْرَاقٌ عُرْفِيٌّ أَيِ النَّاسِ الْمُشَرَّعِ لَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الَّذِينَ يَكْتُمُونَ وَسَّطَ اسْمَ الْإِشَارَةِ بَيْنَ اسْمِ إِنَّ وَخَبَرِهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ الْوَارِدَ بَعْدَ ذَلِكَ قَدْ صَارُوا أَحْرِيَاءَ بِهِ لِأَجْلِ تِلْكَ الصِّفَاتِ الَّتِي ذُكِرَتْ قَبْلَهُ بِحَيْثُ إِنَّ تِلْكَ الصِّفَاتِ جَعَلَتْهُمْ كَالْمُشَاهِدِينَ لِلسَّامِعِ فَأُشِيرَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَوْصَافِهِمْ، فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَفَادَتِ الْإِشَارَةُ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْأَوْصَافَ
هِيَ سَبَبُ الْحُكْمِ وَهُوَ إِيمَاءٌ لِلْعِلَّةِ عَلَى حَدِّ: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَاخْتِيرَ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ لِيَكُونَ أَبْعَثَ لِلسَّامِعِ عَلَى التَّأَمُّلِ مِنْهُمْ وَالِالْتِفَاتِ إِلَيْهِمْ أَوْ لِأَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ هُوَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالًا فِي كَلَامِهِمْ.
وَقَدِ اجْتَمَعَ فِي الْآيَة إِيمَان إِلَى وَجْهِ تَرَتُّبِ اللَّعْنِ عَلَى الْكِتْمَانِ وَهُمَا الْإِيمَاءُ بِالْمَوْصُولِ إِلَى وَجه بِنَاء الْخَبَر أَيْ عِلَّتِهِ وَسَبَبِهِ، وَالْإِيمَاءُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَحْرَوِيَّتِهِمْ بِذَلِكَ، فَكَانَ تَأْكِيدُ الْإِيمَاءِ إِلَى التَّعْلِيلِ قَائِمًا مُقَامَ التَّنْصِيصِ عَلَى الْعِلَّةِ.
وَلِأَنَّ قَوْلَهُ: فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ [الْبَقَرَة: ٢٧٠] قَدْ كَانَ قَوْلًا فَصْلًا فِي اعْتِبَارِ نِيَّاتِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَأَحْوَالِ مَا يُظْهِرُونَهُ مِنْهَا وَمَا يُخْفُونَهُ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ. فَهَذَا الِاسْتِئْنَافُ يَدْفَعُ تَوَهُّمًا مِنْ شَأْنِهِ تَعْطِيلُ الصَّدَقَاتِ وَالنَّفَقَاتِ، وَهُوَ أَنْ يُمْسِكَ الْمَرْءُ عَنْهَا إِذَا لَمْ يَجِدْ بُدًّا مِنْ ظُهُورِهَا فَيَخْشَى أَنْ يُصِيبَهُ الرِّيَاءُ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الصَّدَقاتِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، وَمَحْمَلُهُ عَلَى الْعُمُومِ فَيَشْمَلُ كُلَّ الصَّدَقَاتِ فَرْضَهَا وَنَفْلَهَا، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِمَوْقِعِ هَذِهِ الْآيَةِ عَقِبَ ذِكْرِ أَنْوَاعِ النَّفَقَاتِ.
وَجَاء الشَّرْط بإن فِي الصَّدَقَتَيْنِ لِأَنَّهَا أَصْلُ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ، وَلَا مُقْتَضًى لِلْعُدُولِ عَنِ الْأَصْلِ، إِذْ كِلْتَا الصَّدَقَتَيْنِ مُرْضٍ لِلَّهِ تَعَالَى، وَتَفْضِيلُ صَدَقَةِ السِّرِّ قَدْ وَفَى بِهِ صَرِيحُ قَوْلِهِ:
فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: فَنِعِمَّا أَصْلُهُ فَنِعْمَ مَا، فَأُدْغِمَ الْمِثْلَانِ وَكُسِرَتْ عَيْنُ نِعْمَ لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، وَمَا فِي مِثْلِهِ نَكِرَةٌ تَامَّةٌ أَيْ مُتَوَغِّلَةٌ فِي الْإِبْهَامِ لَا يُقْصَدُ وَصْفُهَا بِمَا يُخَصِّصُهَا، فَتَمَامُهَا مِنْ حَيْثُ عَدَمِ إِتْبَاعِهَا بِوَصْفٍ لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا وَاضِحَةُ الْمَعْنَى، وَلذَلِك تفسّر بِشَيْء. وَلَمَّا كَانَتْ كَذَلِكَ تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ التَّمْيِيزِ لِضَمِيرِ نِعْمَ الْمَرْفُوعِ الْمُسْتَتِرِ، فَالْقَصْدُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقَصْدِ إِلَى عَدَمِ التَّمْيِيزِ حَتَّى إِنَّ الْمُتَكَلِّمَ- إِذَا مَيَّزَ- لَا يُمَيِّزُ إِلَّا
بِمِثْلِ الْمُمَيَّزِ.
وَقَوْلُهُ هِيَ مَخْصُوصٌ بِالْمَدْحِ، أَيِ الصَّدَقَاتُ، وَقَدْ عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّهَا الصَّدَقَاتُ الْمُبْدَاةُ، بِقَرِينَةِ فِعْلِ الشَّرْطِ، فَلِذَلِكَ كَانَ تَفْسِيرُ الْمَعْنى فَنعما إبداؤهما.
وَقَرَأَ وَرَشٌ عَنْ نَافِعٍ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ فَنِعِمَّا- بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ مِنْ نِعْمَ مَعَ مِيمِ مَا-. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ النُّونِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ. وَقَرَأَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَاخْتِلَاسِ حَرَكَةِ الْعَيْنِ بَيْنَ الْكَسْرِ وَالسُّكُونِ. وَقَرَأَهُ أَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ النُّونِ وَسُكُونِ الْعَيْنِ مَعَ بَقَاءِ تَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَرُوِيَتْ هَذِهِ أَيْضًا عَنْ قَالُونَ وَأَبِي عَمْرٍو وَأَبِي بَكْرٍ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ تَفْضِيلٌ لِصَدَقَةِ السِّرِّ لِأَنَّ فِيهَا إِبْقَاءً عَلَى مَاءِ وَجْهِ الْفَقِيرِ، حَيْثُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرُ الْمُعْطِي.


وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، عَدَّ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ بِظِلِّهِ « وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ
فَأَقْبَلَ أَقْوَامٌ لِئَامٌ أَذِلَّةٌ يَعَضُّونَ من غيظ رُؤُوس الْأَبَاهِمِ
وَقَوْلُهُ: عَلَيْكُمُ عَلَى فِيهِ لِلتَّعْلِيلِ، وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ ضَمِيرُ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ مِنْ تَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِالذَّاتِ بِتَقْدِيرِ حَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَيْ عَلَى الْتِئَامِكُمْ وَزَوَالِ الْبَغْضَاءِ، كَمَا فَعَلَ شَاسُ بْنُ قَيْسٍ الْيَهُودِيُّ فَنَزَلَ فِيهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ [آل عمرَان: ١٠٠]، وَنَظِيرُ هَذَا التَّعْلِيقِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لِتَقْرَعِنَّ عَلَى السِّنِّ مِنْ نَدَمٍ إِذَا تَذَكَّرْتِ يَوْمًا بَعْضَ أَخْلَاقِي
ومِنَ الْغَيْظِ (مِنْ) لِلتَّعْلِيلِ. وَالْغَيْظُ: غَضَبٌ شَدِيدٌ يُلَازِمُهُ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ.
وَقَوْلُهُ: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ كَلَامٌ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ مُخَاطَبُونَ مُعَيَّنُونَ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ عَلَى الَّذِينَ يَعَضُّونَ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، وَهُمْ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ إِذَا خَلَوْا، فَلَا يُتَصَوَّرُ مُشَافَهَتُهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ وَلَكِنَّهُ كَلَامٌ قُصِدَ إِسْمَاعُهُ لِكُلِّ مَنْ يَعْلَمُ مِنْ نَفْسِهِ الِاتِّصَافَ بِالْغَيْظِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْخِطَابِ الَّذِي يُقْصَدُ بِهِ عُمُومُ كُلِّ مُخَاطَبٍ نَحْوَ: وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ [السَّجْدَة: ١٢].
وَالدُّعَاءُ عَلَيْهِمْ بِالْمَوْتِ بِالْغَيْظِ صَرِيحُهُ طَلَبُ مَوْتِهِمْ بِسَبَبِ غَيْظِهِمْ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ مُلَازَمَةِ الْغَيْظِ لَهُمْ طُولَ حَيَاتِهِمْ إِنْ طَالَتْ أَوْ قَصُرَتْ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ دَوَامِ سَبَبِ غَيْظِهِمْ، وَهُوَ حُسْنُ حَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَانْتِظَامُ أَمْرِهِمْ، وَازْدِيَادُ خَيْرِهِمْ، وَفِي هَذَا الدُّعَاءِ عَلَيْهِمْ بِلُزُومِ أَلَمِ الْغَيْظِ لَهُمْ، وَبِتَعْجِيلِ مَوْتِهِمْ بِهِ، وَكُلٌّ مِنَ الْمَعْنَيَيْنِ الْمُكَنِّي بِهِمَا مُرَادٌ هُنَا، وَالتَّكَنِّي بِالْغَيْظِ وَبِالْحَسَدِ عَنْ كَمَالِ الْمُغِيظِ مِنْهُ الْمَحْسُودِ مَشْهُورٌ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ: فُلَانٌ مُحَسَّدٌ، أَيْ هُوَ فِي حَالَةِ نِعْمَةٍ وَكَمَالٍ.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ وَمَا بَيْنَهَا كَالِاعْتِرَاضِ أَيْ أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْهِمْ وَهُوَ مُطْلِعُكَ عَلَى دَخَائِلِهِمْ.
وَعَلَى قُرْبَانِ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ مُرَادِفُ الْمَسِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: «فُلَانَةٌ لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ»، وَنَظِيرُهُ وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ [الْبَقَرَة: ٢٣٧]. وَالْمُلَامَسَةُ هُنَا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهَا ظَاهِرَهَا، وَهُوَ الْمُلَامَسَةُ بِمُبَاشَرَةِ الْيَدِ أَوْ بَعْضِ الْجَسَدِ جَسَدَ الْمَرْأَةِ،
فَيَكُونُ ذَكَرَ سَبَبًا ثَانِيًا مِنْ أَسْبَابِ الْوُضُوءِ الَّتِي تُوجِبُ التَّيَمُّمَ عِنْدَ فَقْدِ الْمَاءِ، وَبِذَلِكَ فَسَّرَهُ الشَّافِعِيُّ، فَجَعَلَ لَمْسَ الرَّجُلِ بِيَدِهِ جَسَدَ امْرَأَتِهِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ، وَهُوَ مَحْمَلٌ بَعِيدٌ، إِذْ لَا يَكُونُ لَمْسُ الْجَسَدِ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ وَإِنَّمَا الْوُضُوءُ مِمَّا يَخْرُجُ خُرُوجًا مُعْتَادًا. فَالْمَحْمَلُ الصَّحِيحُ أَنَّ الْمُلَامَسَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. وَتَعْدِيدُ هَذِهِ الْأَسْبَابِ لِجَمْعِ مَا يَغْلِبُ مِنْ مُوجِبَاتِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَالطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بِقَوْلِهِ آنِفًا وَلا جُنُباً لِأَنَّ ذَلِكَ ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْأَمْرِ بِالِاغْتِسَالِ، وَهَذَا ذُكِرَ فِي مَعْرِضِ الْإِذْنِ بِالتَّيَمُّمِ الرُّخْصَةِ. وَالْمَقَامُ مَقَامُ تَشْرِيعٍ يُنَاسِبُهُ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ وَجْهٌ لِذِكْرِهِ وَجِيهٌ. وَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ الشَّافِعِيِّ وَمَنْ تَابَعَهُ فَلَا يَكُونُ لِذِكْرِ سَبَبِ ثَانٍ مِنْ أَسْبَابِ الْوُضُوءِ كَبِيرُ أَهَمِّيَّةٍ. وَإِلَى هَذَا مَالَ الْجُمْهُورُ فَلِذَلِكَ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ الْوُضُوءُ مَنْ لَمْسِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ مَا لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ شَيْءٌ، إِلَّا أَنَّ مَالِكًا قَالَ: إِذَا الْتَذَّ اللَّامِسُ أَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ، وَحَمَلَ الْمُلَامَسَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَيَيْهَا الْكِنَائِيِّ وَالصَّرِيحِ، لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ الِالْتِذَاذِ، وَبِهِ قَالَ جَمْعٌ مِنَ السَّلَفِ، وَأَرَى مَالِكًا اعْتَمَدَ فِي هَذَا عَلَى الْآثَارِ الْمَرْوِيَّةِ عَنْ أَيِمَّةِ السَّلَفِ، وَلَا أُرَاهُ جَعْلَهُ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لامَسْتُمُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ لَمَسْتُمْ- بِدُونِ أَلِفٍ-.
