أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا لَا تَنْجَلِي إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْمُعْجِزَةُ صَالِحَةً لِجَمِيعِ الْأَزْمَانِ حَتَّى يَكُونَ الَّذِينَ يَهْتَدُونَ لِدِينِهِ لِأَجْلِ مُعْجِزَتِهِ أُمَمًا كَثِيرِينَ عَلَى اخْتِلَافِ قَرَائِحِهِمْ فَيَكُونُ هُوَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ تَابِعًا لَا مَحَالَةَ، وَقَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالتَّابِعِ التَّابِعُ لَهُ فِي حَقَائِقِ الدِّينِ الْحَقِّ لَا اتِّبَاعُ الِادِّعَاءِ وَالِانْتِسَابِ بِالْقَوْلِ، وَلَعَلَّ الرَّجَاءَ مُتَوَجِّهٌ إِلَى كَوْنِهِ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِهِمْ تَابِعًا أَيْ أَكْثَرَ أَتْبَاعًا مِنْ أَتْبَاعِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ كُلِّهِمْ، وَقَدْ أُغْفِلَ بَيَانُ وَجْهِ التَّفْرِيعِ فِي هَذَا اللَّفْظِ النَّبَوِيِّ الْبَلِيغِ.
وَهَذِهِ الْجِهَةُ مِنَ الْإِعْجَازِ إِنَّمَا تَثْبُتُ لِلْقُرْآنِ بِمَجْمُوعِهِ أَيْ مَجْمُوعِ هَذَا الْكِتَابِ إِذْ لَيْسَتْ كُلُّ آيَةٍ مِنْ آيَاتِهِ وَلَا كُلُّ سُورَةٍ مِنْ سُوَرِهِ بِمُشْتَمِلَةٍ عَلَى هَذَا النَّوْعِ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَلِذَلِكَ فَهُوَ إِعْجَازٌ حَاصِلٌ مِنَ الْقُرْآنِ وَغَيْرُ حَاصِلٍ بِهِ التَّحَدِّي إِلَّا إِشَارَةً نَحْوَ قَوْلِهِ: وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [النِّسَاء: ٨٢].
وَإِعْجَازُهُ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ لِلْعَرَبِ ظَاهِرٌ، إِذْ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِتِلْكَ الْعُلُومِ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا [هود: ٤٩] وَإِعْجَازُهُ لِعَامَّةِ النَّاسِ أَنْ تَجِيءَ تِلْكَ الْعُلُومُ مِنْ رَجُلٍ نَشَأَ أُمِّيًّا فِي قَوْمٍ أُمِّيِّينَ، وَإِعْجَازُهُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً إِذْ كَانَ يُنْبِئُهُمْ بِعُلُومِ دِينِهِمْ مَعَ كَوْنِهِ أُمِّيًّا، وَلَا قِبَلَ لَهُمْ بِأَنْ يَدَّعُوا أَنَّهُمْ عَلَّمُوهُ لِأَنَّهُ كَانَ بِمَرْأًى مِنْ قَوْمِهِ فِي مَكَّةَ بَعِيدًا عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ كَانَ مُسْتَقَرُّهُمْ بِقُرَى النَّضِيرِ وَقُرَيْظَةَ وَخَيْبَرَ وَتَيْمَاءَ وَبِلَادِ فِلَسْطِينَ، وَلِأَنَّهُ جَاءَ بِنَسْخِ دِينِ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ، وَالْإِنْحَاءِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي تَحْرِيفِهِمْ، فَلَوْ كَانَ قَدْ تَعَلَّمَ مِنْهُمْ لَأَعْلَنُوا ذَلِكَ وَسَجَّلُوا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَقَّهُمْ حَقَّ التَّعْلِيمِ.
وَأَمَّا الْجِهَةُ الرَّابِعَةُ وَهِيَ الْإِخْبَارُ بِالْمُغَيَّبَاتِ فَقَدِ اقْتَفَيْنَا أَثَرَ مَنْ سَلَفَنَا مِمَّنْ عَدَّ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ اعْتِدَادًا مِنَّا بِأَنَّهُ مِنْ دَلَائِلِ كَوْنِ الْقُرْآنِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ
لَيْسَ لَهُ مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِنَظْمِ الْقُرْآنِ وَدَلَالَةِ فَصَاحَتِهِ وَبَلَاغَتِهِ عَلَى الْمَعَانِي الْعُلْيَا، وَلَا هُوَ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ، وَسَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى جُزْئِيَّاتِ هَذَا النَّوْعِ فِي تَضَاعِيفِ هَذَا التَّفْسِيرِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ جَاءَ كَثِيرٌ مِنْ آيَاتِ الْقُرْآنِ بِذَلِكَ مِنْهَا قَوْلُهُ: الم غُلِبَتِ الرُّومُ [الرُّومُ: ١، ٢] الْآيَةَ رَوَى التِّرْمِذِيُّ فِي تَفْسِيرِهَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ أَهْلُ فَارِسَ عَلَى الرُّومِ لِأَنَّهُمْ وَإِيَّاهُمْ أَهْلُ أَوْثَانٍ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يُحِبُّونَ أَنْ يَظْهَرَ الرُّومُ لِأَنَّهُمْ أَهْلُ كِتَابٍ فَذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ لِرَسُولِ اللَّهِ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ [الرّوم: ١- ٤] فَخَرَجَ أَبُو بَكْرٍ يَصِيحُ بِهَا فِي نَوَاحِي مَكَّةَ، فَقَالَ لَهُ نَاسٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَفَلَا نُرَاهِنُكَ عَلَى
وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِنَصْبِ الْبِرَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: أَنْ تُوَلُّوا اسْمُ لَيْسَ مُؤَخَّرٌ، وَيَكْثُرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الِاسْمِ فِي بَابِ كَانَ وَأَخَوَاتِهَا إِذَا كَانَ أَحَدُ مَعْمُولَيْ هَذَا الْبَابِ مُرَكَّبًا مِنْ أَنْ الْمَصْدَرِيَّةِ وَفِعْلِهَا كَانَ الْمُتَكَلِّمُ بِالْخِيَارِ فِي
الْمَعْمُولِ الْآخَرِ بَيْنَ أَنْ يَرْفَعَهُ وَأَنْ يَنْصِبَهُ وَشَأْنُ اسْمِ لَيْسَ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْجَدِيرَ بِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً بِهِ، فَوَجْهُ قِرَاءَةِ رَفْعِ الْبِرَّ أَنَّ الْبِرَّ أَمْرٌ مَشْهُورٌ مَعْرُوفٌ لِأَهْلِ الْأَدْيَانِ مَرْغُوبٌ لِلْجَمِيعِ فَإِذَا جُعِلَ مُبْتَدَأً فِي حَالَةِ النَّفْيِ أَصْغَتِ الْأَسْمَاعُ إِلَى الْخَبَرِ، وَأَمَّا تَوْجِيهُ قِرَاءَةِ النَّصْبِ فَلِأَنَّ أَمْرَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ هُوَ الشُّغْلُ الشَّاغِلُ لَهُمْ فَإِذَا ذُكِرَ خَبَرُهُ قَبْلَهُ تَرَقَّبَ السَّامِعُ الْمُبْتَدَأَ فَإِذَا سَمِعَهُ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِهِ.
وَقَوْلُهُ: وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ إِخْبَارٌ عَنِ الْمَصْدَرِ بِاسْمِ الذَّاتِ لِلْمُبَالَغَةِ كَعَكْسِهِ فِي قَوْلِهَا: «فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَإِدْبَارُ» وَذَلِكَ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً [الْملك: ٣٠] وَقَوْلُ النَّابِغَةِ:

وَقَدْ خِفْتُ مَا تَزِيدَ مَخَافَتِي عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
أَيْ وَعِلٍ هُوَ مَخَافَةُ أَيِّ خَائِفٍ، وَمَنْ قَدَّرَ فِي مِثْلِهِ مُضَافًا أَيْ بِرُّ مَنْ آمَنَ أَوْ وَلَكِنْ ذُو الْبِرِّ فَإِنَّمَا عُنِيَ بَيَانُ الْمَعْنَى لَا أَنَّ هُنَالِكَ مِقْدَارًا لِأَنَّهُ يُخْرِجُ الْكَلَامَ عَنِ الْبَلَاغَةِ إِلَى كَلَام مغول كَمَا قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ، وَعَنِ الْمُبَرِّدِ: لَوْ كُنْتُ مِمَّنْ يَقْرَأُ لَقَرَأْتُ وَلَكِنِ الْبِرُّ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَكَأَنَّهُ أَرَادَ الِاسْتِغْنَاءَ عَنِ التَّقْدِيرِ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْبِرِّ بِجُمْلَةِ: مَنْ آمَنَ لِأَنَّ مَنْ آمَنَ هُوَ الْبَارُّ لَا نَفْسُ الْبِرِّ وَكَيْفَ يَقْرَأُ كَذَلِكَ والْبِرَّ مَعْطُوف بلكن فِي مُقَابَلَةِ الْبِرِّ الْمُثْبَتِ فَهَلْ يَكُونُ إِلَّا عَيْنُهُ وَلِذَا لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ إِلَّا الْبِرَّ بِكَسْرِ الْبَاءِ، عَلَى أَنَّ الْقِرَاءَاتِ مَرْوِيَّةٌ وَلَيْسَتِ اخْتِيَارًا وَلَعَلَّ هَذَا لَا يَصِحُّ عَنِ الْمُبَرِّدِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (وَلَكِنِ الْبِرُّ) بِتَخْفِيفِ النُّونِ مِنْ لَكِنَّ وَرَفْعِ الْبِرِّ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَقَرَأَهُ بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ بِتَشْدِيدِ نُونِ (لَكِنَّ) وَنَصْبِ (الْبِرِّ) وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ.
وَتَعْرِيفُ وَالْكِتابِ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الْمُفِيدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ أَيْ آمَنَ بِكُتُبِ اللَّهِ مِثْلِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، وَوَجْهُ التَّعْبِيرِ بِصِيغَةِ الْمُفْرَدِ أَنَّهَا أَخَفُّ مَعَ عَدَمِ الْتِبَاسِ التَّعْرِيفِ بِأَنْ يَكُونَ لِلْعَهْدِ لِأَنَّ عَطْفَ (النَّبِيِّينَ) عَلَى (الْكِتَابِ) قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّامَ فِي (الْكِتَابِ) لِلِاسْتِغْرَاقِ فَأُوثِرَتْ صِيغَةُ الْمُفْرَدِ طَلَبًا لِخِفَّةِ اللَّفْظِ. وَمَا يُظَنُّ مِنْ أَنَّ اسْتِغْرَاقَ الْمُفْرَدِ الْمُعَرَّفِ بِاللَّامِ أَشْمَلُ مِنِ اسْتِغْرَاقِ الْجَمْعِ الْمُعَرَّفِ بِهَا لَيْسَ جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ وَإِنَّمَا تَوَهَّمَهُ السَّكَّاكِيُّ فِي «الْمِفْتَاحِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: ٤]

[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٢٨٤]

لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤)
لِلَّهِ.
تَعْلِيلٌ وَاسْتِدْلَالٌ عَلَى مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَعَلَى مَا تَقَدَّمَ آنِفًا مِنْ نَحْوِ: اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [آل عمرَان: ١٧٦] وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [الممتحنة: ٣٠] وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [الْبَقَرَة: ٢٣٤] فَإِذَا كَانَ ذَلِكَ تَعْرِيضًا بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ، فَقَدْ جَاءَ هَذَا الْكَلَامُ تَصْرِيحًا وَاسْتِدْلَالًا عَلَيْهِ، فَجُمْلَةُ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَى آخِرِهَا هِيَ مَحَطُّ التَّصْرِيحِ، وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ، وَهِيَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ- إِلَى- وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْبَقَرَة: ٢٨٣] وَجُمْلَةُ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ هِيَ مَوْقِعُ الِاسْتِدْلَالِ، وَهِيَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ، أَوْ عِلَّةٌ لِجُمْلَةِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ بِاعْتِبَارِ إِرَادَةِ الْوَعِيدِ وَالْوَعْدِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ عَبِيدُهُ فَلَا يَفُوتُهُ عَمَلُكُمْ وَالْجَزَاءُ عَلَيْهِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَكُونُ جُمْلَةُ «وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ» مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ عَطْفَ
جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالْمَعْنَى: إِنَّكُمْ عَبِيدُهُ، وَهُوَ مُحَاسِبُكُمْ، وَنَظِيرُهَا فِي الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الْملك: ١٣، ١٤] وَلَا يُخَالِفُ بَيْنَهُمَا إِلَّا أُسْلُوبُ نَظْمِ الْكَلَامِ.
وَمَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ هُنَا: أَنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا أَنَّ الله ربّ السَّمَوَات وَالْأَرْضِ، وَخَالِقُ الْخَلْقِ، فَإِذَا كَانَ فِي السَّمَوَات وَالْأَرْضِ لِلَّهِ، مَخْلُوقًا لَهُ، لَزِمَ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ ذَلِكَ مَعْلُومًا لَهُ لِأَنَّهُ مُكَوِّنُ ضَمَائِرِهِمْ وَخَوَاطِرِهِمْ، وَعُمُومُ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَحْوَالِ مَخْلُوقَاتِهِ مِنْ تَمَامِ مَعْنَى الْخَالِقِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ خَفِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ لَكَانَ الْعَبْدُ فِي حَالَةِ اخْتِفَاءِ حَالِهِ عَنْ عِلْمِ اللَّهِ مُسْتَقِلًّا عَنْ خَالِقِهِ. وَمَالِكِيَّةُ اللَّهِ تَعَالَى أَتَمُّ أَنْوَاعِ الْمِلْكِ عَلَى الْحَقِيقَةِ كَسَائِرِ الصِّفَاتِ الثَّابِتَةِ لِلَّهِ تَعَالَى، فَهِيَ الصِّفَاتُ عَلَى الْحَقِيقَةِ مِنَ الْوُجُودِ الْوَاجِبِ إِلَى مَا اقْتَضَاهُ وجوب الْوُجُودِ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ. فَقَوْلُهُ: لِلَّهِ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ الْآيَةَ.
وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ مَعْنَى مَا تُحِبُّونَ هُوَ الْغَنِيمَةُ فَإِنَّ الْمَالَ مَحْبُوبٌ، فَيَكُونُ الْمَجْرُورُ يَتَنَازَعُهُ كُلٌّ مِنْ (فَشِلْتُمْ، وَتَنَازَعْتُمْ، وَعَصَيْتُمْ)، وَعَدَلَ عَنْ ذِكْرِ الْغَنِيمَةِ بِاسْمِهَا، إِلَى الْمَوْصُولِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُمْ عَجِلُوا فِي طَلَبِ الْمَالِ الْمَحْبُوبِ، وَالْكَلَامُ عَلَى هَذَا تَمْهِيدٌ لِبِسَاطِ الْمَعْذِرَةِ إِذْ كَانَ فَشَلُهُمْ وَتَنَازُعُهُمْ وَعِصْيَانُهُمْ عَنْ سَبَبٍ مِنْ أَغْرَاضِ الْحَرْبِ وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِ (إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ) وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَنْ جُبْنٍ، وَلَا عَنْ ضَعْفِ إِيمَانٍ، أَوْ قَصْدِ
خِذْلَانِ الْمُسْلِمِينَ، وَكُلُّهُ تَمْهِيدٌ لِمَا يَأْتِي مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ.
وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ تَفْصِيل لتنازعتم، وَتَبْيِينٌ لِ (عَصَيْتُمْ)، وَتَخْصِيصٌ لَهُ بِأَنَّ الْعَاصِينَ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ الْمُتَنَازِعِينَ، إِذِ الَّذِينَ أَرَادُوا الْآخِرَةَ لَيْسُوا بِعَاصِينَ، وَلِذَلِكَ أُخِّرَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ إِلَى بَعْدِ الْفِعْلَيْنِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُعَقِّبَ بِهَا قَوْلَهُ: وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ لِلْجُمْلَةِ مَا أَغْنَى عَنْ ذِكْرِ ثَلَاثِ جُمَلٍ وَهَذَا مِنْ أَبْدَعِ وُجُوهِ الْإِعْجَازِ، وَالْقَرِينَةُ وَاضِحَةٌ.
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا إِرَادَةُ نِعْمَةِ الدُّنْيَا وَخَيْرِهَا، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، لِأَنَّ مَنْ أَرَادَ الْغَنِيمَةَ لَمْ يَحْرِصْ عَلَى ثَوَابِ الِامْتِثَالِ لِأَمْرِ الرَّسُولِ بِدُونِ تَأْوِيلٍ، وَلَيْسَ هُوَ مُفَرِّطًا فِي الْآخِرَةِ مُطْلَقًا، وَلَا حَاسِبًا تَحْصِيلَ خَيْرِ الدُّنْيَا فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ مُفِيتًا عَلَيْهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، فَلَيْسَ فِي هَذَا الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفَرِيقَ الَّذِينَ أَرَادُوا ثَوَابَ الدُّنْيَا قَدِ ارْتَدُّوا عَنِ الْإِيمَانِ حِينَئِذٍ، إِذْ لَيْسَ الْحِرْصُ عَلَى تَحْصِيلِ فَائِدَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ مِنْ فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ، مَعَ عَدَمِ الْحِرْصِ عَلَى تَحْصِيلِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ مِنْ ذَلِكَ الْفِعْلِ بِدَالٍّ عَلَى اسْتِخْفَافٍ بِالْآخِرَةِ، وَإِنْكَارٍ لَهَا، كَمَا هُوَ بَيِّنٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْدِيرِ: مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا، فَقَطْ. وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ مُخَالَفَةُ مَنْ خَالَفَ أَمْرَ الرَّسُولِ عِصْيَانًا، مَعَ أَنَّ تِلْكَ الْمُخَالَفَةَ كَانَتْ عَنِ اجْتِهَادٍ لَا عَنِ اسْتِخْفَافٍ، إِذْ كَانُوا قَالُوا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَمَرَنَا بِالثَّبَاتِ هُنَا لِحِمَايَةِ ظُهُورِ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ فَمَا لَنَا وَلِلْوُقُوفِ هُنَا حَتَّى تَفُوتَنَا الْغَنَائِمُ، فَكَانُوا مُتَأَوِّلِينَ، فَإِنَّمَا سُمِّيَتْ هُنَا
وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لَا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) مَا أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩).
يَتَعَيَّنُ عَلَى الْمُخْتَارِ مِمَّا رُوِيَ فِي تَعْيِينِ الْفَرِيقِ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ مِنْ أَنَّهُمْ فَرِيقٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ الْجَمْعِ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ عَائِدًا إِلَى الْمُنَافِقِينَ لِأَنَّهُمْ مَعْلُومُونَ مِنَ الْمَقَامِ، وَلِسَبْقِ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ [النِّسَاء: ٧٢] وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَطْفَ
قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ، فَإِنَّ مَا حُكِيَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِالْمُنَافِقِينَ، وَيَكُونُ الْغَرَضُ انْتَقَلَ مِنَ التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ إِلَى وَصْفِ الَّذِينَ لَا يَسْتَجِيبُونَ إِلَى الْقِتَالِ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِمَا يُبَلِّغُهُمُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ بِنَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ السُّدِّيِّ فَيُحْتَمَلُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ حَدِيثًا مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ كَانُوا عَلَى شَفَا الشَّكِّ فَإِذَا حَلَّ بِهِمْ سُوءٌ أَوْ بُؤْسٌ تَطَيَّرُوا بِالْإِسْلَامِ فَقَالُوا: هَذِهِ الْحَالَةُ السُّوأَى مِنْ شُؤْمِ الْإِسْلَامِ. وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ بَعْضَ الْأَعْرَابِ كَانَ إِذَا أَسْلَمَ وَهَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَنَمَتْ أَنْعَامُهُ وَرَفُهَتْ حَالُهُ حَمِدَ الْإِسْلَامَ، وَإِذَا أَصَابَهُ مَرَضٌ أَوْ مَوَتَانٌ فِي أَنْعَامِهِ تَطَيَّرَ بِالْإِسْلَامِ فَارْتَدَّ عَنْهُ، وَمِنْهُ حَدِيثُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي أَصَابَتْهُ الْحُمَّى فِي الْمَدِينَةِ فَاسْتَقَالَ مِنَ النَّبِيءِ بَيْعَتَهُ
وَقَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي شَأْنِهِ: «الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا»
. وَالْقَوْلُ الْمُرَادُ فِي قَوْلِهِ: يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ- يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ هُوَ قَوْلٌ نَفْسِيٌّ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا يَجْتَرِئُونَ عَلَى أَنْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلَنًا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُمْ يُظْهِرُونَ الْإِيمَانَ بِهِ. أَوْ هُوَ قَوْلٌ يَقُولُونَهُ بَيْنَ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ،
الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصًّا بِهِ غَيْرَ دَاخِلٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَأَنَّهُ نَسَخَ وُجُوبَهُ عَلَيْهِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَمِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى أنّ النّبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَلْتَزِمُ ذَلِكَ وَحَمَلُوا مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَابْنُ عُمَرَ مِنَ الْوُضُوءِ لِفَضْلِ إِعَادَةِ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَهُوَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْقَوْلُ بِغَيْرِهِ. وَالَّذِينَ فَسَّرُوا الْقِيَامَ بِمَعْنَى الْقِيَامِ مِنَ النَّوْمِ أَرَادُوا تَمْهِيدَ طَرِيقِ التَّأْوِيلِ بِأَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ قَدْ نِيطَ بِوُجُودِ مُوجِبِ
الْوُضُوءِ. وَإِنِّي لَأَعْجَبُ مِنْ هَذِهِ الطُّرُقِ فِي التَّأْوِيلِ مَعَ اسْتِغْنَاءِ الْآيَةِ عَنْهَا لِأَنَّ تَأْوِيلَهَا فِيهَا بَيِّنٌ لِأَنَّهَا افْتُتِحَتْ بِشَرْطٍ، هُوَ الْقِيَامُ إِلَى الصَّلَاةِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ الْوُضُوءَ شَرْطٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجُمْلَةِ ثُمَّ بَيَّنَ هَذَا الْإِجْمَالَ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى - إِلَى قَوْلِهِ- أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ- إِلَى قَوْلِهِ- فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا فَجَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مُوجِبَةً لِلتَّيَمُّمِ إِذَا لَمْ يُوجَدُ الْمَاءُ، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا بِدَلَالَةِ الْإِشَارَةِ أَنَّ امْتِثَالَ الْأَمْرِ يَسْتَمِرُّ إِلَى حُدُوثِ حَادِثٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، إِمَّا مَانِعٍ مِنْ أَصْلِ الْوُضُوءِ وَهُوَ الْمَرَضُ وَالسَّفَرُ، وَإِمَّا رَافِعٍ لِحُكْمِ الْوُضُوءِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَهُوَ الْأَحْدَاثُ الْمَذْكُورُ بَعْضُهَا بِقَوْلِهِ: أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ، فَإِنْ وُجِدَ الْمَاءُ فَالْوُضُوءُ وَإِلَّا فَالتَّيَمُّمُ، فَمَفْهُومُ الشَّرْطِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى وَمَفْهُومُ النَّفْيِ وَهُوَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً تَأْوِيلٌ بَيِّنٌ فِي صَرْفِ هَذَا الظَّاهِرِ عَنْ مَعْنَاهُ بَلْ فِي بَيَانِ هَذَا الْمُجْمَلِ، وَتَفْسِيرٌ وَاضِحٌ لِحَمْلِ مَا فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ عَلَى أَنَّهُ لِقَصْدِ الْفَضِيلَةِ لَا لِلْوُجُوبِ.
وَمَا ذَكَرَهُ الْقُرْآنُ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ هُوَ الْوَاجِبُ وَمَا زَادَ عَلَيْهِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ. وَحَدَّدَتِ الْآيَةُ الْأَيْدِي بِبُلُوغِ الْمَرَافِقِ لِأَنَّ الْيَدَ تُطْلَقُ عَلَى مَا بَلَغَ الْكُوعَ وَمَا إِلَى الْمِرْفَقِ وَمَا إِلَى الْإِبِطِ فَرَفَعَتِ الْآيَةُ الْإِجْمَالَ فِي الْوُضُوءِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي النَّظَافَةِ وَسَكَتَتْ فِي التَّيَمُّمِ فَعَلِمْنَا أَنَّ السُّكُوتَ مَقْصُودٌ وَأَنَّ التَّيَمُّمَ لَمَّا كَانَ مَبْنَاهُ عَلَى الرُّخْصَةِ اكْتَفَى بِصُورَةِ الْفِعْلِ وَظَاهِرِ الْعُضْوِ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَيْدِيَكُمْ فِي التَّيَمُّمِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَفِي سُورَةِ النِّسَاءِ. وَهَذَا مِنْ طَرِيقِ الِاسْتِفَادَةِ بِالْمُقَابَلَةِ، وَهُوَ طَرِيقٌ بَدِيعٌ فِي الْإِيجَازِ أَهْمَلَهُ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ وَعُلَمَاءُ الْأُصُولِ فَاحْتَفِظْ بِهِ وَأَلْحِقْهِ بِمَسَائِلِهِمَا.
مُشْرِكُو الْعَرَبِ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ. وَكَمَا قَالَتِ الصَّابِئَةُ فِي الْأَرْوَاحِ، وَالنَّصَارَى فِي الِابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدس.
وَمعنى العجيب عَامٌّ فِي أَحْوَالِ الَّذِينَ ادَّعَوُا الْإِلَهِيَّةَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى سَوَاءً فِيهِمْ مَنْ كَانَ أَهْلًا لِلِاسْتِدْلَالِ وَالنَّظَرِ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِذَلِكَ، لِأَنَّ مَحَلَّ التَّعْجِيبِ أَنَّهُ يَخْلُقُهُمْ وَيَخْلُقُ مَعْبُودَاتِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ إِلَيْهِ بَلْ وَيَخْتَلِقُونَ إِلَهِيَّةَ غَيْرِهِ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْجِيبَ مِنْ شَأْنِهِمْ مُتَفَاوِتٌ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِ كفرهم وضلالهم.
[٢]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٢]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (٢)
اسْتِئْنَافٌ لِغَرَضٍ آخَرَ لِلتَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ الْمُشْرِكِينَ إِذْ أَنْكَرُوا الْبَعْثَ، فَإِنَّهُ ذَكَّرَهُمُ ابْتِدَاءً بِخَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ فِي تَسْوِيَتِهِمْ مَا لَمْ يَخْلُقِ السَّمَاوَاتِ وَلَا الْأَرْضَ بِاللَّهِ تَعَالَى فِي الْإِلَهِيَّةِ. ثُمَّ ذَكَّرَهُمْ بِخَلْقِهِمُ الْأَوَّلِ، وَعَجِبَ مِنْ حَالِهِمْ كَيْفَ جَمَعُوا بَيْنَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ خَالِقُهُمُ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ فَكَيْفَ يَمْتَرُونَ فِي الْخَلْقِ الثَّانِي.
