بِاسْمِ الْفَاعِلِ فَقِيلَ هَادٍ لِلْمُتَّقِينَ، فَهَذَا ثَنَاءٌ عَلَى الْقُرْآنِ وَتَنْوِيهٌ بِهِ وَتَخَلُّصٌ لِلثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ انْتَفَعُوا بِهَدْيِهِ، فَالْقُرْآنُ لَمْ يَزَلْ وَلَنْ يَزَالَ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، فَإِنَّ جَمِيعَ أَنْوَاعِ هِدَايَتِهِ نَفَعَتِ الْمُتَّقِينَ فِي سَائِرِ مَرَاتِبِ التَّقْوَى، وَفِي سَائِرِ أَزْمَانِهِ وَأَزْمَانِهِمْ عَلَى حَسَبِ حِرْصِهِمْ وَمَبَالِغِ عِلْمِهِمْ وَاخْتِلَافِ مُطَالِبِهِمْ، فَمِنْ مُنْتَفِعٍ بِهَدْيِهِ فِي الدِّينِ، وَمِنْ مُنْتَفِعٍ فِي السِّيَاسَةِ وَتَدْبِيرِ أُمُورِ الْأُمَّةِ، وَمِنْ مُنْتَفِعٍ بِهِ فِي الْأَخْلَاقِ وَالْفَضَائِلِ، وَمِنْ مُنْتَفِعٍ بِهِ فِي التَّشْرِيعِ وَالتَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ، وَكُلُّ أُولَئِكَ مِنَ الْمُتَّقِينَ وَانْتِفَاعُهُمْ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَبَالِغِ تَقْوَاهُمْ. وَقَدْ جَعَلَ أَئِمَّةُ الْأُصُولِ الِاجْتِهَادَ فِي الْفِقْهِ مِنَ التَّقْوَى، فَاسْتَدَلُّوا عَلَى وُجُوبِ الِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن: ١٦] فَإِنْ قَصَّرَ بِأَحَدٍ سَعْيُهُ عَنْ كَمَالِ الِانْتِفَاعِ بِهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ لِنَقْصٍ فِيهِ لَا فِي الْهِدَايَةِ، وَلَا يَزَالُ أَهْلُ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ يَتَسَابَقُونَ فِي التَّحْصِيلِ عَلَى أَوْفَرِ مَا يَسْتَطِيعُونَ مِنَ الِاهْتِدَاءِ بِالْقُرْآنِ.
وَتَلْتَئِمُ الْجُمَلُ الْأَرْبَع كَمَال الالتئمام: فَإِنَّ جملَة الم [الْبَقَرَة: ١] تَسْجِيلٌ لِإِعْجَازِ الْقُرْآنِ وَإِنْحَاءٍ عَلَى عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ عَجْزِهِمْ عَنْ مُعَارَضَتِهِ وَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ حُرُوفِ كَلَامِهِمْ وَكَفَى بِهَذَا نِدَاءً عَلَى تَعَنُّتِهِمْ.
وَجُمْلَةُ: ذلِكَ الْكِتابُ تَنْوِيهٌ بِشَأْنِهِ وَأَنَّهُ بَالِغٌ حَدَّ الْكَمَالِ فِي أَحْوَالِ الْكُتُبِ، فَذَلِكَ
مُوَجَّهٌ إِلَى الْخَاصَّةِ مِنَ الْعُقَلَاءِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ هَذَا كِتَابٌ مُؤَلَّفٌ من حُرُوف كلامكم، وَهُوَ بَالِغٌ حَدَّ الْكَمَالِ مِنْ بَيْنِ الْكُتُبِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِمَّا يُوَفِّرُ دَوَاعِيَكُمْ عَلَى اتِّبَاعِهِ وَالِافْتِخَارِ بِأَنْ مُنِحْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ تَعُدُّونَ أَنْفُسَكُمْ أَفْضَلَ الْأُمَمِ، فَكَيْفَ لَا تُسْرِعُونَ إِلَى مُتَابَعَةِ كِتَابٍ نَزَلَ فِيكُمْ هُوَ أَفْضَلُ الْكُتُبِ فَوِزَانُ هَذَا وِزَانُ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا إِلَى قَوْله: وَرَحْمَةٌ [الْأَنْعَام: ١٥٦، ١٥٧]، وَمَوَجَّهٌ إِلَى أَهْلِ الْكِتَابِ بِإِيقَاظِهِمْ إِلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِمَّا أُوتُوهُ.
وَجُمْلَةُ: لَا رَيْبَ إِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: لَا رَيْبَ تَعْرِيضٌ بِكُلِّ الْمُرْتَابِينَ فِيهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ أَنَّ الِارْتِيَابَ فِي هَذَا الْكِتَابِ نَشَأَ عَنِ الْمُكَابَرَةِ، وَأَنْ (لَا رَيْبَ) فَإِنَّهُ الْكِتَابُ الْكَامِلُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ: فِيهِ كَانَ تَعْرِيضًا بِأَهْلِ الْكِتَابِ فِي تَعَلُّقِهِمْ بِمُحَرَّفِ كِتَابَيْهِمْ مَعَ مَا فِيهِمَا مِنْ مَثَارِ الرَّيْبِ وَالشَّكِّ مِنَ الِاضْطِرَابِ الْوَاضِحِ الدَّالِّ
عَلَى الْعُمْرَةِ كُلُّ ذَلِكَ شَرَعَهُ اللَّهُ رُخْصَةً لِلنَّاسِ، وَإِبْطَالًا لِمَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ مَنْعِ الْعُمْرَةِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَفَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْهَدْيَ جَبْرًا لِمَا كَانَ يَتَجَشَّمُهُ مِنْ مَشَقَّةِ الرُّجُوعِ إِلَى مَكَّةَ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ تَمَتُّعًا.
وَقَدِ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي التَّمَتُّعِ وَفِي صِفَتِهِ فَالْجُمْهُورُ عَلَى جَوَازِهِ، وَأَنَّهُ يَحِلُّ مِنْ عُمْرَتِهِ الَّتِي أَحْرَمَ بِهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يُحْرِمُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَجَّةٍ فِي عَامِهِ ذَلِكَ، وَكَانَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ لَا يَرَى التَّمَتُّعَ وَيَنْهَى عَنْهُ فِي خِلَافَتِهِ، وَلَعَلَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ بِمِثْلِ مَا تَأَوَّلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ كَمَا يَأْتِي قَرِيبًا، وَخَالَفَهُ عَلِيٌّ وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانِ بْنِ حُصَيْنٍ تَمَتَّعْنَا على عهد النَّبِي وَنَزَلَ الْقُرْآنُ ثُمَّ قَالَ رجل من بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ (يُرِيدُ عُثْمَانَ)، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَا يَرَى لِلْقَارِنِ إِذَا أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَبِحَجَّةٍ مَعًا وَتَمَّمَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِهِ حَتَّى يَحِلَّ مِنْ إِحْرَامِ حَجِّهِ فَقَالَ لَهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ إِنِّي جِئْتُ مِنَ الْيَمَنِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ بِمَكَّةَ مُحْرِمًا (أَيْ عَامَ الْوَدَاعِ) فَقَالَ لِي بِمَ أَهَلَلْتَ؟ قُلْتُ أَهْلَلْتُ بِإِهْلَالٍ كَإِهْلَالِ النَّبِيءِ فَقَالَ لِي هَلْ مَعَكَ هَدْيٌ قُلْتُ لَا فَأَمَرَنِي فطفت وسعيت ثمَّ أَمرنِي فَأَحْلَلْتُ وَغَسَلْتُ رَأْسِي وَمَشَّطَتْنِي امْرَأَةٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَلَمَّا حَدَّثَ أَبُو مُوسَى عُمَرَ بِهَذَا قَالَ عُمَرُ: «إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ يَأْمُرُنَا بِالْإِتْمَامِ وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيَ مَحِلَّهُ»، وَجُمْهُورُ الصَّحَابَةِ وَالْفُقَهَاءِ يُخَالِفُونَ رَأْيَ عُمَرَ وَيَأْخُذُونَ بِخَبَرِ أَبِي مُوسَى-
وَبِحَدِيثِ عَلِيٍّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَوْلَا أَنَّ مَعِيَ الْهَدْيَ لَأَحْلَلْتُ»
، وَقَدْ يَنْسِبُ بَعْضُ النَّاسِ إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ لَا يَرَى جَوَازَ التَّمَتُّعِ وَهُوَ وَهْمٌ إِنَّمَا رَأْيُ عُمَرَ لَا يَجُوزُ الْإِحْلَالُ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي التَّمَتُّعِ إِلَى أَنْ يَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ وَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِهِ فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ، فَلَعَلَّهُ رَأَى الْإِحْلَالَ لِلْمُتَلَبِّسِ بِنِيَّةِ الْحَجِّ مُنَافِيًا لِنِيَّتِهِ وَهُوَ مَا عَبَّرَ عَنْهُ بِالْإِتْمَامِ وَلَعَلَّهُ كَانَ لَا يَرَى الْآحَادَ مُخَصِّصًا لِلْمُتَوَاتِرِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ لِأَنَّ فِعْلَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَا مُتَوَاتِرٌ، إِذْ قَدْ شَهِدَهُ كَثِيرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَنَقَلُوا حَجَّهُ وَأَنه أهل بهما جَمِيعًا.
نَعَمْ، كَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ يَرَيَانِ إِفْرَادَ الْحَجِّ أَفْضَلَ مِنَ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ رَوَى عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ أَنَّهُ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْحَدِيثَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ بِعَمَلِ الشَّيْخَيْنِ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَرَى التَّمَتُّعَ خَاصًّا بِالْمُحْصَرِ إِذَا تَمَكَّنَ مِنَ الْوُصُولِ إِلَى الْبَيْتِ بَعْدَ أَنْ فَاتَهُ وُقُوفُ
وَالْحَقُّ أَنَّ مَنْشَأَ الشُّعُورِ بِالْجَمَالِ قَدْ يَكُونُ عَنِ الْمُلَائِمِ، وَعَنِ التَّأَثُّرِ الْعَصَبِيِّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ أَيْضًا كَتَأَثُّرِ الْمَحْمُومِ بِاللَّوْنِ الْأَحْمَرِ، وَعَنِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ بِكَثْرَةِ الْمُمَارَسَةِ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ كَمَا قَالَ ابْنُ الرُّومِيِّ:

وَحَبَّبَ أَوْطَانَ الرِّجَالِ إِلَيْهِمُ مَآرِبُ قَضَّاهَا الشَّبَابُ هُنَالِكَ
إِذَا ذَكَرُوا أَوْطَانَهُمْ ذَكَّرَتْهُمُ عُهُودَ الصِّبَا فِيهَا فَحَنُّوا لِذَلِكَ
وَعَنْ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ وَالْمَنْفَعَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمُلَائِمِ، وَعَنِ اعْتِقَادِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى الْمَأْلُوفِ الرَّاجِعِ إِلَى الْمُمَارَسَةِ بِسَبَبِ تَرَقُّبِ الْخَيْرِ مِنْ صَاحِبِ الْكَمَالِ وَالْفَضِيلَةِ.
وَوَرَاءَ ذَلِكَ كُلِّهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمَالِ وَمِنَ الْمَحَبَّةِ لَا يُمْكِنُ تَعْلِيلُهُ وَهُوَ اسْتِحْسَانُ الذَّوَاتِ الْحَسَنَةِ وَاسْتِقْبَاحُ الْأَشْيَاءِ الْمُوحِشَةِ فَنَرَى الطِّفْلَ الَّذِي لَا إِلْفَ لَهُ بِشَيْءٍ يَنْفِرُ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي نَرَاهَا وَحِشَةً.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي أَنَّ الْمَحَبَّةَ وَالْجَمَالَ هَلْ يُقْصَرَانِ عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ:
فَالَّذِينَ قَصَرُوهُمَا عَلَى الْمَحْسُوسَاتِ لَمْ يُثْبِتُوا غَيْرَ الْمَحَبَّةِ الْمَادِّيَّةِ، وَالَّذِينَ لَمْ يَقْصُرُوهُمَا عَلَيْهَا أَثْبَتُوا الْمَحَبَّةَ الرَّمْزِيَّةَ، أَعْنِي الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْأَكْوَانِ غَيْرِ الْمَحْسُوسَةِ كَمَحَبَّةِ الْعَبْدِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَقَالَ بِهِ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ أَفْلَاطُونُ، وَمِنَ الْمُسْلِمِينَ الْغَزَّالِيُّ وَفَخْرُ
الدِّينِ وَقَدْ أُضِيفَتْ هَذِهِ الْمَحَبَّةُ إِلَى أَفْلَاطُونَ، فَقِيلَ مَحَبَّةٌ أَفْلَاطُونِيَّةٌ: لِأَنَّهُ بَحَثَ عَنْهَا وَعَلَّلَهَا فَإِنَّنَا نَسْمَعُ بِصِفَاتِ مَشَاهِيرِ الرِّجَالِ مِثْلِ الرُّسُلِ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالَّذِينَ نَفَعُوا النَّاسَ، وَالَّذِينَ اتَّصَفُوا بِمَحَامِدِ الصِّفَاتِ كَالْعِلْمِ وَالْكَرَمِ وَالْعَدْلِ، فَنَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا مَيْلًا إِلَى ذِكْرِهِمْ ثُمَّ يَقْوَى ذَلِكَ الْمَيْلُ حَتَّى يَصِيرَ مَحَبَّةً مِنَّا إِيَّاهُمْ مَعَ أَنَّنَا مَا عَرَفْنَاهُمْ، أَلَا تَرَى أَنَّ مُزَاوَلَةَ كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ مِمَّا يُقَوِّي مَحَبَّةَ الْمُزَاوِلِ فِي الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَذَلِكَ صِفَاتُ الْخَالِقِ تَعَالَى، لَمَّا كَانَتْ كُلُّهَا كَمَالَاتٍ وَإِحْسَانًا إِلَيْنَا وَإِصْلَاحًا لِفَاسِدِنَا، أَكْسَبَنَا اعْتِقَادُهَا إِجْلَالًا لِمَوْصُوفِهَا، ثُمَّ يَذْهَبُ ذَلِكَ الْإِجْلَالُ يَقْوَى إِلَى أَنْ يَصِيرَ مَحَبَّةً
وَفِي الْحَدِيثِ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ»
فَكَانَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْ قَبِيلِ الْمَحَبَّةِ وَلِذَلِكَ جُعِلَ عِنْدَهَا وِجْدَانُ حَلَاوَةِ الْإِيمَانِ أَيْ وِجْدَانُهُ جَمِيلًا عِنْدَ مُعْتَقِدِهِ.