وَقَوْلُهُ: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً عَطْفٌ عَلَى فِعْلِ الشَّرْطِ، وَهُوَ قَيْدٌ فِي الْمُسَافِرِ، وَمَنْ جَاءَ مِنَ الْغَائِط، وَمن لَا مس النِّسَاءَ، أمّا الْمَرِيضُ فَلَا يَتَقَيَّدُ تَيَمُّمُهُ بِعَدَمِ وِجْدَانِ الْمَاءِ لِأَنَّهُ يَتَيَمَّمُ مُطْلَقًا، وَذَلِكَ مَعْلُومٌ بِدَلَالَةِ مَعْنَى الْمَرَضِ، فَمَفْهُومُ الْقَيْدِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ مُعَطَّلٌ بِدَلَالَةِ الْمَعْنَى، وَلَا يَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنَ الْمَرِيضِ الزَّمِنِ، إِذْ لَا يُعْدَمُ الزَّمِنُ مُنَاوِلًا يُنَاوِلُهُ الْمَاءَ إِلَّا نَادِرًا.
وَقَوْلُهُ فَتَيَمَّمُوا جَوَابُ الشَّرْطِ- وَالتَّيَمُّمُ الْقَصْدُ- وَالصَّعِيدُ وَجْهُ الْأَرْضِ، قَالَ ذُو الرُّمَّةِ يَصِفُ خَشْفًا مِنْ بَقْرِ الْوَحْشِ نَائِمًا فِي الشَّمْسِ لَا يَكَادُ يُفِيقُ:
الصُّورَةِ، وَهِيَ عَكْسُ الَّتِي قَبْلَهَا. فَالتَّقْدِيرُ: وَيَرِثُ الْأُخْتَ امْرُؤٌ إِنْ هَلَكَتْ أُخْتُهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ. وَعُلِمَ مَعْنَى الْإِخْوَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ أُخْتٌ، وَهَذَا إِيجَازٌ بَدِيعٌ، وَمَعَ غَايَةِ إِيجَازِهِ فَهُوَ فِي غَايَةِ الْوُضُوحِ، فَلَا يُشْكِلُ بِأَنَّ الْأُخْتَ كَانَتْ وَارِثَةً لِأَخِيهَا فَكَيْفَ عَادَ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ بِأَنْ يَرِثَهَا أَخُوهَا الْمَوْرُوثُ، وَتَصِيرُ هِيَ مَوْرُوثَةً، لِأَنَّ هَذَا لَا يَفْرِضُهُ عَالِمٌ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يُتَوَهَّمُ ذَلِكَ
لَوْ وَقَعَ الهلك وَصفا لامرىء بِأَنْ قِيلَ: الْمَرْءُ الْهَالِكُ يَرِثُهُ وَارِثُهُ وَهُوَ يَرِثُ وَارِثَهُ إِنْ مَاتَ وَارِثُهُ قَبْلَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ رَشِيقٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا امْتِنَانٌ، وأَنْ تَضِلُّوا تَعْلِيلٌ لِ (يُبَيِّنُ) حُذِفَتْ مِنْهُ اللَّامُ، وَحَذْفُ الْجَارِّ مَعَ (أَنْ) شَائِعٌ. وَالْمَقْصُودُ التَّعْلِيلُ بِنَفْيِ الضَّلَالِ لَا لِوُقُوعِهِ لِأَنَّ الْبَيَانَ يُنَافِي التَّضْلِيلَ، فَحُذِفَتْ لَا النَّافِيَةُ، وَحَذْفُهَا مَوْجُودٌ فِي مَوَاقِعَ مِنْ كَلَامِهِمْ إِذَا اتَّضَحَ الْمَعْنَى، كَمَا وَرَدَ مَعَ فِعْلِ الْقَسَمِ فِي نَحْوِ:
فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أَنْ تُبَاعَا أَيْ أَنْ لَا تُبَاعَ، وَقَوْلِهِ:
آلَيْتُ حَبَّ الْعِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ وَهَذَا كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ:
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا فَعَجَّلْنَا الْقِرَى أَنْ تَشْتُمُونَا
أَيْ أَنْ لَا تَشْتُمُونَا بِالْبُخْلِ، وَهَذَا تَأْوِيلُ الْكُوفِيِّينَ، وَتَأَوَّلَ الْبَصْرِيُّونَ الْآيَةَ وَالْبَيْتَ وَنَظَائِرَهُمَا عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ هُوَ الْمَفْعُولُ لِأَجْلِهِ، أَيْ كَرَاهَةَ أَنْ تَضِلُّوا، وَبِذَلِكَ قَدَّرَهَا فِي «الْكَشَّافِ».
وَقَدْ جَعَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ أَنْ تَضِلُّوا مَفْعُولًا بِهِ لِ (يُبَيِّنُ) وَقَالَ: الْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ فِيمَا بَيَّنَهُ مِنَ الْفَرَائِضِ قَدْ بَيَّنَ لَكُمْ ضَلَالَكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَهَذَا بَعِيدٌ إِذْ لَيْسَ مَا فَعَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ضَلَالًا قَبْلَ مَجِيءِ الشَّرِيعَةِ، لِأَنَّ قِسْمَةَِِ
التَّصْرِيفِ أَنْ يَكُونَ (أَشْيَاءُ) جَمْعًا وَأَنَّ هَمْزَتَهُ الْأُولَى هَمْزَةٌ مَزِيدَةٌ لِلْجَمْعِ. إِلَّا أَنَّ (أَشْيَاءَ) وَرَدَ فِي الْقُرْآنِ هُنَا مَمْنُوعًا مِنَ الصَّرْفِ، فَتَرَدَّدَ أَئِمَّةُ اللُّغَةِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، وَأَمْثَلُ أَقْوَالِهِمْ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الْكِسَائِيِّ: إِنَّهُ لَمَّا كَثُرَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَلَامِ أَشْبَهَ (فَعْلَاءَ)، فَمَنَعُوهُ مِنَ الصَّرْفِ لِهَذَا الشَّبَهِ، كَمَا مَنَعُوا سَرَاوِيلَ مِنَ الصَّرْفِ وَهُوَ مُفْرَدٌ لِأَنَّهُ شَابَهَ صِيغَةَ الْجَمْعِ مِثْلَ مَصَابِيحَ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ وَسِيبَوَيْهِ: (أَشْيَاءُ) اسْمُ جَمْعِ (شَيْءٍ) وَلَيْسَ جَمْعًا، فَهُوَ مِثْلُ طَرْفَاءَ وَحَلْفَاءَ فَأَصْلُهُ شَيْئَاءُ، فَالْمَدَّةُ فِي آخِرِهِ مَدَّةُ تَأْنِيثٍ، فَلِذَلِكَ مُنِعَ مِنَ الصَّرْفِ، وَادَّعَى أَنَّهُمْ صَيَّرُوهُ أَشْيَاءَ بِقَلْبٍ مَكَانِيٍّ. وَحَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: شَيْئَاءُ بِوَزْنِ (فَعْلَاءَ) فَصَارَ بِوَزْنِ (لَفْعَاءَ).
وَقَوْلُهُ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ صِفَةُ أَشْياءَ، أَيْ إِنْ تَظْهَرْ لَكُمْ وَقَدْ أُخْفِيَتْ عَنْكُمْ يَكُنْ فِي إِظْهَارِهَا مَا يَسُوءُكُمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الْأَشْيَاءُ الْمَسْئُولُ عَنْهَا مِنْهَا مَا إِذَا ظَهَرَ سَاءَ مَنْ سَأَلَ عَنْهُ وَمِنْهَا مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَكَانَتْ قَبْلَ إِظْهَارِهَا غَيْرَ مُتَمَيِّزَةٍ كَانَ السُّؤَالُ عَنْ مَجْمُوعِهَا مُعَرَّضًا لِلْجَوَابِ بِمَا بَعْضُهُ يَسُوءُ، فَلَمَّا كَانَ هَذَا الْبَعْضُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ لِلسَّائِلِينَ كَانَ سُؤَالُهُمْ عَنْهَا سُؤَالًا عَنْ مَا إِذَا ظَهَرَ يَسُوءُهُمْ، فَإِنَّهُمْ سَأَلُوا فِي مَوْطِنٍ وَاحِدٍ أَسْئِلَةً مِنْهَا: مَا سَرُّهُمْ جَوَابُهُ، وَهُوَ سُؤَالُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حُذَافَةَ عَنْ أَبِيهِ فَأُجِيبَ بِالَّذِي يُصَدِّقُ نَسَبَهُ، وَمِنْهَا مَا سَاءَهُمْ جَوَابُهُ، وَهُوَ سُؤَالُ مَنْ سَأَلَ أَيْنَ أَبِي، أَوْ أَيْنَ أَنَا فَقِيلَ لَهُ: فِي النَّارِ، فَهَذَا يَسُوءُهُ لَا
مَحَالَةَ. فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ رُوعِيَ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ الْمَجْمُوعِ لِكَرَاهِيَةِ بَعْضِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا اسْتِئْنَاسُهُمْ لِلْإِعْرَاضِ عَنْ نَحْوِ هَذِهِ الْمَسَائِلِ، وَإِلَّا فَإِنَّ النَّهْيَ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِحَالِ مَا يَسُوءُهُمْ جَوَابُهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ عَفَا اللَّهُ عَنْها. لِأَنَّ الْعَفْوَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ ذَنْبٍ وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلصِّفَةِ هُنَا لِتَعَذُّرِ تَمْيِيزِ مَا يَسُوءُ عَمَّا لَا يَسُوءُ.
وَجُمْلَة وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَطْفٌ عَلَى جملَة لَا تَسْئَلُوا، وَهِيَ تُفِيدُ إِبَاحَةَ السُّؤَالِ عَنْهَا عَلَى الْجُمْلَةِ لقَوْله: وَإِنْ تَسْئَلُوا فَجَعَلَهُمْ مُخَيَّرِينَ فِي السُّؤَالِ عَنْ أَمْثَالِهَا، وَأَنَّ تَرْكَ السُّؤَالِ هُوَ الْأَوْلَى لَهُمْ، فَالِانْتِقَالُ إِلَى الْإِذْنِ رُخْصَةٌ وَتَوْسِعَةٌ، وَجَاءَ بِ إِنْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى تَرْكُ السُّؤَالِ عَنْهَا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي (إِنْ) أَنْ تَدُلَّ عَلَى أَنَّ الشَّرْطَ نَادِرُ الْوُقُوعِ أَوْ مَرْغُوبٌ عَنْ وُقُوعِهِ.
وَجُمْلَةُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ إِلَخْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْكَلَامِ، وَالتَّقْدِيرُ: نَقُولُ أَوْ قَائِلِينَ.
وَالْمَعْشَرُ: الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ أَمْرُهُمْ وَشَأْنُهُمْ وَاحِدٌ، بِحَيْثُ تَجْمَعُهُمْ صِفَةٌ أَوْ عَمَلٌ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ. وَهُوَ يُجْمَعُ عَلَى مَعَاشِرَ أَيْضًا، وَهُوَ بِمَعْنَاهُ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُعَاشَرَةِ وَالْمُخَالَطَةِ. وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُضَافَ الْمَعْشَرُ إِلَى اسْمٍ يُبَيِّنُ الصِّفَةَ الَّتِي اجْتَمَعَ مُسَمَّاهُ فِيهَا، وَهِيَ هُنَا صِفَةُ كَوْنِهُمْ جِنًّا، وَلِذَلِكَ إِذَا عُطِفَ عَلَى مَا يُضَافُ إِلَيْهِ كَانَ عَلَى
تَقْدِيرِ تَثْنِيَةِ مَعْشَرًا وَجَمْعِهِ: فَالتَّثْنِيَةُ نَحْوُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا [الرَّحْمَن: ٣٣] الْآيَةَ، أَيْ يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَيَا مَعْشَرَ الْإِنْسِ، وَالْجَمْعُ نَحْوُ قَوْلِكَ: يَا مَعَاشِرَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَالْبَرْبَرِ.
وَالْجِنُّ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٠٠]. وَالْمُرَادُ بِالْجِنِّ الشَّيَاطِينُ وَأَعْوَانُهُمْ مِنْ بَنِي جِنْسِهِمِ الْجِنِّ، وَالْإِنْسُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١١٢].
وَالِاسْتِكْثَارُ: شِدَّةُ الْإِكْثَارِ. فَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ للْمُبَالَغَة مثل الاستسلام وَالِاسْتِخْدَاعِ وَالِاسْتِكْبَارِ، وَيَتَعَدَّى بِمَنِ الْبَيَانِيَّةِ إِلَى الشَّيْءِ الْمُتَّخَذِ كَثِيرُهُ، يُقَالُ: اسْتَكْثَرَ مِنَ النِّعَمِ أَوْ مِنَ الْمَالِ، أَيْ أَكثر من جَمعهمَا، وَاسْتَكْثَرَ الْأَمِيرُ مِنَ الْجُنْدِ، وَلَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ تَفْرِقَةً بَيْنَ هَذَا الْمَعْنَى وَبَيْنَ اسْتَكْثَرَ الَّذِي بِمَعْنَى عَدَّ الشَّيْءَ كثيرا، كَقَوْلِه تَعَالَى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر: ٦].