وَأُتِيَ بِضَمِيرِ (هُوَ) فِي قَوْلِهِ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ لِيَحْصُلَ تَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ وَالْمُسْنَدِ إِلَيْهِ مَعًا، فَتُفِيدُ الْجُمْلَةُ الْقَصْرَ فِي رُكْنَيِ الْإِسْنَادِ وَفِي مُتَعَلِّقِهَا، أَيْ هُوَ خَالِقُكُمْ لَا غَيْرُهُ، مَنْ طِينٍ لَا مَنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَضَى أَجَلًا وَعِنْدَهُ أَجَلٌ مُسَمًّى فَيَنْسَحِبُ حُكْمُ الْقَصْرِ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى الْمَقْصُورِ. وَالْحَالُ الَّذِي اقْتَضَى الْقَصْرَ هُوَ حَالُ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوهُ وَهُوَ الْخَلْقُ الثَّانِي نَزَلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ أَنْكَرَ الْخَلْقَ الْأَوَّلَ إِذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْخَلْقَيْنِ بَلِ الْإِعَادَةُ فِي مُتَعَارَفِ الصَّانِعِينَ أَيْسَرُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم: ٢٧] وَقَالَ أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ [ق:
١٥]. وَالْقَصْرُ أَفَادَ نَفْيَ جَمِيعِ هَذِهِ التَّكْوِينَاتِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ مِنْ أَصْنَامِهِمْ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ [الرّوم: ٤٠].
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ خَلَقَكُمْ مُوَجَّهٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا، فَفِيهِ الْتِفَاتٌ مِنَ الْغِيبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ التَّوْبِيخِ.
تُنْحَرُ، وَالْبَقَرُ تُذْبَحُ وَتُنْحَرُ أَيْضًا.
وَمِنَ الْبَقَرِ صِنْفٌ لَهُ سِنَامٌ فَهُوَ أَشْبَهُ بِالْإِبِلِ وَيُوجَدُ فِي بِلَادِ فَارِسَ وَدَخَلَ بِلَادَ الْعَرَبِ وَهُوَ الْجَامُوسُ، وَالْبَقَرُ الْعَرَبِيُّ لَا سَنَامَ لَهُ وَثَوْرُهَا يُسَمَّى الْفَرِيشُ.
وَلَمَّا كَانُوا قَدْ حَرَّمُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَعْضَ الْغَنَمِ، وَمِنْهَا مَا يُسَمَّى بِالْوَصِيلَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَبَعْضَ الْإِبِل كالبحيرة والوصيلة أَيْضًا، وَلَمْ يُحَرِّمُوا بَعْضَ الْمَعْزِ وَلَا شَيْئًا مِنَ الْبَقَرِ، ناسب أَن يُؤْتى بِهَذَا التَّقْسِيمِ قَبْلَ الِاسْتِدْلَالِ تَمْهِيدًا لِتَحَكُّمِهُمْ إِذْ حَرَّمُوا بَعْضَ أَفْرَادٍ مِنْ أَنْوَاعٍ، وَلَمْ يُحَرِّمُوا بَعْضًا مِنْ أَنْوَاعٍ أُخْرَى، وَأَسْبَابُ التَّحْرِيمِ الْمَزْعُومَةِ تَتَأَتَّى فِي كُلِّ نَوْعٍ فَهَذَا إِبْطَالٌ إِجْمَالِيٌّ لِمَا شَرَّعُوهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ دِينِ اللَّهِ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا.
وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ يُسَمَّى فِي عِلْمِ الْمُنَاظَرَةِ وَالْبَحْثِ بِالتَّحَكُّمِ.
وَالضَّأْنُ- بِالْهَمْزِ- اسْمُ جَمْعٍ لِلْغَنَمِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَمُفْرَدُ الضَّأْنِ شَاةٌ وَجَمْعُهَا شَاءٌ. وَقِيلَ هُوَ جَمْعُ ضَائِنٍ. وَالضَّأْنُ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْعَامِ ذَوَاتِ الظِّلْفِ لَهُ صُوفٌ. وَالْمَعْزُ
اسْمُ جمع مفرده مَا عز، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْأَنْعَامِ شَبِيهٌ بِالضَّأْنِ مِنْ ذَوَاتِ الظِّلْفِ لَهُ شَعْرٌ مُسْتَطِيلٌ، وَيُقَالُ: مَعْزٌ- بِسُكُونِ الْعَيْنِ- وَمَعَزٌ- بِفَتْحِ الْعَيْنِ- وَبِالْأَوَّلِ قَرَأَ نَافِعٌ. وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَخَلَفٌ. وَقَرَأَ بِالثَّانِي الْبَاقُونَ.
وَبَعْدَ أَنْ تَمَّ ذِكْرُ الْمِنَّةِ وَالتَّمْهِيدِ لِلْحُجَّةِ، غَيَّرَ أُسْلُوبَ الْكَلَامِ، فَابْتُدِئَ بِخِطَابِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنْ يُجَادِلَ الْمُشْرِكِينَ وَيُظْهِرَ افْتِرَاءَهُمْ عَلَى اللَّهِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ابْتَدَعُوا تَحْرِيمَهُ مِنْ أَنْوَاعٍ وَأَصْنَافِ الْأَنْعَامِ عَلَى مَنْ عَيَّنُوهُ مِنَ النَّاسِ بِقَوْلِهِ:
قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ الْآيَاتِ. فَهَذَا الْكَلَامُ رَدٌّ على الْمُشْركين، لإبطال مَا شَرَّعُوهُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ- وَقَوْلِهِ: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا الْآيَةَ.
بِالْمِهَادِ، وَمَا هُوَ فَوْقَهُمْ مِنْهَا بِالْغَوَاشِي، وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ انْتِفَاءِ الرَّاحَةِ لَهُمْ فِي جَهَنَّمَ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يَحْتَاجُ إِلَى الْمِهَادِ وَالْغَاشِيَةِ عِنْدَ اضْطِجَاعِهِ لِلرَّاحَةِ، فَإِذَا كَانَ مِهَادُهُمْ وَغَاشِيَتُهُمْ النَّارَ. فَقَدِ انْتَفَتْ رَاحَتُهُمْ، وَهَذَا ذِكْرٌ لِعَذَابِهِمُ السُّوءِ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ.
وَقَوْلُهُ: غَواشٍ وَصْفٌ لِمُقَدَّرٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: مِنْ جَهَنَّمَ، أَيْ وَمِنْ فَوْقِهِمْ نِيرَانٌ كَالْغَوَاشِي. وَذَيَّلَهُ بِقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ بِالْعِقَابِ: هُوَ الظُّلْمُ. وَهُوَ الشِّرْكُ. وَلَمَّا كَانَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ قَدْ شُبِّهَ بِجَزَاءِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْآيَاتِ وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا، عُلِمَ أَنَّ هَؤُلَاءِ الْمُكَذِّبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الظَّالِمِينَ. وَهُمُ الْمَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ هَذَا التَّشْبِيهِ، بِحَيْثُ صَارُوا مَثَلًا لِعُمُومِ الظَّالِمِينَ، وَبِهَذَيْنِ الْعُمُومَيْنِ كَانَ الجملتان تذييلين.
وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ وَضْعُ الظَّاهِرِ مَوْضِعَ الْمُضْمَرِ: لِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ، وَإِنْ كَانَا صَادِقَيْنِ مَعًا عَلَى الْمُكَذِّبِينَ الْمُشَبَّهِ عِقَابُ أَصْحَابِ الْوَصْفَيْنِ بِعِقَابِهِمْ. فَوَصْفُ الْمُجْرِمِينَ أَعَمُّ مَفْهُومًا مِنْ وَصْفِ الظَّالِمِينَ، لِأَنَّ الْإِجْرَامَ يَشْمَلُ التَّعْطِيلَ وَالْمَجُوسِيَّةَ بِخِلَافِ الْإِشْرَاكِ. وَحَقِيقَةُ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْقِعَ الْمُضْمَرِ إِنَّمَا تَتَقَوَّمُ حَيْثُ لَا يَكُونُ لِلِاسْمِ الظَّاهِرِ الْمَذْكُورِ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَى معنى الضّمير.
[٤٢]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ٤٢]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢)
أَعْقَبَ الْإِنْذَارَ وَالْوَعِيدَ لِلْمُكَذِّبِينَ، بِالْبِشَارَةِ وَالْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ أَحَدِ الْغَرَضَيْنِ بِالْآخَرِ.
وَعُطِفَ عَلَى: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا [الْأَعْرَاف: ٤٠] أَيْ: وَإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ، لِأَنَّ بَيْنَ مَضْمُونِ الْجُمْلَتَيْنِ مُنَاسَبَةً مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ كَمَالِ الِاتِّصَالِ
فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاتِّفَاقِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ وَالْمَعْنَى تُبْنَا مِمَّا عَسَى أَنْ نَكُونَ أَلْمَمْنَا بِهِ مِنْ ذَنْبٍ وَتَقْصِيرٍ، وَهَذَا إِخْبَارٌ عَنْ نَفْسِهِ، وَعَنِ الْمُخْتَارِينَ مِنْ قَوْمِهِ، بِمَا يَعْلَمُ مِنْ صِدْقِ سَرَائِرِهِمْ.
قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ جُمْلَةُ: قالَ إِلَخْ جَوَابٌ لِكَلَامِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِوُقُوعِهَا عَلَى طَرِيقَةِ الْمُحَاوَرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَلَامُ مُوسَى، وَإِنْ كَانَ طَلَبًا، وَهُوَ لَا يَسْتَدْعِي
جَوَابًا، فَإِنَّ جَوَابَ الطَّالِبِ عِنَايَةٌ بِهِ وَفَضْلٌ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَذَابِ هُنَا عَذَابُ الدُّنْيَا، لِأَنَّ الْكَلَامَ جَوَابٌ لِقَوْلِ مُوسَى: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا وَالْإِهْلَاكُ عَذَابٌ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُ أَنَّ عَذَابَ الدُّنْيَا يُصِيبُ اللَّهُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَقَدْ أَجْمَلَ اللَّهُ سَبَبَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِ، وَمُوسَى يَعْلَمُهُ إِجْمَالًا، فَالْكَلَامُ يَتَضَمَّنُ طَمْأَنَةَ مُوسَى مِنْ أَنْ يَنَالَهُ الْعَذَاب هُوَ والبزآء مِنْ قَوْمِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُعَامِلَهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُجْرِمِينَ. وَالْمَعْنَى إِنِّي قَادِرٌ عَلَى تَخْصِيصِ الْعَذَابِ بِمَنْ عَصَوْا وَتَنْجِيَةِ مَنْ لَمْ يُشَارِكْ فِي الْعِصْيَانِ، وَجَاءَ الْكَلَامُ عَلَى طَرِيقَةٍ مُجْمَلَةٍ شَأْنَ كَلَامِ مَنْ لَا يسْأَل عَمَّا يعقل.
وَقَوْلُهُ: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ مُقَابِلُ قَوْلِ مُوسَى: فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا.
وَهُوَ وَعْدُ تَعْرِيضٍ بِحُصُولِ الرَّحْمَةِ الْمَسْئُولَةِ لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُخْتَارِينَ، لِأَنَّهَا لَمَّا

[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٢]

وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (١٢)
لَمَّا اسْتَوْفَى الْبَيَانَ لِأَصْنَافِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ أَمَرَ اللَّهُ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ عَهْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [التَّوْبَة: ٣] وَإِنَّمَا كَانَ
ذَلِكَ لِإِبْطَانِهِمُ الْغَدْرَ، وَالَّذِينَ أَمَرَ بِإِتْمَامِ عَهْدِهِمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ مَا اسْتَقَامُوا عَلَى الْعَهْدِ بِقَوْلِهِ:
إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ [التَّوْبَة: ٤] الْآيَاتِ، وَالَّذِينَ يَسْتَجِيبُونَ عَطَفَ عَلَى أُولَئِكَ بَيَانَ الَّذِينَ يُعْلِنُونَ بِنَكْثِ الْعَهْدِ، وَيُعْلِنُونَ بِمَا يُسْخِطُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِمْ، وَهَذَا حَالٌ مُضَادٌّ لِحَالِ قَوْلِهِ: وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ [التَّوْبَة: ٨].
وَالنَّكْثُ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فِي الْأَعْرَافِ [١٣٥].
وَعَبَّرَ عَنْ نَقْضِ الْعَهْدِ بِنَكْثِ الْأَيْمَانِ تَشْنِيعًا لِلنَّكْثِ، لِأَنَّ الْعَهْدَ كَانَ يُقَارِنُهُ الْيَمِينُ عَلَى الْوَفَاءِ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْعَهْدُ حِلْفًا.
وَزِيدَ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ زِيَادَةً فِي تَسْجِيلِ شَنَاعَةِ نَكْثِهِمْ: بِتَذْكِيرِ أَنَّهُ غَدْرٌ لِعَهْدٍ، وَحَنْثٌ بِالْيَمِينِ.
وَالطَّعْنُ حَقِيقَتُهُ خَرْقُ الْجِسْمِ بِشَيْءٍ مُحَدَّدٍ كَالرُّمْحِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا بِمَعْنَى الثَّلْبِ.
وَالنِّسْبَةُ إِلَى النَّقْصِ، بِتَشْبِيهِ عِرْضِ الْمَرْءِ، الَّذِي كَانَ مُلْتَئِمًا غَيْرَ مَنْقُوصٍ، بِالْجَسَدِ السَّلِيمِ.
فَإِذَا أُظْهِرَتْ نَقَائِصُهُ بِالثَّلْبِ وَالشَّتْمِ شُبِّهَ بِالْجِلْدِ الَّذِي أُفْسِدَ الْتِحَامُهُ.
وَالْأَمْرُ، هُنَا: لِلْوُجُوبِ، وَهِيَ حَالَةٌ مِنْ أَحْوَالِ الْإِذْنِ الْمُتَقَدِّمِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ٥] فَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ يَجِبُ قِتَالُهُمْ ذَبًّا عَنْ حُرْمَةِ الدِّينِ، وَقَمْعًا لِشَرِّهِمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ.
