وَجُمْلَةُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى قَوْلِهِ: وعَلى قُلُوبِهِمْ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ حَتَّى يَكُونَ الْمَعْطُوفُ مَقْصُودًا لِأَنَّ عَلَى مُؤْذِنَةٌ بِالْمُتَعَلِّقِ فَكَأَنَّ خَتَمَ كُرِّرَ مَرَّتَيْنِ.
وَفِيهِ مُلَاحَظَةُ كَوْنِ الْأَسْمَاعِ مَقْصُودَةً بِالْخَتْمِ إِذْ لَيْسَ الْعَطْفُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْعَامِلِ. وَلَيْسَ قَوْلُهُ وَعَلى سَمْعِهِمْ خَبَرًا مُقَدَّمًا لِغِشَاوَةٍ لِأَنَّ الْأَسْمَاعَ لَا تُنَاسِبُهَا الْغِشَاوَةُ وَإِنَّمَا يُنَاسِبُهَا السَّدُّ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: ٢٣] وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ قَوْلِهِ: وَعَلى أَبْصارِهِمْ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ هُوَ الْخَبَرُ لِأَنَّ التَّقْدِيمَ لِتَصْحِيحِ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ فَلَوْ كَانَ قَوْلُهُ: وَعَلى سَمْعِهِمْ هُوَ الْخَبَر لَا ستغنى بِتَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا وَأَبْقَى الْآخَرَ عَلَى الْأَصْلِ مِنَ التَّأْخِيرِ فَقِيلَ وَعَلَى سَمْعِهِمْ غِشَاوَةٌ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ.
وَفِي تَقْدِيمِ السَّمْعِ عَلَى الْبَصَرِ فِي مَوَاقِعِهِ مِنَ الْقُرْآنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ فَائِدَةً لِصَاحِبِهِ مِنَ الْبَصَرِ فَإِنَّ التَّقْدِيمَ مُؤْذِنٌ بِأَهَمِّيَّةِ الْمُقَدَّمِ وَذَلِكَ لِأَنَّ السَّمْعَ آلَةٌ لِتَلَقِّي الْمَعَارِفِ الَّتِي بِهَا كَمَالُ الْعَقْلِ، وَهُوَ وَسِيلَةُ بُلُوغِ دَعْوَةِ الْأَنْبِيَاءِ إِلَى أَفْهَامِ الْأُمَمِ عَلَى وَجْهٍ أَكْمَلَ مِنْ بُلُوغِهَا بِوَاسِطَةِ الْبَصَرِ لَوْ فَقَدَ السَّمْعَ، وَلِأَنَّ السَّمْعَ تَرِدُ إِلَيْهِ الْأَصْوَاتُ الْمَسْمُوعَةُ مِنَ الْجِهَاتِ السِّتِّ بِدُونِ تَوَجُّهٍ، بِخِلَافِ الْبَصَرِ فَإِنَّهُ يَحْتَاجُ إِلَى التَّوَجُّهِ بِالِالْتِفَاتِ إِلَى الْجِهَاتِ غَيْرِ الْمُقَابِلَةِ.
وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ.
الْعَذَابُ: الْأَلَمُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّ أَصْلَهُ الْإِعْذَابُ مَصْدَرُ أَعْذَبَ إِذَا أَزَالَ الْعُذُوبَةَ لِأَنَّ الْعَذَابَ يُزِيلُ حَلَاوَةَ الْعَيْشِ فَصِيغَ مِنْهُ اسْمُ مَصْدَرٍ بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ، أَوْ هُوَ اسْم مَوضِع لِلْأَلَمِ بِدُونِ مُلَاحَظَةِ اشْتِقَاقٍ مِنَ الْعُذُوبَةِ إِذْ لَيْسَ يَلْزَمُ مَصِيرُ الْكَلِمَةِ إِلَى نَظِيرَتِهَا فِي الْحُرُوفِ.
وَوَصْفُ الْعَذَابِ بِالْعَظِيمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَنْكِيرَ عَذَابٍ لِلنَّوْعِيَّةِ وَذَلِكَ اهْتِمَامٌ بِالتَّنْصِيصِ عَلَى عِظَمِهِ لِأَنَّ التَّنْكِيرَ وَإِنْ كَانَ صَالِحًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّعْظِيمِ إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بِنَصٍّ فِيهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَظِيمٌ تَأْكِيدًا لِمَا يُفِيدُهُ التَّنْكِيرُ مِنَ التَّعْظِيمِ كَمَا ظَنَّهُ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» لِأَنَّ دَلَالَةَ التَّنْكِيرِ عَلَى التَّعْظِيمِ غَيْرُ وَضْعِيَّةٍ، وَالْمَدْلُولَاتُ غَيْرُ الْوَضْعِيَّةِ يُسْتَغْنَى عَنْهَا إِذَا وَرَدَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا وَضْعًا فَلَا يُعَدُّ تَأْكِيدًا. وَالْعَذَابُ فِي الْآيَةِ، إِمَّا عَذَابُ النَّارِ فِي الآخر، وَإِمَّا عَذَابُ الْقَتْلِ وَالْمَسْغَبَةِ فِي الدُّنْيَا.
وَتَبْشِيرًا لَهُ بِأَنَّ اللَّهَ مُظْهِرٌ دِينَهُ لِأَنَّ غَايَةَ هَمِّ الرَّسُولِ هُوَ الْهُدَى، وَإِبْلَاغُ الشَّرِيعَةِ، فَلِذَلِكَ قَالَ لَهُ:
وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالنِّدَاءُ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَاسِ،
وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا يُقْبَضُ نَبِيءٌ حَتَّى يُخَيَّرَ»
. وَقَوْلُهُ: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ ظَاهِرُ مَعْنَاهُ: إِنِّي مُمِيتُكَ، هَذَا هُوَ مَعْنَى هَذَا الْفِعْلِ فِي مَوَاقِعِ اسْتِعْمَالِهِ لِأَنَّ أَصْلَ فِعْلِ تَوَفَّى الشَّيْءَ أَنَّهُ قَبَضَهُ تَامًّا وَاسْتَوْفَاهُ. فَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ اللَّهُ أَيْ قَدَّرَ مَوْتَهُ، وَيُقَالُ: تَوَفَّاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ أَيْ أَنْفَذَ إِرَادَةَ اللَّهِ بِمَوْتِهِ، وَيُطْلَقُ التَّوَفِّي عَلَى النَّوْمِ مَجَازًا بِعَلَاقَةِ الْمُشَابَهَةِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ [الْأَنْعَام: ٦٠]- وَقَوْلِهِ- اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى [الزمر: ٤٢]. أَيْ وَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَمُتِ الْمَوْتَ الْمَعْرُوفَ فَيُمِيتُهَا فِي مَنَامِهَا مَوْتًا شَبِيهًا بِالْمَوْتِ التَّامِّ كَقَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ- ثُمَّ قَالَ- حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا فَالْكُلُّ إِمَاتَةٌ فِي التَّحْقِيقِ، وَإِنَّمَا فَصَلَ بَيْنَهُمَا الْعُرْفُ وَالِاسْتِعْمَالُ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ بِالْبَيَانِ بِقَوْلِهِ: «فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى»، فَالْكَلَامُ مُنْتَظِمٌ غَايَةَ الِانْتِظَامِ، وَقَدِ اشْتَبَهَ نَظْمُهُ عَلَى بَعْضِ
الْأَفْهَامِ. وَأَصْرَحُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ آيَةُ الْمَائِدَةِ: «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» لِأَنَّهُ دَلَّ عَلَى أَنَّهُ قَدْ تُوُفِّيَ الْوَفَاةَ الْمَعْرُوفَةَ الَّتِي تَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَبَيْنَ عِلْمِ مَا يَقَعُ فِي الْأَرْضِ، وَحَمْلُهَا عَلَى النَّوْمِ بِالنِّسْبَةِ لِعِيسَى لَا مَعْنَى لَهُ لِأَنَّهُ إِذَا أَرَادَ رَفْعَهُ لَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَنَامَ وَلِأَنَّ النَّوْمَ حِينَئِذٍ وَسِيلَةٌ لِلرَّفْعِ فَلَا يَنْبَغِي الِاهْتِمَامُ بِذِكْرِهِ وَتَرْكُ ذِكْرِ الْمَقْصِدِ، فَالْقَوْلُ بِأَنَّهَا بِمَعْنَى الرَّفْعِ عَنْ هَذَا الْعَالَمِ إِيجَادُ مَعْنًى جَدِيدٍ لِلْوَفَاةِ فِي اللُّغَةِ بِدُونِ حُجَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: إِنَّهَا وَفَاةُ مَوْتٍ وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ فِي جَامِعِ الْعُتْبِيَّةِ «قَالَ مَالِكٌ: مَاتَ عِيسَى وَهُوَ ابْنُ إِحْدَى وَثَلَاثِينَ سَنَةً» قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْبَيَانِ وَالتَّحْصِيلِ» :
«يُحْتَمَلُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى الْحَقِيقَةِ لَا عَلَى الْمَجَازِ».
وَقَالَ الرَّبِيعُ: هِيَ وَفَاةُ نَوْمٍ رَفَعَهُ اللَّهُ فِي مَنَامِهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ: مَعْنَاهُ إِنِّي قَابِضُكَ مِنَ الْأَرْضِ، وَمُخَلِّصُكَ فِي السَّمَاءِ، وَقِيلَ: مُتَوَفِّيكَ مُتَقَبِّلٌ عَمَلَكَ. وَالَّذِي دَعَاهُمْ إِلَى تَأْوِيلِ مَعْنَى الْوَفَاةِ مَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ: أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ فِي آخِرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا، فَأَفْهَمَ أَنَّ لَهُ حَيَاةً خَاصَّةً أَخَصَّ مِنْ حَيَاةِ أَرْوَاحِ بَقِيَّةِ الْأَنْبِيَاءِ، الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ
جَمْعُ وَلَدٍ فَهُوَ غَيْرُ مُؤَنَّثِ اللَّفْظِ وَلَا الْمَدْلُولِ لِأَنَّهُ صَالِحٌ لِلْمُذَكَّرِ وَالْمُؤَنَّثِ، فلمّا كَانَ مَا صدقه هُنَا النِّسَاءَ خَاصَّةً أُعِيدَ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ بِالتَّأْنِيثِ.
وَمَعْنَى: فَوْقَ اثْنَتَيْنِ أَكْثَرُ مِنَ اثْنَتَيْنِ، وَمِنْ مَعَانِي (فَوْقَ) الزِّيَادَةُ فِي الْعَدَدِ، وَأَصْلُ ذَلِكَ مَجَازٌ، ثُمَّ شَاعَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَالْآيَةُ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الثُّلُثَيْنِ لَا يُعْطَيَانِ إِلَّا لِلْبَنَاتِ الثَّلَاثِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ تَقْسِيمَ الْأَنْصِبَاءِ لَا يُنْتَقَلُ فِيهِ مِنْ مِقْدَارٍ إِلَى مِقْدَارٍ أَزْيَدَ مِنْهُ إِلَّا عِنْدَ انْتِهَاءِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْمِقْدَارَ الْأَوَّلَ.