وَلَمْ يَكُنْ فِي الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ وَلَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ حَدٌّ لِلزَّوْجَاتِ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنْ جَاءَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِتَحْدِيدٍ لِلتَّزَوُّجِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ تَوَهَّمَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا مِثْلُ الْقَرَافِيِّ، وَلَا أَحْسَبُهُ صَحِيحًا، وَالْإِسْلَامُ هُوَ الَّذِي جَاءَ بِالتَّحْدِيدِ، فَأَمَّا أَصْلُ التَّحْدِيدِ فَحِكْمَتُهُ ظَاهِرَةٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ الْعَدْلَ لَا يَسْتَطِيعُهُ كُلُّ أَحَدٍ، وَإِذَا لَمْ يَقُمْ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ عَلَى قَاعِدَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُنَّ اخْتَلَّ نِظَامُ الْعَائِلَةِ، وَحَدَثَتِ الْفِتَنُ فِيهَا، وَنَشَأَ عُقُوقُ الزَّوْجَاتِ أَزْوَاجَهُنَّ، وَعُقُوقُ الْأَبْنَاءِ آبَاءَهُمْ بِأَذَاهُمْ فِي زَوْجَاتِهِمْ وَفِي أَبْنَائِهِمْ، فَلَا جَرَمَ أَنْ كَانَ الْأَذَى فِي التَّعَدُّدِ لِمَصْلَحَةٍ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ مَضْبُوطَةً غَيْرَ عَائِدَةٍ عَلَى الْأَصْلِ بِالْإِبْطَالِ.
وَأَمَّا الِانْتِهَاءُ فِي التَّعَدُّدِ إِلَى الْأَرْبَعِ فَقَدْ حَاوَلَ كَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ تَوْجِيهَهُ فَلَمْ يَبْلُغُوا إِلَى غَايَةٍ مُرْضِيَةٍ، وَأَحْسَبُ أَنَّ حِكْمَتَهُ نَاظِرَةٌ إِلَى نِسْبَةِ عَدَدِ النِّسَاءِ مِنَ الرِّجَالِ فِي غَالِبِ الْأَحْوَالِ، وَبِاعْتِبَارِ الْمُعَدَّلِ فِي التَّعَدُّدِ فَلَيْسَ كُلُّ رَجُلٍ يَتَزَوَّجُ أَرْبَعًا، فَلْنَفْرِضِ الْمُعَدَّلَ يَكْشِفُ عَنِ امْرَأَتَيْنِ لِكُلِّ رجل، يدلّنا ذَلِك عَلَى أَنَّ النِّسَاءَ ضَعْفُ الرِّجَالِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا مَا جَاءَ فِي «الصَّحِيحِ» : أَنَّهُ يَكْثُرُ النِّسَاءُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنْ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: فَواحِدَةً، فَقَدْ خَيَّرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاحِدَةِ بِاعْتِبَارِ التَّعَدُّدِ، أَيْ فَوَاحِدَةً مِنَ الْأَزْوَاجِ أَوْ عَدَدٍ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْلُوكَاتِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِنَّ مِنَ الْعَدْلِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الْأَزْوَاجِ، وَلَكِنْ يُشْتَرَطُ حُسْنُ الْمُعَامَلَةِ وَتَرْكُ الضُّرِّ، وَإِنْ عَطَفْتَهُ عَلَى قَوْلِهِ: فَانْكِحُوا مَا طابَ كَانَ تَخْيِيرًا بَيْنَ التَّزَوُّجِ وَالتَّسَرِّي بِحَسَبِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَكَانَ الْعَدْلُ فِي الْإِمَاءِ الْمُتَّخَذَاتِ لِلتَّسَرِّي مَشْرُوطًا قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَاتِ، وَكَذَلِكَ الْعَدَدُ بِحَسَبِ الْمَقْدِرَةِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي التَّسَرِّي الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ لِأَنَّ الْقُيُودَ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْجُمَلِ تَرْجِعُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا. وَقَدْ مَنَعَ الْإِجْمَاعُ مِنْ قِيَاسِ الْإِمَاء على الْحَرَائِر فِي نِهَايَةِ الْعَدَدِ، وَهَذَا الْوَجْهُ أَدْخُلُ فِي حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ وَأَنْظَمُ فِي
مَعْنَى قَوْلِهِ: ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا إِلَى الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: فَانْكِحُوا مَا طابَ لَكُمْ إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ بِاعْتِبَارِ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ
فَقَوْلُهُ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما لَيْسَ هُوَ الْجَوَابُ، وَلَكِنَّهُ دَلِيلُهُ وَعِلَّتُهُ، وَالتَّقْدِيرُ: فَلَا يُهِمُّكُمْ أَمْرُهُمَا عِنْدَ التَّقَاضِي، فَاللَّهُ أَوْلَى بِالنَّظَرِ فِي شَأْنِهِمَا، وَإِنَّمَا عَلَيْكُمُ النَّظَرُ فِي الْحَقِّ.
وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا فَجَعَلَ الْمَيْلَ نَحْوَ الْمَوَالِي وَالْأَقَارِبِ مِنَ الْهَوَى، وَالنَّظَرَ إِلَى الْفَقْرِ وَالْغِنَى مِنَ الْهَوَى.
وَالْغَنِيُّ: ضِدُّ الْفَقِيرِ، فَالْغِنَى هُوَ عَدَمٌ إِلَى الِاحْتِيَاجِ إِلَى شَيْءٍ، وَهُوَ مَقُولٌ عَلَيْهِ بِالتَّفَاوُتِ، فَيُعْرَفُ بِالْمُتَعَلِّقِ كَقَوْلِهِ: «كِلَانَا غَنِيٌّ عَنْ أَخِيهِ حَيَاتَهُ»، وَيُعْرَفُ بِالْعُرْفِ يُقَالُ:
فُلَانٌ غَنِيٌّ، بِمَعْنَى لَهُ ثَرْوَةٌ يَسْتَطِيعُ بِهَا تَحْصِيلَ حَاجَاتِهِ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ، فَوِجْدَانُ أُجُورِ الْأُجَرَاءِ غِنًى، وَإِنْ كَانَ الْمُسْتَأْجِرُ مُحْتَاجًا إِلَى الْأُجَرَاءِ، لِأَنَّ وِجْدَانَ الْأُجُورِ يَجْعَلُهُ كَغَيْرِ الْمُحْتَاجِ، وَالْغِنَى الْمُطْلَقُ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالْفَقِيرُ: هُوَ الْمُحْتَاجُ إِلَّا أَنَّهُ يُقَالُ افْتَقَرَ إِلَى كَذَا، بِالتَّخْصِيصِ، فَإِذَا قِيلَ: هُوَ فَقِيرٌ، فَمَعْنَاهُ فِي الْعُرْفِ أَنَّهُ كَثِيرُ الِاحْتِيَاجِ إِلَى فَضْلِ النَّاسِ، أَوْ إِلَى الصَّبْرِ عَلَى الْحَاجَةِ لِقِلَّةِ ثَرْوَتِهِ، وَكُلُّ مَخْلُوقٍ فَقِيرٌ فَقْرًا نِسْبِيًّا، قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ [مُحَمَّد: ٣٨].
وَاسْمُ يَكُنْ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قَوَّامِينَ
بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ
مِنْ مَعْنَى التَّخَاصُمِ وَالتَّقَاضِي. وَالتَّقْدِيرُ: إِنْ يَكُنْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَصْفِ أَوْ هَذَا الْوَصْفِ، وَالْمُرَادُ الْجِنْسَانِ، وَ (أَوْ) لِلتَّقْسِيمِ، وَتَثْنِيَةُ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما لِأَنَّهُ عَائِدٌ إِلَى «غَنِيًّا وَفَقِيرًا» بِاعْتِبَارِ الْجِنْسِ، إِذْ لَيْسَ الْقَصْدُ إِلَى فَرْدٍ مُعَيَّنٍ ذِي غِنًى، وَلَا إِلَى فَرْدٍ مُعَيَّنٍ ذِي فَقْرٍ، بَلْ فَرْدٍ شَائِعٍ فِي هَذَا الْجِنْسِ وَفِي ذَلِكَ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ: أَنْ تَعْدِلُوا مَحْذُوفٌ مِنْهُ حَرْفُ الْجَرِّ، كَمَا هُوَ الشَّأْنُ مَعَ أَنِ الْمَصْدَرِيَّةِ، فَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ لَامَ التَّعْلِيلِ فَيَكُونُ تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ، أَيْ لَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى لِتَعْدِلُوا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْمَحْذُوفُ (عَنْ)، أَيْ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى عَنِ الْعَدْلِ، أَيْ مُعْرِضِينَ عَنْهُ.
وَقَدْ عَرَفْتُ قَاضِيًا لَا مَطْعَنَ فِي ثِقَتِهِ وَتَنَزُّهِهِ، وَلَكِنَّهُ كَانَ مُبْتَلًى بِاعْتِقَادِ أَنَّ مَظِنَّةَ الْقُدْرَةِ وَالسُّلْطَانِ لَيْسُوا إِلَّا ظَلَمَةً: مِنْ أَغْنِيَاءَ أَوْ رِجَالٍ. فَكَانَ يَعْتَبِرُ هَذَيْنِ الصِّنْفَيْنِ مَحْقُوقَيْنِ فَلَا يَسْتَوْفِي التَّأَمُّلَ مِنْ حُجَجِهِمَا.
بَعْضًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ، أَيْ أَنَّ بَعْضَ ذُنُوبِهِمْ كَافِيَةٌ فِي إِصَابَتِهِمْ وَأَنَّ تَوَلِّيَهُمْ عَنْ حُكْمِكَ أَمَارَةُ خِذْلَانِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ.
وَقَدْ ذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لِيَهُونَ عِنْدَهُ بَقَاؤُهُمْ عَلَى ضَلَالِهِمْ إِذْ هُوَ شَنْشَنَةُ أَكْثَرِ النّاس، أَي وهولاء مِنْهُمْ فَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنْ كَونهم فاسقين.
[٥٠]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٥٠]
أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠)
فَرَّعَتِ الْفَاءُ عَلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ [الْمَائِدَة: ٤٩] إِلَخِ اسْتِفْهَامًا عَنْ مُرَادِهِمْ مِنْ ذَلِكَ التَّوَلِّي، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ، لِأَنَّهُمْ طَلَبُوا حُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ. وَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ هُوَ مَا تَقَرَّرَ بَيْنَ الْيَهُودِ مِنْ تَكَايُلِ الدِّمَاءِ الَّذِي سَرَى إِلَيْهِمْ مِنْ أَحْكَامِ أَهْلِ يَثْرِبَ، وَهُمْ أَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ، فَإِنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمْ يَرْضَوْا بِالتَّسَاوِي مَعَ قُرَيْظَةَ كَمَا تَقَدَّمَ وَمَا وَضَعُوهُ مِنَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَهُوَ الْعُدُولُ عَنِ الرَّجْمِ الَّذِي هُوَ حُكْمُ التَّوْرَاةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْغُونَ- بِيَاءِ الْغَائِبِ-، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ لِ مَنْ مَنْ قَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ [الْمَائِدَة: ٤٧]. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ- بِتَاءِ الْخِطَابِ- عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ لِلْيَهُودِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ.
وَالْوَاوُ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً وَاوُ الْحَالِ، وَهُوَ اعْتِرَاضٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ فِي مَعْنَى النَّفْيِ، أَيْ لَا أَحْسَنَ مِنْهُ حُكْمًا. وَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُسْلِمِينَ، إِذْ لَا فَائِدَةَ فِي خِطَابِ الْيَهُودِ بِهَذَا.
وَقَوْلُهُ: لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ اللَّامُ فِيهِ لَيْسَتْ مُتَعَلِّقَةً بِ حُكْماً إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ بِمَدْخُولِهَا الْمَحْكُومَ لَهُمْ، وَلَا هِيَ لَامُ التَّقْوِيَةِ لِأَنَّ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ لَيْسَ مَفْعُولًا لِ حُكْماً فِي الْمَعْنَى. فَهَذِهِ اللَّامُ تُسَمَّى لَامَ الْبَيَانِ وَلَامَ التَّبْيِينِ، وَهِيَ الَّتِي تَدْخُلُ عَلَى الْمَقْصُودِ مِنَ الْكَلَامِ سَوَاءٌ كَانَ خَبَرًا أَمْ إِنْشَاءً، وَهِيَ الْوَاقِعَةُ فِي نَحْوِ قَوْلِهِمْ: سَقْيًا لَكَ،
وَ (قَدْ) لِتَوْكِيدِ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ، وَهُوَ الْمُفَرَّعُ بِالْفَاءِ فِي قَوْلِهِ: فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ. نَزَلَ السَّامِعُونَ الْمُعَرَّضُ بِإِنْذَارِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُونَ أَنْ يَكُونَ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عِقَابًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى إِعْرَاضِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَأَخَذْناهُمْ عَطْفٌ عَلَى أَرْسَلْنا بِاعْتِبَارِ مَا يُؤْذِنُ بِهِ وَصْفُ مِنْ قَبْلِكَ مِنْ مُعَامَلَةِ أُمَمِهِمْ إِيَّاهُمْ بِمِثْلِ مَا عَامَلَكَ بِهِ قَوْمُكَ، فَيَدُلُّ الْعَطْفُ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ:
فَكَذَّبُوهُمْ.