وَقَوْلُهُ: اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، تَقْدِيره: مِنْ إِضْلَالِ الْإِنْسِ، أَوْ مِنْ إِغْوَائِهِمْ، فَمَعْنَى اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أَكْثَرْتُمْ مِنَ اتِّخَاذِهِمْ، أَيْ مِنْ جَعْلِهِمْ أَتْبَاعًا لَكُمْ، أَيْ تَجَاوَزْتُمُ الْحَدَّ فِي اسْتِهْوَائِهِمْ وَاسْتِغْوَائِهِمْ، فَطَوَّعَتُمْ مِنْهُمْ كَثِيرًا جِدًّا.
وَعَطْفُ جُمْلَةِ: وَأَقُلْ لَكُما عَلَى جُمْلَةِ: أَنْهَكُما لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّوْبِيخِ، لِأَنَّ النَّهْيَ كَانَ مَشْفُوعًا بِالتَّحْذِيرِ مِنَ الشَّيْطَانِ الَّذِي هُوَ الْمُغْرِي لَهُمَا بِالْأَكْلِ مِنَ الشَّجَرَةِ، فَهُمَا قَدْ أَضَاعَا وَصِيَّتَيْنِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ حِكَايَةِ هَذَا الْقَوْلِ هُنَا تَذْكِيرُ الْأُمَّةِ بِعَدَاوَةِ الشَّيْطَانِ لِأَصْلِ نَوْعِ الْبَشَرِ، فَيَعْلَمُوا أَنَّهَا عَدَاوَةٌ بَيْنَ النَّوْعَيْنِ، فَيَحْذَرُوا مِنْ كُلِّ مَا هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى الشَّيْطَانِ وَمَعْدُودٌ مِنْ وَسْوَسَتِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا جُبِلَ على الْخبث والخري كَانَ يَدْعُو إِلَى ذَلِك بطبعه وَكَانَ لَا يَهْنَأُ لَهُ بَالٌ مَا دَامَ عَدُوُّهُ وَمَحْسُودُهُ فِي حَالَةٍ حَسَنَةٍ.
وَالْمُبِينُ أَصْلُهُ الْمُظْهِرُ، أَيْ لِلْعَدَاوَةِ بِحَيْثُ لَا تَخْفَى عَلَى مَنْ يَتَتَبَّعُ آثَارَ وَسْوَسَتِهِ وَتَغْرِيرِهِ، وَمَا عَامَلَ بِهِ آدَمَ مِنْ حِينِ خَلْقِهِ إِلَى حِينِ غُرُورِهِ بِهِ فَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِبَانَةٌ عَنْ عَدَاوَتِهِ، وَوَجْهُ تِلْكَ الْعَدَاوَةِ أَنَّ طَبْعَهُ يُنَافِي مَا فِي الْإِنْسَانِ مِنَ الْكَمَالِ الْفِطْرِيِّ الْمُؤَيَّدِ بِالتَّوْفِيقِ وَالْإِرْشَادِ الْإِلَهِيِّ، فَلَا يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِنْسَانُ إِلَّا فِي حَالَةِ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُبِينُ مُسْتَعْمَلًا مَجَازًا فِي الْقَوِيِّ الشَّدِيدِ لِأَنَّ شَأْنَ الْوَصْفِ الشَّدِيدِ أَنْ يَظْهَرَ لِلْعِيَانِ.
وَقَدْ قَالَا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا اعْتِرَافًا بِالْعِصْيَانِ، وَبِأَنَّهُمَا عَلِمَا أَنَّ ضُرَّ الْمَعْصِيَةِ عَادَ عَلَيْهِمَا، فَكَانَا ظَالِمَيْنِ لِأَنْفُسِهِمَا إِذْ جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا الدُّخُولَ فِي طَوْرِ ظُهُورِ السَّوْآتِ، وَمَشَقَّةِ اتِّخَاذِ مَا يَسْتُرُ عَوْرَاتِهِمَا، وَبِأَنَّهُمَا جَرَّا عَلَى أَنْفُسِهِمَا غَضَبَ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُمَا فِي تَوَقُّعِ حُقُوقِ الْعَذَابِ، وَقَدْ جَزَمَا بِأَنَّهُمَا يَكُونَانِ مِنَ الْخَاسِرِينَ إِنْ لَمْ يَغْفِرِ اللَّهُ لَهُمَا، إِمَّا بِطَرِيقِ الْإِلْهَامِ أَوْ نَوْعٍ مِنَ الْوَحْيِ، وَإِمَّا بِالِاسْتِدْلَالِ على العواقب بالمبادىء، فَإِنَّهُمَا رَأَيَا من الْعِصْيَان بوادىء الضُّرِّ وَالشَّرِّ، فَعَلِمَا أَنَّهُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَمِنْ مُخَالَفَةِ وِصَايَتِهِ، وَقَدْ أَكَّدَا جُمْلَةَ جَوَابِ الشَّرْطِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ إِظْهَارًا لِتَحْقِيقِ الْخُسْرَانِ اسْتِرْحَامًا وَاسْتِغْفَارًا مِنَ الله تَعَالَى.
[٢٤]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٢٤]
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
وَ (أَلا) حَرْفُ اسْتِفْتَاحٍ يُفِيدُ الِاهْتِمَامَ بِالْخَبَرِ الْوَارِدِ بَعْدَهُ. تَعْلِيمًا لِلْأُمَّةِ، وَتَعْرِيضًا بِمُشْرِكِي الْعَرَبِ.
وَالطَّائِرُ: اسْمٌ لِلطَّيْرِ الَّذِي يُثَارُ لِيُتَيَمَّنَ بِهِ أَوْ يُتَشَاءَمَ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِلسَّبَبِ الْحَقِّ لِحُلُولِ
الْمَصَائِبِ بِهِمْ بِعَلَاقَةِ الْمُشَاكَلَةِ لِقَوْلِهِ: يَطَّيَّرُوا فَشُبِّهَ السَّبَبُ الْحَقُّ، وَهُوَ مَا اسْتَحَقُّوا بِهِ الْعَذَابَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ بِالطَّائِرِ.
وعِنْدَ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّصَرُّفِ مَجَازًا لِأَنَّ الشَّيْءَ الْمُتَصَرَّفَ فِيهِ كَالْمُسْتَقِرِّ فِي مَكَانٍ، أَيْ: سَبَبُ شُؤْمِهِمْ مُقَدَّرٌ مِنَ اللَّهِ، وَهَذَا كَمَا وَقَعَ
فِي الْحَدِيثِ: «وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ»
، فَعُبِّرَ عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ لِلنَّاسِ «بِطَيْرٍ» مُشَاكَلَةً لِقَوْلِهِ: «وَلَا طَيْرَ» وَمَنْ فَسَّرَ الطَّائِرَ بِالْحَظِّ فَقَدْ أَبْعَدَ عَنِ السِّيَاقِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما إِضَافِيٌّ أَيْ: سُوءُ حَالِهِمْ عِقَابٌ مِنَ اللَّهِ، لَا مِنْ عِنْدِ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ سَبَبَ حُلُولِ الْمَصَائِبِ بِأَهْلِ الشِّرْكِ الْمُعَانِدِينَ لِلرُّسُلِ، هُوَ شِرْكُهُمْ وَتَكْذِيبُهُمُ الرُّسُلَ: يَعْلَمُونَ ذَلِكَ بِأَخْبَارِ الرُّسُلِ، أَوْ بِصِدْقِ الْفِرَاسَةِ وَحُسْنِ الِاسْتِدْلَالِ، كَمَا قَالَ أَبُو سُفْيَانَ لَيْلَةَ الْفَتْحِ لَمَّا هَدَاهُ اللَّهُ «لَقَدْ عَلِمْتُ أَنْ لَوْ كَانَ مَعَهُ إِلَهٌ آخَرُ لَقَدْ أَغْنَى عَنِّي شَيْئًا». فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ وَأَضْرَابُهُمْ مِنْ أَهْلِ الْعَقَائِدِ الضَّالَّةِ، فَيُسْنِدُونَ صُدُورَ الضَّرَرِ وَالنَّفْعِ إِلَى أَشْيَاءَ تُقَارِنُ حُصُولَ ضُرٍّ وَنَفْعٍ، فَيَتَوَهَّمُونَ تِلْكَ الْمُقَارَنَةَ تَسَبُّبًا، وَلِذَلِكَ تَرَاهُمْ يَتَطَلَّبُونَ مَعْرِفَةَ حُصُولِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ الِاسْتِقْسَامُ بِالْأَزْلَامِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مُعْتَرِضَةٌ وَلِذَلِكَ فُصِلَتْ، وَالِاسْتِدْرَاكُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ لكِنَّ عَمَّا يُوهِمُهُ الِاهْتِمَامُ بِالْخَبَرِ الَّذِي قَبْلَهُ لِقَرْنِهِ بِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ، وَاشْتِمَالِهِ عَلَى صِيغَةِ الْقَصْرِ: مِنْ كَوْنِ شَأْنِهِ أَنْ لَا يَجْهَلَهُ الْعُقَلَاءُ، فَاسْتُدْرِكَ بِأَنَّ أَكْثَرَ أُولَئِكَ لَا يَعْلَمُونَ.
فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: أَكْثَرَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنَّمَا نُفِيَ الْعِلْمُ عَنْ أَكْثَرِهِمْ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ قَلِيلًا مِنْهُمْ يَعْلَمُونَ خِلَافَ ذَلِكَ وَلَكِنَّهُمْ يُشَايِعُونَ مقَالَة الْأَكْثَرين.
وَ (صابِرُونَ) ثَابِتُونَ فِي الْقِتَالِ، لِأَنَّ الثَّبَاتَ عَلَى الْآلَامِ صَبْرٌ، لِأَنَّ أَصْلَ الصَّبْرِ تَحَمُّلُ الْمَشَاقِّ، وَالثَّبَاتُ مِنْهُ، قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللَّهَ الْعَافِيَةَ فَإِذَا لَاقَيْتُمْ فَاصْبِرُوا»
. وَقَالَ النَّابِغَةُ:
تَجَنَّبْ بَنِي حُنَّ فَإِنَّ لِقَاءَهُمْ كَرِيهٌ وَإِنْ لَمْ تَلْقَ إِلَّا بِصَابِرِ
وَقَالَ زُفَرُ بْنُ الْحَارِثِ الْكِلَابِيُّ:
سَقَيْنَاهُمْ كَأْسًا سَقَوْنَا بِمِثْلِهَا وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْمَوْتِ أَصْبَرَا
وَالْمَعْنَى: عُرِفُوا بِالصَّبْرِ وَالْمَقْدِرَةِ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ بِاسْتِيفَاءِ مَا يَقْتَضِيهِ مِنْ أَحْوَالِ الْجَسَدِ وَأَحْوَالِ النَّفْسِ، وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى تَوَخِّي انْتِقَاءِ الْجَيْشِ، فَيَكُونُ قَيْدًا لِلتَّحْرِيضِ، أَيْ: حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ لَا يَتَزَلْزَلُونَ، فَالْمَقْصُودُ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِمْ مَنْ هُوَ ضَعِيفُ النَّفْسِ فَيَفْشَلُ الْجَيْشُ، كَقَوْلِ طَالُوتَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي [الْبَقَرَة: ٢٤٩].
وَذُكِرَ فِي جَانِبِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمَرَّتَيْنِ عَدَدُ الْعِشْرِينَ وَعَدَدُ الْمِائَةِ، وَفِي جَانِبِ جَيْشِ الْمُشْرِكِينَ عَدَدُ الْمِائَتَيْنِ وَعَدَدُ الْأَلْفِ، إِيمَاءً إِلَى قِلَّةِ جَيْشِ الْمُسْلِمِينَ فِي ذَاتِهِ، مَعَ الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ثَبَاتَهُمْ لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ حَالَةِ عَدَدِهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ، فَإِنَّ الْعَادَةَ أَنَّ زِيَادَةَ عَدَدِ الْجَيْشِ تُقَوِّي نُفُوسَ أَهْلِهِ، وَلَوْ مَعَ كَوْنِ نِسْبَةِ عَدَدِهِمْ مِنْ عَدَدِ عَدُوِّهِمْ غَيْرَ مُخْتَلِفَةٍ، فَجَعَلَ اللَّهُ الْإِيمَانَ قُوَّةً لِنُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ تدفع عَنْهُم وَهن اسْتِشْعَارِ قِلَّةِ عَدَدِ جَيْشِهِمْ فِي ذَاتِهِ.
أَمَّا اخْتِيَارُ لَفْظِ الْعِشْرِينَ لِلتَّعْبِيرِ عَنْ مَرْتَبَةِ الْعَشَرَاتِ دُونَ لَفْظِ الْعَشَرَةِ: فَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ لَفْظَ الْعِشْرِينَ أَسْعَدُ بِتَقَابُلِ السَّكَنَاتِ فِي أَوَاخِرِ الْكَلِمِ لِأَنَّ لِلَفْظَةِ مِائَتَيْنِ مِنَ الْمُنَاسَبَةِ بِسَكَنَاتِ كَلِمَاتِ الْفَوَاصِلِ مِنَ السُّورَةِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْمِائَةَ مَعَ الْأَلْفِ، لِأَنَّ بَعْدَهَا ذِكْرَ مُمَيِّزِ الْعَدَدِ بِأَلْفَاظٍ تُنَاسِبُ سَكَنَاتِ الْفَاصِلَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: لَا يَفْقَهُونَ فَتَعَيَّنَ هَذَا اللَّفْظُ قَضَاءً لِحَقِّ الْفَصَاحَةِ.