وأَئِمَّةَ جَمْعُ إِمَامٍ، وَهُوَ مَا يُجْعَلُ قُدْوَةً فِي عَمَلٍ يُعْمَلُ عَلَى مِثَالِهِ، أَوْ عَلَى مِثَالِ عَمَلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً [الْقَصَص: ٥] أَيْ مُقْتَدًى بِهِمْ، وَقَالَ لَبِيدٌ:
وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإِمَامُهَا
كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الزخرف: ٢٦- ٢٨]، أَيْ فِي عَقِبِهِ مِنَ الْعَرَبِ، فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ لِلْعَهْدِ.
وَجُمْلَةُ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِخْبَارٌ بِأَنَّ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأَنَّ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ مَذْمُومٌ، وَأَنَّهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ إِمْهَالَ الْبَشَرِ إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ لَأَرَاهُمْ وَجْهَ الْفَصْلِ فِي اخْتلَافهمْ باستيصال الْمُبْطِلِ وَإِبْقَاءِ الْمُحِقِّ. وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ أُجْمِلَتْ هُنَا وَأُشِيرَ إِلَيْهَا فِي سُورَةِ الشُّورَى [١٤] بِقَوْلِهِ: وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ.
وَالْأَجَلُ: هُوَ أَجَلُ بَقَاءِ الْأُمَمِ، وَذَلِكَ عِنْدَ انْقِرَاضِ الْعَالَمِ، فَالْقَضَاءُ بَيْنَهُمْ إِذَنْ مُؤَخَّرٌ إِلَى يَوْمِ الْحِسَابِ. وَأَصْرَحُ مِنْ ذَلِكَ فِي بَيَانِ مَعْنَى (الْكَلِمَةِ) قَوْلُهُ فِي سُورَةِ هُودٍ [١١٨] وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ فِي قَوْلِهِ: فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ لِلرِّعَايَةِ على الفاصلة.
[٢٠]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٢٠]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ [يُونُس: ١٨]، فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ افْتِرَاءَهُمْ فِي جَانِبِ الْإِلَهِيَّةِ نَفَى بُهْتَانَهُمْ فِي جَانب النبوءة.
وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ عَائِدٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الْآيَةِ، فَإِنَّ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ مِنَ الضَّمِيرِ مُغْنِيَةٌ عَنْ ذِكْرِ الْمُعَادِ. وَقَدْ كَانَ ذِكْرُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُمْ فِي نَوَادِيهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ فِي أَيَّامِ مُقَامِهِ بَيْنَهُمْ بَعْدَ الْبَعْثَةِ هُوَ شُغْلُهُمُ الشَّاغِلُ لَهُمْ، وَقد أُجْرِيَ فِي كَلَامِهِمْ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ بِدُونِ سَبْقِ مُعَادٍ، عَلِمَ الْمُتَخَاطِبُونَ أَنَّهُ الْمَقْصُودُ. وَنَظِيرُ هَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَأَصْلُ ضَيْفٍ مَصْدَرُ فِعْلِ ضَافَ يَضِيفُ، وَلِذَلِكَ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَأَكْثَرَ، وَعَلَى الْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ، وَقَدْ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ غَيْرِ الْمَصْدَرِ فَيُجْمَعُ كَمَا قَالَ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ:
نَزَلْتُمْ مَنْزِلَ الْأَضْيَافِ مِنَّا وَقَدْ ظَنَّ لُوطٌ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- الْمَلَائِكَةَ رِجَالًا مَارِّينَ بِبَيْتِهِ فَنَزَلُوا عِنْدَهُ لِلِاسْتِرَاحَةِ وَالطَّعَامِ وَالْمَبِيتِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ إِنْكَارٌ وَتَوْبِيخٌ لِأَنَّ إِهَانَةَ الضَّيْفِ مَسَبَّةٌ لَا
يَفْعَلُهَا إِلَّا أَهْلُ السَّفَاهَةِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْكُمْ بِمَعْنَى بَعْضُكُمْ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَمَالُؤَهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ وَانْعِدَامِ رَجُلٍ رَشِيدٍ مِنْ بَيْنِهِمْ، وَهَذَا إِغْرَاءٌ لَهُمْ عَلَى التَّعَقُّلِ لِيَظْهَرَ فِيهِمْ مَنْ يَتَفَطَّنُ إِلَى فَسَادِ مَا هُمْ فِيهِ فَيَنْهَاهُمْ، فَإِنَّ ظُهُورَ الرَّشِيدِ فِي الْفِئَةِ الضَّالَّةِ يَفْتَحُ بَابَ الرَّشَادِ لَهُمْ. وَبِالْعَكْسِ تَمَالُؤُهُمْ عَلَى الْبَاطِلِ يَزِيدُهُمْ ضراوة بِهِ.
[٧٩، ٨٠]
[سُورَة هود (١١) : الْآيَات ٧٩ إِلَى ٨٠]
قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (٧٩) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (٨٠)
فُصِلَتْ جُمْلَةُ قالُوا عَنِ الَّتِي قَبْلَهَا لِوُقُوعِهَا مَوْقِعَ الْمُحَاوَرَةِ مَعَ لُوطٍ- عَلَيْهِ السَّلَامُ-.
ولَقَدْ عَلِمْتَ تَأْكِيدٌ لِكَوْنِهِ يَعْلَمُ. فَأُكِّدَ بِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّهُ يَعْلَمُ لِأَنَّ حَالَهُ فِي عَرْضِهِ بَنَاتِهِ عَلَيْهِمْ كَحَالِ مَنْ لَا يَعْلَمُ خُلُقَهُمْ، وَكَذَلِكَ التَّوْكِيدُ فِي وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ، وَكِلَا الْخَبَرَيْنِ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ فَائِدَةِ الْخَبَرِ، أَيْ نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا رَغْبَةٌ فِي بَنَاتِكَ وَإِنَّكَ تَعْلَمُ مُرَادَنَا.
الْأَعْمَالِ، لِأَنَّ بَذْلَ الْمَالِ يَشُقُّ عَلَى النُّفُوسِ فَكَانَ لَهُ مِنَ الْأَهَمِّيَّةِ مَا جَعَلَهُ ثَانِيًا لِلصَّلَاةِ.
ثُمَّ أُعِيدَ أُسْلُوبُ التَّعْبِيرِ بِالْمُضَارِعِ فِي الْمَعْطُوفِ عَلَى الصِّلَةِ وَهُوَ قَوْله: وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ إِفَادَةَ التَّجَدُّدِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ تَجَدُّدَ هَذَا الدرء مَا يُحْرَصُ عَلَيْهِ لِأَنَّ النَّاسَ عُرْضَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ عَلَى تَفَاوُتٍ، فَوُصِفَ لَهُمْ دَوَاءُ ذَلِك بِأَن يدعوا السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ.
وَالْقَوْلُ فِي عَطْفِ وَالَّذِينَ صَبَرُوا وَفِي إِعَادَةِ اسْمِ الْمَوْصُولِ كَالْقَوْلِ فِي وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ.
وَالصَّبْرُ: مِنَ الْمَحَامِدِ. وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٤٥]. وَالْمُرَادُ الصَّبْرُ عَلَى مَشَاقِّ أَفْعَالِ الْخَيْرِ وَنَصْرِ الدِّينِ.
وابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ لِ صَبَرُوا. وَالِابْتِغَاءُ: الطَّلَبُ. وَمَعْنَى ابْتِغَاءِ وَجْهِ اللَّهِ ابْتِغَاءُ رِضَاهُ كَأَنَّهُ فَعَلَ فِعْلًا يَطْلُبُ بِهِ إِقْبَالَهُ عِنْدَ لِقَائِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ فِي آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٢].
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ صَبَرُوا لِأَجْلِ أَنَّ الصَّبْرَ مَأْمُورٌ بِهِ مِنَ اللَّهِ لَا لِغَرَضٍ آخَرَ كَالرِّيَاءِ لِيُقَالَ مَا أَصْبَرَهُ عَلَى الشَّدَائِدِ وَلِاتِّقَاءِ شَمَاتَةِ الْأَعْدَاءِ.
وَالسِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ تَقَدَّمَ وَجْهُ ذِكْرِهِمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً أَوَاخِرَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٧٤].
وَالدَّرْءُ: الدَّفْعُ وَالطَّرْدُ. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِإِزَالَةِ أَثَرِ الشَّيْءِ فَيَكُونُ بَعْدَ حُصُولِ الْمَدْفُوعِ وَقَبْلَ حُصُولِهِ بِأَنْ يُعِدَّ مَا يَمْنَعُ حُصُولَهُ، فَيُصَدِّقُ ذَلِكَ بِأَنْ يُتْبِعَ السَّيِّئَةَ إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ بِفِعْلِ الْحَسَنَاتِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَطَرْدِ السَّيِّئَةِ.
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا مُعَاذُ اتَّقِ اللَّهَ حَيْثُ كُنْتَ وَأَتْبِعِ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا»
. وَخَاصَّةً فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ.
وَالْجَرَمُ- بِالتَّحْرِيكِ-: أَصْلُهُ الْبُدُّ. وَكَثُرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ حَتَّى صَارَ بِمَعْنَى حَقًّا. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ فِي سُورَةِ هُودٍ [٢٢].
وَقَوْلُهُ: أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فِي مَوْضِعِ جَرٍّ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ مُتَعَلِّقٍ بِ جَرَمَ. وَخَبَرُ لَا النَّافِيَةِ مَحْذُوفٌ لِظُهُورِهِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ مَوْجُودٌ. وَحَذْفُ الْخَبَرِ فِي مِثْلِهِ كَثِيرٌ.
وَالتَّقْدِيرُ: لَا جَرَمَ فِي أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَوْ لَا جَرَمَ مِنْ أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بدّ من أَنَّهُ يَعْلَمُ، أَيْ لَا بُدَّ مِنْ عِلْمِهِ، أَيْ لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ.
وَجُمْلَةُ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ الْوَعِيدِ بِالْمُؤَاخَذَةِ بِمَا يُخْفُونَ وَمَا يُظْهِرُونَ مِنَ الْإِنْكَارِ والاستكبار وَغَيرهمَا بالمؤاخذة بِمَا يخفون وَمَا يظهرون من الْإِنْكَار وَالِاسْتِكْبَارِ وَغَيْرِهِمَا مُؤَاخَذَةِ عِقَابٍ وَانْتِقَامٍ، فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِجُمْلَةِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ
الْمُسْتَكْبِرِينَ
الْوَاقِعَةِ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ وَالتَّذْيِيلِ لَهَا، لِأَنَّ الَّذِي لَا يُحِبُّ فِعْلًا وَهُوَ قَادِرٌ يُجَازِي فَاعِلَهُ بِالسُّوءِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمُسْتَكْبِرِينَ لِلِاسْتِغْرَاقِ، لِأَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ الْعُمُومُ. وَيَشْمَلُ هَؤُلَاءِ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ فَيَكُونُ إِثْبَاتُ الْعِقَابِ لَهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْء بدليله.
[٢٤، ٢٥]
[سُورَة النَّحْل (١٦) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٢٥]
وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٢٤) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ مَا يَزِرُونَ (٢٥)
وإِذا قِيلَ لَهُمْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ [سُورَة النَّحْل: ٢٢]، لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الْمُتَقَدِّمُ بَعْضُهَا، فَإِنَّهُ ذَكَرَ اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمُ الْوَحْدَانِيَّةَ، وَأَتْبَعَ بِمَعَاذِيرِهِمُ الْبَاطِلَةِ لِإِنْكَارِ نُبُوءَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ الْإِسْلَامِ. وَالتَّقْدِيرُ:
قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَمُسْتَكْبِرَةٌ فَلَا يَعْتَرِفُونَ
وَاسْتَفْهَمُوا عَنْ وَقْتِهِ بِقَوْلِهِمْ: مَتى هُوَ اسْتِفْهَامَ تَهَكُّمٍ أَيْضًا فَأَمَرَ الرَّسُولَ بِأَنْ يُجِيبَهُمْ جَوَابًا حَقًّا إِبْطَالًا لِلَازِمِ التَّهَكُّمِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَظِيرِهِ آنِفًا.
وَضَمِيرُ مَتى هُوَ عَائِدٌ إِلَى الْعَوْدِ الْمَأْخُوذِ مِنْ قَوْلِهِ: يُعِيدُنا كَقَوْلِهِ: اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: ٨].
وَ (عَسَى) لِلرَّجَاءِ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالْمَعْنَى لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا.
ويَوْمَ يَدْعُوكُمْ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِ: أَنْ يَكُونَ قَرِيباً. وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ بِنَاءٍ لِأَنَّهُ أُضِيفَ إِلَى الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِ يَكُونَ، أَيْ يَكُونَ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ، وَفَتْحَتُهُ فَتْحَةُ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ.
وَالدُّعَاءُ يَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى حَقِيقَتِهِ، أَيْ دُعَاءُ اللَّهِ النَّاسَ بِوَاسِطَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَسُوقُونَ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى الْأَمْرِ التَّكْوِينِيِّ بِإِحْيَائِهِمْ، فَأَطْلَقَ عَلَيْهِ الدُّعَاءَ لِأَنَّ الدُّعَاءَ يَسْتَلْزِمُ إِحْيَاءَ الْمَدْعُوِّ وَحُصُولَ حُضُورِهِ، فَهُوَ مَجَازٌ فِي الْإِحْيَاءِ وَالتَّسْخِيرِ لِحُضُورِ الْحِسَابِ.