وَلَمَّا كَانَ أَخْذُهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ مُقَارِنًا لِزَمَنِ وُجُودِ رُسُلِهِمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ كَانَ الْمَوْقِعُ لِفَاءِ الْعَطْفِ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بِمَرْأَى رُسُلِهِمْ وَقَبْلَ انْقِرَاضِهِمْ لِيَكُونَ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ اللَّهَ أَيَّدَ رُسُلَهُ وَنَصَرَهُمْ فِي حَيَاتِهِمْ لِأَنَّ أَخْذَ الْأُمَمِ بِالْعِقَابِ فِيهِ حِكْمَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: زَجْرُهُمْ عَنِ التَّكْذِيبِ، وَالثَّانِيَةُ: إِكْرَامُ الرُّسُلِ بِالتَّأْيِيدِ بِمَرْأًى مِنَ الْمُكَذِّبِينَ. وَفِيهِ تَكْرِمَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِيذَانِهِ بِأَنَّ اللَّهَ نَاصِرُهُ عَلَى مكذّبيه.
وَمعنى فَأَخَذْناهُمْ أَصَبْنَاهُمْ إِصَابَةَ تَمَكُّنٍ. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الْأَخْذِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٦].
وَقَدْ ذُكِرَ مُتَعَلِّقُ الْأَخْذِ هُنَا لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِشَيْءٍ خَاصٍّ بِخِلَافِ الْآتِي بُعَيْدَ هَذَا.
وَالْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ تَقَدَّمَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٧٧]. وَقَدْ فُسِّرَ الْبَأْسَاءُ بِالْجُوعِ وَالضَّرَّاءُ بِالْمَرَضِ، وَهُوَ تَخْصِيصٌ لَا وَجْهَ لَهُ، لِأَنَّ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ مِنَ الْعَذَابِ كَانَ أَصْنَافًا كَثِيرَةً. وَلَعَلَّ مَنْ فَسَّرَهُ بِذَلِكَ اعْتَبَرَ مَا أَصَابَ قُرَيْشًا بِدَعْوَةِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَ (لَعَلَّ) لِلتَّرَجِّي. جُعِلَ عِلَّةً لِابْتِدَاءِ أَخْذِهِمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ قَبْلَ الِاسْتِئْصَالِ.
وَمَعْنَى يَتَضَرَّعُونَ يَتَذَلَّلُونَ لِأَنَّ الضَّرَاعَةَ التَّذَلُّلُ وَالتَّخَشُّعُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الِاعْتِرَافِ بِالذَّنْبِ وَالتَّوْبَةِ مِنْهُ، وَهِيَ الْإِيمَانُ بِالرُّسُلِ.
وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللَّهَ قَدَّمَ لَهُمْ عَذَابًا هَيِّنًا قَبْلَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ، كَمَا قَالَ: وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ
: فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ.
وَأَصْلُ الْأَخْذِ تَنَاوُلُ شَيْءٍ بِالْيَدِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي مِلْكِ الشَّيْءِ، بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ، وَيُسْتَعْمَلُ أَيْضًا فِي الْقَهْرِ كَقَوْلِهِ: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ [الْأَنْفَال: ٥٢]، فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً [الحاقة: ١٠] وَأَخْذُ الرَّجْفَةِ: إِهْلَاكُهَا إِيَّاهُمْ وَإِحَاطَتُهَا بِهِمْ إِحَاطَةَ الْآخِذِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ اللَّهَ نَجَّى صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ، كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ خَرَجَ فِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقِيلَ: نَزَلُوا رَمْلَةَ فِلَسْطِينَ، وَقِيلَ: تَبَاعَدُوا عَنْ دِيَارِ قَوْمِهِمْ بِحَيْثُ يَرَوْنَهَا، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ وَهَلَكُوا عَادَ صَالِحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ فَسَكَنُوا دِيَارَهُمْ، وَقِيلَ: سَكَنُوا مَكَّةَ وَأَنَّ صَالِحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ دُفِنَ بِهَا، وَهَذَا بَعِيدٌ كَمَا قُلْنَاهُ فِي عَادٍ، وَمِنْ أَهْلِ الْأَنْسَابِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ ثَقِيفًا مِنْ بَقَايَا ثَمُودَ، أَيْ مِنْ ذُرِّيَّةِ مَنْ نَجَا مِنْهُمْ مِنَ الْعَذَابِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ أَنَّ ثَمُودًا انْقَطَعَ دَابِرُهُمْ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْهُمْ بَقِيَّةٌ.
وَالرَّجْفَةُ: اضْطِرَابُ الْأَرْضِ وَارْتِجَاجُهَا، فَتَكُونُ مِنْ حَوَادِثَ سَمَاوِيَّةٍ كَالرِّيَاحِ الْعَاصِفَةِ وَالصَّوَاعِقِ، وَتَكُونُ مِنْ أَسْبَابٍ أَرْضِيَّةٍ كَالزَّلَازِلِ، فَالرَّجْفَةُ اسْمٌ لِلْحَالَةِ الْحَاصِلَةِ، وَقَدْ سَمَّاهَا فِي سُورَةِ هُودٍ بِالصَّيْحَةِ فَعَلِمْنَا أَنَّ الَّذِي أَصَابَ ثَمُودَ هُوَ صَاعِقَةٌ أَوْ صَوَاعِقُ مُتَوَالِيَةٌ رَجَفَتْ أَرْضَهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ صَعِقِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَن تقارنها زلازل أَرْضِيَّةٌ.
وَالدَّارُ: الْمَكَانُ الَّذِي يَحْتَلُّهُ الْقَوْمُ، وَهُوَ يُفْرَدُ وَيُجْمَعُ بِاعْتِبَارَيْنِ، فَلِذَلِكَ قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ هُودٍ: فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. فَأَصْبَحُوا هُنَا بِمَعْنَى صَارُوا.
وَالْجَاثِمُ: الْمُكِبُّ عَلَى صَدْرِهِ فِي الْأَرْضِ مَعَ قَبْضِ سَاقَيْهِ كَمَا يَجْثُو الْأَرْنَبُ، وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ أَشَدَّ سُكُونًا وَانْقِطَاعًا عَنِ اضْطِرَابِ الْأَعْضَاءِ اسْتُعْمِلَ فِي الْآيَةِ كِنَايَةً عَنْ هُمُودِ الْجُثَّةِ بِالْمَوْتِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ تَشْبِيهَ حَالَةِ وُقُوعِهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ حِينَ صُعِقُوا بِحَالَةِ الْجَاثِمِ تَفْظِيعًا لِهَيْئَةِ مِيتَتَهُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ
يَعْفُوَ وَيَصْفَحَ وَذَلِكَ بِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِجَفَائِهِمْ وَسُوءِ خُلُقِهِمْ، فَلَا يُعَاقِبُهُمْ وَلَا يُقَابِلُهُمْ بِمِثْلِ صَنِيعِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ [آل عمرَان: ١٥٩]، وَلَا يَخْرُجُ عَنْ هَذَا الْعُمُومِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَفْوِ أَزْمَانِهِ وَأَحْوَالِهِ إِلَّا مَا أَخْرَجَتْهُ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ مِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ الْقَاتِلِ غِيلَةً، وَمِثْلَ الْعَفْوِ عَنِ انْتِهَاكِ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَالرَّسُولُ أَعْلَمُ بِمِقْدَارِ مَا يَخُصُّ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ، وَقَدْ يُبَيِّنُهُ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَأُلْحِقَ بِهِ مَا يُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمُبَيَّنِ، وَفِي قَوْلِهِ: وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ ضَابِطٌ عَظِيمٌ لِمِقْدَارِ تَخْصِيصِ الْأَمْرِ بِالْعَفْوِ.
ثُمَّ الْعَفْوُ عَنِ الْمُشْرِكِينَ الْمَقْصُودُ هُنَا أَسْبَقُ أَفْرَادِ هَذَا الْعُمُومِ إِلَى الذِّهْنِ مِنْ بَقِيَّتِهَا وَلَمْ يَفْهَمِ السَّلَفُ مِنَ الْآيَةِ غَيْرَ الْعُمُومِ فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ الْمَدِينَةَ فَنَزَلَ عَلَى ابْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ الْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ قَالَ «هِيهِ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ» فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ لِنَبِيِّهِ: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ، وَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ» وَفِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا فِي أَخْلَاقِ النَّاسِ» وَمَنْ قَالَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَسَخَتْهَا آيَاتُ الْقِتَالِ فَقَدْ وَهِمَ: لِأَنَّ الْعَفْوَ بَابٌ آخَرَ، وَأَمَّا الْقِتَالُ فَلَهُ أَسْبَابُهُ وَلَعَلَّهُ أَرَادَ مِنَ النَّسْخِ مَا يَشْمَلُ مَعْنَى الْبَيَانِ أَوِ التَّخْصِيصِ فِي اصْطِلَاحِ
أُصُولِ الْفِقْهِ.
وَالْعرْف اسْمٌ مُرَادِفٌ لِلْمَعْرُوفِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَهُوَ الْفِعْلُ الَّذِي تَعْرِفُهُ النُّفُوسُ أَيْ لَا تُنْكِرُهُ إِذَا خُلِّيَتْ وَشَأْنَهَا بِدُونِ غَرَضٍ لَهَا فِي ضِدِّهِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى مُرَادِفَتِهِ لِلْمَعْرُوفِ قَوْلُ النَّابِغَةِ:
فَلَا النُّكْرُ مَعْرُوفٌ وَلَا الْعرف ضايع فَقَابَلَ النُّكْرَ بِالْعُرْفِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ

[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٥٤]

وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (٥٤)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ [التَّوْبَة: ٥٣] لِأَنَّ هَذَا بَيَانٌ لِلتَّعْلِيلِ لِعَدَمِ قَبُولِ نَفَقَاتِهِمْ بِزِيَادَةِ ذِكْرِ سَبَبَيْنِ آخَرَيْنِ مَانِعَيْنِ مِنْ قَبُولِ أَعْمَالِهِمْ هُمَا مِنْ آثَارِ الْكُفْرِ وَالْفُسُوقِ. وَهُمَا: أَنَّهُمْ لَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى، وَأَنَّهُمْ لَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ. وَالْكُفْرُ وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ كَافِيًا فِي عَدَمِ الْقَبُولِ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ إِشَارَةٌ إِلَى تَمَكُّنِ الْكُفْرِ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَإِلَى مَذَمَّتِهِمْ بِالنِّفَاقِ الدَّالِّ عَلَى الْجُبْنِ وَالتَّرَدُّدِ. فَذِكْرُ الْكُفْرِ بَيَانٌ لِذِكْرِ الْفُسُوقِ، وَذِكْرُ التَّكَاسُلِ عَنِ الصَّلَاةِ لِإِظْهَارِ أَنَّهُمْ مُتَهَاوِنُونَ بِأَعْظَمِ عِبَادَةٍ فَكَيْفَ يَكُونُ إِنْفَاقُهُمْ عَنْ إِخْلَاصٍ وَرَغْبَةٍ. وَذِكْرُ الْكَرَاهِيَةِ فِي الْإِنْفَاقِ لِإِظْهَارِ عَدَمِ الْإِخْلَاصِ فِي هَذِهِ الْخَصْلَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: أَنْ يُقْبَلَ مِنْهُمْ- بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ- لِأَنَّ جَمْعَ غَيْرِ الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ يَجُوزُ فِيهِ التَّذْكِير وضدّه.
[٥٥]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ٥٥]
فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (٥٥)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَذَمَّةِ حَالِهِمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ وَفْرَةَ أَمْوَالِهِمْ لَا تُوجِبُ لَهُمْ طُمَأْنِينَةَ بَالٍ، بِإِعْلَامِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ مَا يَرَوْنَ بَعْضَ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ فِيهِ مِنْ مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلَّ إِعْجَابِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنْ يَحْسَبُوا الْمُنَافِقِينَ قَدْ نَالُوا شَيْئًا مِنَ الْحَظِّ الْعَاجِلِ بِبَيَانِ أَنَّ ذَلِكَ سَبَبٌ فِي عَذَابِهِمْ فِي الدُّنْيَا.
فَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ تَعْلِيمُ الْأُمَّةِ.
وَلَمَّا قَابَلَ السُّكُونَ فِي جَانِبِ اللَّيْلِ بِالْإِبْصَارِ فِي جَانِبِ النَّهَارِ، وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ ضِدَّانِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ عِلَّةَ السُّكُونِ عَدَمُ الْإِبْصَارِ، وَأَنَّ الْإِبْصَارَ يَقْتَضِي الْحَرَكَةَ فَكَانَ فِي الْكَلَامِ احْتِبَاكٌ.