[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٢٦]

أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٢٦)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [التَّوْبَة: ١٢٥] إِلَى آخِرِهِ فَهِيَ مِنْ تَمَامِ التَّفْصِيلِ.
وَقُدِّمَتْ هَمْزَةُ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى حَرْفِ الْعَطْفِ عَلَى طَرِيقَةِ تَصْدِيرِ أَدَوَاتِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالتَّصْدِيرُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ الْجُمْلَةَ فِي غَرَضِ الِاسْتِفْهَامِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ هُنَا إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ لِعَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ فِتْنَتَهُمْ فَلَا تَعْقُبُهَا تَوْبَتُهُمْ وَلَا تَذَكُّرُهُمْ أَمْرَ رَبِّهِمْ. وَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا الْإِنْكَارِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنِ ازْدِيَادِ كُفْرِ الْمُنَافِقِينَ وَتَمَكُّنِهِ كُلَّمَا نَزَلَتْ سُورَةٌ مِنَ الْقُرْآنِ بِإِيرَادِ دَلِيلٍ وَاضِحٍ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْمَحْسُوسِ الْمَرْئِيِّ حَتَّى يَتَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَى مَنْ لَا يَرَاهُ.
وَالْفِتْنَةُ: اخْتِلَالُ نِظَامِ الْحَالَةِ الْمُعْتَادَةِ لِلنَّاسِ وَاضْطِرَابُ أَمْرِهِمْ، مِثْلُ الْأَمْرَاضِ الْمُنْتَشِرَةِ، وَالتَّقَاتُلِ، وَاسْتِمْرَارِ الْخَوْفِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ: وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: ١٩١] وَقَوْلِهِ: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٩٣].
فَمَعْنَى أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ أَنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمُ الْمَصَائِبَ وَالْمَضَارَّ تَنَالُ جَمَاعَتَهُمْ مِمَّا لَا يُعْتَادُ تَكَرُّرُ أَمْثَالِهِ فِي حَيَاةِ الْأُمَمِ بِحَيْثُ يَدُلُّ تَكَرُّرُ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ مُرَادٌ مِنْهُ إِيقَاظُ اللَّهِ النَّاسَ إِلَى سُوءِ سِيرَتِهِمْ فِي جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، بِعَدَمِ اهْتِدَائِهِمْ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْعِنَادِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُمْ لَوْ رُزِقُوا التَّوْفِيقَ لَأَفَاقُوا مِنْ غَفْلَتِهِمْ، فَعَلِمُوا أَنَّ مَا يَحِلُّ بِهِمْ كُلَّ عَامٍ مَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ وَقْتِ تَلَبُّسِهِمْ بِالنِّفَاقِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ الْفِتْنَةَ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ كَانَتْ خَاصَّةً بِأَهْلِ النِّفَاقِ مِنْ أَمْرَاضٍ تَحِلُّ بِهِمْ، أَوْ مَتَالِفَ تُصِيبُ أَمْوَالَهُمْ، أَوْ جَوَائِحَ تُصِيبُ ثِمَارَهُمْ، أَوْ نَقْصٍ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمَوَالِيدِهِمْ فَإِذَا حَصَلَ شَيْئَانِ مِنْ ذَلِكَ فِي السَّنَةِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ مَرَّتَيْنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلا يَرَوْنَ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ أَوَلَا تَرَوْنَ
بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ مِنْ تَنْزِيلِ الرَّائِي مَنْزِلَةَ غَيْرِهِ حَتَّى يُنْكِرَ عَلَيْهِ عَدَمَ رُؤْيَتِهِ مَا لَا يَخْفَى.
وَالْمُرَادُ بِالْوَحْيِ هُنَا الْوَحْيُ الَّذِي بِهِ وَصَفَ كَيْفِيَّةَ صُنْعِ الْفُلْكِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ عَطْفُهُ عَلَى الْمَجْرُورِ بِبَاءِ الْمُلَابَسَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَمْرِ بِالصُّنْعِ.
وَدَلَّ النَّهْيُ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا، عَلَى أَنَّ كُفَّارَ قَوْمِهِ سَيَنْزِلُ بِهِمْ عِقَابٌ عَظِيمٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا الْمُخَاطَبَةُ الَّتِي تَرْفَعُ عِقَابَهُمْ فَتَكُونُ لِنَفْعِهِمْ كَالشَّفَاعَةِ، وَطَلَبِ تَخْفِيفِ الْعِقَابِ لَا مُطْلَقَ الْمُخَاطَبَةِ. وَلَعَلَّ هَذَا تَوْطِئَةٌ لِنَهْيِهِ عَنْ مُخَاطَبَتِهِ فِي شَأْنِ ابْنِهِ الْكَافِرِ قَبْلَ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِ نُوحٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- سُؤَالُ نَجَاتِهِ حَتَّى يَكُونَ الرَّدُّ عَلَيْهِ حِينَ السُّؤَالِ أَلْطَفَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ إِخْبَارٌ بِمَا سَيَقَعُ وَبَيَانٌ لِسَبَبِ الْأَمْرِ بِصُنْعِ الْفُلْكِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِثَالٌ لِتَخْرِيجِ الْكَلَامِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ غَيْرِ السَّائِلِ الْمُتَرَدِّدِ مَنْزِلَةَ السَّائِلِ إِذَا قَدَّمَ إِلَيْهِ من الْكَلَام مَا يُلَوِّحُ إِلَى جِنْسِ الْخَبَرِ فَيَسْتَشْرِفُهُ لِتَعْيِينِهِ اسْتِشْرَافًا يُشْبِهُ اسْتِشْرَافَ السَّائِلِ عَنْ عين الْخَبَر.
[٣٨، ٣٩]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٣٨ إِلَى ٣٩]
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (٣٨) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٩)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ [هود: ٣٧]، أَيْ أُوحِيَ إِلَيْهِ اصْنَعِ الْفُلْكَ، وَصَنَعَ الْفُلْكَ. وَإِنَّمَا عَبَّرَ عَنْ صُنْعِهِ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ الْحَالَةِ لِتَخْيِيلِ السَّامِعِ أَنَّ نُوحًا- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِصَدَدِ الْعَمَلِ، كَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً [فاطر:
٩] وَقَوْلِهِ: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: ٧٤].
وَجُمْلَةُ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يَصْنَعُ.
عَلَى صدق الرَّسُول- عَلَيْهِ الصَّلَاة والسّلام- فِيمَا جَاءَهُمْ بِهِ، وَتَضَمَّنَتْ أَنَّ الَّذِينَ أَشْرَكُوا غَيْرُ مُصَدِّقِينَهُ عِنَادًا وَإِعْرَاضًا عَنْ آيَاتِ الصِّدْقِ. فَالْمَعْنَى أَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- سُنَّةٌ إلهية قديمَة فَلَمَّا ذَا يَجْعَلُ الْمُشْرِكُونَ نُبُوءَتَكَ أَمْرًا مُسْتَحِيلًا فَلَا يُصَدِّقُونَ بِهَا مَعَ مَا قَارَنَهَا مِنْ آيَاتِ الصِّدْقِ فَيَقُولُونَ: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا. وَهَلْ كَانَ الرُّسُلُ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- السَّابِقُونَ إِلَّا رِجَالًا مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَوْحَى الله إِلَيْهِم فبمَاذَا امْتَازُوا عَلَيْكَ، فَسَلَّمَ الْمُشْرِكُونَ بِبَعْثَتِهِمْ وَتَحَدَّثُوا بِقِصَصِهِمْ وَأَنْكَرُوا نُبُوءَتَكَ.
وَرَاءَ هَذَا مَعْنًى آخَرُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِاسْتِوَاءِ أَحْوَالِ الرُّسُلِ- عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَمَا لَقُوهُ مِنْ أَقْوَامِهِمْ فَهُوَ وَعِيدٌ بِاسْتِوَاءِ الْعَاقِبَةِ لِلْفَرِيقَيْنِ.
ومِنْ قَبْلِكَ يَتَعَلَّقُ بِ أَرْسَلْنا فَ مِنْ لِابْتِدَاءِ الْأَزْمِنَة فَصَارَ مَا صدق الْقَبْلِ الْأَزْمِنَةَ السَّابِقَةَ، أَيْ مِنْ أَوَّلِ أَزْمِنَةِ الْإِرْسَالِ. وَلَوْلَا وُجُودُ مِنْ لَكَانَ قَبْلِكَ فِي مَعْنَى الصِّفَةِ لِلْمُرْسَلِينَ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ الْإِرْسَالِ.
وَالرِّجَالُ: اسْمُ جِنْسٍ جَامِدٌ لَا مَفْهُومَ لَهُ. وَأُطْلِقَ هُنَا مُرَادًا بِهِ أُنَاسًا
كَقَوْلِهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»
، أَيْ إِنْسَانٌ أَوْ شَخْصٌ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاحْتِرَازَ عَنِ الْمَرْأَةِ. وَاخْتِيرَ هُنَا دُونَ غَيْرِهِ لِمُطَابَقَتِهِ الْوَاقِعَ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُرْسِلْ رُسُلًا مِنَ النِّسَاءِ لِحِكْمَةِ قَبُولِ قِيَادَتِهِمْ فِي نُفُوسِ الْأَقْوَامِ إِذِ الْمَرْأَةُ مُسْتَضْعَفَةٌ عِنْدَ الرِّجَالِ دُونَ الْعَكْسِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ قَيْسِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ تَنَبَّأَتْ سِجَاحِ:
أَضْحَتْ نَبِيئَتُنَا أُنْثَى نُطِيفُ بِهَا وَأَصْبَحَتْ أَنْبِيَاءُ النَّاسِ ذُكْرَانَا
وَلَيْسَ تَخْصِيصُ الرِّجَالِ وَأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى لِقَصْدِ الِاحْتِرَازِ عَنِ النِّسَاءِ وَمِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ وَلَكِنَّهُ لِبَيَانِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَ مَنْ سَلَّمُوا بِرِسَالَتِهِمْ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالُوا:
فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ [الْأَنْبِيَاء: ٥] وقالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى [الْقَصَص: ٤٨]، أَيْ فَمَا كَانَ مُحَمَّدٌ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ حَتَّى تُبَادِرُوا بِإِنْكَارِ رِسَالَتِهِ وَتُعْرِضُوا عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِهِ.

[سُورَة الْحجر (١٥) : الْآيَات ٧٠ إِلَى ٧٧]

قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (٧٠) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (٧١) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (٧٢) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (٧٣) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (٧٤)
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (٧٥) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (٧٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)
الْوَاوُ فِي أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَطْفٌ عَلَى كَلَامِ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْعَطْفِ عَلَى كَلَامِ الْغَيْرِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي بَعْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٤].
وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْإِنْكَارُ.
والْعالَمِينَ النَّاسُ. وَتَعْدِيَةُ النَّهْيِ إِلَى ذَاتِ الْعَالَمِينَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، أَيْ أَلَمْ نَنْهَكَ عَنْ حِمَايَةِ النَّاسِ أَوْ عَنْ إِجَارَتِهِمْ، أَيْ أَنَّ عَلَيْكَ أَنْ تُخَلِّيَ بَيْنَنَا وَبَيْنَ عَادَتِنَا حَتَّى لَا يَطْمَعَ الْمَارُّونَ فِي حِمَايَتِكَ، وَقَدْ كَانُوا يَقْطَعُونَ السَّبِيلَ يَتَعَرَّضُونَ لِلْمَارِّينَ عَلَى قُرَاهُمْ. والْعالَمِينَ تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ. وَأَرَادُوا بِهِ هُنَا أَصْنَافَ الْقَبَائِلِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَعَرَضَ عَلَيْهِمْ بَنَاتَهُ ظَنًّا أَنَّ ذَلِك يردعهم ويطفىء شَبَقَهُمْ. وَلِذَلِكَ قَالَ: إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ هُودٍ مَعْنَى عَرْضِهِ بَنَاتِهِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: بَناتِي يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ صُلْبِهِ وَكُنَّ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ بَنَاتُ الْقَوْمِ كُلِّهِمْ تَنْزِيلًا لَهُمْ مَنْزِلَةَ بَنَاتِهِ لِأَنَّ النَّبِيءَ كَأَبٍ لِأُمَّتِهِ.
وَجُمْلَةُ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سكراتهم يَعْمَهُونَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقِصَّةِ لِلْعِبْرَةِ فِي عَدَمِ جَدْوَى الْمَوْعِظَةِ فِيمَنْ يَكُونُ فِي سَكْرَةِ هَوَاهُ.
التَّشْرِيعُ بِذِكْرِ أَصْلِ التَّشْرِيعَةِ كُلِّهَا وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ، فَذَلِكَ تَمْهِيدٌ لِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ مِنَ الْأَحْكَامِ.
وَجِيءَ بِخِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لِأَنَّ النَّهْيَ يَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ النَّاسِ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: رَبُّكَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالَّذِي فِي قَوْلِهِ قَبْلُ: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ [الْإِسْرَاء: ٢٠]، وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ الْأُمَّةَ وَالْمَآلُ وَاحِدٌ.