وَالْوَصْفُ بِ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ يُفِيدُ مَفْهُومًا وَهُوَ أَنَّ الْبِنْتَيْنِ لَا تُعْطَيَانِ الثُّلُثَيْنِ، وَزَادَ فَقَالَ:
وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ فَبَقِيَ مِيرَاثُ الْبِنْتَيْنِ الْمُنْفَرِدَتَيْنِ غَيْرَ مَنْصُوصٍ فِي الْآيَة فألحقهما الْجُمْهُور بِالثلَاثِ لِأَنَّهُمَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدَةٍ، وَأَحْسَنُ مَا وُجِّهَ بِهِ ذَلِكَ مَا قَالَهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِسْحَاقَ «إِذَا كَانَتِ الْبِنْتُ تَأْخُذُ مَعَ أَخِيهَا إِذَا انْفَرَدَ الثُّلُثَ فَأَحْرَى أَنْ تَأْخُذَ الثُّلُثَ مَعَ أُخْتِهَا» يَعْنِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْبِنْتَيْنِ هِيَ مُقَارِنَةٌ لِأُخْتِهَا الْأُخْرَى فَلَا يَكُونُ حَظُّهَا مَعَ أُخْتٍ أُنْثَى أَقَلَّ مِنْ حَظِّهَا مَعَ أَخٍ ذَكَرٍ، فَإِنَّ الذَّكَرَ أَوْلَى بِتَوْفِيرٍ نَصِيبِهِ، وَقَدْ تَلَقَّفَهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ بَعْدِهِ، وَرُبَّمَا نُسِبَ لِبَعْضِ الَّذِينَ تَلَقَّفُوهُ. وَعَلَّلَهُ وَوَجَّهَهُ آخَرُونَ: بِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِلْأُخْتَيْنِ عِنْدَ انْفِرَادِهِمَا الثُّلُثَيْنِ فَلَا تَكُونُ الْبِنْتَانِ أَقَلَّ مِنْهُمَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْبِنْتَيْنِ النِّصْفُ كَالْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَ لِتَوْرِيثِهِمَا أَكْثَرَ مِنَ التَّشْرِيكِ فِي النِّصْفِ مَحْمَلًا فِي الْآيَةِ، وَلَوْ أُرِيدَ ذَلِكَ لَمَا قَالَ فَوْقَ اثْنَتَيْنِ. وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ لَفَظَ (فَوْقَ) زَائِدًا، وَنَظَّرَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ [الْأَنْفَال: ١٢]. وَشَتَّانَ بَيْنَ فَوْقَ الَّتِي مَعَ أَسْمَاءِ الْعَدَدِ وَفَوْقَ الَّتِي بِمَعْنَى مَكَانِ الْفِعْلِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ أَجْمَعَ النَّاسُ فِي الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ عَلَى أَنَّ لِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، أَيْ وَهَذَا الْإِجْمَاعُ مُسْتَنِدٌ لِسُنَّةٍ عَرَفُوهَا. وَرَدَّ الْقُرْطُبِيُّ دَعْوَى
الْإِجْمَاعِ بِأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ صَحَّ عَنْهُ أَنَّهُ أَعْطَى الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ. قُلْتُ: لَعَلَّ الْإِجْمَاع انْعَقَد بعد مَا أَعْطَى ابْنُ عَبَّاسٍ الْبِنْتَيْنِ النِّصْفَ عَلَى أَنَّ اخْتِلَالَ الْإِجْمَاعِ لِمُخَالَفَةِ وَاحِدٍ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، أَمَّا حَدِيثُ امْرَأَةِ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْمُتَقَدِّمِ فَلَا يَصْلُحُ لِلْفَصْلِ فِي هَذَا الْخِلَافِ، لِأَنَّ فِي رِوَايَتِهِ اخْتِلَافًا هَلْ تَرَكَ بِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا.
ثُمَّ عُقِّبَ ذَلِكَ أَيْضًا بِتَثْبِيتِ جَنَانِهِ بِأَنْ لَا يَهْتَمَّ بِكَيْدِهِمْ بِقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ
النَّاسِ
وَأَنَّ كَيْدَهُمْ مَصْرُوفٌ عَنْهُ بِقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ. فَحَصَلَ بِآخِرِ هَذَا الْخِطَابِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ فِي الْخِطَابِ الْأَوَّلِ الَّتِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [الْمَائِدَة: ٤١] فَإِنَّهُمْ هُمُ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ وَالَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ. فَالتَّبْلِيغُ الْمَأْمُورُ بِهِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ تَبْلِيغُ مَا أُنْزِلَ مِنَ الْقُرْآنِ فِي تَقْرِيعِ أَهْلِ الْكتاب.
وَمَا صدق مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ شَيْءٌ مَعْهُودٌ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ، وَهِيَ الْآيُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى هَذِهِ الْآيَة. وَمَا صدق مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ كُلُّ مَا نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ قَبْلَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَالتَّبْلِيغُ جَعْلُ الشَّيْءِ بَالِغًا. وَالْبُلُوغُ الْوُصُولُ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ وُصُولُهُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ فِي حِكَايَةِ الرِّسَالَةِ لِلْمُرْسَلِ بِهَا إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: بَلَغَ الْخَبَرُ وَبَلَغَتِ الْحَاجَةُ. وَالْأَمْرُ بِالتَّبْلِيغِ مُسْتَعْمَلٌ فِي طَلَبِ الدَّوَامِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦]. وَلَمَّا كَانَ نُزُولُ الشَّرِيعَةِ مَقْصُودًا بِهِ عَمَلُ الْأُمَّةِ بِهَا (سَوَاءً كَانَ النَّازِلُ مُتَعَلِّقًا بِعَمَلٍ أَمْ كَانَ بِغَيْرِ عَمَلٍ، كَالَّذِي يَنْزِلُ بِبَيَانِ أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ أَوْ فَضَائِلِ الْمُؤْمِنِينَ أَوْ فِي الْقَصَصِ وَنَحْوِهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّمَا نَزَلَ لِفَوَائِدَ يَتَعَيَّنُ الْعِلْمُ بِهَا لِحُصُولِ الْأَغْرَاضِ الَّتِي نَزَلَتْ لِأَجْلِهَا، عَلَى أَنَّ لِلْقُرْآنِ خُصُوصِيَّةً أُخْرَى وَهِيَ مَا لَهُ مِنَ الْإِعْجَازِ، وَأَنَّهُ مُتَعَبَّدٌ بِتِلَاوَتِهِ، فَالْحَاجَةُ إِلَى جَمِيعِ مَا يَنْزِلُ مِنْهُ ثَابِتَةٌ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَمَّا يَحْوِيهِ مِنَ الْأَحْكَامِ وَمَا بِهِ مِنْ مَوَاعِظَ وَعِبَرٍ)، كَانَ مَعْنَى الرِّسَالَةِ إِبْلَاغَ مَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ يُرَادُ عِلْمُهُ بِهِ وَهُوَ الْأُمَّةُ كُلُّهَا، وَلِأَجْلِ هَذَا حَذَفَ مُتَعَلِّقَ بَلِّغْ لِقَصْدِ الْعُمُومِ، أَيْ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ جَمِيعَ مَنْ يَحْتَاجُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ الْأُمَّةِ، إِذْ لَا يُدْرَى وَقْتُ ظُهُورِ حَاجَةِ بَعْضِ الْأُمَّةِ إِلَى بَعْضِ الْأَحْكَامِ، عَلَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْكَامِ يَحْتَاجُهَا جَمِيعُ الْأُمَّةِ.
وَكَلِمَةُ (عَلَى) فِي الْحَالَتَيْنِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ التَّلَبُّسِ بِالْأَمَانِ، أَيِ الْأَمَانُ مُسْتَقَرٌّ مِنْكُمْ مُتَلَبِّسٌ بِكُمْ، أَيْ لَا تَخَفْ.
وَأَمَّا إِنْ نَصَبُوا مَعَ التَّنْكِيرِ فَعَلَى اعْتِبَارِهِ كَمَصْدَرِ سَلَّمَ، فَهُوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ أَتَى بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ. تَقْدِيرُهُ: سَلَّمْتُ سَلَامًا، فَلِذَلِكَ لَا يُؤْتَى مَعَهُ بِ (عَلَى). ثُمَّ أَنَّهُمْ يَرْفَعُونَهُ أَيْضًا عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ فَلَا يَأْتُونَ مَعَهُ بِ (عَلَى) لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ بِالرَّفْعِ، لِأَنَّهُ يَقْطَعُ عَنْهُ اعْتِبَارَ الْبَدَلِيَّةِ عَنِ الْفِعْلِ وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ تَقْدِيرُ مُبْتَدَأٍ، أَيْ أَمْرُكُمْ سَلَامٌ، عَلَى حَدِّ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ [يُوسُف: ١٨]. وَالرَّفْعُ أَقْوَى، وَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّ إِبْرَاهِيمَ رَدَّ تَحِيَّةً أَحْسَنَ مِنْ تَحِيَّةِ الْمَلَائِكَةِ، كَمَا حُكِيَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ [هود: ٦٩]. وَقَدْ وَرَدَ فِي رَدِّ السَّلَامِ أَنْ يَكُونَ بِمِثْلِ كَلِمَةِ السَّلَامِ الْأَوْلَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَة: ٢٦] وَوَرَدَ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْكِيرِ فَيَنْبَغِي جَعْلُ الرَّدِّ أَحْسَنَ دَلَالَةً. فَأَمَّا التَّعْرِيفُ وَالتَّنْكِيرُ فَهُمَا سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّعْرِيفَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ عِيسَى وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ
[مَرْيَم: ١٥] وَجَاءَ أَنَّهُ قَالَ: وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ [مَرْيَم: ٣٣].
وَجُمْلَةُ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا وَهِيَ أَوَّلُ الْمَقْصُودِ مِنَ الْمَقُولِ، وَأَمَّا السَّلَامُ فَمُقَدِّمَةٌ لِلْكَلَامِ. وَجَوَّزَ بَعْضُهُمْ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا ثَانِيًا. وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢]. فَقَوْلُهُ هُنَا كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ إِلَخ.