وَوَصْفُ النَّهَارِ بِمُبْصِرٍ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي حُصُولِ الْإِبْصَارِ فِيهِ حَتَّى جَعَلَ النَّهَارَ هُوَ الْمُبْصِرَ. وَالْمُرَادُ: مُبْصِرًا فِيهِ النَّاسُ.
وَمِنْ لَطَائِفِ الْمُنَاسَبَةِ أَنَّ النُّورَ الَّذِي هُوَ كَيْفِيَّةُ زَمَنِ النَّهَارِ، شَيْءٌ وُجُودِيٌّ، فَكَانَ زَمَانُهُ حَقِيقًا بِأَنْ يُوصَفَ بِأَوْصَافِ الْعُقَلَاءِ، بِخِلَافِ اللَّيْلِ فَإِنَّ ظُلْمَتَهُ عَدَمِيَّةٌ فَاقْتَصَرَ فِي الْعِبْرَةِ بِهِ عَلَى ذِكْرِ الْفَائِدَةِ الْحَاصِلَةِ فِيهِ وَهِيَ أَنْ يَسْكُنُوا فِيهِ.
وَفِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ طَرِيقٌ مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ وَهُوَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَهُوَ هُنَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ وَلَيْسَ إِضَافِيًّا كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الْكَاتِبِينَ إِذْ جَعَلَهُ قَصْرَ تَعْيِينٍ، وَهُمْ مُعْتَرِفُونَ بِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، فَالْمَقْصُودُ الِاسْتِدْلَالُ عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِخَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ الَّتِي مِنْهَا الْخَلْقُ وَالتَّقْدِيرُ، وَأَنَّ آلِهَتَهُمُ انْتَفَتْ عَنْهَا خَصَائِصُ الْإِلَهِيَّةِ، وَقَدْ حَصَلَ مَعَ الِاسْتِدْلَالِ امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِجَعْلِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ عَلَى هَذَا النِّظَامِ.
وَهَذَا الِامْتِنَانُ مُسْتَفَادٌ مِنْ قَوْلِهِ: جَعَلَ لَكُمُ وَمِنْ تَعْلِيلِ خَلْقِ اللَّيْلِ بِعِلَّةِ سُكُونِ النَّاسِ فِيهِ، وَخَلْقِ النَّهَارِ بِعِلَّةِ إِبْصَارِ النَّاسِ، وَكُلُّ النَّاسِ يَعْلَمُونَ مَا فِي سُكُونِ اللَّيْلِ مِنْ نِعْمَةٍ وَمَا فِي إِبْصَارِهِمْ بِالنَّهَارِ مِنْ نِعْمَةٍ كَذَلِكَ، فَإِنَّ فِي الْعَمَلِ بِالنَّهَارِ نِعَمًا جَمَّةً مِنْ تَحْصِيلِ رَغَبَاتٍ، وَمُشَاهَدَةِ مَحْبُوبَاتٍ، وَتَحْصِيلِ أَمْوَالٍ وَأَقْوَاتٍ، وَأَنَّ فِي السُّكُونِ بِاللَّيْلِ نِعَمًا جَمَّةً مِنِ
اسْتِجْمَامِ الْقُوَى الْمَنْهُوكَةِ وَالْإِخْلَادِ إِلَى مُحَادَثَةِ الْأَهْلِ وَالْأَوْلَادِ، عَلَى أَنَّ فِي اخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، مَا يَدْفَعُ عَنِ الْمَرْءِ الْمَلَالَ.
وَفِي إِدْمَاجِ الِاسْتِدْلَالِ بِالِامْتِنَانِ تَعْرِيضٌ بِأَنَّ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ جَمَعُوا وَصْمَتَيْنِ هُمَا: وَصْمَةُ مُخَالَفَةِ الْحَقِّ، وَوَصْمَةُ كُفْرَانِ النِّعْمَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ مُسْتَأْنَفَةٌ. وَالْآيَاتُ: الدَّلَائِلُ الدَّالَّةُ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ النِّظَامَ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ مُشْتَمِلٌ عَلَى دَقَائِقَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْقُدْرَةِ وَإِتْقَانِ الصُّنْعِ.

[سُورَة يُوسُف (١٢) : الْآيَات ١١ إِلَى ١٢]

قالُوا يَا أَبانا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (١٢)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ سَوْقَ الْقِصَّةِ يَسْتَدْعِي تَسَاؤُلَ السَّامِعِ عَمَّا جَرَى بَعْدَ إِشَارَةِ أَخِيهِمْ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ رَجَعُوا عَمَّا بَيَّتُوا وَصَمَّمُوا عَلَى مَا أَشَارَ بِهِ أَخُوهُمْ.
وَابْتِدَاءُ الْكَلَامِ مَعَ أَبِيهِمْ بِقَوْلِهِمْ: يَا أَبانا يَقْضِي أَنَّ تِلْكَ عَادَتُهُمْ فِي خِطَابِ الِابْنِ أَبَاهُ.
وَلَعَلَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- كَانَ لَا يَأْذَنُ لِيُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْخُرُوجِ مَعَ إِخْوَتِهِ لِلرَّعْيِ أَوْ لِلسَّبْقِ خَوْفًا عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يُصِيبَهُ سُوءٌ مِنْ كَيْدِهِمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ يُصَرِّحُ لَهُمْ بِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ وَلَكِنَّ حَالَهُ فِي مَنْعِهِ مِنَ الْخُرُوجِ كَحَالِ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ عَلَيْهِ فَنَزَّلُوهُ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَأْمَنُهُمْ، وَأَتَوْا بِالِاسْتِفْهَامِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى نَفْيِ الِائْتِمَانِ.
وَفِي التَّوْرَاةِ أَنَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- أَرْسَلَهُ إِلَى إِخْوَتِهِ وَكَانُوا قَدْ خَرَجُوا يَرْعَوْنَ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ تَحْرِيفًا فَلَعَلَّ يَعْقُوبَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بَعْدَ أَنِ امْتَنَعَ مِنْ خُرُوجِ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مَعَهُمْ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ، أَوْ بَعْدَ أَنْ سَمِعَ لَوْمَهُمْ عَلَيْهِ سَمَحَ لَهُ بِذَلِكَ.
وَتَرْكِيبُ مَا لَكَ لَا تَفْعَلُ. تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣٥]، وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٣٨]. وَقَوْلُهُ: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٨].
وَاتَّفَقَ الْقُرَّاءُ عَلَى قِرَاءَةِ لَا تَأْمَنَّا بِنُونٍ مُشَدَّدَةٍ مُدْغَمَةٍ مِنْ نُونِ أَمِنَ وَنُونِ جَمَاعَةِ الْمُتَكَلِّمِينَ، وَهِيَ مَرْسُومَةٌ فِي الْمُصْحَفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتَلَفُوا
وَمِنْ مَظَاهِرِ هَذَا التَّثْبِيتِ فِيهِمَا مَا وَرَدَ مِنْ وَصْفِ فِتْنَةِ سُؤَالِ الْقَبْرِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الْمُسْلِمُ إِذَا سُئِلَ فِي الْقَبْرِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»
فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ.
وَجُمْلَةُ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ كالتذليل لِمَا قَبْلَهَا. وَتَحْتَ إِبْهَامِ مَا يَشاءُ وَعُمُومِهِ مَطَاوٍ كَثِيرَةٍ مِنَ ارْتِبَاطِ ذَلِكَ بِمَرَاتِبِ النُّفُوسِ، وَصَفَاءِ النِّيَّاتِ فِي تَطَلُّبِ الْإِرْشَادِ، وَتَرْبِيَةِ ذَلِكَ فِي النُّفُوسِ بِنَمَائِهِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَتَّى تَبْلُغَ بُذُورُ تَيْنِكَ الشَّجَرَتَيْنِ مُنْتَهَى أَمَدِهِمَا مِنِ ارْتِفَاعٍ فِي السَّمَاءِ وَاجْتِثَاثٍ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالتَّثْبِيتِ وَالْإِضْلَالِ. وَفِي كُلِّ تِلْكَ الْأَحْوَالِ مَرَاتِبُ وَدَرَجَاتٌ لَا تَبْلُغُ عُقُولُ الْبَشَرِ تَفْصِيلَهَا.
وَإِظْهَارُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشاءُ لِقَصْدِ أَنْ تَكُونَ كُلُّ جُمْلَةٍ مِنَ الْجُمَلِ الثَّلَاثِ مُسْتَقِلَّةً بِدَلَالَتِهَا حَتَّى تَسِيرَ مسير الْمثل.
[٢٨، ٢٩]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٢٨ إِلَى ٢٩]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (٢٩)
أُعْقِبَ تَمْثِيلُ الدِّينَيْنِ بِبَيَانِ آثَارِهِمَا فِي أَصْحَابِهِمَا. وَابْتُدِئَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهَا أَعْجَبُ وَالْعِبْرَةَ بِهَا أولى والحذر مِنْهَا مُقَدَّمٌ عَلَى التَّحَلِّي بِضِدِّهَا، ثُمَّ أُعْقِبَ بِذِكْرِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ: قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا الْخَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّشْوِيقِ إِلَى رُؤْيَةِ ذَلِكَ.
وَالرُّؤْيَةُ هُنَا بصرية لِأَن مُتَعَلِّقُهَا مِمَّا يُرَى، وَلِأَنَّ تَعْدِيَةَ فِعْلِهَا بِ إِلَى يُرَجِّحُ ذَلِكَ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ [سُورَة الْبَقَرَة: ٢٥٨].
أُولَئِكَ مَعَ الْإِلَهِ الْحَقِّ الْقَادِرِ الْمُتَصَرِّفِ. وَإِنَّمَا أُجْرِيَ ضَمِيرُ جَمْعِهِمْ عَلَى صِيغَةِ جَمْعِ الْعَالَمِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ أَحَدِ التَّمْثِيلَيْنِ وَهُوَ جَانِبُ الْإِلَه الْقَادِر.
[٧٦]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : آيَة ٧٦]
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٧٦)
هَذَا تَمْثِيلٌ ثَانٍ لِلْحَالَتَيْنِ بِحَالَتَيْنِ بِاخْتِلَافِ وَجْهِ الشَّبَهِ. فَاعْتُبِرَ هُنَا الْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَالِ الْأَبْكَمِ، وَهُوَ الْعَجْزُ عَنِ الْإِدْرَاكِ، وَعَنِ الْعَمَلِ، وَتَعَذُّرُ الْفَائِدَةِ مِنْهُ فِي سَائِرِ أَحْوَالِهِ وَالْمَعْنَى الْحَاصِلُ مِنْ حَالِ الرَّجُلِ الْكَامِلِ الْعَقْلِ وَالنُّطْقِ فِي إِدْرَاكِهِ الْخَيْرَ وَهَدْيِهِ إِلَيْهِ وَإِتْقَانِ عَمَلِهِ وَعَمَلِ مَنْ يَهْدِيهِ، ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِكَمَالِهِ وَإِرْشَادِهِ النَّاسَ إِلَى الْحَقِّ، وَمَثَلًا لِلْأَصْنَامِ الْجَامِدَةَ الَّتِي لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ.
وَقَدْ قَرَنَ فِي التَّمْثِيلِ هُنَا حَالَ الرَّجُلَيْنِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ فَصَّلَ فِي آخِرِ الْكَلَامِ مَعَ ذِكْرِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمَا بِأُسْلُوبٍ مِنْ نَظْمِ الْكَلَامِ بَدِيعِ الْإِيجَازِ، إِذْ حَذَفَ مَنْ صَدْرِ التَّمْثِيلِ ذِكْرَ الرَّجُلِ الثَّانِي لِلِاقْتِصَارِ عَلَى ذِكْرِهِ فِي اسْتِنْتَاجِ عَدَمِ التَّسْوِيَةِ تَفَنُّنًا فِي الْمُخَالَفَةِ بَيْنَ أُسْلُوبِ هَذَا التَّمْثِيلِ وَأُسْلُوبِ سَابِقِهِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً [سُورَة النَّحْل: ٧٥]. وَمِثْلُ هَذَا التَّفَنُّنِ مِنْ مَقَاصِدِ الْبُلَغَاءِ كَرَاهِيَةً لِلتَّكْرِيرِ لِأَنَّ تَكْرِيرَ الْأُسْلُوبِ بِمَنْزِلَةِ تَكْرِيرِ الْأَلْفَاظِ.
وَالْأَبْكَمُ: الْمَوْصُوفُ بِالْبَكَمِ- بِفَتْحِ الْبَاءِ وَالْكَافِ- وَهُوَ الْخَرَسُ فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ مِنْ وَقْتِ الْوِلَادَةِ بِحَيْثُ لَا يَفْهَمُ وَلَا يُفْهِمُ. وَزِيدَ فِي وَصْفِهِ أَنَّهُ زَمِنٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ
وَأُكِّدَ كَلَامُ مُوسَى بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ تَحْقِيقًا لِحُصُولِ عِلْمِ فِرْعَوْنَ بِذَلِكَ.
وَإِنَّمَا أَيْقَنَ مُوسَى بِأَنَّ فِرْعَوْنَ قَدْ عَلِمَ بِذَلِكَ: إِمَّا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ أَعْلَمَهُ بِهِ، وَإِمَّا بِرَأْيٍ مُصِيبٍ، لِأَنَّ حُصُولَ الْعِلْمِ عِنْدَ قِيَامِ الْبُرْهَانِ الضَّرُورِيِّ حُصُولٌ عَقْلِيٌّ طَبِيعِيٌّ لَا يَتَخَلَّفُ عَنْ عَقْلٍ سَلِيمٍ.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ وَحْدَهُ لَقَدْ عَلِمْتَ- بِضَمِّ التَّاءِ-، أَيْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ لَيْسَتْ بِسِحْرٍ كَمَا زَعَمْتَ كِنَايَةً عَلَى أَنَّهُ وَاثِقٌ مِنْ نَفْسِهِ السَّلَامَةَ مِنَ السِّحْرِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ هؤُلاءِ إِلَى الْآيَاتِ التِّسْعِ جِيءَ لَهَا بِاسْمِ إِشَارَةِ الْعَاقِلِ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مَشْهُورٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا [الْإِسْرَاء: ٣٦]، وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللَّوَى وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ
وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُشَارَ بِ (أُولَاءِ) إِلَى الْعَاقِلِ.