وَابْتُدِئَ التَّشْرِيعُ بِالنَّهْيِ عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ أَصْلُ الْإِصْلَاحِ، لِأَنَّ إِصْلَاحَ التَّفْكِيرِ مُقَدَّمٌ عَلَى إِصْلَاحِ الْعَمَلِ، إِذْ لَا يُشَاقُّ الْعَقْلُ إِلَى طَلَبِ الصَّالِحَاتِ إِلَّا إِذَا كَانَ صَالِحًا.
وَفِي الْحَدِيثِ: «أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ»
. وَقَدْ فَصَّلْتُ ذَلِكَ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «أُصُولَ النِّظَامِ الِاجْتِمَاعِيِّ فِي الْإِسْلَامِ».
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً
هَذَا أَصْلٌ ثَانٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ.
وَانْتَصَبَ إِحْساناً عَلَى المفعولية الْمُطلقَة مصدر نَائِبًا عَنْ فِعْلِهِ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَحْسِنُوا إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ كَمَا يَقْتَضِيهِ الْعَطْفُ عَلَى أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أَيْ وَقَضَى إِحْسَانًا بِالْوَالِدَيْنِ.
مِنْ خُصُوصِيَّاتِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا سَابِقًا كَانَ مُرَادُ زَكَرِيَّاءَ إِرْثَ آثَارِ النُّبُوءَةِ خَاصَّةً مِنَ الْكُتُبِ الْمُقَدَّسَةِ وَتَقَايِيدِهِ عَلَيْهَا.
وَالْمَوَالِي: الْعُصْبَةُ وَأَقْرَبُ الْقَرَابَةِ، جَمْعُ مَوْلًى بِمَعْنَى الْوَلِيِّ.
وَمَعْنَى: مِنْ وَرائِي مِنْ بَعْدِي، فَإِنَّ الْوَرَاءَ يُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ مَا بَعْدَ الشَّيْءِ، كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:
وَلَيْسَ وَرَاءَ اللَّهِ لِلْمَرْءِ مَطْلَبُ أَيْ بَعْدَ اللَّهِ. فَمَعْنَى مِنْ وَرائِي مِنْ بَعْدِ حَيَاتِي.
ومِنْ وَرائِي فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِ الْمَوالِيَ أَوَ الْحَالِ.
وَامْرَأَةُ زَكَرِيَّاءَ اسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ مِنْ نَسْلِ هَارُونَ أَخِي مُوسَى فَهِيَ مَنْ سَبْطِ لَاوِي.
وَالْعَاقِرُ: الْأُنْثَى الَّتِي لَا تَلِدُ، فَهُوَ وَصْفٌ خَاصٌّ بِالْمَرْأَةِ، وَلِذَلِكَ جُرِّدَ مِنْ عَلَامَةِ التَّأْنِيثِ إِذْ لَا لَبْسَ. وَمَصْدَرُهُ: الْعَقْرُ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَضَمِّهَا مَعَ سُكُونِ الْقَافِ-. وَأَتَى بِفِعْلِ (كَانَ) لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعُقْرَ مُتَمَكِّنٌ مِنْهَا وَثَابِتٌ لَهَا فَلِذَلِكَ حُرِمَ مِنَ الْوَلَدِ مِنْهَا.
وَمَعْنَى مِنْ لَدُنْكَ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عِنْدِيَّةٌ خَاصَّةٌ، لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بِتَقْدِيرِهِ وَخَلْقِهِ الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا تَبَعًا لِخَلْقِهَا، فَلَمَّا قَالَ مِنْ لَدُنْكَ (١) دَلَّ عَلَى أَنَّهُ سَأَلَ وَلِيًّا غَيْرَ جَارٍ أَمْرُهُ عَلَى الْمُعْتَادِ مِنْ إِيجَادِ الْأَوْلَادِ لِانْعِدَامِ الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ، فَتَكُونُ هِبَتُهُ كَرَامَةً لَهُ.
وَيَتَعَلَّقُ لِي ومِنْ لَدُنْكَ بِفِعْلِ هَبْ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِي عَلَى مِنْ لَدُنْكَ لِأَنَّهُ الأهم فِي غَرَضِ الدَّاعِي، وَهُوَ غَرَضٌ خَاصٌّ يُقَدَّمُ عَلَى الْغَرَضِ الْعَامِّ.
_________
(١) فِي المطبوعة (من عنْدك).
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُمْ كافِرُونَ يَجُوزُ أَنْ يُفِيدَ الْحَصْرَ، أَيْ هُمْ كَافِرُونَ بِالْقُرْآنِ دُونَ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْعَرَبِ لِإِفَادَةِ أَنَّ هَؤُلَاءِ بَاقُونَ عَلَى كُفْرِهِمْ مَعَ تَوَفُّرِ الْآيَاتِ وَالنُّذُرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَصْلُ لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ تَحْقِيقًا لِدَوَامِ كُفْرِهِمْ مَعَ ظُهُورِ مَا شَأْنُهُ أَنْ يُقْلِعَهُمْ عَن الْكفْر.
[٣٧]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٣٧]
خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (٣٧)
جُمْلَةُ خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْأَنْبِيَاء:
٣٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي، جُعِلَتْ مُقَدِّمَةً لِجُمْلَةِ سَأُرِيكُمْ آياتِي. أَمَّا جُمْلَةُ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْأَنْبِيَاء: ٣٨]، لِأَنَّ قَوْلَهَ تَعَالَى: وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً [الْأَنْبِيَاء: ٣٦] يُثِيرُ فِي نُفُوسِ الْمُسْلِمِينَ تَسَاؤُلًا عَنْ مَدَى إِمْهَالِ الْمُشْرِكِينَ، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا جَاءَ مُعْتَرِضًا بَيْنَ الْجُمَلِ الَّتِي تَحْكِي أَقْوَالَ الْمُشْرِكِينَ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا. فَالْخِطَابُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَسْتَبْطِئُونَ حُلُولَ الْوَعِيدِ الَّذِي توعد فَالله تَعَالَى بِهِ الْمُكَذِّبِينَ.
وَمُنَاسَبَةُ مَوْقِعِ الْجُمْلَتَيْنِ أَنَّ ذِكْرَ اسْتِهْزَاءِ الْمُشْرِكِينَ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُهَيِّجُ حَنَقَ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِمْ فَيَوَدُّوا أَنْ يَنْزِلَ بِالْمُكَذِّبِينَ الْوَعِيدُ عَاجِلًا فَخُوطِبُوا بِالتَّرَيُّثِ وَأَنْ لَا يَسْتَعْجِلُوا رَبَّهُمْ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِمُقْتَضَى الْحِكْمَةِ فِي تَوْقِيتِ حُلُولِ الْوَعِيدِ وَمَا فِي تَأْخِيرِ نُزُولِهِ مِنَ الْمَصَالِحِ لِلدِّينِ.
وَتَنْكِيرُ آيَةً لِلتَّعْظِيمِ لِأَنَّهَا آيَةٌ تَحْتَوِي عَلَى آيَاتٍ. وَلَمَّا كَانَ مَجْمُوعُهَا دَالًّا عَلَى صِدْقِ عِيسَى فِي رِسَالَتِهِ جُعِلَ مَجْمُوعُهَا آيَةً عَظِيمَةً عَلَى صِدْقِهِ كَمَا عَلِمْتَ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ فَهُوَ تَنْوِيهٌ بِهِمَا إِذْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ مَحَلَّ عِنَايَتِهِ وَمَظْهَرَ قُدْرَتِهِ وَلُطْفِهِ.
وَالْإِيوَاءُ: جَعْلُ الْغَيْرِ آوِيًا، أَيْ سَاكِنًا. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ: أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ فِي سُورَةِ هُودٍ [٨٠] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [٤٣].
وَالرُّبْوَةُ بِضَمِّ الرَّاءِ: الْمُرْتَفَعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَيَجُوزُ فِي الرَّاءِ الْحَرَكَاتُ الثَّلَاثُ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ فِي الْبَقَرَةِ [٢٦٥]. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْإِيوَاءِ وَحْيُ اللَّهِ لِمَرْيَمَ أَنْ تَنْفَرِدَ بِرَبْوَةٍ حِينَ اقْتَرَبَ مَخَاضُهَا لِتَلِدَ عِيسَى فِي مُنْعَزَلٍ مِنَ النَّاسِ حِفْظًا لِعِيسَى مِنْ أَذَاهُمْ.
وَالْقَرَارُ: الْمُكْثُ فِي الْمَكَانِ، أَيْ هِيَ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ قَرَارًا، فَأُضِيفَتِ الرَّبْوَةُ إِلَى الْمَعْنَى الْحَاصِلِ فِيهَا لِأَدْنَى مُلَابَسَةٍ وَذَلِكَ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنَ النَّخِيلِ الْمُثْمِرِ فَتَكُونُ فِي ظِلِّهِ وَلَا تَحْتَاجُ إِلَى طَلَبِ قُوَّتِهَا.
وَالْمَعِينُ: الْمَاءُ الظَّاهِرُ الْجَارِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَهُوَ وَصْفٌ جَرَى عَلَى مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ مَاءٌ مَعِينٌ، لِدَلَالَةِ الْوَصْفِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهِ: حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ [الحاقة: ١١].
وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ [٢٤- ٢٦] قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً.
[٥١]
[سُورَة الْمُؤْمِنُونَ (٢٣) : آيَة ٥١]
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ
أَبْدَعِ التَّخَلُّصِ إِذْ كَانَ مُفَاجِئًا لِلسَّامِعِ مُطْمِعًا أَنَّهُ اسْتِطْرَادٌ عَارِضٌ كَسَوَابِقِهِ حَتَّى يُفَاجِئَهُ مَا يُؤْذِنُ بِالْخِتَامِ وَهُوَ قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي [الْفرْقَان: ٧٧] الْآيَةَ.
وَالْمُرَاد بِ عِبادُ الرَّحْمنِ بادىء ذِي بَدْءٍ أَصْحَابُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالصلات الثَّمَانِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ حِكَايَةٌ لِأَوْصَافِهِمُ الَّتِي اخْتُصُّوا بِهَا.
وَإِذْ قَدْ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِمْ تِلْكَ الصِّفَاتُ فِي مَقَامِ الثَّنَاءِ وَالْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْجَنَّةِ عُلِمَ أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ مَوْعُودٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ وَقَدْ شَرَّفَهُمُ اللَّهُ بِأَنْ جَعَلَ عُنْوَانَهُمْ عِبَادَهُ، وَاخْتَارَ لَهُمْ مِنَ الْإِضَافَةِ إِلَى اسْمِهِ اسْمَ الرَّحْمَنِ لِوُقُوعِ ذِكْرِهِمْ بَعْدَ ذِكْرِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ. قالُوا: وَمَا الرَّحْمنُ [الْفرْقَان: ٦٠]. فَإِذَا جُعِلَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ أَصْحَابُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْخَبَرُ فِي قَوْلِهِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى آخَرِ الْمَعْطُوفَاتِ وَكَانَ قَوْلُهُ الْآتِي أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا [الْفرْقَان: ٧٥] اسْتِئْنَافًا لِبَيَانِ كَوْنِهِمْ أَحْرِيَاءَ بِمَا بَعَدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ.
وَإِذَا كَانَ الْمُرَادُ مِنْ عِبادُ الرَّحْمنِ جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّصِفِينَ بِمَضْمُونِ تِلْكَ الصِّلَاتِ كَانَتْ تِلْكَ الْمَوْصُولَاتُ وَصِلَاتُهَا نُعُوتًا لِ عِبادُ الرَّحْمنِ وَكَانَ الْخَبَرُ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ [الْفرْقَان: ٧٥] إِلَخْ.
وَفِي الْإِطْنَابِ بِصِفَاتِهِمُ الطَّيِّبَةِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ أَبَوا السُّجُود للرحمان وَزَادَهُمْ نُفُورًا هُمْ عَلَى الضِّدِّ مِنْ تِلْكَ الْمَحَامِدِ، تَعْرِيضًا تُشْعِرُ بِهِ إِضَافَةُ عِبادُ إِلَى الرَّحْمنِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الصِّلَاتِ الَّتِي أُجْرِيَتْ عَلَى عِبادُ الرَّحْمنِ جَاءَتْ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
قِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّحَلِّي بِالْكِمَالَاتِ الدِّينِيَّةِ وَهِيَ الَّتِي ابْتُدِئَ بِهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً إِلَى قَوْله سَلاماً [الْفرْقَان: ٧٥].
وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ التَّخَلِّي عَنْ ضَلَالَاتِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَهُوَ الَّذِي مِنْ قَوْلِهِ: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [الْفرْقَان: ٦٨].
وَقِسْمٌ هُوَ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ عَلَى شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً [الْفرْقَان: ٦٤]،
الْكَافِرِ، وَالتَّقِيِّ عَلَى الْفَاسِقِ، قَالَ تَعَالَى لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى [الْحَدِيد: ١٠] وَيَتَرَجَّحُ فِي كُلِّ عَمَلٍ أَهْلُ الْخِبْرَةِ بِهِ وَالْإِجَادَةِ فِيهِ وَفِيمَا وَرَاءَ ذَلِكَ فَالْأَصْلُ الْمُسَاوَاةُ.