وَقَوْلُهُ: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ قَرَأَهُ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَعَاصِمٌ، وَيَعْقُوبُ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الرَّحْمَةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ، لِأَنَّ الرَّحْمَةَ الْعَامَّةَ تَشْتَمِلُ عَلَى غُفْرَانِ ذَنْبِ مَنْ عَمِلَ ذَنْبًا ثُمَّ تَابَ وَأَصْلَحَ. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ- بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ- عَلَى أَنْ يَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِجَوَابِ سُؤَالٍ مُتَوَقَّعٍ عَنْ مَبْلَغِ الرَّحْمَةِ
الْإِيمَانِ، لِأَنَّهَا لَوْ نَقَصَتْ عَنِ الْيَقِينِ لَبَطَلَتْ مَاهِيَّةُ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبُخَارِيُّ إِلَى هَذَا بِقَوْلِهِ: «بَابُ زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الْكَمَالِ فَهُوَ نَاقِصٌ» فَلَوْ أَنَّ نَقْصَ الْأَدِلَّةِ بَلَغَ بِصَاحِبِهِ إِلَى انْخِرَامِ الْيَقِينِ لَمْ يَكُنِ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ لَهُ إِيمَانًا، حَتَّى يُوصَفَ بِالنَّقْصِ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ وَصْفِ الْإِيمَانِ بِالزِّيَادَةِ، فِي الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ بَيِّنٌ. وَلَمْ يَرِدْ عَنِ الشَّرِيعَةِ ذِكْرُ نَقْصِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ هُوَ الَّذِي يُرِيدُهُ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ إِذَا قَالُوا الْإِيمَانَ يَزِيدُ كَمَا قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا ينقص، وَهُوَ عِبَارَةٌ كَامِلَةٌ، وَقَدْ يُطْلَقُ الْإِيمَانُ عَلَى الْأَعْمَالِ الَّتِي تَجِبُ عَلَى الْمُؤْمِنِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ بِاعْتِبَارِ كَوْنِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ مِنْ شَرَائِعِ الْإِيمَانِ، كَمَا أُطْلِقَ عَلَى الصَّلَاةِ اسْمُ الْإِيمَانِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [الْبَقَرَة: ١٤٣] وَلَكِنَّ الِاسْمَ الْمَضْبُوطَ لِهَذَا الْمَعْنَى هُوَ اسْمُ (الْإِسْلَامِ) كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ حَدِيثُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِحْسَانِ، فَالْإِيمَانُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ يُوصَفُ بِالنَّقْصِ وَالزِّيَادَةِ بِاعْتِبَارِ الْإِكْثَارِ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْإِقْلَالِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا
فِي نَظَائِرِهَا مِنْ آيَاتِ الْكتاب وأقوال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ يُرِيدُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فَيَقُولُ:
الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَلَعَلَّ الَّذِي أَلْجَأَهُمْ إِلَى وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ هُوَ مَا اقْتَضَاهُ الْوَصْفُ بِالزِّيَادَةِ. وَهَذَا مَذْهَبٌ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ فِي قَوْلِهِ «بَابُ مَنْ قَالَ إِنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْعَمَلُ».
وَقَالَ الشَّيْخُ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ «وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِ الْأَعْمَالِ فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ وَبِهَا الزِّيَادَةُ»، وَهُوَ جَارٍ عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ مِنْ إِقْرَارِ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسَّنَةِ، فِي الْأُمُورِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَلَكِنَّ وَصْفَ الْإِيمَانِ بِالنَّقْصِ لَا دَاعِيَ إِلَيْهِ لِعَدَمِ وُجُودِ مُقْتَضِيهِ لِعَدَمِ وَصْفِهِ بِالنَّقْصِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَلِهَذَا قَالَ مَالِكٌ الْإِيمَانُ يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ.
وَكَيْفِيَّةُ تَأْثِيرِ تِلَاوَةِ الْآيَاتِ فِي زِيَادَةِ الْإِيمَانِ: أَنَّ دَقَائِقَ الْإِعْجَازِ الَّتِي تَحْتَوِي عَلَيْهَا آيَاتُ الْقُرْآنِ تَزِيدُ كُلُّ آيَةٍ تَنْزِلُ مِنْهَا أَوْ تَتَكَرَّرُ عَلَى الْأَسْمَاعِ سَامِعَهَا يَقِينًا بِأَنَّهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَتَزِيدُهُ اسْتِدْلَالًا عَلَى مَا فِي نَفْسِهِ، وَذَلِكَ يُقَوِّي الْإِيمَانَ حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَرْتَبَةٍ تُقَرِّبُ مِنَ الضَّرُورَةِ عَلَى نَحْوِ مَا يَحْصُلُ فِي تَوَاتُرِ الْخَبَرِ مِنَ الْيَقِينِ بِصِدْقِ الْمُخْبِرِينَ، وَيَحْصُلُ مَعَ تِلْكَ الزِّيَادَةِ زِيَادَةٌ فِي الْإِقْبَالِ عَلَيْهَا بِشَرَاشِرِ الْقُلُوبِ ثُمَّ فِي
وَالِاسْتِمْتَاعُ: التَّمَتُّعُ، وَهُوَ نَوَالُ أَحَدِ الْمَتَاعِ الَّذِي بِهِ الْتِذَاذُ الْإِنْسَانِ وَمُلَائِمُهُ وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [٢٤].
وَالسِّينُ وَالتَّاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي قُوَّةِ التَّمَتُّعِ.
وَالْخَلَاقُ: الْحَظُّ مِنَ الْخَيْرِ وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٠٠].
وَتَفَرَّعَ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ عَلَى كانُوا أَشَدَّ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إِدْخَالُهُ فِي الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا كَمَا سَيَأْتِي.
وَتَفَرَّعَ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ عَلَى مَا أَفَادَهُ حَرْفُ الْكَافِ بِقَوْلِهِ: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنْ مَعْنَى التَّشْبِيهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ جُمْلَةُ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِوَاوِ الْعَطْفِ، فَإِنَّ هَذِهِ
الْجُمْلَةَ هِيَ الْمَقْصِدُ مِنَ التَّشْبِيهِ وَمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهِ، وَقَدْ كَانَ ذِكْرُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ جُمْلَةِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ لَوْلَا قَصْدُ الْمَوْعِظَةِ بِالْفَرِيقَيْنِ: الْمُشَبَّهِ بِهِمْ، وَالْمُشَبَّهِينَ، فِي إِعْرَاضِ كِلَيْهِمَا عَنْ أَخْذِ الْعُدَّةِ لِلْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ وَفِي انْصِبَابِهِمَا عَلَى التَّمَتُّعِ الْعَاجِلِ فَلَمْ يَكْتَفِ فِي الْكَلَامِ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى حَالِ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ، قَصْدًا لِلِاعْتِنَاءِ بِكِلَيْهِمَا فَذَلِكَ الَّذِي اقْتَضَى هَذَا الْإِطْنَابَ وَلَوِ اقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَلَمْ يَذْكُرْ قَبْلَهُ فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ لَحَصَلَ أَصْلُ الْمَعْنَى وَلَمْ يُسْتَفَدْ قَصْدُ الِاهْتِمَامِ بِكِلَا الْفَرِيقَيْنِ.
وَلِذَلِكَ لَمَّا تَقَرَّرَ هَذَا الْمَقْصِدُ فِي أَنْفُسِ السَّامِعِينَ لَمْ يُحْتَجَّ إِلَى نَسْجِ مِثْلِ هَذَا النَّظْمِ فِي قَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا.
وَقَوْلُهُ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ تَأْكِيدٌ لِلتَّشْبِيهِ الْوَاقِعِ فِي قَوْلِهِ:
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْجُزْءَ بِخُصُوصِهِ، مِنْ بَيْنِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهَةِ وَالْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، هُوَ مَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ، فَلَا يَغُرُّهُمْ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ نِعْمَةِ الْإِمْهَالِ وَالِاسْتِدْرَاجِ، فَقَدَّمَ قَوْلَهُ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ وَأَتَى بِقَوْلِهِ: كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ مُؤَكِّدًا لَهُ دُونَ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى هَذَا التَّشْبِيهِ الْأَخِيرِ، لِيَتَأَتَّى التَّأْكِيدُ، وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ مَا يُتَمِّمُ تَصْوِيرَ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا الْمُرَكَّبَةِ، قَبْلَ إِيقَاعِ التَّشْبِيهِ، أَشَدُّ تَمْكِينًا لِمَعْنَى الْمُشَابَهَةِ عِنْدَ السَّامِعِ.
مُعَارَضَةِ الْحَقِّ الَّذِي يَسُوءُهُمْ وَمُحَاوَلَةِ دَحْضِهِ وَهُمْ جَمَاعَةٌ أَقْوِيَاءُ يَصْعُبُ عَلَيْهِمُ الصَّعْبُ فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ اللَّهَ خَاذِلُهُمْ.
وَأَرَادَ (بِالْمُجْرِمِينَ) فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخِطَابِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِيهِ مِنْ وَصْفِهِمْ بِالْإِجْرَامِ تَعْرِيضًا بِهِمْ. وَإِنَّمَا لَمْ يُخَاطِبْهُمْ بِصِفَةِ الْإِجْرَامِ بِأَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَرِهْتُمْ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ عُدُولًا عَنْ مُوَاجَهَتِهِمْ بِالذَّمِّ، وُقُوفًا عِنْدَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى إِذْ قَالَ لَهُ: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: ٤٤] فَأَتَى بِالْقَضِيَّةِ فِي صُورَةِ قَضِيَّةٍ كُلِّيَّةٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ مِنْ جُزْئِيَّاتِهَا بِدُونِ تَصْرِيحٍ بِذَلِكَ. وَهَذَا بِخِلَافِ مَقَامِ النَّبِيءِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ قَالَ اللَّهُ لَهُ: قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ [الزمر: ٦٤] لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ تَكْرِيرِ دَعْوَتِهِمْ، وَمُوسَى- عَلَيْهِ السَّلَامُ-
كَانَ فِي ابْتِدَاءِ الدَّعْوَةِ. وَلِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا مُحَاوِلِينَ مِنَ النَّبِيءِ أَنْ يَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ، فَكَانَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ بِأَبْلَغِ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ، وَمُوسَى كَانَ مُحَاوِلًا فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ أَنْ يُؤْمِنُوا، فَكَانَ فِي مَقَامِ التَّرْغِيب باللين.
[٨٣]
[سُورَة يُونُس (١٠) : آيَة ٨٣]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣)
تَفْرِيعٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْمُحَاوَرَةِ، أَيْ فَتَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِمُوسَى لِأَنَّ حَصْرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي ذُرِّيَّةٍ مِنْ قَوْمِ مُوسَى يُفِيدُ أَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا وَهُوَ الْمَقْصُودُ، فَكَانَتْ صِيغَةُ الْقَصْرِ فِي هَذَا الْمَقَامِ إِيجَازًا. وَالتَّقْدِيرُ: تَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ تَصْمِيمٌ عَلَى الْإِعْرَاضِ.
وَقَدْ طُوِيَ مَا حَدَثَ بَيْنَ الْمُحَاوَرَةِ وَبَيْنَ تَصْمِيمِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَهُوَ إِلْقَاءُ مُوسَى عَصَاهُ وَالْتِقَامُهَا مَا أَلْقَوْهُ مِنْ سِحْرِهِمْ، لِعَدَمِ تَعَلُّقِ الْغَرَضِ بِبَيَانِ ذَلِكَ إِذِ
وَجُمْلَةُ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ مُبَيِّنَةٌ لِفِعْلِ شَهِدَ.