وَالِاسْتِجَابَةُ مُسْتَعَارَةٌ لِمُطَاوَعَةِ مَعْنَى يَدْعُوكُمْ، أَيْ فَتَحْيَوْنَ وَتَمْثُلُونَ لِلْحِسَابِ. أَيْ يَدْعُوكُمْ وَأَنْتُمْ عِظَامٌ وَرُفَاتٌ. وَلَيْسَ لِلْعِظَامِ وَالرُّفَاتِ إِدْرَاكٌ وَاسْتِمَاعٌ وَلَا ثَمَّ اسْتِجَابَةٌ لِأَنَّهَا فَرْعُ السَّمَاعِ وَإِنَّمَا هُوَ تَصْوِيرٌ لِسُرْعَةِ الْإِحْيَاءِ وَالْإِحْضَارِ وَسُرْعَةِ الِانْبِعَاثِ وَالْحُضُورِ لِلْحِسَابِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ ذَلِكَ كَحُصُولِ اسْتِمَاعِ الدَّعْوَةِ وَاسْتِجَابَتِهَا فِي أَنَّهُ لَا مُعَالَجَةَ فِي تَحْصِيلِهِ وَحُصُولِهِ وَلَا رَيْثَ وَلَا بُطْءَ فِي زَمَانِهِ.
فَصِيحُ اللِّسَانِ، فَكَانَ يَتَكَلَّمُ عَنْ مُوسَى بِمَا يُرِيدُ إِبْلَاغَهُ، وَكَانَ يَسْتَخْلِفُهُ فِي مُهِمَّاتِ الْأُمَّةِ. وَإِنَّمَا جُعِلَتْ تِلْكَ الْهِبَةُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ رَحِمَ مُوسَى إِذْ يَسَّرَ لَهُ أَخًا فَصِيحَ اللِّسَان، وأكمله بالإنباء حَتَّى يَعْلَمَ مُرَادَ مُوسَى مِمَّا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى. وَلَمْ يُوصَفْ هَارُونُ بِأَنَّهُ رَسُولٌ إِذْ لَمْ يُرْسِلْهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَإِنَّمَا جَعَلَهُ مُبَلِّغًا عَنْ مُوسَى. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ [طه: ٤٧] فَهُوَ من التغليب.
[٥٤، ٥٥]
[سُورَة مَرْيَم (١٩) : الْآيَات ٥٤ إِلَى ٥٥]
وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (٥٤) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (٥٥)
خَصَّ إِسْمَاعِيلَ بِالذِّكْرِ هُنَا تَنْبِيهًا عَلَى جَدَارَتِهِ بِالِاسْتِقْلَالِ بِالذِّكْرِ عَقِبَ ذِكْرِ إِبْرَاهِيمَ وَابْنِهِ إِسْحَاقَ، لِأَن إِسْمَاعِيل صَار جدّ أمة مُسْتَقلَّة قبل أَن يصير يَعْقُوب جدّ أمة، وَلِأَن إِسْمَاعِيلَ هُوَ الِابْنُ الْبِكْرُ لِإِبْرَاهِيمَ وَشَرِيكُهُ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ. وَتَقَدَّمَ ذِكْرُ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ قَوْلِهِ
تَعَالَى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٢٧].
وَخَصَّهُ بِوَصْفِ صِدْقِ الْوَعْدِ لِأَنَّهُ اشْتَهَرَ بِهِ وَتَرَكَهُ خُلُقًا فِي ذُرِّيَتِهِ.
وَأَعْظَمُ وَعْدٍ صَدَقَهُ وَعْدُهُ إِيَّاهُ إِبْرَاهِيمَ بِأَنْ يَجِدَهُ صَابِرًا عَلَىِ الذَّبْحِ فَقَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: ١٠٢].
وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَبِيئًا وَرَسُولًا إِلَى قَوْمِهِ، وَهُمْ يَوْمَئِذٍ لَا يَعُدُّونَ أَهْلَهُ أُمَّهُ وَبَنِيهِ وَأَصْهَارَهُ مِنْ جُرْهُمَ. فَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
فَأَمَّا صَبْرُ إِسْمَاعِيلَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَدْ تَقَرَّرَ بِصَبْرِهِ عَلَى الرِّضَى بِالذَّبْحِ حِينَ قَالَ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَقَالَ: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ [الصافات: ١٠٢]، وَتَقَرَّرَ بِسُكْنَاهُ بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ امْتِثَالًا لِأَمْرِ أَبِيهِ الْمُتَلَقِّي مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَةُ إِسْمَاعِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَأَمَّا إِدْرِيسُ فَهُوَ اسْمُ (أُخْنُوخَ) عَلَى أَرْجَحِ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ ذُكِرَ أُخْنُوخُ فِي التَّوْرَاةِ فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ جَدًّا لِنُوحٍ. وَتَقَدَّمَتْ تَرْجَمَتُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ وَوُصِفَ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ صِدِّيقٌ نَبِيءٌ وَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا فليعدّ فِي صَفِّ الصَّابِرِينَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ صَبْرَهُ كَانَ عَلَى تَتَبُّعِ الْحِكْمَةِ وَالْعُلُومِ وَمَا لَقِيَ فِي رَحَلَاتِهِ مِنَ الْمَتَاعِبِ. وَقَدْ عُدَّتْ مِنْ صَبْرِهِ قِصَصٌ، مِنْهَا أَنَّهُ كَانَ يَتْرُكُ الطَّعَامَ وَالنَّوْمَ مُدَّةً طَوِيلَةً لِتَصْفُوَ نَفْسُهُ لِلِاهْتِدَاءِ إِلَى الْحِكْمَةِ وَالْعِلْمِ.
وَأَمَّا ذُو الْكِفْلِ فَهُوَ نَبِيءٌ اخْتُلِفَ فِي تَعْيِينِهِ، فَقِيلَ هُوَ إِلْيَاسُ الْمُسَمَّى فِي كُتُبِ الْيَهُودِ (إِيلِيَا).
وَقِيلَ: هُوَ خَلِيفَةُ اليسع فِي نبوءة بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ (عُوبَدْيَا) الَّذِي لَهُ كِتَابٌ
مِنْ كُتُبِ أَنْبِيَاءِ الْيَهُودِ وَهُوَ الْكِتَابُ الرَّابِعُ مِنَ الْكُتُبِ الِاثْنَيْ عَشَرَ وَتُعْرَفُ بِكُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ الصِّغَارِ.
وَالْكِفْلُ- بِكَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْفَاءِ-، أَصْلُهُ: النَّصِيبُ مِنْ شَيْءٍ، مُشْتَقٌّ مِنْ كَفَلَ إِذَا تَعَهَّدَ. لُقِّبَ بِهَذَا لِأَنَّهُ تَعَهَّدَ بِأَمْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِلْيَسَعَ. وَذَلِكَ أَنَّ الْيَسَعَ لَمَّا كَبِرَ أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْلِفَ خَلِيفَةً عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالَ: مَنْ يَتَكَفَّلْ لِي بِثَلَاثٍ أَسْتَخْلِفْهُ: أَنْ يَصُومَ النَّهَارَ، وَيَقُومَ اللَّيْلَ، وَلَا يَغْضَبَ. فَلَمْ يَتَكَفَّلْ لَهُ بِذَلِكَ إِلَّا شَابٌّ اسْمُهُ (عُوبَدْيَا)، وَأَنَّهُ ثَبَتَ عَلَى مَا تَكَفَّلَ بِهِ فَكَانَ لِذَلِكَ مِنْ أَفْضَلِ الصَّابِرِينَ. وَقَدْ عُدَّ عُوبَدْيَا مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى إِجْمَالٍ فِي خَبَرِهِ (انْظُرْ سِفْرَ الْمُلُوكِ
(١١١)
(اخْسَئُوا) زَجْرٌ وَشَتْمٌ بِأَنَّهُمْ خَاسِئُونَ، وَمَعْنَاهُ عَدَمُ اسْتِجَابَةِ طَلَبِهِمْ. وَفِعْلُ خَسَأَ مِنْ بَابِ مَنَعَ وَمَعْنَاهُ ذَلَّ. وَنُهُوا عَنْ خِطَابِ اللَّهِ وَالْمَقْصُودُ تَأَيِيسُهُمْ مِنَ النَّجَاةِ مِمَّا هُمْ فِيهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي إِلَى آخِرِهَا اسْتِئْنَافٌ قُصِدَ مِنْهُ إِغَاظَتُهُمْ بِمُقَابَلَةِ حَالِهِمْ يَوْمَ الْعَذَابِ بِحَالِ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَتَحْسِيرُهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يُعَامِلُونَ بِهِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَالْإِخْبَارُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي إِلَى قَوْلِهِ: سِخْرِيًّا مُسْتَعْمَلٌ فِي كَوْنِ الْمُتَكَلِّمِ عَالِمًا بِمَضْمُونِ الْخَبَرِ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُخَاطَبَ يَعْلَمُ أَحْوَالَ نَفْسِهِ. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَضَمِيرِ الشَّأْنِ لِلتَّعْجِيلِ بِإِرْهَابِهِمْ.
وَجُمْلَةُ إِنِّي جَزَيْتُهُمُ خَبَرُ (إِنَّ) الْأُولَى لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ [٣٠].
وَالسُّخْرِيُّ بِضَمِّ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ نَافِعٍ وَالْكِسَائِيِّ وَأَبِي جَعْفَرٍ وَخَلَفٍ، وَبِكَسْرِ السِّينِ فِي قِرَاءَةِ الْبَاقِينَ، وَهُمَا وَجْهَانِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَيِمَّةِ اللُّغَةِ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا خِلَافًا لِأَبِي عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَالْفَرَّاءِ الَّذِينَ جَعَلُوا الْمَكْسُورَ مَأْخُوذًا مِنْ سَخِرَ بِمَعْنَى هَزَأَ، وَالْمَضْمُومُ مَأْخُوذًا مِنَ السُّخْرَةِ بِضَمِّ السِّينِ وَهِيَ الِاسْتِخْدَامُ بِلَا أَجْرِ. فَلَمَّا قُصِدَ مِنْهُ الْمُبَالَغَةُ فِي حُصُولِ الْمَصْدَرِ أُدْخِلَتْ يَاءُ النِّسْبَةِ كَمَا يُقَالُ: الْخُصُوصِيَّةُ لِمَصْدَرِ الْخُصُوصِ.
وَسُلِّطَ الِاتِّخَاذُ عَلَى الْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ كَمَا يُوصَفُ بِالْمَصْدَرِ. وَالْمَعْنَى: اتَّخَذْتُمُوهُمْ مَسْخُورًا بِهِمْ، فَنَصَبَ سِخْرِيًّا عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ ثَان ل فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ.
وحَتَّى ابْتِدَائِيَّةٌ وَمَعْنَى (حَتَّى) الِابْتِدَائِيَّةِ مَعْنَى فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ. شُبِّهَ التَّسَبُّبُ الْقَوِيُّ بِالْغَايَةِ فَاسْتُعْمِلَتْ فِيهِ (حَتَّى). وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ لَهَوْتُمْ عَنِ التَّأَمُّلِ فِيمَا جَاءَ بِهِ الْقُرْآنُ مِنَ الذِّكْرِ، لِأَنَّهُمْ سَخِرُوا مِنْهُمْ لِأَجْلِ أَنَّهُمْ مُسْلِمُونَ فَقَدْ سَخِرُوا مِنَ الدِّينِ الَّذِي كَانَ اتِّبَاعُهُمْ إِيَّاهُ سَبَبَ السُّخْرِيَةِ بِهِمْ فَكَيْفَ
عُسْرٌ. وَيُطْلَقُ وَيُرَادُ بِهِ الظَّنُّ كَمَا فِي قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشُّعَرَاء: ٨٢]، فَهَذَا الْإِطْلَاقُ تَأَدُّبٌ مَعَ اللَّهِ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ. وَعَلَّلُوا ذَلِكَ الطَّمَعَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ بِاللَّهِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى رُسُوخِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّه ووعده.
[٥٢]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : آيَة ٥٢]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٥٢)
هَذِهِ قَصَّةٌ أُخْرَى مِنْ أَحْوَالِ مُوسَى فِي دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ، فَالْوَاوُ لِعَطْفِ الْقِصَّةِ وَلَا تُفِيدُ قُرْبَ الْقِصَّةِ مِنَ الْقِصَّةِ، فَقَدْ لَبِثَ مُوسَى زَمَنًا يُطَالِبُ فِرْعَوْنَ بِإِطْلَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لِيَخْرُجُوا مِنْ مِصْرَ، وَفِرْعَوْنُ يُمَاطِلُ فِي ذَلِكَ حَتَّى رَأَى الْآيَاتِ التِّسْعَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
وَنَظِيرُ بَعْضِ هَذِهِ الْآيَةِ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ طه. وَزَادَتْ هَذِهِ بِقَوْلِهِ: إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ، أَيْ أَعْلَمَ اللَّهُ مُوسَى أَنَّ فِرْعَوْنَ سَيَتْبَعُهُمْ بِجُنْدِهِ كَمَا فِي آيَةِ سُورَةِ طَه. وَالْقَصْدُ مِنْ إِعْلَامِهِ بِذَلِكَ تَشْجِيعُهُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ أَسْرِ بِهَمْزَةِ وَصْلٍ فِعْلَ أَمْرٍ مِنْ (سَرَى) وَبِكَسْرِ نُونِ
أَنْ. لِأَجْلِ الْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِهَمْزَةِ قَطْعٍ وَسُكُونِ نُونِ (أَنْ) وَفِعْلَا سَرَى وَأَسْرَى مُتَّحِدَانِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى [الْإِسْرَاء: ١].
[٥٣- ٥٦]
[سُورَة الشُّعَرَاء (٢٦) : الْآيَات ٥٣ إِلَى ٥٦]
فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (٥٣) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (٥٤) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (٥٥) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (٥٦)
ظَاهِرُ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى جُمْلَةِ: وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى [الشُّعَرَاء: ٥٢] وَأَنَّ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: فَأَسْرَى مُوسَى وَخَرَجَ بِهِمْ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حَاشِرِينَ، أَيْ لَمَّا خَرَجَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خَشِيَ فِرْعَوْنُ أَنْ يَنْتَشِرُوا فِي مَدَائِنِ مِصْرَ فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ شُرَطًا يَحْشُرُونَ النَّاسَ لِيَلْحَقُوا بَنِي إِسْرَائِيلَ فَيَرُدُّوهُمْ إِلَى الْمَدِينَةِ قَاعِدَةِ الْمُلْكِ.