وَالْبَصَائِرُ: الْحُجَجُ الْمُفِيدَةُ لِلْبَصِيرَةِ، أَيِ الْعِلْمِ، فَكَأَنَّهَا نَفْسُ الْبَصِيرَةِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هَذَا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فِي آخر سُورَة الْأَعْرَافِ [٢٠٣].
وَعَبَّرَ عَنِ اللَّهِ بِطَرِيقِ إِضَافَةِ وَصْفِ الرَّبِّ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ تَذْكِيرًا بِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَ هَذِهِ الْخَوَارِقِ.
وَالْمَثْبُورُ: الَّذِي أَصَابَهُ الثُّبُورُ وَهُوَ الْهَلَاكُ. وَهَذَا نِذَارَةٌ وَتَهْدِيدٌ لِفِرْعَوْنَ بِقُرْبِ هَلَاكِهِ.
وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُوسَى ظَنًّا تَأَدُّبًا مَعَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ لِأَنَّهُ عَلِمَ ذَلِكَ بِاسْتِقْرَاءٍ تَامٍّ أَفَادَهُ هَلَاكُ الْمُعَانِدِينَ لِلرُّسُلِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَدْرِ لَعَلَّ فِرْعَوْنَ يُقْلِعُ عَنْ ذَلِكَ وَكَانَ عِنْده احْتِمَالا ضَعِيفا، فَلِذَلِكَ جَعَلَ تَوَقُّعَ هَلَاكِ فِرْعَوْنَ ظَنًّا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ هُنَا مُسْتَعْمَلًا بِمَعْنَى الْيَقِينِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَفِي ذِكْرِ هَذَا مِنْ قِصَّةِ مُوسَى إِتْمَامٌ لِتَمْثِيلِ حَالِ مُعَانِدِي الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بِحَال من عَائِد رِسَالَةَ مُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
قَالَا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى، لِأَنَّ غَالِبَ التَّفْكِيرِ فِي الْعَوَاقِبِ وَالْمَوَانِعِ يَكُونُ عِنْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْفِعْلِ، وَالْأَخْذِ فِي التَّهَيُّؤِ لَهُ، وَلِذَلِكَ أُعِيدَ أَمْرُهُمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتِياهُ.
ويَفْرُطَ مَعْنَاهُ يُعَجِّلُ وَيَسْبِقُ، يُقَال: فَرَطَ يَفْرُطُ مِنْ بَابِ نَصَرَ. وَالْفَارِطُ: الَّذِي يسْبق الْوَارِدَة إِلَى الْحَوْضِ لِلشُّرْبِ. وَالْمَعْنَى: نَخَافُ أَنْ يُعَجِّلَ بِعِقَابِنَا بِالْقَتْلِ أَوْ غَيْرِهِ مِنَ الْعُقُوبَاتِ قَبْلَ أَنْ نُبَلِّغَهُ وَنُحِجَّهُ.
وَالطُّغْيَانُ: التَّظَاهُرُ بِالتَّكَبُّرِ. وَتَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى [طه:
٢٤]، أَيْ نَخَافُ أَنْ يُخَامِرَهُ كِبْرُهُ فَيَعُدَّ ذِكْرَنَا إِلَهًا دُونَهُ تَنْقِيصًا لَهُ وَطَعْنًا فِي دَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةِ فَيَطْغَى، أَيْ يَصْدُرَ مِنْهُ مَا هُوَ أَثَرُ الْكِبَرِ مِنَ التَّحْقِيرِ وَالْإِهَانَةِ. فَذَكَرَ الطُّغْيَانَ بَعْدَ الْفَرْطِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُمَا لَا يُطِيقَانِ ذَلِكَ، فَهُوَ انْتِقَالٌ مِنَ الْأَشَدِّ إِلَى الْأَضْعَفِ لِأَن نَخَاف يؤول إِلَى مَعْنَى النَّفِيِ. وَفِي النَّفْي يُذْكَرُ الْأَضْعَفُ بَعْدَ الْأَقْوَى بِعَكْسِ الْإِثْبَاتِ مَا لَمْ يُوجَدْ مَا يَقْتَضِي عَكْسَ ذَلِكَ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى فَيُحْتَمَلُ أَنَّ حَذْفَهُ لِدَلَالَةِ نَظِيرِهِ عَلَيْهِ، وَأُوثِرَ بِالْحَذْفِ لِرِعَايَةِ الْفَوَاصِلِ. وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْنَا. وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مُتَعَلِّقَهُ لَيْسَ نَظِيرُ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ بَلْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ آخَرُ لِكَوْنِ التَّقْسِيمِ التَّقْدِيرِيِّ دَلِيلًا عَلَيْهِ، لِأَنَّهُمَا لَمَّا ذَكَرَ مُتَعَلِّقُ يَفْرُطَ عَلَيْنا وَكَانَ الْفَرْطُ شَامِلًا لِأَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ حَتَّى الْإِهَانَةَ بِالشَّتْمِ لَزِمَ أَنْ يَكُونَ التَّقْسِيمُ بِ «أَوْ» مَنْظُورًا فِيهِ إِلَى حَالَةٍ أُخْرَى وَهِيَ طُغْيَانُهُ عَلَى مَنْ لَا يَنَالُهُ عِقَابُهُ، أَيْ أَنْ يَطْغَى عَلَى اللَّهِ بِالتَّنْقِيصِ كَقَوْلِهِ: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي [الْقَصَص: ٣٨] وَقَوْلِهِ: لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى [الْقَصَص: ٣٨]، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ يَطْغى حِينَئِذٍ لتنزيهه عَن التَّصْرِيحِ بِهِ فِي هَذَا الْمَقَامِ.
وَالتَّقْدِيرُ: أَوْ أَنْ يَطْغَى عَلَيْكَ فَيَتَصَلَّبَ فِي كُفْرِهِ وَيَعْسُرُ صَرْفُهُ
وَجُمْلَةُ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ مُعْتَرِضَةٌ بِالْوَاوِ.
وَجُمْلَةُ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ مُكْنًى بِهَا عَنْ تَرْكِ السُّجُودِ لِلَّهِ، أَيْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَسْجُدُوا لِلَّهِ، وَقَدْ قَضَى اللَّهُ فِي حُكْمِهِ اسْتِحْقَاقَ الْمُشْرِكِ لِعَذَابِ النَّارِ. فَالَّذِينَ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ وَأَعْرَضُوا عَنْ إِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ قَدْ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ بِمَا قَضَى اللَّهُ بِهِ وَأَنْذَرَهُمْ بِهِ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ اعْتِرَاضٌ ثَانٍ بِالْوَاوِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَهَانَهُمْ بِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ فَلَا يَجِدُونَ مَنْ يُكْرِمُهُمْ بِالنَّصْرِ أَوْ بِالشَّفَاعَةِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشاءُ فِي مَحَلِّ الْعِلَّةِ لِلْجُمْلَتَيْنِ الْمُعْتَرِضَتَيْنِ لِأَنَّ وُجُودَ حَرْفِ التَّوْكِيدِ فِي أَوَّلِ الْجُمْلَةِ مَعَ عَدَمِ الْمُنْكِرِ يُمَحِّضُ حَرْفَ التَّوْكِيدِ إِلَى إِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ فَنَشَأَ مِنْ ذَلِكَ مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ وَالتَّعْلِيلِ، فَتُغْنِي (إِنَّ) غَنَاءَ حَرْفِ التَّعْلِيلِ أَوِ السَّبَبِيَّةِ.
وَهَذَا مَوْضِعُ سُجُودٍ مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء.
[١٩- ٢٢]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٢]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)
مُقْتَضَى سِيَاقِ السُّورَةِ وَاتِّصَالِ آيِ السُّورَةِ وَتَتَابُعِهَا فِي النُّزُولِ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَّصِلَةَ النُّزُولِ بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فَيَكُونُ مَوْقِعُ
فَقَدْ تَكُونُ الْآيَةُ تَوْطِئَةً لِتَحْرِيمِ الْبِغَاءِ تَحْرِيمًا بَاتًّا. فَحَرُمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُكْرِهُوا إِمَاءَهُمْ عَلَى الْبِغَاءِ لِأَنَّ الْإِمَاءَ الْمُسْلِمَاتِ يَكْرَهْنَ ذَلِكَ وَلَا فَائِدَةَ لَهُنَّ فِيهِ، ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ حُرِّمَ تَحْرِيمًا مُطْلَقًا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ مَهْرِ الْبَغِيِّ، فَإِنَّ النَّهْيَ عَنْ أَكْلِهِ يَقْتَضِي إِبْطَالَ الْبِغَاءِ.
وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الِاحْتِمَالُ مَعْضُودًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ كَمَا يَأْتِي.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْأَصْفَهَانِيِّ» (١) :«وَقِيلَ إِنَّمَا جَاءَ النَّهْيُ عَنِ الْإِكْرَاهِ لَا عَنِ الْبِغَاءِ لِأَنَّ حَدَّ الزِّنَا نَزَلَ بَعْدَ هَذَا». وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقَوْلِ يَجْعَلُ أَوَّلَ السُّورَةِ نَزَلَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَلَا يُعْرَفُ هَذَا.
وَقَوْلُهُ: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا مُتَعَلِّقٌ بِ تُكْرِهُوا أَيْ لَا تُكْرِهُوهُنَّ لِهَذِهِ الْعِلَّةِ. ذَكَرَ هَذِهِ الْعِلَّةَ لِزِيَادَةِ التَّبْشِيعِ كَذِكْرِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً.
وعَرَضَ الْحَياةِ هُوَ الْأَجْرُ الَّذِي يَكْتَسِبُهُ الْمَوَالِي مِنْ إِمَائِهِمْ وَهُوَ مَا يُسَمَّى بِالْمَهْرِ أَيْضًا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ
حُكْمٌ مُتَعَلِّقٌ بِالْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّهُ مُضَارِعٌ فِي حَيِّزِ الشَّرْطِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ عَفْوٌ عَنْ إِكْرَاهٍ.
وَالَّذِي يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْخَبَرُ جَانِبَانِ: جَانِبُ الْمُكْرِهِينَ وَجَانِبُ الْمُكْرَهَاتِ (بِفَتْحِ الرَّاءِ)، فَأَمَّا جَانِبُ الْمُكْرِهِينَ فَلَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُمْ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُمْ عَنِ الْإِكْرَاهِ إِذْ لَيْسَ لِمِثْلِ هَذَا التَّبْشِيرِ نَظِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَأَمَّا الْإِمَاءُ الْمُكْرَهَاتُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَهُنَّ. وَقَدْ قَرَأَ بِهَذَا الْمُقَدَّرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُمَا وَعَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ
_________
(١) شمس الدَّين مَحْمُود بن عبد الرَّحْمَن الشَّافِعِي الْمُتَوفَّى سنة/ ٧٤٩/ هـ. [.....]
اللَّهِ تَعَالَى. فَهَذَا التَّبْرِيكُ تَبْرِيكُ ذَوَاتٍ لَا تَبْرِيكَ مَكَانٍ بِدَلِيلِ ذِكْرِ مَنْ الْمَوْصُولَةِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَهُوَ تَبْرِيكُ الِاصْطِفَاءِ الْإِلَهِيِّ بِالْكَرَامَةِ. وَقِيلَ إِنَّ قَوْلَهُ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ إِنْشَاءُ تَحِيَّةٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَمَا كَانَتْ تَحِيَّةُ الْمَلَائِكَة لإِبْرَاهِيم رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [هود: ٧٣] أَيْ أَهْلُ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي نَحْنُ فِيهِ.
وسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عَطْفٌ عَلَى مَا نُودِيَ بِهِ مُوسَى عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ إِخْبَارًا بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِإِلَهِيَّتِهِ مِنْ أَحْوَالِ الْمُحْدَثَاتِ لِيَعْلَمَ مُوسَى أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّدَاءَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَالثَّانِي أَنَّ اللَّهَ مُنَزَّهٌ عَمَّا عَسَى أَنْ يَخْطُرَ بِالْبَالِ أَنَّ جَلَالَتَهُ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سُبْحانَ اللَّهِ مُسْتَعْمَلًا لِلتَّعْجِيبِ مِنْ ذَلِكَ الْمَشْهَدِ وَأَنَّهُ أَمْرٌ عَظِيمٌ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعِنَايَتِهِ يَقْتَضِي تَذَكُّرَ تَنْزِيهِهِ وَتَقْدِيسِهِ.
وَفِي حَذْفِ مُتَعَلَّقٍ التَّنْزِيهِ إِيذَانٌ بِالْعُمُومِ الْمُنَاسِبِ لِمَصْدَرِ التَّنْزِيهِ وَهُوَ عُمُومُ الْأَشْيَاءِ الَّتِي لَا يَلِيقُ إِثْبَاتُهَا لِلَّهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يُعْلَمُ تَفْصِيلُهَا بِالْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ.