وَفِرْعَوْنُ هَذَا هُوَ (رَعْمَسِيسُ) الثَّانِي وَهُوَ الْمَلِكُ الثَّالِثُ مِنْ مُلُوكِ الْعَائِلَةِ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ فِي اصْطِلَاحِ الْمُؤَرِّخِينَ لِلْفَرَاعِنَةِ، وَكَانَ فَاتِحًا كَبِيرًا شَدِيدَ السَّطْوَةِ وَهُوَ الَّذِي وُلِدَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي زَمَانِهِ عَلَى التَّحْقِيقِ.
والْأَرْضِ: هِيَ أَرْضُ مِصْرَ، فَالتَّعْرِيفُ فِيهَا لِلْعَهْدِ لِأَنَّ ذِكْرَ فِرْعَوْنَ يَجْعَلُهَا مَعْهُودَةً عِنْدَ السَّامِعِ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ اسْمُ مَلِكِ مِصْرَ. وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ جَمِيعَ الْأَرْضِ يَعْنِي الْمَشْهُورَ الْمَعْرُوفَ مِنْهَا، فَإِطْلَاقُ الْأَرْضِ كَإِطْلَاقِ الِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ فَقَدْ كَانَ مُلْكُ فِرْعَوْنَ (رَعْمَسِيسَ) الثَّانِي مُمْتَدًّا مِنْ بِلَادِ الْهِنْدِ مِنْ حُدُودِ نَهْرِ (الْكَنْكِ) فِي الْهِنْدِ إِلَى نَهْرِ (الطونة) فِي أوروبا، فَالْمَعْنَى أَرْضُ مَمْلَكَتِهِ، وَكَانَ عُلُوُّهُ أَقْوَى مِنْ عُلُوِّ مُلُوكِ الْأَرْضِ وِسَادَةِ الْأَقْوَامِ.
وَالشِّيَعُ: جَمْعُ شِيعَةٍ. وَالشِّيعَةُ: الْجَمَاعَةُ الَّتِي تُشَايِعُ غَيْرَهَا عَلَى مَا يُرِيدُ، أَيْ تُتَابِعُهُ وَتُطِيعُهُ وَتَنْصُرُهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ [الْقَصَص: ١٥]، وَأُطْلِقَ عَلَى الْفِرْقَةِ مِنَ النَّاسِ عَلَى سَبِيلِ التَّوَسُّعِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ عَنِ التَّقْيِيدِ قَالَ تَعَالَى مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ [الرّوم: ٣٢].
وَمِنَ الْبَلَاغَةِ اخْتِيَارُهُ هُنَا لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ بِلَادِ الْقِبْطِ فِرَقًا ذَاتَ نَزَعَاتٍ تَتَشَيَّعُ
كُلُّ فِرْقَةٍ إِلَيْهِ وَتُعَادِي الْفُرْقَةَ الْأُخْرَى لِيَتَمَّ لَهُمْ ضَرْبُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَقَدْ أَغْرَى بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ لِيَأْمَنَ تَأَلُّبَهُمْ عَلَيْهِ كَمَا يُقَالُ «فَرِّقْ تَحْكُمْ» وَهِيَ سِيَاسَةٌ لَا تَلِيقُ إِلَّا بِالْمَكْرِ بِالضِّدِّ وَالْعَدُوِّ وَلَا تَلِيقُ بِسِيَاسَةِ وَلِيِّ أَمْرِ الْأُمَّةِ الْوَاحِدَةِ.
وَكَانَ (رَعْمَسِيسُ) الثَّانِي قَسَّمَ بِلَادَ مِصْرَ إِلَى سِتٍّ وَثَلَاثِينَ إِيَالَةً وَأَقَامَ عَلَى كُلِّ إِيَالَةٍ أُمَرَاءَ نُوَّابًا عَنْهُ لِيَتَسَنَّى لَهُ مَا حُكِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ الْوَاقِعِ مَوْقِعَ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ جَعَلَ وَأُبْدِلَتْ مِنْهَا بَدَلَ اشْتِمَالِ جُمْلَةُ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ لِأَنَّهُ مَا فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ إِلَّا
فِي طَالِعَةِ
سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ التَّقْدِيمَ لِلِاهْتِمَامِ بِضَمِيرِ الْجَلَالَةِ.
وَالْإِمْسَاءُ: حُلُولُ الْمَسَاءِ. وَالْإِصْبَاحُ: حُلُولُ الصَّبَاحِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ فالِقُ الْإِصْباحِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٩٦]. وَالْإِمْسَاءُ: اقْتِرَابُ غُرُوبِ الشَّمْسِ إِلَى الْعِشَاءِ، وَالصَّبَاحُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْإِظْهَارُ: حُلُولُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَهُوَ نِصْفُ النَّهَارِ.
وَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْإِفْعَالُ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلدُّخُولِ فِي الْمَكَانِ مِثْلَ: أَنْجَدَ، وَأَتْهَمَ، وَأَيْمَنَ، وَأَشْأَمَ فِي حُلُولِ الْأَوْقَاتِ مِنَ الْمَسَاءِ وَالصَّبَاحِ وَالظُّهْرِ تَشْبِيهًا لِذَلِكَ الْحُلُولِ بِالْكَوْنِ فِي الْمَكَانِ، فَيَكْثُرُ أَنْ يُقَالَ: أَصْبَحَ وَأَضْحَى وَأَمْسَى وَأَعْتَمَ وَأَشْرَقَ، قَالَ تَعَالَى فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ [الشُّعَرَاء: ٦٠].
وَالْعَشِيُّ: مَا بَعْدَ الْعَصْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ فِي سُورَة الْأَنْعَام [٥٢].
[١٩]
[سُورَة الرّوم (٣٠) : آيَة ١٩]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلٌ مِنْ جملَة اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الرّوم: ١١]. وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ مُوقِعَ الْعلَّة لجملة فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الرّوم: ١٧] وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا، أَيْ هُوَ مُسْتَحِقٌّ لِلتَّسْبِيحِ وَالْحَمْدِ لِتَصَرُّفِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِالْإِيجَادِ الْعَجِيبِ وَبِالْإِحْيَاءِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
وَاخْتِيرَ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ الْعَظِيمَةِ تَصَرُّفُ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فِي الْحَيَوَانِ وَالنَّبَاتِ لِأَنَّهُ تَخَلَّصٌ لِلْغَرَضِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِثْبَاتِ الْبَعْثِ رَدًّا لِلْكَلَامِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْله اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [الرّوم: ١١].
فَتَحَصَّلَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْأَمْرَ بِتَسْبِيحِهِ وَحَمْدِهِ مَعْلُولٌ بِأَمْرَيْنِ: إِيفَاءُ حَقِّ شُكْرِهِ الْمُفَادِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ فَسُبْحانَ اللَّهِ [الرّوم: ١٧]، وَإِيفَاءُ حَقِّ التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَالْمَقْصُودُ هُوَ إِخْرَاجُ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ. وَأَمَّا عَطْفُ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فَلِلِاحْتِرَاسِ مِنِ اقْتِصَارِ قُدْرَتِهِ عَلَى بَعْضِ التَّصَرُّفَاتِ وَلِإِظْهَارِ عَجِيبِ قُدْرَتِهِ أَنَّهَا تَفْعَلُ الضِّدَّيْنِ. وَفِي الْآيَةِ الطِّبَاقُ. وَهَذَا الْخِطَابُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ بِبَنَاتِ الْعَمِّ وَبَنَاتِ الْعَمَّاتِ: نِسَاءُ قُرَيْشٍ، وَالْمُرَادُ بِبَنَاتِ الْخَالِ:
النِّسَاءُ الزُّهْرِيَّاتِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ نَظَرِيٌّ مَحْضٌ لَا يَنْبَنِي عَلَيْهِ عمل لِأَن النبيء قَدْ عُرِفَتْ أَزْوَاجُهُ.
وَقَوْلُهُ: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ صِفَةٌ عَائِدَةٌ إِلَى بَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ
خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ
كَشَأْنِ الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُفْرَدَاتٍ، وَهُوَ شَرْطُ تَشْرِيعٍ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوطًا مِنْ قَبْلُ.
وَالْمَعِيَّةُ فِي قَوْلِهِ: اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ مَعِيَّةُ الْمُقَارِنَةِ فِي الْوَصْف الْمَأْخُوذ من فِعْلِ هاجَرْنَ فَلَيْسَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُنَّ قَدْ خَرَجْنَ مُصَاحِبَاتٍ لَهُ فِي طَرِيقِهِ إِلَى الْهِجْرَةِ.
«الصِّنْفُ الثَّالِثُ» : امْرَأَةٌ تهب نَفسهَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ تَجْعَلُ نَفْسَهَا هِبَةً لَهُ دُونَ مَهْرٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ النِّسَاءُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ يَفْعَلْنَ مَعَ عُظَمَاءِ الْعَرَبِ، فَأَبَاحَ اللَّهُ لِلنَّبِيءِ أَنْ يَتَّخِذَهَا زَوْجَةً لَهُ بِدُونِ مَهْرٍ إِذَا شَاءَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِك، فَهَذَا حَقِيقَةُ لَفْظِ وَهَبَتْ، فَالْمُرَادُ مِنَ الْهِبَةِ: تَزْوِيجُ نَفْسِهَا بِدُونِ عِوَضٍ، أَيْ بِدُونِ مَهْرٍ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ مِنَ الْهِبَةِ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي صِيَغِ النِّكَاحِ إِذَا قَارَنَهَا ذِكْرُ صَدَاقٍ لِأَنَّ ذَلِكَ اللَّفْظَ مَجَازٌ فِي النِّكَاحِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الصَدَاق وَيصِح عقد النِّكَاحِ بِهِ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ خِلَافًا للشَّافِعِيّ.
فَقَوله: وَامْرَأَتَ عَطْفٌ عَلَى أَزْواجَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: وَأَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً.
وَالتَّنْكِيرُ فِي امْرَأَةً لِلنَّوْعِيَّةِ: وَالْمَعْنَى: وَنُعْلِمُكَ أَنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً بِقَيْدِ أَنْ تَهَبَ نَفْسَهَا لَكَ وَأَنْ تُرِيدَ أَنْ تَتَزَوَّجَهَا فَقَوْلُهُ: لِلنَّبِيءِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَالْمَعْنَى: إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَكَ وَأَرَدْتَ أَنْ تَنْكِحَهَا. وَهَذَا تَخْصِيصٌ مِنْ عُمُومِ قَوْلِهِ: وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ فَإِذَا وَهَبَتِ امْرَأَة نَفسهَا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرَادَ نِكَاحَهَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ بِدُونِ ذَيْنِكَ الشَّرْطَيْنِ وَلِأَجْلِ هَذَا وُصِفَتْ امْرَأَةً بِ مُؤْمِنَةً لِيُعْلَمَ عَدَمُ اشْتِرَاطِ مَا عَدَا الْإِيمَانَ. وَقَدْ عُدَّتْ زَيْنَبُ بِنْتُ خُزَيْمَةَ الْهِلَالِيَّةُ وَكَانَتْ تُدْعَى فِي الْجَاهِلِيَّةِ أُمَّ الْمَسَاكِينِ فِي اللَّاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ، وَلَمْ تَلْبَثْ عِنْدَهُ زَيْنَبُ
وَالْمُرَادُ بِالْكَافِرِينَ: الْمُسْتَمِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِنْذَارَ وَرَدَ لِلنَّاسِ أَوَّلَ مَا وَرَدَ وَكُلُّهُمْ مِنَ الْكَافِرِينَ.
وَفِي ذِكْرِ الْإِنْذَارِ عَوْدٌ إِلَى مَا ابْتُدِئَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ [يس: ٦] فَهُوَ كَرَدِّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ، وَبِذَلِكَ تَمَّ مَجَالُ الِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِمْ وَإِبْطَالِ شُبَهِهِمْ وَتَخْلُصُ إِلَى الِامْتِنَانِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً [يس: ٧١] إِلَى قَوْلِهِ: أَفَلا يَشْكُرُونَ [يس: ٧٣].
[٧١، ٧٣]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٧١ إِلَى ٧٣]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (٧١) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (٧٢) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٧٣)
بَعْدَ أَنِ انْقَضَى إِبْطَالُ مَعَاقِدِ شِرْكِ الْمُشْرِكِينَ أَخَذَ الْكَلَامُ يَتَطَرَّقُ غَرَضَ تَذْكِيرِهِمْ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ قَابَلُوهَا بِكُفْرَانِ النِّعْمَةِ وَأَعْرَضُوا عَنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ وَعِبَادَتِهِ وَاتَّخَذُوا لِعِبَادَتِهِمْ آلِهَةً زَعْمًا بِأَنَّهَا تَنْفَعُهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمْ وأدمج فِي ذَلِك التَّذْكِيرِ بِأَنَّ الْأَنْعَامَ مَخْلُوقَةٌ بِقُدْرَةِ اللَّهِ. فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَطْفَ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ: إِنْكَارٌ وَتَعْجِيبٌ مِنْ عَدَمِ رُؤْيَتِهِمْ شَوَاهِدَ النِّعْمَةِ، فَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ قَلْبِيَّةً كَانَ الْإِنْكَارُ جَارِيًا عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ، وَإِنْ كَانَتِ الرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةً فَالْإِنْكَارُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِتَنْزِيلِ مُشَاهَدَتِهِمْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الرُّؤْيَةِ لِعَدَمِ جَرْيِهِمْ عَلَى مُقْتَضَى الْعِلْمِ بِتِلْكَ الْمُشَاهَدَاتِ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْ رُؤْيَتِهَا وَرُؤْيَةِ أَحْوَالِهَا، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ فَجُمْلَةُ الْفِعْلِ الْمُنْسَبِكِ بِالْمَصْدَرِ سَادَّةً مَسَدَّ الْمَفْعُولَيْنِ لِلرُّؤْيَةِ الْقَلْبِيَّةِ، أَوِ الْمَصْدَرِ الْمُنْسَبِكِ مِنْهَا مَفْعُولٌ لِلرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ.