وَزِيَادَةُ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ بَعْدَ فَصَدَقَتْ، وَزِيَادَةُ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ بَعْدَ فَكَذَبَتْ تَأْكِيدٌ لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ الْحَقِّ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْأَحْكَامِ.
وَأَدَوَاتُ الشَّرْطِ لَا تَدُلُّ عَلَى أَكْثَرِ مِنَ الرَّبْطِ وَالتَّسَبُّبِ بَيْنَ مَضْمُونِ شَرْطِهَا وَمَضْمُونِ جَوَابِهَا مِنْ دُونِ تَقْيِيدٍ بِاسْتِقْبَالٍ وَلَا مُضِيٍّ. فَمَعْنَى إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ
وَمَا بَعْدَهَا: أَنَّهُ إِنْ كَانَ ذَلِكَ حَصَلَ فِي الْمَاضِي فَقَدْ حَصَلَ صِدْقُهَا فِي الْمَاضِي.
وَالَّذِي رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ وَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ، هُوَ الْعَزِيزُ لَا مَحَالَةَ. وَقَدِ اسْتَبَانَ لَدَيْهِ بَرَاءَةُ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- مِنَ الِاعْتِدَاءِ عَلَى الْمَرْأَةِ فَاكْتَفَى بِلَوْمِ زَوْجِهِ بِأَنَّ ادِّعَاءَهَا عَلَيْهِ مِنْ كَيْدِ النِّسَاءِ فَضَمِيرُ جَمْعِ الْإِنَاثِ خِطَابٌ لَهَا فَدَخَلَ فِيهِ مَنْ هُنَّ مِنْ صِنْفِهَا بِتَنْزِيلِهِنَّ مَنْزِلَةَ الْحَوَاضِرِ.
وَالْكَيْدُ: فِعْلُ شَيْءٍ فِي صُورَةٍ غَيْرِ الْمَقْصُودَةِ لِلتَّوَصُّلِ إِلَى مَقْصُودٍ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٣].
ثُمَّ أَمَرَ يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْإِعْرَاضِ عَمَّا رَمَتْهُ بِهِ، أَيْ عَدَمُ مُؤَاخَذَتِهَا بِذَلِكَ، وَبِالْكَفِّ عَنْ إِعَادَةِ الْخَوْضِ فِيهِ. وَأَمَرَ زَوْجَهُ بِالِاسْتِغْفَارِ مِنْ ذَنْبِهَا، أَيْ فِي اتِّهَامِهَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- بِالْجُرْأَةِ وَالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهَا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ الْعَزِيزُ قَلِيلَ الْغَيْرَةِ. وَقِيلَ: كَانَ حَلِيمًا عَاقِلًا. وَلَعَلَّهُ كَانَ مُولَعًا بِهَا، أَوْ كَانَتْ شُبْهَةُ الْمُلْكِ تُخَفِّفُ مُؤَاخَذَةَ الْمَرْأَةِ بِمُرَاوَدَةِ مَمْلُوكِهَا. وَهُوَ الَّذِي يُؤْذِنُ بِهِ حَالُ مُرَاوَدَتِهَا يُوسُفَ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- حِينَ بَادَرَتْهُ بِقَوْلِهَا: هَيْتَ لَكَ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَخَصَّ اللَّهُ بِالذِّكْرِ نَوْعًا مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَهُوَ الْبَغْيُ اهْتِمَامًا بِالنَّهْيِ عَنْهُ وَسَدًّا لِذَرِيعَةِ وُقُوعِهِ، لِأَنَّ النُّفُوسَ تَنْسَاقُ إِلَيْهِ بِدَافِعِ الْغَضَبِ وَتَغْفُلُ عَمَّا يَشْمَلُهُ مِنَ النَّهْيِ مِنْ عُمُومِ الْفَحْشَاءِ بِسَبَبِ فُشُوِّهِ بَيْنَ النَّاسِ وَذَلِكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا أَهْلَ بَأْسٍ وَشَجَاعَةٍ وَإِبَاءٍ، فَكَانُوا يَكْثُرُ فِيهِمُ الْبَغْيُ عَلَى الْغَيْرِ إِذَا لَقِيَ الْمُعْجَبُ بِنَفْسِهِ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا يَكْرَهُهُ أَوْ مُعَاملَة يعدّها هضيمة وَتَقْصِيرًا فِي تَعْظِيمِهِ. وَبِذَلِكَ كَانَ يَخْتَلِطُ عَلَى مُرِيدِ الْبَغْيِ حُسْنُ الذَّبِّ عَمَّا يُسَمِّيهِ الشَّرَفَ وَقُبْحُ مُجَاوَزَةِ حَدِّ الْجَزَاءِ.
فَالْبَغْيُ هُوَ الِاعْتِدَاءُ فِي الْمُعَامَلَةِ، إِمَّا بِدُونِ مُقَابَلَةِ ذَنْبٍ كَالْغَارَةِ الَّتِي كَانَتْ وَسِيلَةَ كَسْبٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِمَّا بِمُجَاوَزَةِ الْحَدِّ فِي مُقَابَلَةِ الذَّنْبِ كَالْإِفْرَاطِ فِي الْمُؤَاخَذَةِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ [سُورَة الْبَقَرَة: ١٩٤]. وَقَالَ: ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ [سُورَة الْحَج: ٦٠]. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فِي سُورَةِ
الْأَعْرَافِ [٣٣].
فَهَذِهِ الْآيَةُ جَمَعَتْ أُصُولَ الشَّرِيعَةِ فِي الْأَمْرِ بِثَلَاثَةٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ ثَلَاثَةٍ، بَلْ فِي الْأَمْرِ بِشَيْئَيْنِ وَتَكْمِلَةٍ، وَالنَّهْيِ عَنْ شَيْئَيْنِ وَتَكْمِلَةٍ.
رَوَى أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: أَنَّ هَذِهِ كَانَتِ السَّبَبَ فِي تَمَكُّنِ الْإِيمَانِ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، فَإِنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ كَانَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ بِجَانِبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ حَدِيثَ الْإِسْلَامِ، وَكَانَ إِسْلَامُهُ حَيَاءً مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَهَا النَّبِيءُ عَلَيْهِ. قَالَ عُثْمَانُ: فَذَلِكَ حِينَ اسْتَقَرَّ الْإِيمَانُ فِي قَلْبِي. وَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ، فَقَالَ: أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ الْآيَةَ اه. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ تَنْزِلْ مُتَّصِلَةً بِالْآيَاتِ الَّتِي قَبْلَهَا فَكَانَ وَضْعُهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ صَالِحًا لِأَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِآيَةِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً
وَالْبَلْوُ: الِاخْتِبَارُ وَالتَّجْرِبَةُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٣٠]. وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِتَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ التَّنْجِيزِيِّ بِالْمَعْلُومِ عِنْدَ حُصُولِهِ بِقَرِينَةِ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ وَالسَّمْعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى إِحَاطَةِ عِلْمِ اللَّهِ بِكُلِّ شَيْءٍ قَبْلَ وُقُوعِهِ فَهُوَ مُسْتَغْنٍ عَنِ الِاخْتِبَارِ وَالتَّجْرِبَةِ. وَفَائِدَةُ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ الِانْتِقَالُ مِنْهَا إِلَى الْكِنَايَةِ عَنْ ظُهُورِ ذَلِكَ لِكُلِّ النَّاسِ حَتَّى لَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمُ الصَّالِحُ بِضِدِّهِ. وَهُوَ كَقَوْلِ قَيْسِ بْنِ الْخَطِيمِ:

وَأَقْبَلْتُ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا لِأَعْلَمَ مَنْ جَبَانُهَا مِنْ شُجَاعِهَا
وَقَوْلُهُ: وَإِنَّا لَجاعِلُونَ مَا عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً تَكْمِيلٌ لِلْعِبْرَةِ وَتَحْقِيقٌ لِفَنَاءِ الْعَالم.
فَقَوله: لَجاعِلُونَ اسْمُ فَاعِلٍ مُرَادٌ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ، أَيْ سَنَجْعَلُ مَا عَلَى الْأَرْضِ كُلَّهُ مَعْدُومًا فَلَا يَكُونُ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا تُرَابٌ جَافٌّ أَجْرَدُ لَا يَصْلُحُ لِلْحَيَاةِ فَوْقَهُ وَذَلِكَ هُوَ فَنَاءُ الْعَالَمِ، قَالَ تَعَالَى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ [إِبْرَاهِيم: ٤٨].
وَالصَّعِيدُ: التُّرَابُ. وَالْجُرُزُ: الْقَاحِلُ الْأَجْرَدُ. وَسَيَأْتِي بَيَانُ مَعْنَى الصَّعِيدِ عِنْدَ قَوْلِهِ:
فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً فِي هَذِه السُّورَة [٤٠].
[٩]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٩]
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (٩)
(أَمْ) لِلْإِضْرَابِ الِانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ. وَلَمَّا كَانَ هَذَا مِنَ الْمَقَاصِدِ الَّتِي
أُنْزِلَتِ السُّورَةُ لِبَيَانِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا الِانْتِقَالُ اقْتِضَابًا بَلْ هُوَ كَالِانْتِقَالِ مِنَ الدِّيبَاجَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ إِلَى الْمَقْصُودِ.
عَلَى أَنَّ مُنَاسَبَةَ الِانْتِقَالِ إِلَيْهِ تَتَّصِلُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً [الْكَهْف: ٦]، إِذْ كَانَ مِمَّا صَرَفَ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ إِحَالَتُهُمُ الْإِحْيَاءَ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَكَانَ ذِكْرُ أَهْلِ الْكَهْفِ وَبَعْثُهُمْ بَعْدَ خُمُودِهِمْ سِنِينَ طَوِيلَةً مِثَالًا لِإِمْكَانِ الْبَعْثِ.
الْأَوَّلِيَّةِ فِي الْإِلْقَاءِ، وَسِوَى أَنَّهُ صَرَّحَ هُنَا بِأَنَّ السِّحْرَ الَّذِي أَلْقَوْهُ كَانَ بِتَخْيِيلِ أَنَّ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ثَعَابِينُ تَسْعَى لِأَنَّهَا لَا يُشْبِهُهَا فِي شَكْلِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ سِوَى الْحَيَّاتِ وَالثَّعَابِينِ.
وَالْمُفَاجَأَةُ الْمُسْتَفَادَةُ مِنْ (إِذَا) دَلَّتْ عَلَى أَنَّهُمْ أَعَدُّوهَا لِلْإِلْقَاءِ وَكَانُوا يَخْشَوْنَ أَنْ يَمُرَّ زَمَانٌ تَزُولُ بِهِ خَاصِّيَّاتُهَا فَلِذَلِكَ أَسْرَعُوا بِإِلْقَائِهَا.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُخَيَّلُ بِتَحْتِيَّةٍ فِي أَوَّلِ الْفِعْلِ عَلَى أَنَّ فَاعِلَهُ الْمَصْدَرُ مِنْ قَوْلِهِ أَنَّها تَسْعى. وَقَرَأَهُ ابْنُ ذَكْوَانَ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ، وَرَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ «تُخَيَّلُ» بِفَوْقِيَّةٍ فِي أَوَّلِهِ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ رَافِعٌ لِضَمِيرِ حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ، أَيْ هِيَ تُخَيَّلُ إِلَيْهِ.