فَالْمَعْنَى: وَنَزِّهِ اللَّهَ تَنْزِيهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمِنْ أَوَّلِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ تَنْزِيهُهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ حَالًّا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ.
وَإِرْدَافُ اسْمِ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ رَبِّ الْعالَمِينَ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيلِ للتنزيه عَن شؤون الْمُحْدَثَاتِ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ فَلَا يُشْبِهُ شَأْنه تَعَالَى شؤونهم.
وَضَمِيرُ إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ، وَجُمْلَةُ: أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ خَبَرٌ عَنْ ضَمِيرِ الشَّأْنِ. وَالْمَعْنَى: إِعْلَامُهُ بِأَنَّ أَمْرًا مُهِمًّا يَجِبُ عِلْمُهُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، أَيْ لَا يَغْلِبُهُ شَيْءٌ، لَا يَسْتَصْعِبُ عَلَيْهِ تَكْوِينٌ.
وَتَقْدِيمُ هَذَا بَيْنَ يَدَيْ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ مِنَ الْأَمْرِ لِإِحْدَاثِ رِبَاطَةِ جَأْشٍ لِمُوسَى لِيَعْلَمَ أَنَّهُ خُلِعَتْ عَلَيْهِ النُّبُوءَةُ إِذْ أُلْقِيَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ، وَيَعْلَمَ أَنَّهُ سَيَتَعَرَّضُ إِلَى أَذًى وَتَأَلُّبٍ عَلَيْهِ، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنْ كَوْنِهِ سَيَصِيرُ رَسُولًا، وَأَنَّ اللَّهَ يُؤَيِّدُهُ وَيَنْصُرُهُ عَلَى كُلِّ قَوِيٍّ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ مَا شَاهَدَ مِنَ النَّارِ وَمَا تَلَقَّاهُ مِنَ الْوَحْيِ وَمَا سَيُشَاهِدُهُ مِنْ قَلْبِ الْعَصَا حَيَّةً لَيْسَ بِعَجِيبٍ فِي جَانِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَتِلْكَ ثَلَاثُ كِنَايَاتٍ، فَلِذَلِكَ
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةً وَالْوَاو اعتراضية وَاعْترض هَذَا الْكَلَامِ بَيْنَ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ وَجَوَابِ قَوْمِهِ، فَهُوَ كَلَامٌ مُوَجَّهٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ الْتَفَتَ بِهِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ تَسْجِيلًا عَلَيْهِمْ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ بَيَانُ فَائِدَةِ سَوْقِ قِصَّةِ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَأَنَّ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُسْوَةً بِرُسُلِ الْأُمَمِ الَّذِينَ قَبْلَهُ وَخَاصَّةً إِبْرَاهِيمُ جَدُّ الْعَرَبِ الْمَقْصُودِينَ بِالْخِطَابِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ.
وَجُمْلَةُ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إِعْلَامٌ لِلْمُخَاطَبِينَ بِأَنَّ تَكْذِيبَهُمْ لَا يَلْحَقُهُ مِنْهُ مَا فِيهِ تَشَفٍّ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ مِنْ كَلَامِ إِبْرَاهِيمَ فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ إِبْرَاهِيمُ سَلَكَ مَسْلَكَ الْإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِإِيذَانِ عُنْوَانِ الرَّسُولِ بِأَنَّ وَاجِبَهُ إِبْلَاغُ مَا أُرْسِلَ بِهِ بَيِّنًا وَاضِحًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ خِطَابِ اللَّهِ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَالْمُرَادُ بِالرَّسُولِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ غَلَبَ عَلَيْهِ هَذَا الْوَصْفُ فِي الْقُرْآنِ مَعَ الْإِيذَانِ بِأَنَّ عُنْوَانَ الرِّسَالَةِ لَا يَقْتَضِي إِلَّا التَّبْلِيغ الْوَاضِح.
[١٩]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ١٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩)
يَجْرِي هَذَا الْكَلَامُ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: ١٨].
وَيَتَرَجَّحُ أَنَّ هَذَا مَسُوقٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَن الْجُمْهُور قرأوا أَوَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَلَمْ يَجْرِ مِثْلَ قَوْلِهِ وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ [العنكبوت: ١٨].
وَمُنَاسَبَةُ التَّعَرُّضِ لِهَذَا هُوَ مَا جَرَى مِنَ الْإِشَارَةِ إِلَى الْبَعْثِ فِي قَوْلِهِ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [العنكبوت: ١٧] تَنْظِيرًا لِحَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ بِحَالِ قَوْمِ إِبْرَاهِيمَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَوَلَمْ يَرَوْا بِيَاءِ الْغَائِبِ وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا [العنكبوت: ١٢] فِي قَوْلِهِ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا [العنكبوت: ١٢]، أَوْ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ. وَعَلَى وَجْهِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ وَإِنْ تُكَذِّبُوا [العنكبوت: ١٨] إِلَخْ خَارِجًا عَنْ مَقَالَةِ إِبْرَاهِيمَ يَكُونُ ضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي أَوَلَمْ يَرَوْا الْتِفَاتًا. وَالِالْتِفَاتُ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْغَيْبَةِ لِنُكْتَةِ إِبْعَادِهِمْ عَنْ شَرَفِ الْحُضُورِ بَعْدَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ مُكَذِّبُونَ.
وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ أَوَلَمْ تَرَوْا بِالْفَوْقِيَّةِ عَلَى

[سُورَة السجده (٣٢) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٧]

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (١٥) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (١٦) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٧)
اسْتِئْنَاف ناشىء عَنْ قَوْلِهِ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ الْآيَة [السَّجْدَة: ٣]، تَفَرَّغَ الْمَقَامُ لَهُ بَعْدَ أَنْ أَنْحَى بِالتَّقْرِيعِ وَالْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ عَلَى كُفْرِهِمْ بِلِقَاءِ اللَّهِ، بِمَا أَفَادَتِ اسْمِيَّةُ جُمْلَةِ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ [السَّجْدَة: ١٠] مِنْ أَنَّهُمْ ثَابِتُونَ عَلَى الْكُفْرِ بِلِقَاءِ اللَّهِ دَائِمُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ مِمَّا أَنْذَرَتْهُمْ بِهِ آيَاتُ الْقُرْآنِ، فَالتَّكْذِيبُ بِلِقَاءِ اللَّهِ تَكْذِيبٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَإِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّذِينَ ذُكِرَتْ أَوْصَافُهُمْ هُنَا.
وَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ هُنَا آيَاتُ الْقُرْآنِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها بِتَشْدِيدِ الْكَافِ، أَيْ أُعِيدَ ذِكْرُهَا عَلَيْهِمْ وَتَكَرَّرَتْ تِلَاوَتُهَا عَلَى مَسَامِعِهِمْ.
وَمُفَادُ إِنَّما قَصْرٌ إِضَافِيٌّ، أَيْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا تَذْكِيرًا بِمَا سَبَقَ لَهُمْ سَمَاعُهُ لَمْ يَتَرَيَّثُوا عَنْ إِظْهَارِ الْخُضُوعِ لِلَّهِ دُونَ الَّذِينَ قَالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [السَّجْدَة: ١٠]، وَهَذَا تأييس للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ إِيمَانِهِمْ، وَتَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَنْفَعُونَ الْمُسْلِمِينَ بِإِيمَانِهِمْ وَلَا يَغِيظُونَهُمْ بِالتَّصَلُّبِ فِي الْكُفْرِ.
وَأُوثِرَتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي إِنَّما يُؤْمِنُ لِمَا تُشْعِرُ بِهِ مِنْ أَنَّهُمْ يَتَجَدَّدُونَ فِي الْإِيمَانِ وَيَزْدَادُونَ يَقِينًا وَقْتًا فَوَقْتًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٥]، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ حَصَلَ إِيمَانُهُمْ فِيمَا مَضَى فَفِعْلُ الْمُضِيِّ آثَرُ بِحِكَايَةِ حَالِهِمْ فِي الْكَلَامِ الْمُتَدَاوَلِ لَوْلَا هَذِهِ الْخُصُوصِيَّةُ، وَلِهَذَا عُرِّفُوا بِالْمَوْصُولِيَّةِ وَالصِّلَةِ الدَّالِّ مَعْنَاهَا عَلَى أَنَّهُمْ رَاسِخُونَ فِي الْإِيمَانِ، فَعَبَّرَ عَنْ إِبْلَاغِهِمْ آيَاتِ الْقُرْآنِ وَتِلَاوَتِهَا عَلَى أَسْمَاعِهِمْ بِالتَّذْكِيرِ الْمُقْتَضِي أَنَّ مَا تَتَضَمَّنَهُ الْآيَاتُ حَقَائِقُ مُقَرَّرَةٌ عِنْدَهُمْ لَا يُفَادُونَ بِهَا فَائِدَةً لَمْ تَكُنْ حَاصِلَةً فِي نُفُوسِهِمْ وَلَكِنَّهَا تُكْسِبُهُمْ تَذْكِيرًا فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات: ٥٥]. وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا الصِّلَةُ هِيَ حَالُهُمُ الَّتِي عُرِفُوا بِهَا لِقُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَتَمَيَّزُوا بِهَا عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَلَيْسَتْ تَقْتَضِي أَنَّ مَنْ لَمْ يَسْجُدُوا عِنْدَ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَلَمْ يُسَبِّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَيْسُوا مِمَّنْ يُؤْمِنُونَ، وَلَكِنَّ هَذِهِ
قَصَصِ الْأَوَّلِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ بُهْتَانِهِمْ لِأَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَقُولُونَ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْأَنْعَام: ٢٥] فَلَيْسَ مُفْتَرىً تَأْكِيدًا لِ إِفْكٌ.
ثُمَّ حُكِيَ تَكْذِيبُهُمُ الَّذِي يَعُمُّ جَمِيعَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْيٍ يُتْلَى أَوْ دَعْوَةٍ إِلَى التَّوْحِيدِ وَغَيْرِهِ أَوِ اسْتِدْلَالٍ عَلَيْهِ أَوْ مُعْجِزَةٍ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ، فَهَذَا الْمَقَالُ الثَّالِثُ يَشْمَلُ مَا تَقَدَّمَ وَغَيْرَهُ، فَحِكَايَةُ مَقَالِهِمْ هَذَا تَقُومُ مَقَامَ التَّذْيِيلِ. وَأُظْهِرَ لِلْقَائِلِينَ دُونَ إِضْمَارِ مَا تَقَدَّمَ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعَادًا لِلضَّمِيرِ فَقِيلَ: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وَلَمْ يَقُلْ: وَقَالُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ، لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ بَاعِثُ قَوْلِهِمْ هَذَا.
وَأُظْهِرَ الْمُشَارُ إِلَيْهِ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ لِأَنَّهُ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ فِي الْكَلَامِ السَّابِقِ، أَي إِذْ ظهر لَهُمْ مَا هُوَ حَقٌّ مِنْ إِثْبَاتٍ لِلتَّوْحِيدِ أَوْ إِخْبَارٍ عَنِ الْغَيْبِ أَوِ الْبَعْثِ قَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ. فَالْمُرَادُ مِنَ الْحَقِّ: مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّ السِّحْرَ لَهُ أُسْلُوبَانِ: أَحَدُهُمَا شَعْوَذَةُ الْأَقْوَالِ الَّتِي لَا تُفْهَمُ مَدْلُولَاتُهَا يَخْتَلِقُهَا السَّحَرَةُ لِيُوهِمُوا النَّاسَ أَنَّ فِيهَا مُنَاجَاةً مَعَ الْجِنِّ لِيُمَكِّنُوهُمْ مِنْ عَمَلِ مَا يُرِيدُونَ فَيَسْتَرْهِبُوهُمْ بِذَلِكَ، وَثَانِيهِمَا أَفْعَالٌ لَهَا أَسْبَابٌ خَفِيَّةٌ مَسْتُورَةٌ بِحِيَلِ وَخِفَّةِ أَيْدٍ تُحَرِّكُهَا فَيُوهِمُونَ بِهَا النَّاسَ أَنَّهَا مِنْ تَمْكِينِ الْجِنِّ إِيَّاهُمُ التَّصَرُّفَ فِي الْخَفِيَّاتِ، فَإِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ أَلْحَقُوهُ بِالْأُسْلُوبِ الْأَوَّلِ، وَإِذَا رَأَوُا الْمُعْجِزَاتِ أَلْحَقُوهَا بِالْأُسْلُوبِ الثَّانِي كَمَا قَالَتِ الْمَرْأَةُ الَّتِي شَاهَدَتْ مُعْجِزَةَ تَكْثِيرِ الْمَاءِ فِي بَعْضِ غَزَوَاتِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ لِقَوْمِهَا «أَتَيْتُ أَسْحَرَ النَّاسِ، أَوَ هُوَ نَبِيءٌ كَمَا زَعَمُوهُ».
وَمَعْنَى مُبِينٌ أَنَّهُ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ سِحْرٌ فَتَبْيِينُهُ كُنْهُهُ مِنْ نَفْسِهِ، يَعْنُونَ أَنَّ مَنْ سَمِعَهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ سِحْرٌ.
وَجُمْلَةُ وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذا تُتْلى.
[٤٤]
[سُورَة سبإ (٣٤) : آيَة ٤٤]
وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (٤٤)
الْوَاوُ لِلْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: قالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ [سبأ: ٤٣] الْآيَةَ،
مُرَاعَاةِ حُظُوظِ النَّفْسِ فِي سِيَاسَةِ الْأُمَّةِ إبعادا لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَهَاوِي الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ وَتَأْدِيبًا لَهُ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ وَآخِرِهِ مِمَّا أَنْ يَتَلَقَّى بِالْعَذَلِ. وَكَانَ دَاوُدُ أَيْضًا قَدْ صَبَرَ عَلَى مَا لَقِيَهُ مِنْ حَسَدِ شَاوِلَ (طَالُوتَ) مَلِكِ إِسْرَائِيلَ إِيَّاهُ عَلَى انْتِصَارِهِ عَلَى جَالُوتَ مَلِكِ فِلَسْطِينَ.