والْمَدائِنِ: جَمْعُ مَدِينَةٍ، أَيِ الْبَلَدُ الْعَظِيمُ. وَمَدَائِنُ الْقُطْرِ الْمِصْرِيِّ يَوْمَئِذٍ كَثِيرَةٌ.
مِنْهَا (مَانُوفِرَى أَوْ مَنْفِيسُ) هِيَ الْيَوْمَ مَيِتْ رَهِينَةٍ بِالْجِيزَةِ وَ (تِيبَةُ أَوْ طِيبَةُ) هِيَ
لِلرِّسَالَةِ أَوِ اكْتِفَاءً
بِأَنَّ ذَلِكَ أَمْرٌ وَاقِعٌ لَا يُسْتَطَاعُ إِنْكَارُهُ وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا، وَأَمَّا حِكْمَةُ الْفَصْلِ بِالْفِتَرِ فَشَيْءٌ فَوْقَ مَرَاتِبِ عُقُولِهِمْ. فَأَشَارَ بِقَوْلِهِ بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إِلَى بَيَانِ حِكْمَةِ الْإِرْسَالِ عَقِبَ الْفَتْرَةِ. وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى إِلَى الْأُمَمِ الَّتِي اسْتَأْصَلَهَا اللَّهُ لِتَكْذِيبِهَا رُسُلَ اللَّهِ.
فَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُخَاطَبِينَ مَنْزِلَةَ الْمُنْكِرِينَ لِوُقُوعِ ذَلِكَ حَتَّى يُحْتَاجَ مَعَهُمْ إِلَى التَّأْكِيدِ بِالْقَسَمِ، فَمَوْقِعُ التَّأْكِيدِ هُوَ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى.
والْكِتابَ: التَّوْرَاةُ الَّتِي خَاطَبَ اللَّهُ بِهَا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَالْبَصَائِرُ: جَمْعُ بَصِيرَةٍ، وَهِيَ إِدْرَاكُ الْعَقْلِ. سُمِّيَ بَصِيرَةً اشْتِقَاقًا مِنْ بَصَرِ الْعَيْنِ، وَجُعِلَ الْكِتَابُ بَصَائِرَ بِاعْتِبَارِ عِدَّةِ دَلَائِلِهِ وَكَثْرَةِ بَيِّنَاتِهِ، كَمَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ [الْإِسْرَاء: ١٠٢].
والْقُرُونَ الْأُولى: قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمُ لُوطٍ. وَالْقَرْنُ: الْأُمَّةُ، قَالَ تَعَالَى كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ [الْأَنْعَام: ٦].
وَفِي الْحَدِيثِ «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي»
. وَالنَّاسُ هُمُ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ مُوسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَقَوْمِ فِرْعَوْنَ، وَلِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَهْتَدِيَ بِهَدْيِهِ مِثْلِ الَّذِينَ تَهَوَّدُوا مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، وهُدىً وَرَحْمَةً لَهُمْ، وَلِمَنْ يَقْتَبِسُ مِنْهُمْ قَالَ تَعَالَى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ [الْمَائِدَة: ٤٤]. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ التَّوْرَاةُ تَحْذِيرُهَا مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
وَضَمِيرُ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ عَائِدٌ إِلَى النَّاسِ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِالتَّوْرَاةِ، أَيْ فَكَذَلِكَ إِرْسَالُ مُحَمَّدٍ لَكُمْ هُدًى وَرَحْمَةٌ لَعَلَّكُمْ تتذكرون.
[٤٤]
[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : آيَة ٤٤]
وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤)
لَمَّا بَطَلَتْ شُبْهَتُهُمُ الَّتِي حَاوَلُوا بِهَا إِحَالَةَ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُقِلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ رِسَالَتِهِ بِالْحُجَّةِ الدَّامِغَةِ وَذَلِكَ بِمَا أَعْلَمَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ أَخْبَارِ رِسَالَةِ
أَنَّهُمْ مَيِّتُونَ خَامَرَتْهُمْ حِينَئِذٍ عَقِيدَةُ إِنْكَارِ الْبَعْثِ وَحُجَّتُهُمُ السُّفِسْطَائِيَّةُ مِنْ قَوْلِهِمْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ [سبأ: ٧]، هُنَالِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يُقْنِعُوا أَنْفُسَهُمْ بِصِحَّةِ دَلِيلِهِمُ الْقَدِيمِ وَيَلْتَمِسُونَ اعْتِلَالًا لِتَخَلُّفِ الْمَدْلُولِ بِعِلَّةِ أَنَّ بَعْثَهُمْ مَا كَانَ إِلَّا بعد سَاعَة قَليلَة من وَقت الدّفن قبل أَن تنعدم أَجزَاء أجسامهم فيخيل إِلَيْهِمْ أَنَّهُمْ مُحِقُّونَ فِي إِنْكَارِهِ فِي الدُّنْيَا إِذْ كَانُوا قَدْ أُخْبِرُوا أَنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ بَعْدَ فَنَاءِ الْأَجْسَامِ، فَهُمْ أَرَادُوا الِاعْتِذَارَ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ
حِينَ تَحَقَّقُوهُ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوا أَنَّ الْبَعْثَ يَكُونُ بَعْدَ سَاعَةٍ مِنَ الْحُلُولِ فِي الْقَبْرِ لَأَقَرُّوا بِهِ. وَقَدْ أَنْبَأَ عَنْ هَذَا تَسْمِيَةُ كَلَامِهِمْ هَذَا مَعْذِرَةً بِقَوْلِهِ عَقِبَهُ: فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ [الرّوم: ٥٧]. وَهَذِهِ فِتْنَةٌ أُصِيبُوا بِهَا حِينَ الْبَعْثِ جَعَلَهَا اللَّهُ لَهُمْ لِيَكُونُوا هُزْأَةً لِأَهْلِ النُّشُورِ. وَيَتَّضِحُ غَلَطُهُمْ وَسُوءُ فَهْمِهِمْ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ ذَلِكَ: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ الْآيَة [الرّوم: ٥٦] وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ عَقِبَ ذَلِكَ: كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ أَيْ كَهَذَا الْخَطَأِ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ بِمِثْلِ هَذِهِ التُّرَّهَاتِ. وَتَقَدَّمَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا فِي الْمَعْنَى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً فِي سُورَةِ طه [١٠٣، ١٠٤]. وَبَلَغَ مِنْ ضَلَالِهِمْ فِي ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقْسِمُونَ عَلَيْهِ، وَهَذَا بَعْدَ مَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مِنَ الْجِدَالِ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً، وَقَوْلُ آخَرِينَ: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الْكَهْف: ١٩] وَبَعض الْيَوْمِ يُصْدَقُ بِالسَّاعَةِ، كَمَا حُكِيَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْقَسَمَ يَتَخَاطَبُونَ بِهِ فِيمَا بَيْنَهُمْ كَمَا اقْتَضَتْهُ آيَةُ سُورَةِ طه، أَوْ هُوَ حَدِيثٌ آخَرُ أَعْلَنُوا بِهِ حِينَ اشْتَدَّ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْمَصِيرَ إِلَى الْحَلِفِ يُؤْذِنُ بِمُشَادَّةٍ وَلَجَاجٍ فِي الْخِلَافِ. وَفِي قَوْلِهِ: السَّاعَةُ وساعَةٍ الْجِنَاسُ التَّامُّ.
وَجُمْلَةُ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ غَرَابَةَ حَالِهِمْ مِنْ فَسَادِ تَقْدِيرِ الْمُدَّةِ وَالْقَسَمُ عَلَيْهِ مَعَ كَوْنِهِ تَوَهُّمًا يُثِيرُ سُؤَالَ سَائِلٍ عَنْ مَثَارِ هَذَا الْوَهْمِ فِي نُفُوسِهِمْ فَكَانَ قَوْلُهُ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ بَيَانًا لِذَلِكَ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُمْ لَا
وَمعنى عرض هَذِه الْأَمَانَةِ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ يَنْدَرِجُ فِي مَعْنَى تَفْسِيرِ الْأَمَانَةِ بِالْعَقْلِ، لِأَنَّ الْأَمَانَةَ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنَ الْأَخْلَاقِ الَّتِي يَجْمَعُهَا الْعَقْلُ وَيُصَرِّفُهَا، وَحِينَئِذٍ فَتَخْصِيصُهَا بِالذِّكْرِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا فِي أَخْلَاقِ الْعَقْلِ.
وَالْقَوْلُ فِي حَمْلِ مَعْنَى الْأَمَانَةِ عَلَى خِلَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْأَرْضِ مِثْلُ الْقَوْلِ فِي الْعَقْلِ لِأَنَّ تِلْكَ الْخِلَافَةَ مَا هَيَّأَ الْإِنْسَانَ لَهَا إِلَّا الْعَقْلُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً [الْبَقَرَة: ٣٠] ثُمَّ قَوْلُهُ: وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [الْبَقَرَة: ٣١] فَالْخِلَافَةُ فِي الْأَرْضِ هِيَ الْقِيَامُ بِحِفْظِ عُمْرَانِهَا وَوَضْعِ الْمَوْجُودَاتِ فِيهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَاسْتِعْمَالِهَا فِيمَا اسْتَعَدَّتْ إِلَيْهِ غَرَائِزُهَا.
وَبَقِيَّةُ الْأُمُورِ الَّتِي فَسَّرَ بِهَا بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَمَانَةَ يُعْتَبَرُ تَفْسِيرُهَا مِنْ قَبِيلِ ذِكْرِ الْأَمْثِلَةِ الْجُزْئِيَّةِ لِلْمَعَانِي الْكُلِّيَّةِ.
وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْأَمَانَةِ حَقِيقَتَهَا الْمَعْلُومَةَ وَهِيَ الْحِفَاظُ عَلَى مَا عُهِدَ بِهِ وَرَعْيُهُ وَالْحِذَارُ مِنَ الْإِخْلَالِ بِهِ سَهْوًا أَوْ تَقْصِيرًا فَيُسَمَّى تَفْرِيطًا وَإِضَاعَةً، أَوْ عَمْدًا فَيُسَمَّى خِيَانَةً وَخَيْسًا لِأَنَّ هَذَا الْمَحْمَلَ هُوَ الْمُنَاسِبُ لِوُرُودِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي خِتَامِ السُّورَةِ الَّتِي ابْتُدِئَتْ بِوَصْفِ خِيَانَةِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَإِخْلَالِهِمْ بِالْعُهُودِ وَتَلَوُّنِهِمْ مَعَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ
تَعَالَى: وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ [الْأَحْزَاب: ١٥] وَقَالَ: مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: ٢٣]. وَهَذَا الْمَحْمَلُ يَتَضَمَّنُ أَيْضًا أَقْرَبَ الْمَحَامِلِ بَعْدَهُ وَهُوَ أَن يكون هُوَ الْعَقْلَ لِأَنَّ قَبُولَ الْأَخْلَاق فرع عَنهُ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا مَحَلُّهَا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ وَالْمُتَعَلِّقِ بِفِعْلِهَا وَهُوَ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ [الْأَحْزَاب: ٧٣] الْخَ. وَمَعْنَاهَا اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ السَّامِعَ خَبَرَ أَنَّ الْإِنْسَانَ تحمل الْأَمَانَة يترقب مَعْرِفَةَ مَا كَانَ مِنْ حُسْنِ قِيَامِ الْإِنْسَانِ بِمَا حُمِّلَهُ وَتَحَمَّلَهُ وَلَيْسَتِ الْجُمْلَةُ تَعْلِيلِيَّةً لِأَنَّ تَحَمُّلَ الْأَمَانَةِ لَمْ يَكُنْ بِاخْتِيَارِ الْإِنْسَانِ فَكَيْفَ يُعَلَّلُ بِأَنَّ حَمْلَهُ الْأَمَانَةَ مِنْ أَجْلِ ظُلْمِهِ وَجَهْلِهِ.
فَمَعْنَى كانَ ظَلُوماً جَهُولًا أَنَّهُ قَصَّرَ فِي الْوَفَاءِ بِحَقِّ مَا تَحَمَّلَهُ تقصيرا: بعضه عَن عَمْدٍ وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بِوَصْفِ ظَلُومٍ، وَبَعْضُهُ عَنْ تَفْرِيطٍ فِي الْأَخْذِ
وَالتَّعْرِيفُ فِي قَوْلِهِ: الْمُنْذَرِينَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، وَهُمُ الْمُنْذَرُونَ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمُ الْمُنْذِرُونَ، أَيْ فَهُمُ الضَّالُّونَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِأَنَّهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ. فَالْمَعْنَى: فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ أنذرناهم فَلم ينتذروا كَمَا فَعَلَ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ فَاتَّبَعُوهُمْ، فَقَدْ تَحَقَّقَ اشْتِرَاكُ هَؤُلَاءِ وَأُولَئِكَ فِي الضَّلَالِ، فَلَا جَرَمَ أَنْ تَكُونَ عَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ كَعَاقِبَةِ أُولَئِكَ. وَفِعْلُ النَّظَرِ مُعَلَّقٌ عَنْ مَعْمُولِهِ بِالِاسْتِفْهَامِ، وَالِاسْتِفْهَامُ تَعْجِيبِيٌّ لِلتَّفْظِيعِ.