وأَنَّها تَسْعى بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ.
وَهَذَا التَّخْيِيلُ الَّذِي وَجَدَهُ مُوسَى مِنْ سِحْرِ السَّحَرَةِ هُوَ أَثَرُ عَقَاقِيرَ يُشْرِبُونَهَا تِلْكَ الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ، وَتَكُونُ الْحِبَالُ مِنْ صِنْفٍ خَاصٍّ، وَالْعِصِيُّ مِنْ أَعْوَادٍ خَاصَّةٍ فِيهَا فَاعِلِيَّةٌ
لِتِلْكَ الْعَقَاقِيرِ، فَإِذَا لَاقَتْ شُعَاعَ الشَّمْسِ اضْطَرَبَتْ تِلْكَ الْعَقَاقِيرُ فَتَحَرَّكَتِ الْحِبَالُ وَالْعِصِيُّ.
قِيلَ: وَضَعُوا فِيهَا طِلَاءَ الزِّئْبَقِ. وَلَيْسَ التَّخْيِيلُ لِمُوسَى مِنْ تَأْثِيرِ السِّحْرِ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ نَفْسَ الرَّسُولِ لَا تَتَأَثَّرُ بِالْأَوْهَامِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَأَثَّرَ بِالْمُؤَثِّرَاتِ الَّتِي يَتَأَثَّرُ مِنْهَا الْجَسَدُ كَالْمَرَضِ، وَلِذَلِكَ وَجَبَ تَأْوِيلُ ظَاهِرَ حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ فِي سِحْرِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَارُ الْآحَادِ لَا تَنْقُضُ الْقَوَاطِعَ. وَلَيْسَ هَذَا مَحَلٌّ ذَكْرِهِ وَقَدْ حَقَّقْتُهُ فِي كِتَابِي الْمُسَمَّى «النَّظَرُ الْفَسِيحُ» عَلَى صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ مِنْ سِحْرِهِمْ لِلسَّبَبِيَّةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا [نوح: ٢٥].
وَفِي هَذَا تَشْرِيعٌ لِإِبَاحَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْهَدَايَا انْتِفَاعًا لَا يُتْلِفُهَا، وَهُوَ رَدٌّ عَلَى الْمُشْركين إِذْ كَانُوا إِذا قَلَّدُوا الْهَدْيَ وَأَشْعَرُوهُ حَظَرُوا الِانْتِفَاعَ بِهِ مِنْ رُكُوبِهِ وَحَمْلٍ عَلَيْهِ وَشُرْبِ لَبَنِهِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» :«عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ:
ارْكَبْهَا؟ فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، فَقَالَ: ارْكَبْهَا، وَيْلَكَ فِي الثَّانِيَةِ
أَوَ الثَّالِثَةِ»

. وَالْأَجَلُ الْمُسَمَّى هُوَ وَقْتُ نَحْرِهَا، وَهُوَ يَوْمٌ مِنْ أَيَّامِ مِنًى. وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ.
وَالْمَحِلُّ:- بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْحَاءِ- مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ حَلَّ يَحِلُّ إِذَا بَلَغَ الْمَكَانَ وَاسْتَقَرَّ فِيهِ. وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ نِهَايَةِ أَمْرِهَا، كَمَا يُقَالُ: بَلَغَ الْغَايَةَ، وَنِهَايَةُ أَمْرِهَا النَّحْرُ أَوِ الذَّبْحُ.
وإِلى حَرْفُ انْتِهَاءٍ مَجَازِيٍّ لِأَنَّهَا لَا تُنْحَرُ فِي الْكَعْبَةِ، وَلَكِنَّ التَّقَرُّبَ بِهَا بِوَاسِطَةِ تَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ لِأَنَّ الْهَدَايَا إِنَّمَا شُرِعَتْ تَكْمِلَةً لِشَرْعِ الْحَجِّ، وَالْحَجُّ قَصْدُ الْبَيْتِ. قَالَ تَعَالَى:
وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ [آل عمرَان: ٩٧]، فَالْهَدَايَا تَابِعَةٌ لِلْكَعْبَةِ، قَالَ تَعَالَى: هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ [الْمَائِدَة: ٩٥] وَإِنْ كَانَتِ الْكَعْبَةُ لَا يُنْحَرُ فِيهَا، وَإِنَّمَا الْمَنَاحِرُ: مِنًى، وَالْمَرْوَةُ، وَفِجَاجُ مَكَّةَ أَيْ طُرُقُهَا بِحَسَبِ أَنْوَاعِ الْهَدَايَا، وَتَبْيِينُهُ فِي السُّنَّةِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ رَدُّ الْعَجُزِ عَلَى الصَّدْرِ بِاعْتِبَارِ مَبْدَأِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الْحَج
بِطَلَبِ النَّظَرِ وَالِاعْتِبَارِ كَيْفَ هَدَى اللَّهُ تَعَالَى كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ الْمُقْتَضِي الْإِيمَانَ بِهِ وَحْدَهُ، وَبِمَا أَلْهَمَ الطَّيْرَ إِلَى أَصْوَاتِهَا الْمُعْرِبَةِ عَنْ بَهْجَتِهَا بِنِعْمَةِ وَجُودِهَا وَرِزْقِهَا النَّاشِئَيْنِ عَنْ إِمْدَادِ اللَّهِ إِيَّاهَا بِهِمَا فَكَانَتْ أَصْوَاتُهَا دَلَائِلَ حَالٍ عَلَى تَسْبِيحِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنِ الشَّرِيكِ، فَأَصْوَاتُهَا تَسْبِيحٌ بِلِسَانِ الْحَالِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَمُنَاسَبَتُهُ مَا عَلِمْتَ.
وَجُمْلَةُ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ وَهُوَ مِنْ تَمَامِ الْعِبْرَةِ إِذْ أَوْدَعَ اللَّهُ فِي جَمِيعِ أُولَئِكَ مَا بِهِ مُلَازَمَتُهُمْ لِمَا فُطِرُوا عَلَيْهِ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ وَتَنْزِيهِهِ.
فَتَسْبِيحُ الْعُقَلَاءِ حَقِيقَةٌ، وَتَسْبِيحُ الطَّيْرِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى التَّنْزِيهِ. وَفِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ التَّسْبِيحِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، وَلِذَلِكَ خُولِفَ بَيْنَهُمَا فِي الْجُمْلَةِ الثَّانِيَةِ فَعُبِّرَ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ مُرَاعَاةً لِاخْتِلَافِ حَالِ الْفَرِيقَيْنِ: فَرِيقُ الْعُقَلَاءِ. وَفَرِيقُ الطَّيْرِ وَإِنْ جَمَعَتْهُمَا كَلِمَةُ كُلٌّ فَأُطْلِقَ عَلَى تَسْبِيحِ الْعُقَلَاءِ اسْمُ الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ. فَالْمُرَادُ بِالصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ الْعُقَلَاءِ، وَلَيْسَ فِي أَحْوَال الطير مَا يَسْتَقِيم إِطْلَاق الدُّعَاء
عَلَيْهِ على وَجه الْمجَاز وأبقي لدلَالَة أصوات الطَّيْرِ اسْمُ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ يُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الدَّلَالَةِ بِالصَّوْتِ بِعَلَاقَةِ الْإِطْلَاقِ وَذَلِكَ عَلَى التَّوْزِيعِ وَلَوْلَا إِرَادَةُ ذَلِكَ لَقِيلَ: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ تَسْبِيحَهُ، أَوْ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صِلَاتَهُ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالْمُرَادُ مَنْ يَبْلُغُ إِلَيْهِ، أَوِ الْخِطَابُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ فَيَعُمُّ كُلَّ مُخَاطَبٍ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي أَمْثَالِهِ.
وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً عَنِ التَّعْجِيبِ مِنْ حَالِ فَرِيقِ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْعُقُولِ وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ حُرِمُوا الْهُدَى لَمَّا لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ فِيهِمْ. وَقَدْ جَعَلَ الْهُدَى فِي الْعَجْمَاوَاتِ إِذْ جَبَلَهَا عَلَى إِدْرَاكِ أَثَرِ نِعْمَةِ الْوُجُودِ وَالرِّزْقِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الْفرْقَان: ٤٤].

[سُورَة النَّمْل (٢٧) : الْآيَات ٢٩ إِلَى ٣١]

قالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (٢٩) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٣٠) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١)
طُوِيَتْ أَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ دَلَّ عَلَيْهَا مَا بَيْنَ الْخَبِرَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنِ اقْتِضَاءِ عِدَّةِ أَحْدَاثٍ، إِذِ التَّقْدِيرُ: فَذَهَبَ الْهُدْهُدُ إِلَى سَبَأٍ فَرَمَى بِالْكِتَابِ فَأَبْلَغَ الْكِتَابَ إِلَى الْمَلِكَةِ وَهِيَ فِي مَجْلِسِ مُلْكِهَا فَقَرَأَتْهُ، قَالَتْ: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِلَخْ.
وَجُمْلَةُ: قالَتْ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ غَرَابَةَ قِصَّةِ إِلْقَاءِ الْكِتَابِ إِلَيْهَا يُثِيرُ سُؤَالًا عَنْ شَأْنِهَا حِينَ بَلَغَهَا الْكِتَابُ.
والْمَلَأُ: الْجَمَاعَةُ مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ وَهُمْ أَهْلُ مَجْلِسِهَا. وَظَاهِرُ قَوْلِهَا: أُلْقِيَ إِلَيَّ أَنَّ الْكِتَابَ سُلِّمَ إِلَيْهَا دُونَ حُضُورِ أَهْلِ مَجْلِسِهَا. وَتَقَدَّمَ غَيْرَ مَرَّةٍ وَذَلِكَ أَنْ يَكُونَ نِظَامُ بَلَاطِهَا أَنْ تُسَلَّمَ الرَّسَائِلُ إِلَيْهَا رَأْسًا. وَالْإِلْقَاءُ تَقَدَّمَ آنِفًا.