فَالْمَصْدَرُ الْمُتَصَرِّفُ مِنْهُ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ هُوَ الذُّكْرُ بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ التَّذَكُّرُ
وَلَيْسَ هُوَ ذِكْرَ اللِّسَانِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَمر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ لِتَسْلِيَتِهِ وَحِفْظِ كَمَالِهِ لَا لِيُعْلِمَهُ الْمُشْرِكِينَ وَلَا لِيُعْلِمَهُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ حَاصِلٌ تَبَعًا حِينَ إِبْلَاغِ الْمُنَزَّلِ فِي شَأْنِ دَاوُدَ إِلَيْهِمْ وَقِرَاءِتِهِ عَلَيْهِمْ. وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِتَذَكُّرِ ذَلِكَ تَذَكُّرُ مَا سَبَقَ إِعْلَام النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مِنْ فَضَائِلِهِ وَتَذْكِيرُ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ لَمْ يَعْلَمْهُ مِمَّا يُعْلَمُ بِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَوَصْفُ دَاوُدَ بِ عَبْدَنا وَصْفُ تَشْرِيفٍ بِالْإِضَافَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ:
إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ [٤٠].
والْأَيْدِ: الْقُوَّةُ وَالشِّدَّةُ، مَصْدَرُ: آدَ يَئِيدُ، إِذَا اشْتَدَّ وَقَوِيَ، وَمِنْهُ التَّأْيِيدُ التقوية، قَالَ تَعَالَى: فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٢٦].
وَكَانَ دَاوُدُ قَدْ أُعْطِيَ قُوَّةً نَادِرَةً وَشَجَاعَةً وَإِقْدَامًا عَجِيبَيْنِ وَكَانَ يَرْمِي الْحَجَرَ بالمقلاع فَلَا يخطىء الرَّمْيَةَ، وَكَانَ يَلْوِي الْحَدِيدَ لِيَصْنَعَهُ سَرْدًا لِلدُّرُوعِ بِأَصَابِعِهِ، وَهَذِهِ الْقُوَّةُ مَحْمُودَةٌ لِأَنَّهُ اسْتَعْمَلَهَا فِي نَصْرِ دِينِ التَّوْحِيدِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ أَوَّابٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِذِكْرِهِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِقَصْدِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الْأَنْعَام: ٩٠]، فَالْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَاذْكُرْ وَجُمْلَةِ بَيَانِهَا وَهِيَ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ.
وَالْأَوَّابُ: الْكَثِيرُ الْأَوْبِ، أَيِ الرُّجُوعِ. وَالْمُرَادُ: الرُّجُوعُ إِلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَالْوُقُوفُ عِنْدَ حُدُودِهِ وَتَدَارُكُ مَا فَرَّطَ فِيهِ. وَالتَّائِبُ يُطْلَقُ عَلَيْهِ الْأَوَّابُ، وَهُوَ غَالِبُ اسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِ وَهُوَ مَجَازٌ وَلَا تُسَمَّى التَّوْبَة أوبا، و «زبور» دَاوُدَ الْمُسَمَّى عِنْد الْيَهُود ب «المزامير» مُشْتَمِلٌ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الِاسْتِغْفَارِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ التَّوْبَةِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٤١- سُورَةُ فُصِّلَتْ
تُسَمَّى حم السَّجْدَةِ بِإِضَافَةِ حم إِلَى السَّجْدَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي أَوَّلِ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ، وَبِذَلِكَ تُرْجِمَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» لِأَنَّهَا تَمَيَّزَتْ عَنِ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم بِأَنَّ فِيهَا سَجْدَة من سُجُود الْقُرْآنِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ خَلِيلِ بْنِ مُرَّةَ (١) :«أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَنَامُ حَتَّى يَقْرَأَ: تَبَارَكَ، وَحم السَّجْدَةِ
(٢).
وَسُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ مَصَاحِفِ الْمَشْرِقِ وَالتَّفَاسِيرِ سُورَةَ السَّجْدَةِ، وَهُوَ اخْتِصَارُ قَوْلِهِمْ:
حم السَّجْدَةِ وَلَيْسَ تَمْيِيزًا لَهَا بِذَاتِ السَّجْدَةِ. وَسميت هَذِه السُّورَة فِي كَثِيرٍ مِنَ التَّفَاسِيرِ سُورَةَ فُصِّلَتْ. وَاشْتُهِرَتْ تَسْمِيَتُهَا فِي تُونِسَ وَالْمَغْرِبِ سُورَةُ فُصِّلَتْ لِوُقُوعِ كَلِمَةِ فُصِّلَتْ آياتُهُ [فُصِّلَتْ: ٣] فِي أَوَّلِهَا فَعُرِفَتْ بِهَا تَمْيِيزًا لَهَا مِنَ السُّوَرِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم. كَمَا تَمَيَّزَتْ سُورَةُ الْمُؤْمِنِ بِاسْمِ سُورَةِ غَافِرٍ عَنْ بَقِيَّةِ السُّورِ الْمُفْتَتَحَةِ بِحُرُوفِ حم.
وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ: وَتُسَمَّى سُورَةَ الْمَصَابِيحِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا: وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ [فصلت: ١٢]، وَتُسَمَّى سُورَةَ الْأَقْوَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها [فصلت: ١٠].
_________
(١) هُوَ خَلِيل بن مرّة الضبعِي (بِضَم الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفتح الْمُوَحدَة) الْبَصْرِيّ الرقّي، روى عَن عَطاء وَقَتَادَة، وروى عَنهُ اللَّيْث وَابْن وهب وَأحمد بن حَنْبَل. قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مُنكر الحَدِيث توفّي سنة سِتِّينَ وَمِائَة.
(٢) الْمَعْرُوف هُوَ
حَدِيث التِّرْمِذِيّ عَن جَابر: «كَانَ رَسُول الله لَا ينَام حَتَّى يقْرَأ: آلم تَنْزِيل، وتبارك الَّذِي بِيَدِهِ الْملك»

. وَلَا مُنَافَاة بَين الْحَدِيثين.

[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٤٩]

وَقالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (٤٩)
عَطَفَ عَلَى وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ [الزخرف: ٤٨]. وَالْمَعْنَى: وَلَمَّا أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ عَلَى يَدِ مُوسَى سَأَلُوهُ أَنْ يَدْعُوَ اللَّهَ بِكَشْفِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ. وَمُخَاطَبَتُهُمْ مُوسَى بِوَصْفِ السَّاحِرِ مُخَاطَبَةُ تَعْظِيمٍ تَزَلُّفًا إِلَيْهِ لِأَنَّ السَّاحِرَ عِنْدَهُمْ كَانَ هُوَ الْعَالِمَ وَكَانَتْ عُلُومُ عُلَمَائِهِمْ سِحْرِيَّةً، أَيْ ذَاتَ أَسْبَابٍ خَفِيِّةٍ لَا يَعْرِفُهَا غَيْرُهُمْ وَغَيْرُ أَتْبَاعِهِمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ مَلَأِ فِرْعَوْنَ لَهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ [الشُّعَرَاء: ٣٦، ٣٧].
وَكَانَ السحر بِأَيْدِي الْكَهَنَةِ وَمِنْ مَظَاهِرِهِ تَحْنِيطُ الْمَوْتَى الَّذِي بقيت بِهِ جُثَثُ الْأَمْوَاتِ سَالِمَةً مِنِ الْبِلَى وَلَمْ يَطَّلِعْ أَحَدٌ بَعْدَهُمْ عَلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهِ. وَفِي آيَةِ الْأَعْرَافِ [١٣٤] قالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ، وَلَا تُنَافِي مَا هُنَا لِأَنَّ الْخِطَابَ خِطَابُ إِلْحَاحٍ فَهُوَ يَتَكَرَّرُ وَيُعَادُ بِطُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُور بأيه السَّاحِرُ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَفِي الْوَقْفِ أَيْ بِفَتْحَةٍ دُونَ أَلِفٍ وَهُوَ غَيْرُ قِيَاسِيٍّ لَكِنَّ الْقِرَاءَةَ رِوَايَةٌ. وَعَلَّلَهُ أَبُو شَامَةَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا الرَّسْمَ وَفِيهِ نَظَرٌ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ فِي الْوَقْفِ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ خَاصَّةً وَهُوَ لُغَةُ بَنِي أَسَدٍ، وَكُتِبَتْ فِي الْمُصْحَفِ كَلِمَةُ أَيُّهَ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ، وَالْأَصْلُ أَنْ تَكُونَ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْهَاءِ لِأَنَّهَا (هَا) حَرْفُ تَنْبِيهٍ يَفْصِلُ بَيْنَ (أَيْ) وَبَيْنَ نَعْتِهَا فِي النِّدَاءِ فَحُذِفَتِ الْأَلِفُ فِي رَسْمِ الْمُصْحَفِ رَعْيًا لِقِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَالْأَصْلُ أَنْ يُرَاعَى فِي الرَّسْمِ حَالَةُ الْوَقْف.
وعنوا ب رَبَّكَ الرَّبَّ الَّذِي دَعَاهُمْ مُوسَى إِلَى عِبَادَتِهِ. وَالْقِبْطُ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَبًّا وَلَا يُحِيلُونَ تَعَدُّدَ الْآلِهَةِ، وَكَانَتْ لَهُمْ أَرْبَابٌ كَثِيرُونَ مُخْتَلِفَةٌ أَعْمَالُهُمْ وَقَدْرُهُمْ وَمِثْلُ ذَلِكَ كَانَتْ عَقَائِدُ الْيُونَانِ.
وَأَرَادُوا بِما عَهِدَ عِنْدَكَ مَا خَصَّكَ بِعِلْمِهِ دُونَ غَيْرِكَ مِمَّا اسْتَطَعْتَ بِهِ أَنْ تَأْتِيَ بِخَوَارِقِ الْعَادَةِ.
ذِرَاعًا. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: كُنْتُ أَدْخُلُ بُيُوتَ أَزوَاج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي خِلَافَةِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَتَنَاوَلُ سُقُفَهَا بِيَدِي. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْحُجُرَاتِ دُونَ الْبُيُوتِ لِأَنَّ الْبَيْتَ كَانَ بَيْتًا وَاحِدًا مُقَسَّمًا إِلَى حُجُرَاتٍ تِسْعٍ.
وَتَعْرِيفُ الْحُجُراتِ بِاللَّامِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: يُنادُونَكَ مُؤَذِنٌ بِأَنَّ الْحُجُرَاتِ حُجُرَاتُهُ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعَرَّفْ بِالْإِضَافَةِ. وَهَذَا النِّدَاءُ وَقَعَ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ فَالتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ فِي يُنادُونَكَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ نِدَائِهِمْ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أَنَّهُ يُكْسِبُهُمْ وَقَارًا بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَيَسْتَدْعِي لَهُمُ الْإِقْبَالَ من الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَخْرُجُ إِلَيْهِمْ غَيْرَ كَارِهٍ لِنِدَائِهِمْ إِيَّاهُ، وَرَفْعِ أَصْوَاتِهِمْ فِي مَسْجِدِهِ فَكَانَ فِيمَا فَعَلُوهُ جَلَافَةً.
فَقَوْلُهُ: خَيْراً يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ، وَيَكُونُ فِي الْمَعْنَى: لَكَانَ صَبْرُهُمْ أَفْضَلَ مِنَ الْعَجَلَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا ضِدَّ الشَّرِّ، أَيْ لَكَانَ صَبْرُهُمْ خَيْرًا لِمَا فِيهِ مِنْ مَحَاسِنِ الْخُلُقِ بِخِلَافِ مَا فَعَلُوهُ فَلَيْسَ فِيهِ خَيْرٌ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَالْآيَةُ تَأْدِيبٌ لَهُمْ وَتَعْلِيمُهُمْ مَحَاسِنَ الْأَخْلَاق وَإِزَالَة لعوائد الْجَاهِلِيَّةِ الذَّمِيمَةِ.
وَإِيثَارُ حَتَّى فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ دُونَ (إِلَى) لِأَجْلِ الْإِيجَازِ بِحَذْفِ
حَرْفِ (أَنْ) فَإِنَّهُ مُلْتَزَمٌ حَذْفُهُ بَعْدَ حَتَّى بِخِلَافِهِ بَعْدَ (إِلَى) فَلَا يَجُوزُ حَذْفُهُ.
وَفِي تَعْقِيبِ هَذَا اللَّوْمِ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُحْصِ عَلَيْهِمْ ذَنْبًا فِيمَا فَعَلُوا وَلَا عَرَّضَ لَهُمْ بِتَوْبَةٍ. وَالْمَعْنَى: وَاللَّهُ شَأْنُهُ التَّجَاوُزُ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ رَحْمَةً بِالنَّاسِ لِأَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا جاهلين.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٥٥- سُورَةُ الرَّحْمَنِ
وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا «بِسُورَة الرَّحْمَن» فِي أَحَادِيث مِنْهَا مَا
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَرَأَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ»
الْحَدِيثَ.
وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» أَنَّ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ الْمُنَقِّرِيَّ قَالَ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتْلُ عَلَيَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْكَ، فَقَرَأَ عَلَيْهِ سُورَةَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: أَعِدْهَا، فَأَعَادَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ: إِنَّ لَهُ لَحَلَاوَةً»
إِلَخْ.