وَاسْتُثْنِيَ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مِنَ الْأَوَّلِينَ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا فَإِنَّ عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ كَانُوا مِنْ جُمْلَةِ الْمُنْذَرِينَ فَصَدَّقُوا الْمُنْذِرِينَ وَلَمْ يُشَارِكُوا الْمُنْذَرِينَ فِي عَاقِبَتِهِمُ الْمَنْظُورِ فِيهَا وَهِيَ عَاقِبَةُ السُّوءِ. وَتَقَدَّمَ اخْتِلَافُ الْقُرَّاءِ فِي فَتْحِ اللَّامِ وَكَسْرِهَا مِنْ قَوْلِهِ:
الْمُخْلَصِينَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ [الصافات: ٣٩- ٤٠].
[٧٥- ٨٢]
[سُورَة الصافات (٣٧) : الْآيَات ٧٥ إِلَى ٨٢]
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (٧٥) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (٧٦) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (٧٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (٧٨) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (٧٩)
إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (٨١) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (٨٢)
أَتْبَعَ التَّذْكِيرَ وَالتَّسْلِيَةَ مِنْ جَانِبِ النَّظَرِ فِي آثَارِ مَا حَلَّ بِالْأُمَمِ الْمُرْسَلِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَخْبَرَ عَنْهُ مِنْ عَاقِبَتِهِمْ فِي الْآخِرَةِ، بِتَذْكِيرٍ وَتَسْلِيَةٍ مِنْ جَانِبِ الْإِخْبَارِ عَنِ الرُّسُلِ الَّذِينَ كَذَّبَهُمْ قَوْمُهُمْ وَآذَوْهُمْ وَكَيْفَ انْتَصَرَ اللَّهُ لَهُم ليزِيد رَسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَثْبِيتًا وَيُلْقِمَ الْمُشْرِكِينَ تَبْكِيتًا. وَذَكَرَ فِي هَذِه السُّورَة سِتّ قصَص من قَصَصَ الرُّسُلِ مَعَ أَقْوَامِهِمْ لِأَنَّ فِي كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا خَاصِّيَّةً لَهَا شَبَهٌ بِحَال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ قَوْمِهِ وَبِحَالِهِ الْأَكْمَلِ فِي دَعْوَتِهِ، فَفِي الْقَصَصِ كُلِّهَا عِبْرَةٌ وَأُسْوَةٌ وَتَحْذِيرٌ كَمَا سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ عِنْدَ كُلِّ قِصَّةٍ مِنْهَا، وَيَجْمَعُهَا كُلَّهَا مُقَاوَمَةُ الشِّرْكِ وَمُقَاوَمَةُ أَهْلِهَا.
الرَّجُلِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْقَصَصِ [٢٠] فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى فَإِنَّ تِلْكَ الْقِصَّةَ كَانَتْ قُبَيْلَ خُرُوجِ مُوسَى مِنْ مِصْرَ، وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي مَبْدَأِ دُخُولِهِ مِصْرَ. وَلَمْ يُوصَفْ هُنَالِكَ بِأَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَا بِأَنَّهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ بَلْ كَانَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمَا هُوَ صَرِيحُ سِفْرِ الْخُرُوجِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الرَّجُلَ الْمَذْكُورَ هُنَا كَانَ رَجُلًا صَالِحًا نَظَّارًا فِي أَدِلَّةِ التَّوْحِيدِ وَلَمْ يَسْتَقِرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِهِ عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا بَعْدَ أَنْ سَمِعَ دَعْوَةَ مُوسَى، وَإِنَّ اللَّهَ يُقَيِّضُ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ حُمَاةً عِنْدَ الشَّدَائِدِ.
قِيلَ اسْمُ هَذَا الرَّجُلِ حَبِيبٌ النَّجَّارُ وَقِيلَ سَمْعَانُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ (يس) أَنَّ حَبِيبًا النَّجَّارَ مِنْ رُسُلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِصَّةُ هَذَا الرَّجُلِ الْمُؤْمِنِ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ غَيْرُ مَذْكُورَةٍ فِي «التَّوْرَاةِ» بِالصَّرِيحِ وَلَكِنَّهَا مَذْكُورَةٌ إِجْمَالًا فِي الْفِقْرَةِ السَّابِعَةِ مِنَ الْإِصْحَاحِ الْعَاشِرِ «فَقَالَ عَبِيدُ فِرْعَوْنَ إِلَى مَتَى يَكُونُ لَنَا هَذَا (أَيْ مُوسَى) فَخًّا أَطْلِقِ الرِّجَالَ لِيَعْبُدُوا الرَّبَّ إِلَهَهُمْ».
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي أَتَقْتُلُونَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أَيْ يَقْبُحُ بِكُمْ أَنْ تَقْتُلُوا نَفْسًا لِأَنَّهُ يَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ، أَيْ وَلَمْ يَجْبِرْكُمْ عَلَى أَنْ تُؤْمِنُوا بِهِ وَلَكِنَّهُ قَالَ لَكُمْ قَوْلًا فَاقْبَلُوهُ أَوِ ارْفُضُوهُ، فَهَذَا مَحْمَلُ قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَهُوَ الَّذِي يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ كَوْنِ هَذَا الرَّجُلِ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ.
وأَنْ يَقُولَ. مَجْرُورٌ بِلَامِ التَّعْلِيلِ الْمُقَدَّرَةِ لِأَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ (أَنْ) كَثِيرًا. وَذِكْرُ اسْمِ اللَّهِ لِأَنَّهُ الَّذِي ذَكَرَهُ مُوسَى وَلَمْ يَكُنْ مِنْ أَسْمَاءِ آلِهَةِ الْقِبْطِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فَهُوَ ارْتِقَاءٌ فِي الْحِجَاجِ بَعْدَ أَنِ اسْتَأْنَسَ فِي خِطَابِ قَوْمِهِ بِالْكَلَامِ الْمُوَجَّهِ فَارْتَقَى إِلَى التَّصْرِيحِ بِتَصْدِيقِ مُوسَى بِعِلَّةِ أَنَّهُ جَاءَ بِالْبَيِّنَاتِ، أَيِ الْحُجَجِ الْوَاضِحَةِ بِصِدْقِهِ، وَإِلَى التَّصْرِيحِ بِأَنَّ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ: أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ هُوَ رَبُّ الْمُخَاطَبِينَ فَقَالَ: مِنْ رَبِّكُمْ. فَجُمْلَةُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ قَوْلِهِ: رَجُلًا وَالْبَاءُ فِي بِالْبَيِّناتِ لِلْمُصَاحَبَةِ.
الْأَكْمَلُونَ فِي الْخُسْرَانِ وَتُسَمَّى (أَلْ) هَذِهِ دَالَّةً عَلَى مَعْنَى الْكَمَالِ وَهُوَ مُسْتَفَادٌ مِنْ تَعْرِيفِ الْجُزْءَيْنِ الْمُفِيدِ لِلْقَصْرِ الِادِّعَائِيِّ حَيْثُ نَزَّلَ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ مَنْزِلَةَ عَدَمِ الْخُسْرَانِ. فَالْمَعْنَى:
لَا خُسْرَانَ يُشْبِهُ خُسْرَانَهُمْ، فَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الْخاسِرِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ كَمَا تُوُهِّمَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ
فِي سُورَةِ الزُّمَرِ [١٥].
وَالْخُسْرَانُ: تَلَفُ مَالِ التَّاجِرِ، وَاسْتُعِيرَ هُنَا لِانْتِفَاءِ الِانْتِفَاعِ بِمَا كَانَ صَاحِبُهُ يُعِدُّهُ لِلنَّفْعِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَأْمُلُونَ نَعِيمَ أَنْفُسِهِمْ وَالْأُنْسَ بِأَهْلِيهِمْ حَيْثُمَا اجْتَمَعُوا، فَكُشِفَ لَهُمْ فِي هَذَا الْجَمْعِ عَنِ انْتِفَاءِ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنْ لَا يَحْيَوْا بَعْدَ الْمَوْتِ فَحَسِبُوا أَنَّهُمْ لَا يَلْقَوْنَ بَعْدَهُ أَلَمًا وَلَا تُوحِشُهُمْ فُرْقَةُ أَهْلِيهِمْ فَكُشِفَ لَهُمْ مَا خَيَّبَ ظَنَّهُمْ فَكَانُوا كَالتَّاجِرِ الَّذِي أَمَّلَ الرِّبْحَ فَأَصَابَهُ الْخُسْرَانُ. وَقَوْلُهُ: يَوْمَ الْقِيامَةِ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ خَسِرُوا لَا بِفعل قالَ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ تَذْيِيلٌ لِلْجُمَلِ الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ قَوْلِهِ:
وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ [الشورى: ٤٤] الْآيَاتِ. لِأَنَّ حَالَةَ كَوْنِهِمْ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ أَعَمُّ مِنْ حَالَةِ تَلَهُّفِهِمْ عَلَى أَنْ يُرَدُّوا إِلَى الدُّنْيَا، وَذُلِّهِمْ وَسَمَاعِهِمُ الذَّمَّ.
وَإِعَادَةُ لَفْظِ الظَّالِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ اقْتَضَاهُ أَنَّ شَأْنَ التَّذْيِيلِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَقِلَّ الدَّلَالَةِ عَلَى مَعْنَاهُ لِأَنَّهُ كَالْمَثَلِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَا قِبَلَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ يَحْكُمُوا هَذَا الْحُكْمَ، عَلَى أَنَّ أُسْلُوبَ افْتِتَاحِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ كَلَامُ مَنْ بِيَدِهِ
الْحُكْمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ، فَهُوَ كَلَامٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ وَهُمْ مَعَ النَّدَمِ وَذَلِكَ الذُّلِّ وَالْخِزْيِ بِسَمَاعِ مَا يَكْرَهُونَ فِي عَذَابٍ مُسْتَمِرٍّ. وَافْتُتِحَتِ الْجُمْلَةُ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ لِكَثْرَةِ ذَلِكَ فِي التَّذْيِيلَاتِ لِأَهَمِّيَّتِهَا.
وَالْمُقِيمُ: الَّذِي لَا يَرْتَحِلُ. وَوَصَفَ بِهِ الْعَذَابَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، شَبَّهَ الْمُسْتَمِرِّ الدَّائِمِ بِالَّذِي اتَّخَذَ دَارَ إِقَامَةٍ لَا يَبْرَحُهَا
الشَّيْخُ الْجَدُّ فِي «حَاشِيَتِهِ عَلَى الْمَحَلِّيِّ» عَنِ الْقَرَافِيِّ فِي «شَرْحِ الْمَحْصُولِ» وَنَقْلَ حَلُولُو فِي «شَرْحِ جَمْعِ الْجَوَامِعِ» عَنِ الْقَرَافِيِّ فِي «الذَّخِيرَةِ» : أَنَّ مَالِكًا قَالَ بِوُجُوبِ سَبْعِ نَوَافِلَ بِالشُّرُوعِ، وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالِاعْتِكَافُ وَالِائْتِمَامُ وَطَوَافُ التَّطَوُّعِ دُونَ غَيْرِهَا نَحْوُ الْوُضُوءِ وَالصَّدَقَةِ وَالْوَقْفِ وَالسَّفَرِ لِلْجِهَادِ، وَزَادَ حَلُولُو إِلْحَاقَ الضَّحِيَّةِ بِالنَّوَافِلِ الَّتِي تَجِبُ بِالشُّرُوعِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى مَأْخَذِ الْقَرَافِيِّ ذَلِكَ وَلَا عَلَى مَأْخَذِ حَلُولُو فِي الْأَخِيرِ. وَلَمْ يَرَ الشَّافِعِيُّ وُجُوبًا بِالشُّرُوعِ فِي شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ وَهُوَ الظَّاهِر.
[٣٤]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٤]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (٣٤)
هَذِهِ الْآيَةُ تَكْمِلَةٌ لِآيَةِ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ [مُحَمَّد: ٣٢] إِلَخْ لِأَنَّ تِلْكَ مَسُوقَةٌ لِعَدَمِ الِاكْتِرَاثِ بِمَشَاقِّهِمْ وَلِبَيَانِ أَنَّ اللَّهَ مُبْطِلُ صَنَائِعِهِمْ وَهَذِهِ مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ عَدَمِ انْتِفَاعِهِمْ لمغفرة الله إِذا مَاتُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ فَهِيَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
وَاقْتِرَانُ خَبَرِ الْمَوْصُولِ بِالْفَاءِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُ أَشْرَفُ مَعْنَى الشَّرْطِ فَلَا يُرَادُ بِهِ ذُو صِلَةٍ مُعَيَّنٌ بَلِ الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ تَحَقَّقَتْ فِيهِ مَاهِيَّةُ الصِّلَةِ وَهِيَ الْكُفْرُ وَالْمَوْتُ على الْكفْر.
[٣٥]
[سُورَة مُحَمَّد (٤٧) : آيَة ٣٥]
فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (٣٥)
الْفَاءُ لِلتَّفْرِيعِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي نُفُوسِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ خَذْلِ اللَّهِ تَعَالَى الْمُشْرِكِينَ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ وَقَدَّرَ لَهُمُ التَّعْسَ، وَبِمَا ضَرَبَ لَهُمْ مِنْ مَصَائِرِ أَمْثَالِهِمْ مِنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَهُمُ اللَّهُ وَأَهْلَكَهُمْ وَلَمْ يَجِدُوا نَاصِرًا، وَمَا وَعَدَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ النَّصْرِ عَلَيْهِمْ وَمَا أَمَرَهُمْ بِهِ من قِتَالهمْ وبتكلفه لِلْمُؤْمِنِينَ بِالْوِلَايَةِ وَمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الْجَزَاءِ فِي دَارِ الْخُلْدِ وَبِمَا أَتْبَعَ ذَلِكَ مِنْ وَصْفِ كَيْدِ فَرِيقِ الْمُنَافِقِينَ لِلْمُؤْمِنِينَ
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ آمَنَ نَفْسَهُ مِنْ تَبِعَةِ التَّوَلِّي عَنِ الْإِسْلَامِ بِبَذْلِ شَيْءٍ لِمَنْ تَحَمَّلَ عَنْهُ تَبَعَةَ
تَوَلِّيهِ كَأَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَيُشَاهِدُ أَنَّ ذَلِكَ يَدْفَعُ عَنْهُ الْعِقَابَ، فَقَدْ كَانَ فِعْلُهُ ضِغْثًا عَلَى إِبَالَةٍ لِأَنَّهُ مَا افتدى إِلَّا لِأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّ التَّوَلِّيَ جَرِيمَةٌ، وَمَا بَذَلَ الْمَالَ إِلَّا لِأَنَّهُ تَوَهَّمَ أَنَّ الْجَرَائِمَ تَقْبَلُ الْحَمَالَةَ فِي الْآخِرَةِ.