وَوَصْفُ الْكِتَابِ بِالْكَرِيمِ يَنْصَرِفُ إِلَى نَفَاسَتِهِ فِي جِنْسِهِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٧٤] بِأَنْ كَانَ نَفِيسَ الصَّحِيفَةِ نَفِيسَ التَّخْطِيطِ
بَهِيجَ الشَّكْلِ مُسْتَوْفِيًا كُلَّ مَا جَرَتْ عَادَةُ أَمْثَالِهِمْ بِالتَّأَنُّقِ فِيهِ. وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَخْتُومًا، وَقَدْ قِيلَ: كَرَمُ الْكِتَابِ خَتْمُهُ، لِيَكُونَ مَا فِي ضِمْنِهِ خَاصًّا بِاطِّلَاعِ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَهُوَ يُطْلِعُ عَلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَكْتُمُهُ عَمَّنْ يَشَاءُ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: «الْوَصْفُ بِالْكَرَمِ فِي الْكِتَابِ غَايَةُ الْوَصْفِ أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ [الْوَاقِعَة: ٧٧] وَأَهْلُ الزَّمَانِ يَصِفُونَ الْكِتَابَ بِالْخَطِيرِ، وَالْأَثِيرِ، وَالْمَبْرُورِ، فَإِنْ كَانَ لِمَلِكٍ قَالُوا: الْعَزِيزُ، وَأَسْقَطُوا الْكَرِيمَ غَفْلَةً وَهُوَ أَفْضَلُهَا خَصْلَةً».
وَأَمَّا مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ مِنَ الْمَعَانِي فَلَمْ يَكُنْ مَحْمُودًا عِنْدَهَا لِأَنَّهَا قَالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً [النَّمْل: ٣٤].
ثُمَّ قَصَّتْ عَلَيْهِمُ الْكِتَابَ حِينَ قَالَتْ: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ إِلَى آخِرِهِ. فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَدْ تُرْجِمَ لَهَا قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ إِلَى مَجْلِسِ مَشُورَتِهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ فِعْلِ اتْلُ لِيَعُمَّ التِّلَاوَةَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَعَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها إِلَى قَوْله وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١) [النَّمْل: ٩١، ٩٢].
وَأَمَرَهُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَمَلٌ عَظِيمٌ، وَهَذَا الْأَمْرُ يَشْمَلُ الْأُمَّةَ فَقَدْ تَكَرَّرَ الْأَمْرُ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ.
وَعَلَّلَ الْأَمْرَ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا فِيهَا مِنَ الصَّلَاحِ النَّفْسَانِيِّ فَقَالَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ، فَمَوْقِعُ إِنَّ هُنَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّعْلِيلِ وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا التَّعْلِيلَ مُوَجَّهٌ إِلَى الْأُمَّةِ لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومٌ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فَاقْتَصَرَ عَلَى تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ دُونَ تَعْلِيلِ الْأَمْرِ بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ لِمَا فِي هَذَا الصَّلَاحِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الصَّلَاةِ مِنْ سِرٍّ إِلَهِيٍّ لَا يَهْتَدِي إِلَيْهِ النَّاسُ إِلَّا بِإِرْشَادٍ مِنْهُ تَعَالَى فَأَخْبَرَ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهَا تَنْهَى الْمُصَلِّيَ.
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ حَقِيقَةُ النَّهْيِ غَيْرَ قَائِمَةٍ بِالصَّلَاةِ تَعَيَّنَ أَنَّ فِعْلَ تَنْهى مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنًى مَجَازِيٍّ بِعَلَاقَةٍ أَوْ مُشَابَهَةٍ. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّ الصَّلَاةَ تُيَسِّرُ لِلْمُصَلِّي تَرْكَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ الصَّلَاةَ صَارِفَةُ الْمُصَلِّي عَنْ أَنْ يَرْتَكِبَ الْفَحْشَاءَ وَالْمُنْكَرَ فَإِنَّ الْمُشَاهَدَ يُخَالِفُهُ إِذْ كَمْ مِنْ مُصَلٍّ يُقِيمُ صَلَاتَهُ وَيَقْتَرِفُ بَعْضَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ.
كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهَا تَصْرِفُ الْمُصَلِّيَ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ مَا دَامَ مُتَلَبِّسًا بِأَدَاءِ الصَّلَاةِ لِقِلَّةِ جَدْوَى هَذَا الْمَعْنَى. فَإِنَّ أَكْثَرَ الْأَعْمَالِ يَصْرِفُ الْمُشْتَغِلَ بِهِ عَنِ الِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهِ.
وَإِذْ كَانَتِ الْآيَةُ مَسُوقَةً لِلتَّنْوِيهِ بِالصَّلَاةِ وَبَيَانِ مَزِيَّتِهَا فِي الدِّينِ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ الصَّلَاةَ تُحَذِّرُ مِنَ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ تَحْذِيرًا هُوَ مِنْ خَصَائِصِهَا.
وَلِلْمُفَسِّرِينَ طَرَائِقُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ مِنْهَا مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا لِلصَّلَاةِ مِنْ ثَوَابٍ عِنْدَ اللَّهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ وَلَيْسَ مُنْصَبًّا إِلَى تَرْكِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَكِنَّهُ مِنْ وَسَائِلِ تَوْفِيرِ الْحَسَنَاتِ لَعَلَّهَا أَنْ تَغْمُرَ السَّيِّئَاتِ، فَيَتَعَيَّنَ لِتَفْسِيرِ
_________
(١) فِي المطبوعة (فَإِنَّمَا يضل عَلَيْهَا).
وَفَتْحِ الظَّاءِ مُخَفَّفَةً وَأَلِفٍ وَهَاءٍ مَكْسُورَةٍ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ:
تُظاهِرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ وَفَتْحِ الظَّاءِ مُخَفَّفَةً بَعْدَهَا أَلِفٌ وَفَتْحِ الْهَاءِ.
وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ هَذَا هُوَ الْمَقْصُودُ الَّذِي ووطّئ بِالْآيَتَيْنِ قَبْلَهُ، وَلِذَلِكَ أُسْهِبُ الْكَلَامُ بَعْدَهُ بِتَفَاصِيلِ التَّشْرِيعِ فِيهِ. وَعُطِفَتْ هَاتِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى اللَّتَيْنِ قَبْلَهَا لِاشْتِرَاكِ ثَلَاثَتُهَا فِي أَنَّهَا نَفَتْ مَزَاعِمَ لَا حَقَائِقَ لَهَا.
وَالْقَوْلُ فِي الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ مِنْ قَوْلِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاء تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكُمْ تَنْسِبُونَ الْأَدْعِيَاءَ أَبْنَاءً فَتَقُولُونَ لِلدَّعِيِّ: هُوَ ابْنُ فُلَانٍ، لِلَّذِي تَبَنَّاهُ، وَتَجْعَلُونَ لَهُ جَمِيعَ مَا لِلْأَبْنَاءِ.
وَالْأَدْعِيَاءُ: جَمْعُ دَعِيٍّ بِوَزْنِ فَعِيلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مُشْتَقًّا مِنْ مَادَّةِ الِادِّعَاءِ، وَالِادِّعَاءُ:
زَعْمُ الزَّاعِمِ الشَّيْءَ حَقًّا لَهُ مِنْ مَالٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ بِصِدْقٍ أَوْ كَذِبٍ، وَغَلَبَ وَصْفُ الدَّعِيِّ عَلَى الْمُدَّعِي أَنَّهُ ابْنٌ لِمَنْ يَتَحَقَّقُ أَنَّهُ لَيْسَ أَبًا لَهُ فَمَنِ ادَّعَي أَنَّهُ ابْنٌ لِمَنْ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَبٌ لَهُ فَذَلِكَ هُوَ اللَّحِيقُ أَوِ الْمُسْتَلْحِقُ، فَالدَّعِيُّ لَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ ابْنًا لِمَنِ ادَّعَاهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّهُ لَيْسَ أَبًا لَهُ، وَأَمَّا الْمُسْتَلْحِقُ فَقَدْ جَعَلَهُ اللَّهُ ابْنًا لِمَنِ اسْتَلْحَقَهُ بِحُكْمِ اسْتِلْحَاقِهِ مَعَ إِمْكَانِ أُبُوَّتِهِ لَهُ. وَجُمِعَ عَلَى أَفْعِلَاءَ لِأَنَّهُ مُعْتَلُّ اللَّامِ فَلَا يُجْمَعُ عَلَى فَعْلَى، وَالْأَصَحُّ أَنْ أَفْعِلَاءَ يَطَّرِدُ فِي جَمْعِ فَعِيلٍ الْمُعْتَلِّ اللَّامِ سَوَاءٌ كَانَ بِمَعْنَى فَاعِلٍ أَوْ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ.
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي إِبْطَالِ التَّبَنِّي، أَيْ: إِبْطَالِ تَرْتِيبِ آثَار الْبُنُوَّة الْحَقِيقِيَّة مِنَ الْإِرْثِ، وَتَحْرِيمِ الْقَرَابَةِ، وَتَحْرِيمِ الصِّهْرِ، وَكَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَجْعَلُونَ لِلْمُتَبَنَّى أَحْكَامَ الْبُنُوَّةِ كُلَّهَا، وَكَانَ مِنْ أَشْهَرِ الْمُتَبَنَّيْنَ فِي عَهْدِ الْجَاهِلِيَّةِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ تَبَنَّاهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ تَبَنَّاهُ الْخَطَّابُ أَبُو عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَسَالِمٌ تَبَنَّاهُ أَبُو حُذَيْفَةَ، وَالْمِقْدَادُ بْنُ عَمْرٍو تَبَنَّاهُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ، فَكَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ يُدْعَى ابْنًا لِلَّذِي تَبَنَّاهُ.
لِنُفُوسِهِمْ، فَإِذَا تَأَيَّدَ بِالدَّلِيلِ الْبُرْهَانِيِّ تَمَهَّدَ السَّبِيلُ لِتَصْدِيقِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ مِنْ وَعْدِ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ الْبَعْثِ لِأَنَّهُ لَمَّا تَبَيَّنَ صِدْقُهُ فِي الْأُولَى يُعْلَمُ صِدْقُهُ فِي الثَّانِيَةِ بِحُكْمِ قِيَاسِ الْمُسَاوَاةِ.
وَالْخِطَابُ لِلْمُشْرِكِينَ، أَوْ لَهُمْ وَلِلْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ مَا تَلَاهُ صَالِحٌ لِمَوْعِظَةِ الْفَرِيقَيْنِ كُلٌّ عَلَى حَسَبِ حَالِهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ إِمَّا لِأَنَّ الْخِطَابَ لِلْمُنْكِرِينَ، وَإِمَّا لِتَغْلِيبِ فَرِيقِ الْمُنْكِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ أَحْوَجُ إِلَى تَقْوِيَةِ الْمَوْعِظَةِ.
وَالْوَعْدُ مَصْدَرٌ، وَهُوَ الْإِخْبَارُ عَنْ فِعْلِ الْمُخْبِرِ شَيْئًا فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَالْأَكْثَرُ أَنْ يَكُونَ
فِيمَا عَدَا الشَّرِّ، وَيُخَصُّ الشَّرُّ مِنْهُ بِاسْمِ الْوَعِيدِ، يَعُمُّهُمَا وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي الْقَدْرِ الْمُشْتَرَكِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ الْآيَةَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٢٦٨].
وَإِضَافَتُهُ إِلَى الِاسْمِ الْأَعْظَمِ تَوْطِئَةٌ لِكَوْنِهِ حَقًّا لِأَنَّ اللَّهَ لَا يَأْتِي مِنْهُ الْبَاطِلُ.