وَكَذَلِكَ سُمِّيَتْ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ.
وَذَكَرَ فِي «الْإِتْقَانِ» : أَنَّهَا تُسَمَّى «عَرُوسَ الْقُرْآنِ» لِمَا
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «شُعَبِ الْإِيمَانِ» عَنْ عَلِيٍّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لِكُلِّ شَيْءٍ عَرُوسٌ وَعَرُوسُ الْقُرْآنِ سُورَةُ الرَّحْمَنِ»
. وَهَذَا لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ ثَنَاءً عَلَى هَذِهِ السُّورَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنَ التَّسْمِيَةِ فِي شَيْءٍ كَمَا رُوِيَ أَنَّ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فُسْطَاطُ الْقُرْآنِ (١).
وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ هَذِهِ السُّورَةِ بِسُورَةِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا ابْتُدِئَتْ بِاسْمِهِ تَعَالَى: الرَّحْمنُ [الرَّحْمَنُ: ١].
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا قَوْلُ الْمُشْرِكِينَ المحكي فِي قَول تَعَالَى:
_________
(١) الظَّاهِر أَن معنى: لكل شَيْء عروس، أَي لكل جنس أَو نوع وَاحِد من جنسه يزينه تَقول الْعَرَب:
عرائس الْإِبِل لكرائمها فَإِن الْعَرُوس تكون مكرمَة مزينة مرعية من جمع الْأَهْل بِالْخدمَةِ والكرامة، وَوصف سُورَة الرحمان بالعروس تَشْبِيه مَا تحتوي عَلَيْهِ من ذكر الْحبرَة وَالنَّعِيم فِي الْجنَّة بالعروس فِي المسرة والبذخ، تَشْبِيه مَعْقُول بمحسوس وَمن أَمْثَال الْعَرَب: لَا عطر بعد عروس (على أحد تفسيرين للمثل) أَو تَشْبِيه مَا كثر فِيهَا من تَكْرِير فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ بِمَا يكثر على الْعَرُوس من الْحلِيّ فِي كل مَا تلبسه.
وَيَجُوزُ كَوْنُ مِنْ لِلظَّرْفِيَّةِ مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ [فاطر: ٤٠]، أَيْ فِيهَا مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ.
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكُمْ إِلَى الْمَذْكُورِ، أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرٍ بِالسَّعْيِ إِلَيْهَا، وَأُمِرَ بِتَرْكِ الْبَيْعِ حِينَئِذٍ، أَيْ ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ مِمَّا يَحْصُلُ لَكُمْ مِنَ الْبُيُوعَاتِ. فَلَفْظُ خَيْرٌ اسْمُ تَفْضِيلٍ أَصْلُهُ: أَخْيَرُ، حُذِفَتْ هَمْزَتُهُ لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. وَالْمُفَضَّلُ: الصَّلَاةُ، أَيْ ثَوَابُهَا. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ: مَنَافِعُ الْبَيْعِ لِلْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي.
وَإِنَّمَا أُعْقِبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ
تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ لَهُمْ سَعَةً مِنَ النَّهَارِ يَجْعَلُونَهَا لِلْبَيْعِ وَنَحْوِهِ مِنِ ابْتِغَاءِ أَسْبَابِ الْمَعَاشِ فَلَا يَأْخُذُوا ذَلِكَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَذِكْرِ اللَّهِ. وَالْأَمْرُ فِي فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ لِلْإِبَاحَةِ.
وَالْمُرَادُ بِ فَضْلِ اللَّهِ: اكْتِسَابُ الْمَالِ وَالرِّزْقِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً فَهُوَ احْتِرَاسٌ مِنَ الِانْصِبَابِ فِي أَشْغَالِ الدُّنْيَا انْصِبَابًا يُنْسِي ذِكْرَ اللَّهِ، أَوْ يَشْغَلُ عَنِ الصَّلَوَاتِ فَإِنَّ الْفَلَاحَ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى مَرْضَاةِ الله تَعَالَى.
[١١]
[سُورَة الْجُمُعَة (٦٢) : آيَة ١١]
وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١)
عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ [الْجُمُعَة: ٩] الْآيَةَ. عُطِفَ التَّوْبِيخُ عَلَى تَرْكِ الْمَأْمُورِ بِهِ بَعْدَ ذِكْرِ الْأَمْرِ وَسُلِكَتْ فِي الْمَعْطُوفَةِ طَرِيقَةُ الِالْتِفَاتِ لخطاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيذَانًا بِأَنِّهُمْ أَحْرِيَاءُ أَنْ يُصْرَفَ لِلْخِطَابِ عَنْهُمْ فَحُرِمُوا مِنْ عِزِّ الْحُضُورِ. وَأُخْبِرَ عَنْهُمْ بِحَالِ الْغَائِبِينَ، وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالتَّوْبِيخِ.
وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَإِذَا رَأَيْتُمْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا فَلَا تَنْفَضُّوا إِلَيْهَا. وَمِنْ
وَاللَّمْسُ: حَقِيقَتُهُ الْجَسُّ بِالْيَدِ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى اخْتِبَارِ أَمْرٍ لِأَنَّ إِحْسَاسَ الْيَدِ أَقْوَى إِحْسَاسٍ، فَشبه بِهِ الِاخْتِيَار عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ كَمَا أُطْلِقَ مُرَادِفُهُ وَهُوَ الْمَسُّ عَلَى الِاخْتِبَارِ فِي قَوْلِ يَزِيدَ بْنِ الْحَكَمِ الْكِلَابِيِّ:
مَسَسْنَا مِنَ الْآبَاءِ شَيْئًا فَكُلُّنَا إِلَى نَسَبٍ فِي قَوْمِهِ غَيْرِ وَاضِعِ
أَيْ اخْتَبَرْنَا نَسَبَ آبَائِنَا وَآبَائِكُمْ فَكُنَّا جَمِيعًا كِرَامَ الْآبَاءِ.
ومُلِئَتْ: مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى كَثُرَ فِيهَا. وَحَقِيقَة الملء عمر فَرَاغِ الْمَكَانِ أَوِ الْإِنَاءِ بِمَا يَحُلُّ فِيهِ، فَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى كَثْرَةِ الشُّهُبِ وَالْحُرَّاسِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ.
وَالْحَرَسُ: اسْمُ جَمْعٍ لِلْحُرَّاسِ وَلَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مِثْلَ خَدَمٍ، وَإِنَّمَا يُعْرَفُ الْوَاحِدُ مِنْهُ بِالْحَرَسِيِّ. وَوُصِفَ بِشَدِيدٍ وَهُوَ مُفْرَدٌ نَظَرًا إِلَى لَفْظِ حَرَسٍ كَمَا يُقَالُ: السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَلَوْ نُظِرَ إِلَى مَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ الْآحَادِ لَجَازَ أَنْ يُقَالَ: شِدَادٌ. وَالطَّوَائِفُ مِنَ الْحَرَسِ أَحْرَاسٌ.
وَالشُّهُبُ: جَمْعُ شِهَابٍ وَهُوَ الْقِطْعَةُ الَّتِي تَنْفَصِلُ عَنْ بَعْضِ النُّجُومِ فَتَسْقُطُ فِي الْجَوِّ أَوْ فِي الْأَرْضِ أَوِ الْبَحْرِ وَتَكُونُ مُضَاءَةً عِنْدَ انْفِصَالِهَا ثمَّ يَزُول ضوؤها بِبُعْدِهَا عَنْ مُقَابَلَةِ شُعَاعِ الشَّمْسِ وَتُسَمَّى الْوَاحِدُ مِنْهَا عِنْدَ عُلَمَاءِ الْهَيْئَةِ نَيْزَكًا بِاسْمِ الرُّمْحِ الْقَصِيرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ الصَّافَّاتِ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّنَا اخْتَبَرْنَا حَالَ السَّمَاءِ لِاسْتِرَاقِ السَّمْعِ فَوَجَدْنَاهَا كَثِيرَةَ الْحُرَّاسِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَكَثِيرَةَ الشُّهُبِ لِلرَّجْمِ، فَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الشُّهُبَ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ بَعْثِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا ظَنَّهُ الْجَاحِظُ فَإِنَّ الْعَرَبَ ذَكَرُوا تَسَاقُطَ الشُّهُبِ فِي بَعْضِ شِعْرِهِمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. كَمَا قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» وَذَكَرَ شَوَاهِدَهُ مِنَ الشِّعْرِ الْجَاهِلِيِّ.
نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ الشُّهُبَ تَكَاثَرَتْ فِي مُدَّةِ الرِّسَالَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ حِفْظًا لِلْقُرْآنِ مِنْ دَسَائِسِ الشَّيَاطِينِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ.
وَهَذَا الْكَلَامُ تَوْطِئَةٌ وَتَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِمْ بَعْدَهُ: وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ إِلَى آخِرِهِ، إِذِ الْمَقْصُودُ أَنْ يُخْبِرُوا مَنْ لَا خَبَرَ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِهِمْ بِأَنَّهُمْ قَدْ تَبَيَّنُوا سَبَبَ شِدَّةِ حِرَاسَةِ السَّمَاءِ وَكَثْرَة الشهب، وَأما نفس الحراسة وَكَثْرَةِ الشُّهُبِ فَإِنَّ الْمُخْبَرِينَ (بِفَتْحِ الْبَاءِ) يُشَاهِدُونَهُ.
وَ (مَا وَسَقَ) (مَا) فِيهِ مَصْدَرِيَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَوْصُولَةً عَلَى طَرِيقَةِ حَذْفِ الْعَائِدِ الْمَنْصُوبِ.
وَالْوَسْقُ: جَمْعُ الْأَشْيَاء بَعْضهَا إِلَى بَعْضٍ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَمَا جَمَعَ مِمَّا كَانَ مُنْتَشِرًا فِي النَّهَارِ مِنْ نَاسٍ وَحَيَوَانٍ فَإِنَّهَا تَأْوِي فِي اللَّيْلِ إِلَى مَآوِيهَا وَذَلِكَ مِمَّا جَعَلَ اللَّهُ فِي الْجِبِلَّةِ مِنْ طَلَبِ الْأَحْيَاءِ السُّكُونَ فِي اللَّيْلِ قَالَ تَعَالَى: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ [الْقَصَص: ٧٣]، وَذَلِكَ مِنْ بَدِيعِ التَّكْوِينِ فَلِذَلِكَ أَقْسَمَ بِهِ قَسَمًا أُدْمِجَتْ فِيهِ مِنَّةٌ. وَقِيلَ: مَا وَسَقَهُ اللَّيْلُ: النُّجُومُ، لِأَنَّهَا تَظْهَرُ فِي اللَّيْلِ، فَشَبَّهَ ظُهُورَهَا فِيهِ بِوَسْقِ الْوَاسِقِ أَشْيَاءَ مُتَفَرِّقَةً. وَهَذَا أَنْسَبُ بِعَطْفِ الْقَمَرِ عَلَيْهِ.
وَاتِّسَاقُ الْقَمَرِ: اجْتِمَاعُ ضِيَائِهِ وَهُوَ افْتِعَالٌ مِنَ الْوَسْقِ بِمَعْنَى الْجَمْعِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا وَذَلِكَ فِي لَيْلَةِ الْبَدْرِ، وَتَقْيِيدُ الْقَسَمِ بِهِ بِتِلْكَ الْحَالَةِ لِأَنَّهَا مَظْهَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى النَّاسِ بِضِيَائِهِ.
وَأَصْلُ فعل اتّسق: اَوْ تسق قُلِبَتِ الْوَاوُ تَاءً فَوْقِيَّةً طَلَبًا لِإِدْغَامِهَا فِي تَاءِ الِافْتِعَالِ وَهُوَ قَلْبٌ مُطَّرِدٌ.
وَجُمْلَةُ: لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ نُسِجَ نَظْمُهَا نَسْجًا مُجْمَلًا لِتَوْفِيرِ الْمَعَانِي الَّتِي تَذْهَبُ إِلَيْهَا أَفْهَامُ السَّامِعِينَ، فَجَاءَتْ عَلَى أَبْدَعِ مَا يُنْسَجُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ الَّذِي يُرْسَلُ إِرْسَالَ الْأَمْثَالِ مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ الْبَدِيعِ النَّسْجِ الْوَافِرِ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ كَثُرَتْ تَأْوِيلَاتُ الْمُفَسِّرِينَ لَهَا.
فَلِمَعَانِي الرُّكُوبِ الْمَجَازِيَّةِ، وَلِمَعَانِي الطَّبَقِ مِنْ حَقِيقِيٍّ وَمَجَازِيٍّ، مُتَّسَعٌ لِمَا تُفِيدُهُ الْآيَةُ مِنَ الْمَعَانِي، وَذَلِكَ مَا جَعَلَ لِإِيثَارِ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ خُصُوصِيَّةً مِنْ أَفْنَانِ الْإِعْجَازِ الْقُرْآنِيِّ.
فَأَمَّا فِعْلُ لَتَرْكَبُنَّ فَحَقِيقَتُهُ مُتَعَذَّرَةٌ هُنَا وَلَهُ مِنَ الْمَعَانِي الْمَجَازِيَّةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي
الْكَلَامِ أَوِ الَّتِي يَصِحُّ أَنْ تُرَادَ فِي الْآيَةِ عِدَّةٌ، مِنْهَا الْغَلَبُ وَالْمُتَابَعَةُ، وَالسُّلُوكُ، وَالِاقْتِحَامُ، وَالْمُلَازَمَةُ، وَالرِّفْعَةُ.


الصفحة التالية
Icon