وَتَقْدِيمُ الضَّمِيرِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ عَلَى فِعْلِهِ الْمُسْنَدِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَيَرَى، لِإِفَادَةِ تَقَوِّي الْحُكْمِ، نَحْوِ: هُوَ يُعْطِي الْجَزِيلَ. وَهَذَا التَّقَوِّي بِنَاءً عَلَى مَا أَظْهَرَ مِنَ الْيَقِينِ بِالصَّفْقَةِ الَّتِي عَاقَدَ عَلَيْهَا وَهُوَ أَدْخَلُ فِي التَّعْجِيبِ من حَاله.
[٣٦- ٣٨]
[سُورَة النَّجْم (٥٣) : الْآيَات ٣٦ إِلَى ٣٨]
أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (٣٦) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (٣٧) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (٣٨)
أَمْ لِإِضْرَابِ الِانْتِقَالِ إِلَى مُتَعَجَّبٍ مِنْهُ وَإِنْكَارٍ عَلَيْهِ آخَرُ وَهُوَ جَهْلُهُ بِمَا عَلَيْهِ أَنْ يَعْلَمَهُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ اللَّهَ تَعَالَى مِنْ عِلْمِ مَا جَاءَ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ الْأَوَّلِينَ فَإِنْ كَانَ هُوَ لَا يُؤْمِنُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهَلَّا تَطَلَّبَ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ رُسُلُ مَنْ قَبْلُ، طَالَمَا ذَكَرَ هُوَ وَقَوْمُهُ أَسْمَاءَهُمْ وَشَرَائِعَهُمْ فِي الْجُمْلَةِ، وَطَالَمَا سَأَلَ هُوَ وَقَوْمُهُ أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ أَخْبَارِ مُوسَى، فَهَلَّا سَأَلَ عَمَّا جَاءَ عَنْهُمْ فِي هَذَا الْغَرَضِ الَّذِي يَسْعَى إِلَيْهِ وَهُوَ طَلَبُ النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ الله فينبئه الْعَالمُونَ، فَإِنَّ مَآثِرَ شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ مَأْثُورٌ بَعْضُهَا عِنْدَ الْعَرَبِ، وَشَرِيعَةُ مُوسَى مَعْلُومَةٌ عِنْدَ الْيَهُودِ. فَالِاسْتِفْهَامُ الْمُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ إِنْكَارٌ مِثْلُ الِاسْتِفْهَامِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا فِي قَوْلِهِ: أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ وَالتَّقْدِيرُ: بَلْ أَلَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى إِلَخْ.
وصُحُفِ مُوسى: هِيَ التَّوْرَاةُ، وَصُحُفُ إِبْراهِيمَ: صُحُفٌ سَجَّلَ فِيهَا مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى [١٨، ١٩] إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى.
روى ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ سَأَلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْكُتُبِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فَذَكَرَ لَهُ مِنْهَا عشرَة صَحَائِفَ أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ
، أَيْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِيهَا.
وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الصُّحُفَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَعْرِفُونَ إِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَتَهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦٠- سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ
عُرِفَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكُتُبِ السُّنَّةِ وَفِي الْمَصَاحِفِ بِ «سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ».
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَالْمَشْهُورُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ النُّطْقُ فِي كَلِمَةِ «الْمُمْتَحِنَةِ» بَكَسْرِ الْحَاءِ وَهُوَ الَّذِي جَزَمَ بِهِ السُّهَيْلِيُّ.
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّهَا جَاءَتْ فِيهَا آيَةُ امْتِحَانِ إِيمَانِ النِّسَاءِ اللَّاتِي يَأْتِينَ مِنْ مَكَّةَ مُهَاجِرَاتٍ إِلَى الْمَدِينَةِ وَهِيَ آيَةُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ إِلَى قَوْلِهِ: بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠]. فَوَصَفَ النَّاسُ تِلْكَ الْآيَةَ بِالْمُمْتَحِنَةِ لِأَنَّهَا شَرَعَتْ الِامْتِحَانَ. وَأُضِيفَتِ السُّورَةُ إِلَى تِلْكَ الْآيَةِ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: أُسْنِدَ الِامْتِحَانُ إِلَى السُّورَةِ مَجَازًا كَمَا قِيلَ لِسُورَةِ بَرَاءَةٍ الْفَاضِحَةُ.
يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ الْوَصْفَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ.
وَرُوِيَ بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَيِ الْمَرْأَةُ الْمُمْتَحَنَةُ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَالْمَعْهُودِ أَوَّلُ امْرَأَةٍ امْتُحِنَتْ فِي إِيمَانِهَا، وَهِيَ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ امْرَأَة عبد الرحمان بْنِ عَوْفٍ. (كَمَا سُمِّيَتْ سُورَةُ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ «سُورَةَ الْمُجَادِلَةِ» بِكَسْرِ الدَّالِ).
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفَ الْجِنْسِ، أَيِ النِّسَاءِ الْمُمْتَحَنَةِ.
قَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : وَتُسَمَّى «سُورَةَ الِامْتِحَانِ»، «وَسُورَةَ الْمَوَدَّةِ»، وَعَزَا ذَلِكَ إِلَى كِتَابِ «جَمَالِ الْقُرَّاءِ» لِعَلِيٍّ السَّخَاوِيِّ وَلَمْ يَذْكُرْ سَنَدَهُ.
وَمَعْنَى لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ: لَا تَخْفَى عَلَى اللَّهِ وَلَا عَلَى مَلَائِكَتِهِ. وَتَأْنِيثُ خافِيَةٌ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِمَوْصُوفٍ مُؤَنَّثٍ يُقَدَّرُ بِالْفَعْلَةِ مِنْ أَفْعَالِ الْعِبَادِ، أَوْ يُقَدَّرُ بِنَفْسٍ، أَيْ لَا تَخْتَبِئُ مِنَ الْحِسَابِ نَفْسُ أَيِّ أَحَدٍ، وَلَا يَلْتَبِسُ كَافِرٌ بِمُؤْمِنٍ، وَلَا بَارٌّ بِفَاجِرٍ.
وَجُمْلَةُ يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ، أَوْ هِيَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، أَوْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْهَا.
ومِنْكُمْ صِفَةٌ لِ خافِيَةٌ قُدِّمَتْ عَلَيْهِ فَتَكُونُ حَالًا.
وَتَكْرِيرُ يَوْمَئِذٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ لِتَهْوِيلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي مَبْدَؤُهُ النَّفْخُ فِي الصُّورِ ثُمَّ يَعْقُبُهُ مَا بَعْدَهُ مِمَّا ذُكِرَ فِي الْجُمَلِ بَعْدَهُ، فَقَدْ جَرَى ذِكْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ خَمْسَ مَرَّاتٍ لِأَنَّ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ تَكْرِيرٌ لِ (إِذَا) مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ إِذْ تَقْدِيرُ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فِي يَوْمَئِذٍ هُوَ مَدْلُولُ جُمْلَةِ فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ، فَقَدْ ذُكِرَ زَمَانُ النَّفْخِ أَوَّلًا وَتَكَرَّرَ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لَا تَخْفى بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِالتَّحْتِيَّةِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ خافِيَةٌ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، مَعَ وُقُوعِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْفِعْل وفاعله.
[١٩- ٢٤]
[سُورَة الحاقة (٦٩) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٤]
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (١٩) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (٢٠) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٢١) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (٢٢) قُطُوفُها دانِيَةٌ (٢٣)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (٢٤)
الْفَاءُ تَفْصِيلٌ لِمَا يتضمنه تُعْرَضُونَ [الحاقة: ١٨] إِذِ الْعَرْضُ عَرْضٌ لِلْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ فَإِيتَاءُ الْكِتَابِ هُوَ إِيقَافُ كُلِّ وَاحِدٍ على صحيفَة أَعمال. وَ (أَمَّا) حَرْفُ تَفْصِيلٍ وَشَرْطٍ وَهُوَ يُفِيدُ مُفَادَ (مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءٍ)، وَالْمَعْنَى: مَهْمَا يكن عرض مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ...
فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ، وَشَأْنُ الْفَاءِ الرَّابِطَةِ لِجَوَابِهَا أَنْ يُفْصَلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ (أَمَّا) بِجُزْءٍ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوَابِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الْجَوَابِ مُهْتَمٍّ بِهِ لِأَنَّهُمْ لَمَّا الْتَزَمُوا حَذْفَ فِعْلِ الشَّرْطِ لْانْدِمَاجِهِ فِي مَدْلُولِ (أَمَّا) كَرِهُوا اتِّصَالَ فَاءِ الْجَوَابِ بِأَدَاةِ الشَّرْطِ فَفَصَلُوا بَيْنَهُمَا بِفَاصِلٍ تَحْسِينًا لِصُورَةِ الْكَلَامِ، فَقَوْلُهُ:

[سُورَة عبس (٨٠) : الْآيَات ٢٤ إِلَى ٣٢]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨)
وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢)
إِمَّا مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ: لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ [عبس: ٢٣] فَيَكُونُ مِمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النَّظَرِ، وَإِمَّا عَلَى قَوْلِهِ: مَا أَكْفَرَهُ [عبس: ١٧] فَيَكُونُ هَذَا النَّظَرُ مِمَّا يُبْطِلُ وَيُزِيلُ شِدَّةَ كُفْرِ
الْإِنْسَانِ. وَالْفَاءُ مَعَ كَوْنِهَا لِلتَّفْرِيعِ تُفِيدُ مَعْنَى الْفَصِيحَةِ، إِذِ التَّقْدِيرُ: إِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْضِيَ مَا أَمَرَهُ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَعَامِهِ أَوْ إِنْ أَرَادَ نَقْضَ كُفْرِهِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى طَعَامِهِ. وَهَذَا نَظِيرُ الْفَاءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ [الطارق: ٤، ٥]، أَيْ إِنْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ الْخَلَاصَ مِنْ تَبِعَاتِ مَا يَكْتُبُهُ عَلَيْهِ الْحَافِظُ فَلْيَنْظُرْ مِمَّ خُلِقَ لِيَهْتَدِيَ بِالنَّظَرِ فَيُؤْمِنَ فَيَنْجُوَ.
وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى تَقْرِيبِ كَيْفِيَّةِ الْبَعْثِ انْتَقَلَ إِلَيْهِ فِي مَعْرِضِ الْإِرْشَادِ إِلَى تَدَارُكِ الْإِنْسَانِ مَا أَهْمَلَهُ وَكَانَ الِانْتِقَالُ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ مِنْ بَدِيعِ الصُّنْعِ مِنْ دَلَائِلَ قَائِمَةٍ بِنَفْسِهِ فِي آيَةِ: مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [عبس: ١٨] إِلَى الِاسْتِدْلَالِ بِأَحْوَالٍ مَوْجُودَةٍ فِي بَعْضِ الْكَائِنَاتِ شَدِيدَةِ الْمُلَازَمَةِ لِحَيَاةِ الْإِنْسَانِ تَرْسِيخًا لِلِاسْتِدْلَالِ، وَتَفَنُّنًا فِيهِ، وَتَعْرِيضًا بِالْمِنَّةِ عَلَى الْإِنْسَانِ فِي هَذِهِ الدَّلَائِلِ، من نِعْمَةِ النَّبَاتِ الَّذِي بِهِ بَقَاءُ حَيَاةِ الْإِنْسَانِ وَحَيَاةِ مَا يَنْفَعُهُ مِنَ الْأَنْعَامِ.
وَتَعْدِيَةُ فِعْلِ النَّظَرِ هُنَا بِحَرْفِ إِلى تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مِنْ نَظَرِ الْعَيْنِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الْعِبْرَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي أَطْوَارِهِ. وَالْمَقْصُودُ التَّدَبُّرُ فِيمَا يُشَاهِدُهُ الْإِنْسَانُ مِنْ أَحْوَالِ طَعَامِهِ بِالِاسْتِدْلَالِ بِهَا عَلَى إِيجَادِ الْمَوْجُودَاتِ مِنَ الْأَرْضِ. وَجُعِلَ الْمَنْظُورُ إِلَيْهِ ذَاتَ الطَّعَامِ مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ النَّظَرُ إِلَى أَسْبَابِ تَكَوُّنِهِ وَأَحْوَالِ تَطَوُّرِهِ إِلَى حَالَةِ انْتِفَاعِ الْإِنْسَانِ بِهِ وَانْتِفَاعِ أَنْعَامِ النَّاسِ بِهِ.
وَذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ إِنَاطَةِ الْأَحْكَامِ بِأَسْمَاءِ الذَّوَاتِ، وَالْمُرَادُ أَحْوَالُهَا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: ٣] أَيْ أَكْلُهَا، فَأَمَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِالتَّفْكِيرِ فِي أَطْوَارِ تَكَوُّنِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ الَّتِي بِهَا طَعَامُهُ، وَقَدْ وُصِفَ لَهُ تَطَوُّرُ ذَلِكَ لِيَتَأَمَّلَ مَا أُودِعَ إِلَيْهِ فِي


الصفحة التالية
Icon