وَفِي خِلَالِ هَذَا الِامْتِنَانِ إِدْمَاجُ شَيْءٍ مِنْ دَلَائِلَ الِانْفِرَادِ بِالتَّصَرُّفِ فِي الْخَلْقِ الْمُبْطِلَةِ لِإِشْرَاكِهِمْ إِيَّاهُ غَيْرَهُ فِي الْعِبَادَةِ وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: أَنَّا خَلَقْنا وَقَوْلِهِ: مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا وَقَوْلِهِ: وَذَلَّلْناها وَقَوْلِهِ: وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ، لِأَنَّ
خَلِيطًا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَهَذَا يُغْنِي عَنْ جَعْلِ النُّورِ مُسْتَعَارًا لِلْعَدْلِ فَإِنَّ ذَلِكَ الْمَعْنَى حَاصِلٌ بِدَلَالَةِ الِالْتِزَامِ كِنَايَةً، وَلَوْ حُمِلَ النُّورُ عَلَى مَعْنَى الْعَدْلِ لَكَانَ أَقَلَّ شُمُولًا لِأَحْوَالِ الْحَقِّ وَالْكَمَالِ وَهُوَ يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ. هَذَا هُوَ الْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَقَدْ ذَهَبَ فِيهَا الْمُفَسِّرُونَ مِنَ السَّلَفِ وَالْخَلْفِ طَرَائِقَ شَتَّى.
والْكِتابُ تَعْرِيفُهُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ، أَيْ وُضِعَتِ الْكُتُبُ وَهِيَ صَحَائِفُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ أُحْضِرَتْ لِلْحِسَابِ بِمَا فِيهَا من صَالح وسيّىء. وَالْوَضْعُ: الْحَطُّ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْإِحْضَار.
ومجيء النبيئين لِلشَّهَادَةِ عَلَى أُمَمِهِمْ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١].
وَالشُّهَدَاءُ: جَمْعُ شَهِيدٍ وَهُوَ الشَّاهِدُ، قَالَ تَعَالَى: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ فِي سُورَةِ ق [٢١]. وَالْمُرَادُ الشُّهَدَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْحَفَظَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ. وَضَمِيرُ بَيْنَهُمْ عَائِدٌ إِلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ [الزمر:
٦٨] أَيْ قُضِيَ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ كُتُبَ الشَّرَائِعِ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْعِبَادِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ وَيَكُونُ إِحْضَارُهَا شَاهِدَةً عَلَى الْأُمَمِ بِتَفَاصِيلِ مَا بَلَّغَهُ الرُّسُلُ إِلَيْهِمْ لِئَلَّا يَزْعُمُوا أَنَّهُمْ لَمْ تَبْلُغْهُمُ الْأَحْكَامُ. وَقَدْ صَوَّرَتِ الْآيَةُ صُورَةَ الْمَحْكَمَةِ الْكَامِلَةِ الَّتِي أَشْرَقَتْ بِنُورِ الْعَدْلِ، وَصَدْرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ الْمَحْكُومُ فِيهِمْ مِنْ كَرَامَةٍ وَنَذَالَةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ أَيْ صَدَرَ الْقَضَاءُ فِيهِمْ بِمَا يَسْتَحِقُّونَ وَهُوَ مُسَمَّى الْحَقِّ، فَمِنَ الْقَضَاءِ مَا هُوَ فَصْلٌ بَيْنَ النَّاسِ فِي مُعَامَلَاتِ بَعْضِهِمْ مَعَ بَعْضٍ مِنْ كُلِّ ظَالِمٍ وَمَظْلُومٍ وَمُعْتَدٍ وَمُعْتَدَى عَلَيْهِ فِي اخْتِلَافِ الْمُعْتَقَدَاتِ وَاخْتِلَافِ الْمُعَامَلَاتِ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النَّحْل: ١٢٤].

[سُورَة الشورى (٤٢) : آيَة ١٧]

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (١٧)
قَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ فِي اللَّهِ وَمِنْ أَشَدِّهَا تَشْغِيبًا فِي زَعْمِهِمْ مُحَاجَّتَهُمْ بِإِنْكَارِ الْبَعْثِ كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ [سبأ: ٧، ٨]، وَقَالَ شَدَّادُ بْنُ الْأَسْوَدِ:
يُخَبِّرُنَا الرَّسُولُ بِأَنْ سَنَحْيَا وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ
وَقَدْ دَحَضَ اللَّهُ حُجَّتَهُمْ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ بِنَفْيِ اسْتِحَالَتِهِ، وَبِدَلِيلِ إِمْكَانِهِ، وَأَوْمَأَ هُنَا إِلَى مُقْتَضِي إِيجَابِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْبَعْثَ وَالْجَزَاءَ حَقٌّ وَعَدْلٌ فَكَيْفَ لَا يُقَدِّرُهُ مُدَبِّرُ الْكَوْنِ وَمُنَزِّلُ الْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ. وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى آيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى:
أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لَا تُرْجَعُونَ [الْمُؤْمِنُونَ: ١١٥] وَقَوْلُهُ: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥] وَقَالَ: وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ مَا خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ [الدُّخان: ٣٨- ٤٠].
وَأَكْثَرُهَا جَاءَ نَظْمُهَا عَلَى نَحْوِ التَّرْتِيبِ الَّذِي فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ الِابْتِدَاءِ بِمَا يُذَكِّرُ بِحِكْمَةِ الْإِيجَادِ وَأَنَّ تَمَامَ الْحِكْمَةِ بِالْجَزَاءِ عَلَى الْأَعْمَالِ.
فَقَوْلُهُ: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ يُؤْذِنُ بِمُقَدَّرٍ يَقْتَضِيهِ الْمَعْنَى، تَقْدِيرُهُ: فَجَعَلَ الْجَزَاءَ لِلسَّائِرِينَ عَلَى الْحَقِّ وَالنَّاكِبِينَ عَنْهُ فِي يَوْمِ السَّاعَةِ فَلَا مَحِيصَ لِلْعِبَادِ عَنْ لِقَاءِ الْجَزَاءِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ، فَهُوَ نَاظِرٌ إِلَى قَوْلِهِ إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى [طه: ١٥]. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مَوْقِعُهَا مِنْ جُمْلَةِ وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ [الشورى: ١٦] مَوْقِعُ الدَّلِيلِ، وَالدَّلِيلُ مِنْ ضُرُوبِ الْبَيَانِ، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِشِدَّةِ اتِّصَالِ مَعْنَاهَا بِمَعْنَى الْأُخْرَى.
وَالْإِخْبَارُ عَنِ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِاسْمِ الْمَوْصُولِ الَّذِي مَضْمُونُ صِلَتِهِ إِنْزَالُهُ الْكِتَابَ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ فَصِيحَةً. وَالتَّقْدِيرُ: فَإِذَا عَلِمْتَ مَا كَانَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ وَعَلِمْتَ كَيْفَ انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَانْتَصَرْنَا بِرُسُلِنَا فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا.
وَأولُوا الْعَزْمِ: أَصْحَابُ الْعَزْمِ، أَيِ الْمُتَّصِفُونَ بِهِ. وَالْعَزْمُ: نِيَّةٌ مُحَقَّقَةٌ عَلَى عَمَلٍ أَوْ قَوْلٍ دُونَ تَرَدُّدٍ. قَالَ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آل عمرَان: ١٥٩] وَقَالَ: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَة: ٢٣٥]. وَقَالَ سَعْدُ بْنُ نَاشِبٍ مِنْ شُعَرَاءِ الْحَمَاسَةِ يَعْنِي نَفْسَهُ:
إِذَا هَمَّ أَلْقَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَزْمَهُ وَنَكَّبَ عَنْ ذِكْرِ الْعَوَاقِبِ جَانِبًا
وَالْعَزْمُ الْمَحْمُودُ فِي الدِّينِ: الْعَزْمُ عَلَى مَا فِيهِ تَزْكِيَةُ النَّفْسِ وَصَلَاحُ الْأُمَّةِ، وَقِوَامُهُ الصَّبْرُ على الْمَكْرُوه وباعث التَّقْوَى، وَقُوَّتُهُ شِدَّةُ الْمُرَاقَبَةِ بِأَنْ لَا يَتَهَاوَنَ الْمُؤْمِنُ عَنْ مُحَاسَبَتِهِ نَفْسَهُ قَالَ تَعَالَى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: ١٨٦] وَقَالَ: وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [طه: ١١٥]. وَهَذَا قَبْلَ هُبُوطِ آدَمَ إِلَى عَالَمِ التَّكْلِيفِ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ مِنَ فِي قَوْلِهِ: مِنَ الرُّسُلِ تَبْعِيضِيَّةً. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: كُلُّ الرُّسُلِ أُولُو عَزْمٍ، وَعَلَيْهِ تَكُونُ مِنَ بَيَانِيَّةً.
وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ لِأَنَّ تَشْبِيهَ الصَّبْرِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ بِصَبْرِ أُولِي الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ يَقْتَضِي أَنَّهُ مِثْلُهُمْ لِأَنَّهُ ممتثل أَمر رَبِّهِ، فَصَبْرُهُ مَثِيلٌ لِصَبْرِهِمْ، وَمَنْ صَبَرَ صَبْرَهُمْ كَانَ مِنْهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَأَعْقَبَ أَمْرَهُ بِالصَّبْرِ بِنَهْيِهِ عَنْ الِاسْتِعْجَالِ لِلْمُشْرِكِينَ، أَيْ الِاسْتِعْجَالِ لَهُمْ بِالْعَذَابِ، أَيْ لَا تَطْلُبْ مِنَّا تَعْجِيلَهُ لَهُمْ وَذَلِكَ لِأَنَّ الِاسْتِعْجَالَ يُنَافِي الْعَزْمَ وَلِأَنَّ فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ تَطْوِيلًا لِمُدَّةِ صَبر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَسْبِ عَزْمِهِ قُوَّةً.
وَمَفْعُولُ تَسْتَعْجِلْ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ، تَقْدِيرُهُ: الْعَذَابُ أَوِ الْهَلَاكُ. وَاللَّامُ فِي لَهُمْ لَامُ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الِاسْتِعْجَالِ إِلَى الْمَفْعُولِ لِأَجْلِهِ، أَيْ لَا تَسْتَعْجِلْ لِأَجْلِهِمْ، وَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا تَسْتَعْجِلْ لِهَلَاكِهِمْ. وَجُمْلَةُ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ
وَلَامُ الْأَمْرِ فِي فَلْيَأْتُوا مُسْتَعْمَلَةٌ فِي أَمْرِ التَّعْجِيزِ كَقَوْلِهِ حِكَايَةً عَنْ قَول إِبْرَاهِيم فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ [الْبَقَرَة: ٢٥٨].
وَقَوْلُهُ: إِنْ كانُوا صادِقِينَ أَيْ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُ تَقَوَّلَهُ، أَيْ فَإِنَّ لَمْ يَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِهِ فَهُمْ كَاذِبُونَ. وَهَذَا إِلْهَابٌ لِعَزِيمَتِهِمْ لِيَأْتُوا بِكَلَامٍ مِثْلِ الْقُرْآنِ لِيَكُونَ عَدَمُ إِتْيَانِهِمْ بِمِثْلِهِ حُجَّةً عَلَى كَذِبِهِمْ وَقَدْ أَشْعَرَ نَظْمُ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ الْوَاقِعِ مَوْقِعًا شَبِيهًا بِالتَّذْيِيلِ وَالْمَخْتُومِ بِكَلِمَةِ الْفَاصِلَةِ، أَنَّهُ نِهَايَةُ غَرَضٍ وَأَنَّ مَا بَعْدَهُ شُرُوعٌ فِي غَرَضٍ آخَرَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظْمِ قَوْلِهِ: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ [الطّور:
٣١].
[٣٥، ٣٦]
[سُورَة الطّور (٥٢) : الْآيَات ٣٥ إِلَى ٣٦]
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (٣٦)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ.
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى إِبْطَالِ ضَرْبٍ آخَرَ مِنْ شُبْهَتِهِمْ فِي إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ، وَقَدْ عَلِمْتَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ أَنَّ مِنْ أَغْرَاضِهَا إِثْبَاتُ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ عَلَى أَنَّ مَا جَاءَ بَعْدَهُ مِنْ وَصْفِ يَوْمِ الْجَزَاءِ وَحَالِ أَهْلِهِ قَدِ اقْتَضَتْهُ مُنَاسَبَاتٌ نَشَأَتْ عَنْهَا تِلْكَ التَّفَاصِيلُ، فَإِذْ وُفِّيَ حَقُّ مَا اقتضته تِلْكَ المناسبات ثُنِّيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَإِبْطَالِ شُبْهَتِهِمُ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ نَحْو قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً [الْإِسْرَاء: ٤٩].
فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ الْآيَاتِ أَدِلَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ بَدْءِ الْخَلْقِ أَعْظَمُ مِنْ إِعَادَةِ خَلْقِ الْإِنْسَانِ. وَهَذَا مُتَّصِلٌ بِقَوْلِهِ آنِفًا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ [الطّور: ٧] لِأَنَّ شُبْهَتَهُمُ الْمَقْصُودَ رَدُّهَا بِقَوْلِهِ: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ هِيَ قَوْلهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ [الْإِسْرَاء: ٤٩]، وَنَحْوُ ذَلِكَ.
فَحَرْفُ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلِابْتِدَاءِ، فَيَكُونُ مَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْمُقَدَّرِ بَعْدَ (أَمْ) تَقْرِيرِيًّا. وَالْمَعْنَى: أَيُقِرُّونَ أَنَّهُمْ خُلِقُوا بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَدَمًا فَكُلَّمَا خُلِقُوا مِنْ عَدَمٍ فِي نشأتهم الأولى ينشأون مِنْ عَدَمٍ فِي النَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ إِثْبَاتٌ لِإِمْكَانِ
الْبَعْثِ، فَيَكُونُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ [الطارق: ٥- ٨]
إِلَى قَوْلِهِ: عَذابٌ مُهِينٌ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٩٠].
وَعَلَيْهِ فَحَرْفُ مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِأَهْلِ الْكِتَابِ هُنَا خُصُوصُ الْيَهُودِ أَيِ الَّذِينَ كَفَرُوا برسالة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ وَأَرَادَ بِهِمُ الْيَهُودَ، فَوُصِفُوا بِ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لِئَلَا يُظَنَّ أَنَّ الْمُرَادَ بِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ أَوْ بَقِيَّةُ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَدِينَةِ فَيُظَنُّ أَنَّ الْكَلَامَ وَعِيدٌ.
وَتَفْصِيلُ الْقِصَّةِ الَّتِي أَشَارَتْ إِلَيْهَا الْآيَةُ على مَا ذكره جُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ. أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا هَاجَرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْمَدِينَة جاؤوا فصالحوا النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يَكُونُوا عَلَيْهِ وَلَا لَهُ، وَيُقَالُ: إِنَّ مُصَالَحَتَهُمْ كَانَتْ عَقِبَ وَقْعَةِ بَدْرٍ لَمَّا غَلَبَ الْمُسْلِمُونَ الْمُشْرِكِينَ لأَنهم توسّموا أَنه لَا تُهْزَمَ لَهُمْ رَايَةٌ، فَلَمَّا غُلِبَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ نَكَثُوا عَهْدَهُمْ وَرَامُوا مُصَالَحَةَ الْمُشْرِكِينَ بِمَكَّةَ، إِذْ كَانُوا قَدْ قَعَدُوا عَنْ نُصْرَتِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ (كَدَأْبِ الْيَهُودِ فِي مُوَالَاةِ الْقَوِيِّ) فَخَرَجَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وَهُوَ سَيِّدُ بَنِي النَّضِيرِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا إِلَى مَكَّة فَحَالَفُوا الْمُشْرِكِينَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ عَلَى أَنْ يَكُونُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى مُقَاتَلَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا أُوحِيَ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ أَمَرَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ أَنْ يَقْتُلَ كَعْبَ بْنَ الْأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ غِيلَةً فِي حِصْنِهِ فِي قِصَّةٍ مَذْكُورَةٍ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَالسِّيَرِ.
وَذَكَرَ ابْنُ إِسْحَاقَ سَبَبًا آخَرَ وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا انْقَضَتْ وَقْعَةُ بِئْرِ مَعُونَةَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ أَرْبَعٍ كَانَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ أَسِيرًا عِنْدَ الْمُشْرِكِينَ فَأَطْلَقُهُ عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ. فَلَمَّا كَانَ رَاجِعًا إِلَى الْمَدِينَةِ أَقْبَلَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَامِرٍ وَكَانَ لِقَوْمِهِمَا عَقْدٌ مَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَزَلَا مَعَ
عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ، فَلَمَّا نَامَا عَدَا عَلَيْهِمَا فَقَتَلَهُمَا وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ يَثْأَرُ بِهِمَا مِنْ بَنِي عَامِرٍ الَّذِينَ قَتَلُوا أَصْحَابَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِبِئْرِ مَعُونَةَ،
وَلَمَّا قَدِمَ عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ أَخْبَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فَعَلَ فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ قَتَلْتَ قَتِيلَيْنِ وَلَآدِيَنَّهُمَا»
، وَخَرَجَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ يَسْتَعِينُهُمْ فِي دِيَةِ ذَيْنِكَ الْقَتِيلَيْنِ إِذْ كَانَ بَيْنَ بَنِي النَّضِيرِ وَبَيْنَ بَنِي عَامِرٍ حِلْفٌ، وَأَضْمَرَ بَنُو النَّضِيرِ الْغَدْرَ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَأَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمِينَ بِالتَّهَيُّؤِ لِحَرْبِهِمْ.
جَعَلَ الْمُتَنَبِّي الْقَوْمَ الَّذِينَ تَرَكُوا نَزِيلَهُمْ يَرْحَلُ عَنْهُمْ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى إِمْسَاكِهِ رَاحِلِينَ عَنْ نَزِيلِهِمْ فِي قَوْلِهِ:
إِذَا تَرَحَّلَتَ عَنْ قَوْمٍ وَقَدْ قَدَرُوا أَنْ لَا تُفَارِقَهُمْ فَالرَّاحِلُونَ هُمُو
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَفْتُونُ مَصْدَرًا عَلَى وَزْنِ الْمَفْعُولِ مِثْلُ الْمَعْقُولِ بِمَعْنَى الْعَقْلِ وَالْمَجْلُودِ بِمَعْنَى الْجَلْدِ وَالْمَيْسُورِ لِلْيُسْرِ، وَالْمَعْسُورِ لِضِدِّهِ، وَفِي الْمَثَلِ «خُذْ مِنْ مَيْسُورِهِ وَدَعْ مَعْسُورَهُ».
وَالْبَاءُ عَلَى هَذَا لِلْمُلَابَسَةِ فِي مَحَلِّ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ عَلَى الْمَفْتُونُ وَهُوَ مُبْتَدَأٌ.
يُضَمَّنُ فِعْلُ (تُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) مَعْنَى: تُوقِنُ وَيُوقِنُونَ، عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ بِفِعْلِ الْإِبْصَارِ عَنِ التَّحَقُّقِ لِأَنَّ أَقْوَى طُرُقِ الْحِسِّ الْبَصَرِ وَيَكُونُ الْإِتْيَانُ بِالْبَاءِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى هَذَا التَّضْمِينِ.
وَالْمَعْنَى: فَسَتَعْلَمُ يَقِينًا ويعلمون يَقِينا بأيّكم الْمَفْتُونُ، فَالْبَاءُ عَلَى أَصْلِهَا مِنَ التَّعْدِيَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِ (يبصر ويبصرون).
[٧]
[سُورَة الْقَلَم (٦٨) : آيَة ٧]
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٧)
تَعْلِيلٌ لِجُمْلَةِ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ [الْقَلَم: ٥- ٦] بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنَ التَّعْرِيضِ بِأَنَّ الْجَانِبَ الْمَفْتُونَ هُوَ الْجَانِبُ الْقَائِلُ لَهُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ [الْحجر: ٦] وَأَنَّ ضِدَّهُ بِضِدِّهِ هُوَ الرَّاجِعُ الْعَقْلُ أَيِ الَّذِي أَخْبَرَكَ بِمَا كَنَّى عَنْهُ قَوْلَهُ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ [الْقَلَم: ٥] مِنْ أَنَّهُمُ الْمَجَانِينُ هُوَ الْأَعْلَمُ بِالْفَرِيقَيْنِ وَهُوَ الَّذِي أَنْبَأَكَ بِأَنْ سَيَتَّضِحُ الْحَقُّ لِأَبْصَارِهِمْ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَفْتُونَ هُوَ الْفَرِيقُ الَّذِينَ وَسَمُوا النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنَّهُ مَجْنُونٌ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [الْقَلَم: ٢] إِذْ هُمُ الضَّالُّونَ عَنْ سَبِيلِ رَبِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا مَحَالَةَ، وَيَنْتَظِمُ بِالتَّدَرُّجِ مَنْ أَوَّلِ السُّورَةِ إِلَى هُنَا أَقْيِسَةُ مُسَاوَاةٍ مُنْدَرِجٌ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ تَقْتَضِي مُسَاوَاةَ حَقِيقَةِ مَنْ ضَلَّ عَنْ سُبُلِ رَبِّ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَقِيقَةِ الْمَفْتُونِ. وَمُسَاوَاةَ حَقِيقَةِ الْمَفْتُونِ بِحَقِيقَةِ الْمَجْنُونِ، فَتُنْتِجُ أَنَّ فَرِيقَ الْمُشْرِكِينَ هُمُ الْمُتَّصِفُونَ بِالْجُنُونِ بِقَاعِدَةِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ أَنَّ مُسَاوِيَ الْمُسَاوِي لِشَيْءٍ مُسَاوٍ لِذَلِكَ الشَّيْءِ.
وَالرَّجْفُ: الِاضْطِرَابُ وَالِاهْتِزَازُ وَفِعْلُهُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهُ فِعْلٌ قَاصِرٌ وَلَمْ أَرَ مَنْ قَالَ: إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ مُتَعَدِّيًا، فَلِذَلِكَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ تَرْجُفُ إِلَى الرَّاجِفَةُ حَقِيقِيًّا، فَالْمُرَادُ بِ الرَّاجِفَةُ: الْأَرْضُ لِأَنَّهَا تَضْطَرِبُ وَتَهْتَزُّ بِالزَّلَازِلِ الَّتِي تَحْصُلُ عِنْدَ فَنَاءِ الْعَالَمِ الدُّنْيَوِيِّ وَالْمَصِيرِ إِلَى الْعَالَمِ الْأُخْرَوِيِّ قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ [المزمل: ١٤] وَقَالَ: إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا [الْوَاقِعَة: ٤] وَتَأْنِيثُ الرَّاجِفَةُ لِأَنَّهَا الْأَرْضُ، وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أَنَّ رَجْفَةً أُخْرَى تَتَبَعُ الرَّجْفَةَ السَّابِقَةَ لِأَنَّ صِفَةَ الرَّاجِفَةُ تَقْتَضِي وُقُوعَ رَجْفَةٍ، فَالرَّادِفَةُ رَجْفَةٌ ثَانِيَةٌ تَتْبَعُ الرَّجْفَةَ الْأُولَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِسْنَادُ تَرْجُفُ إِلَى الرَّاجِفَةُ مَجَازًا عَقْلِيًّا، أَطْلَقَ الرَّاجِفَةُ عَلَى سَبَبِ الرَّجْفِ.
فَالْمُرَادُ بِ الرَّاجِفَةُ الصَّيْحَةُ وَالزَّلْزَلَةُ الَّتِي تَرْجُفُ الْأَرْضُ بِسَبَبِهَا جُعِلَتْ هِيَ الرَّاجِفَةَ مُبَالَغَةً كَقَوْلِهِمْ: عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، وَهَذَا هُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ أَيْ تَتْبَعُ تِلْكَ الرَّاجِفَةَ، أَيْ مُسَبِّبَةُ الرَّجْفِ رَادِفَةٌ، أَيْ وَاقِعَةٌ بَعْدَهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرَّجْفُ مُسْتَعَارًا لِشِدَّةِ الصَّوْتِ فَشُبِّهَ الصَّوْتُ الشَّدِيدُ بِالرَّجْفِ وَهُوَ التَّزَلْزُلُ.
وَتَأْنِيثُ الرَّاجِفَةُ عَلَى هَذَا لِتَأْوِيلِهَا بِالْوَاقِعَةِ أَوِ الْحَادِثَةِ.
وتَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ: التَّالِيَةُ، يُقَالُ: رَدِفَ بِمَعْنَى تَبِعَ، وَالرَّدِيفُ: التَّابِعُ لِغَيْرِهِ، قَالَ تَعَالَى: أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (١) [الْأَنْفَال: ٩]، أَيْ تَتْبَعُ الرَّجْفَةَ الْأُولَى، ثَانِيَةٌ، فَالْمُرَادُ: رَادِفَةٌ مِنْ جِنْسِهَا وَهُمَا النَّفْخَتَانِ اللَّتَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: ٦٨].
وَجُمْلَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ حَالٌ مِنَ الرَّاجِفَةُ وَتَنْكِيرُ قُلُوبٌ لِلتَّكْثِيرِ، أَيْ قُلُوبٌ كَثِيرَةٌ وَلِذَلِكَ وَقَعَ مُبْتَدَأً وَهُوَ نَكِرَةٌ لِإِرَادَةِ النَّوْعِيَّةِ.
_________
(١) فِي المطبوعة: «يمددكم ربكُم بِثَلَاثَة آلَاف من الْمَلَائِكَة مُردفِينَ».


الصفحة التالية
Icon