وَالْحَقُّ هُنَا مُقَابِلُ الْكَذِبِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ صَادِقٌ. وَوَصْفُهُ بِالْمَصْدَرِ مُبَالغَة فِي حَقِيقَته.
وَالْمُرَادُ بِهِ: الْوَعْدُ بِحُلُولِ يَوْمِ جَزَاءٍ بَعْدَ انْقِضَاءِ هَذِهِ الْحَيَاةِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَفْرِيعُ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا الْآيَةَ.
والغرور بِضَمِّ الْغَيْنِ وَيُقَالُ التَّغْرِيرُ: إِيهَامُ النَّفْعِ وَالصَّلَاحِ فِيمَا هُوَ ضُرٌّ وَفَسَادٌ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [١٩٦] وَعِنْدَ قَوْلِهِ:
زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [١١٢].
وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ: مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ أَحْوَالُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ لَهْوٍ وَتَرَفٍ، وَانْتِهَائِهَا بِالْمَوْتِ وَالْعَدَمِ مِمَّا يُسَوِّلُ لِلنَّاسِ أَنْ لَيْسَ بَعْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ أُخْرَى.
وَإِسْنَادُ التَّغْرِيرِ إِلَى الْحَيَاةِ وَلَوْ مَعَ تَقْدِيرِ الْمُضَافِ إِسْنَادٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ الْغَارَّ لِلْمَرْءِ هُوَ نَفْسُهُ الْمُنْخَدِعَةُ بِأَحْوَالِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَهُوَ مِنْ إِسْنَادِ الْفِعْلِ إِلَى سَبَبِهِ وَالْبَاعِثِ عَلَيْهِ.
الْمَسْحِ وَلَكِنَّهُ يَقْتَضِي إِجْرَاءَ تَرْتِيبِ الْجُمَلِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ بِأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ: إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ أَيْ بَعْدَ أَنِ اسْتَعْرَضَهَا وَانْصَرَفُوا بِهَا لِتَأْوِيَ إِلَى مَذَاوِدِهَا قَالَ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ إِكْرَامًا لَهَا وَلِحُبِّهَا. وَيُجْعَلُ قَوْلُهُ: فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ مُعْتَرِضًا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا قُدِّمَ لِلتَّعْجِيلِ بِذِكْرِ نَدَمِهِ عَلَى تَفْرِيطِهِ فِي ذِكْرِ اللَّهِ فِي بَعْضِ أَوْقَاتِ ذِكْرِهِ، أَيْ أَنَّهُ لَمْ يَسْتَغْرِقْ فِي الذُّهُولِ بَلْ بَادَرَ الذِّكْرَى بِمُجَرَّدِ فَوَاتِ وَقْتِ الذِّكْرِ الَّذِي اعْتَادَهُ، إِذْ لَا يُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ إِلَخْ مِنْ آثَارِ نَدَمِهِ وَتَحَسُّرِهِ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ فَوَاتَ وَقْتِ ذِكْرِهِ نَشَأَ عَنْ ذَلِكَ الرَّدِّ الَّذِي أَمَرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: رُدُّوها عَلَيَّ فَإِنَّهُمُ اعْتَادُوا أَنْ يَعْرِضُوهَا عَلَيْهِ وَيَنْصَرِفُوا وَقَدْ بَقِيَ مَا يَكْفِي مِنَ الْوَقْتِ لِلذِّكْرِ فَلَمَّا حَمَلَتْهُ بَهْجَتُهُ بِهَا عَلَى أَنْ أَمَرَ بِإِرْجَاعِهَا وَاشْتَغَلَ بِمَسْحِ أَعْنَاقِهَا وَسُوقِهَا خَرَجَ وَقْتُ ذِكْرِهِ فَتَنَدَّمَ وَتَحَسَّرَ.
وَعَنِ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَالْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ: أَنَّ سُلَيْمَانَ لَمَّا نَدِمَ عَلَى اشْتِغَالِهِ بِالْخَيْلِ حَتَّى أَضَاعَ ذِكْرَ اللَّهِ فِي وَقْتٍ كَانَ يَذْكُرُ اللَّهَ فِيهِ أَمَرَ أَنْ تُرَدَّ عَلَيْهِ الْخَيْلُ الَّتِي شَغَلَتْهُ فَجَعَلَ يُعَرْقِبُ سُوقَهَا وَيَقْطَعُ أَعْنَاقَهَا لِحِرْمَانِ نَفْسِهِ مِنْهَا مَعَ مَحَبَّتِهِ إِيَّاهَا تَوْبَةً مِنْهُ وَتَرْبِيَةً لِنَفْسِهِ. وَاسْتَشْعَرُوا أَنَّ هَذَا فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ وَإِضَاعَةٌ لِلْمَالِ فَأَجَابُوا:
بِأَنَّهُ أَرَادَ ذَبحهَا ليأكلها الْفُقَرَاءُ لِأَنَّ أَكْلَ الْخَيْلِ مُبَاحٌ عِنْدَهُمْ وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ ذَبْحُهَا فَسَادًا فِي الْأَرْضِ.
وَتَجَنَّبَ بَعْضُهُمْ هَذَا الْوَجْهَ وَجَعَلَ الْمَسْحَ مُسْتَعَارًا لِلتَّوْسِيمِ بِسِمَةِ الْخَيْلِ الْمَوْقُوفَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِكَيِّ نَارٍ أَوْ كَشْطِ جِلْدٍ لِأَنَّ ذَلِكَ يُزِيلُ الْجِلْدَةَ الرَّقِيقَةَ الَّتِي عَلَى ظَاهِرِ الْجِلْدِ، فَشُبِّهَتْ تِلْكَ الْإِزَالَةُ بِإِزَالَةِ الْمَسْحِ مَا عَلَى ظَهْرِ الْمَمْسُوحِ مِنْ مُلْتَصِقٍ بِهِ، وَهَذَا أَسْلَمُ عَنِ الِاعْتِرَاضِ مِنَ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَهُوَ مَعْزُوٌّ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» لِابْنِ الْعَرَبِيِّ.
وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إِنَّهُ وَهَمَ. وَهَذِهِ طَرِيقَةٌ جَلِيلَةٌ مِنْ طَرَائِقِ تَرْبِيَةِ النَّفْسِ وَمَظَاهِرِ كَمَالِ التَّوْبَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا كَانَ سَبَبًا فِي الْهَفْوَةِ.
وَعَلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ: فَطَفِقَ تَعْقِيبًا عَلَى رُدُّوها عَلَيَّ وَعَلَى مَحْذُوفٍ بَعْدَهُ. وَالتَّقْدِيرُ: فَرَدُّوهَا عَلَيْهِ فَطَفِقَ، كَقَوْلِهِ: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ
عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى بِمَعْنَى كَمَالِ الْقُدْرَةِ، أَيْ عُمُومُ تَأْثِيرِهَا وَتَعَلُّقِهَا بِالْمُمْكِنَاتِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ لَا يَسْتَعْصِي عَلَى تَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ شَيْءٌ مُمْكِنٌ، وَكَمَالُ غِنَاهُ عَنِ التَّأَثُّرِ لِلْغَيْرِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ [٥٢].
وَجُمْلَةُ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُتَعَاطِفَةِ، وَالْوَاوُ فِيهَا اعْتِرَاضِيَّةٌ.
وَقَوْلُهُ: وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ مُعْجِزَاتُ رَسُولِهِمْ هُودٍ فَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا وَأَصَرُّوا عَلَى الْعِنَادِ وَلَمْ يَذْكُرِ الْقُرْآنُ لِهُودٍ آيَاتٍ سِوَى أَنَّهُ أَنْذَرَهُمْ عَذَابًا يَأْتِيهِمْ مِنَ السَّمَاءِ، قَالَ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ [الْأَحْقَاف: ٢٤] فَذَلِكَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِأَوَائِلِ الْآيَاتِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَاتِ دَلَائِلُ الْوَحْدَانِيَّةِ الَّتِي فِي دَعْوَةِ رَسُولِهِمْ وَتَذْكِيرُهُمْ بِنِعَمِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ كَقَوْلِهِ: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً [الْأَعْرَاف: ٦٩]، وَقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [الشُّعَرَاء: ١٣٢، ١٣٤].
وَدَلَّ فِعْلُ كانُوا عَلَى أَنَّ التَّكْذِيبَ بِالْآيَاتِ مُتَأَصِّلٌ فِيهِمْ. وَدَلَّتْ صِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَجْحَدُونَ أَنَّ الْجَحْدَ مُتَكَرِّرٌ فِيهِمْ مُتَجَدِّدٌ. وَرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ وَصْفَ عِقَابِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ رِيحًا فَأَشَارَتِ الْفَاءُ إِلَى أَنَّ عِقَابَهُمْ كَانَ مُسَبَّبًا عَلَى حَالَةِ كُفْرِهِمْ بِصِفَتِهَا فَإِنَّ بَاعِثَ كُفْرِهِمْ كَانَ اغْتِرَارَهُمْ بِقُوَّتِهِمْ، فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِمَا لَا يَتَرَقَّبُ النَّاسُ الْهَلَاكَ بِهِ فَإِنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يُؤْبَهُ بِهِ: هُوَ رِيحٌ، لِيُرِيَهُمْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْقُوَّةِ وَأَنَّهُ يَضَعُ الْقُوَّةَ فِي الشَّيْءِ الْهَيِّنِ مِثْلِ الرِّيحِ لِيَكُونَ عَذَابًا وَخِزْيًا، أَيْ تَحْقِيرًا كَمَا قَالَ: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَأَيُّ خِزْيٍ أَشَدُّ مِنْ أَنْ تَتَرَامَاهُمُ الرِّيحُ فِي الْجَوِّ كَالرِّيشِ، وَأَنْ تُلْقِيَهُمْ هَلْكَى عَلَى التُّرَابِ عَنْ بَكْرَةِ أَبِيهِمْ فَيُشَاهِدُهُمُ الْمَارُّونَ
بِقَوْلِهِمْ: لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ [الزخرف: ٧٨] لَا يَنْطَبِقُ عَلَى غَيْرِ الْمُكَذِّبِينَ، أَيْ كَارِهُونَ لِلْإِسْلَامِ وَالْقُرْآنِ، فَذِكْرُ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ شِرْكَهُمْ إِجْرَامٌ.
وَجُمْلَةُ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ عَذابِ جَهَنَّمَ ويُفَتَّرُ مُضَاعَفُ فَتَرَ، إِذَا سَكَنَ، وَهُوَ بِالتَّضْعِيفِ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ. وَالْمَعْنَى: لَا يُفَتِّرُهُ أَحَدٌ.
وَجُمْلَةُ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ.
والإبلاس: الْيَأْسُ وَالذُّلُّ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ: وَزَادَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي معنى الإبلاس قَيْدَ السُّكُوتِ وَلَمْ يَذْكُرْهُ غَيْرُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّ السُّكُوتَ مِنْ لَوَازِم معنى الإبلاس وَلَيْسَ قَيْدًا فِي الْمَعْنى.
[٧٦]
[سُورَة الزخرف (٤٣) : آيَة ٧٦]
وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (٧٦)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ فِي حِكَايَةِ أَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ قُصِدَ مِنْهَا نَفْيُ اسْتِعْظَامِ مَا جُوِّزُوا بِهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي الْعَذَابِ وَنَفْيِ الرِّقَّةِ لِحَالِهِمُ الْمَحْكِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [الزخرف: ٧٥].
وَالظُّلْمُ هُنَا: الِاعْتِدَاءُ، وَهُوَ الْإِصَابَةُ بِضُرٍّ بِغَيْرِ مُوجِبٍ مَشْرُوعٍ أَوْ مَعْقُولٍ، فَنَفْيُهُ عَنِ اللَّهِ فِي مُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ بِتِلْكَ الْمُعَامَلَةِ لِأَنَّهَا كَانَتْ جَزَاءً عَلَى ظُلْمِهِمْ فَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ:
وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ أَيِ الْمُعْتَدِينَ إِذِ اعْتَدَوْا عَلَى مَا أَمَرَ اللَّهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ لَهُ بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ وَلَمَزُوهُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ فِي سُورَةِ لُقْمَانَ [١٣].
وهُمْ ضمير فصل لَا يُطْلَبُ مُعَادًا لِأَنَّهُ لَمْ يُجْتَلَبْ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مُعَادٍ لِوُجُودِ ضَمِيرِ كانُوا دَالًّا عَلَى الْمَعَادِ فَضَمِيرُ الْفَصْلِ مُجْتَلَبٌ لِإِفَادَةِ قَصْرِ صِفَةِ الظُّلْمِ عَلَى اسْمِ (كَانَ)، وَإِذْ قَدْ كَانَ حَرْفُ الِاسْتِدْرَاكِ بَعْدَ النَّفْيِ كَافِيًا فِي إِفَادَةِ

[سُورَة الحجرات (٤٩) : آيَة ١٣]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
انْتِقَالٌ مِنْ وَاجِبَاتِ الْمُعَامَلَاتِ إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يُرَاعِيَهُ الْمَرْءُ فِي نَفْسِهِ، وَأُعِيدَ النِّدَاءُ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْغَرَضِ، إِذْ كَانَ إِعْجَابُ كُلِّ قَبِيلَةٍ بِفَضَائِلِهَا وَتَفْضِيلُ قَوْمِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ فَاشِيًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا تَرَى بَقِيَّتَهُ فِي شِعْرِ الْفَرَزْدَقِ وَجَرِيرٍ، وَكَانُوا يُحَقِّرُونَ بَعْضَ الْقَبَائِلِ مِثْلَ بَاهِلَةَ، وَضُبَيْعَةَ، وَبَنِي عُكْلٍ.
سُئِلَ أَعْرَابِيٌّ: أَتُحِبُّ أَنْ تَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَأَنْتَ بَاهِلِيٌّ فَأَطْرَقَ حِينًا ثُمَّ قَالَ: عَلَى شَرْطِ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَنِّي بَاهِلِيٌّ. فَكَانَ ذَلِكَ يَجُرُّ إِلَى الْإِحَنِ وَالتَّقَاتُلِ وَتَتَفَرَّعُ عَلَيْهِ السُّخْرِيَةُ وَاللَّمْزُ وَالنَّبْزُ وَالظَّنُّ وَالتَّجَسُّسُ وَالِاغْتِيَابُ الْوَارِدَةُ فِيهَا الْآيَاتُ السَّابِقَةُ، فَجَاءَتْ هَذِهِ الْآيَةُ لِتَأْدِيبِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اجْتِنَابِ مَا كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِاقْتِلَاعِ جُذُورِهِ الْبَاقِيَةِ فِي النُّفُوسِ بِسَبَبِ اخْتِلَاطِ طَبَقَاتِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ سَنَةِ الْوُفُودِ إِذْ كَثُرَ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ.
فَعَنْ أَبِي دَاوُدَ أَنَّهُ رَوَى فِي كِتَابِهِ «الْمَرَاسِيلِ» عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَمَرَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي بَيَاضَةَ (مِنَ الْأَنْصَارِ) أَنْ يُزَوِّجُوا أَبَا هِنْدٍ (مَوْلَى بَنِي بَيَاضَةَ قِيلَ اسْمُهُ يَسَارٌ) امْرَأَةً مِنْهُمْ فَقَالُوا: تُزَوِّجُ بَنَاتِنَا مَوَالِيَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً الْآيَةَ.
وَرُوِيَ غَيْرُ ذَلِكَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا.
وَنُودُوا بِعُنْوَانِ النَّاسُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ رَعْيًا لِلْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ هَذَا الْعُنْوَانِ وَبَيْنَ مَا صُدِّرَ بِهِ الْغَرَضُ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَنَّ أَصْلَهُمْ وَاحِدٌ، أَيْ أَنَّهُمْ فِي الْخِلْقَةِ سَوَاءٌ لِيُتَوَسَّلَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ وَالتَّفَاخُرَ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْفَضَائِلِ وَإِلَى أَنَّ التَّفَاضُلَ فِي الْإِسْلَامِ بِزِيَادَةِ التَّقْوَى فَقِيلَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى.
فَمَنْ أَقْدَمَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَكَّةَ دُونَ بَقِيَّةِ السُّورَةِ اغْتَرَّ بِأَنَّ غَالِبَ الْخِطَابِ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا كَانَ فِي الْمَكِّيِّ.
وَالْمُرَادُ بِالذَّكْرِ وَالْأُنْثَى: آدَمُ وَحَوَّاءُ أَبَوَا الْبَشَرِ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا.
وَكُتِبَ أَيُّهَ فِي الْمُصْحَفِ بِهَاءٍ لَيْسَ بَعْدَهَا أَلْفٌ وَهُوَ رَسْمٌ مُرَاعَى فِيهِ حَالَ النُّطْقِ بِالْكَلِمَةِ فِي الْوَصْلِ إِذْ لَا يُوقَفُ عَلَى مِثْلِهِ، فَقَرَأَهَا الْجُمْهُورُ بِفَتْحَةٍ عَلَى الْهَاءِ دُونَ أَلِفٍ فِي حَالَتَيِ الْوَصْلِ وَالْوَقْفِ. وَقَرَأَهَا أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ بِأَلِفٍ بَعْدَ الْهَاءِ فِي الْوَقْفِ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْهَاءِ تَبَعًا لِضَمِّ الْيَاءِ الَّتِي قَبْلَهَا وَهَذَا من الإتباع.
[٣٢]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٣٢]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٣٢)
تَكْرِيرٌ لِنَظَائِرِهِ وَلَيْسَ هُوَ خِطَابًا لِلثَّقَلَيْنِ وَلَا تَذْيِيلًا لِلْجُمْلَةِ الَّتِي قَبِلَهُ إِذْ لَيْسَ فِي الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ ذِكْرُ نِعْمَةٍ عَلَى الثَّقَلَيْنِ بَلْ هِيَ تهديد لَهما.
[٣٣]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٣٣]
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (٣٣)
هَذَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْكَلَامِ السَّابِقِ وَاللَّاحِقِ، وَلَيْسَ خِطَابًا
لِلْإِنْسِ وَالْجِنَّ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَنَقُولُ لَكُمْ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ [الْأَنْعَام: ١٢٨] الْآيَةِ، أَيْ فَنَقُولُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ، وَتقدم فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ.
وَالْمَعْشَرُ: اسْمٌ لِلْجَمْعِ الْكَثِيرِ الَّذِي يُعَدُّ عَشَرَةً عَشَرَةً دُونَ آحَادٍ.
وَهَذَا إِعْلَانٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ فِي قَبْضَةِ اللَّهِ تَعَالَى لَا يَجِدُونَ مَنْجَى مِنْهَا، وَهُوَ تَرْوِيعٌ لِلضَّالِّينَ وَالْمُضِلِّينَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِمَا يَتَرَقَّبُهُمْ من الْجَزَاء السيّء لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ لِجَمْعٍ مُخْتَلِطٍ إِلَّا وَالْمَقْصُودُ أَهْلُ الْجِنَايَةِ مِنْهُمْ فَقَوْلُهُ: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ عَامٌ مُرَادٌ بِهِ الْخُصُوصَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ [الرَّحْمَن: ٣٥] إِلَخْ.
وَالنُّفُوذُ وَالنَّفَاذُ: جَوَازُ شَيْءٍ عَنْ شَيْءٍ وَخُرُوجُهُ مِنْهُ. وَالشَّرْطُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الَّذِي هُوَ جَوَابُ هَذَا الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: فَانْفُذُوا، أَيْ وَأَنْتُمْ لَا تَسْتَطِيعُونَ الْهُرُوبَ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٦٤- سُورَةُ التَّغَابُنِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ التَّغَابُنِ»، وَلَا تُعْرَفُ بِغَيْرِ هَذَا الِاسْمِ وَلَمْ تَرِدْ تَسْمِيَتُهَا بِذَلِكَ فِي خَبَرٍ مَأْثُورٍ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى مَا
ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مِنْ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا وَفِي تَشَابِيكٍ مَكْتُوبٌ خَمْسُ آيَاتٍ فَاتِحَةُ سُورَةِ التَّغَابُنِ»
. وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُنْتَهَى هَذِهِ الْآيَاتِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [التغابن:
٤] فَتَأَمَّلْهُ. وَرَوَاهُ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى التَّعْلِيقِ فَلَعَلَّهُ أَخَذَهُ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ.
وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ وُقُوعُ لفظ التَّغابُنِ [التَّغَابُنِ: ٩] فِيهَا وَلَمْ يَقَعْ فِي غَيْرِهَا مِنَ الْقُرْآنِ.
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ هِيَ مَكِّيَّةٌ. وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ نَزَلَتْ فِي رِجَالٍ أَسْلَمُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ وَأَرَادُوا الْهِجْرَةَ فَأَبَى أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ أَنْ يَدَعُوهُمْ يَأْتُونَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ» الْحَدِيثَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ عَوْفٍ الْأَشْجَعِيِّ كَمَا سَيَأْتِي.
وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّابِعَةُ وَالْمِائَةُ فِي تَرْتِيبِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الصَّفِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ.
وَعدد آيها ثَمَانِي عَشْرَةَ.
الظَّرْفِيَّةِ فَاقْتَضَى الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ وَقْتِ اللَّيْلِ، وَيُعْلَمُ اسْتِثْنَاءُ أَوْقَاتِ قَضَاءِ الضَّرُورَاتِ مِنْ إِغْفَاءٍ بِالنَّوْمِ وَنَحْوِهِ مِنْ ضَرُورَاتِ الْإِنْسَانِ.
وَقِيَامُ اللَّيْلِ لَقَبٌ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ لِلصَّلَاةِ فِيهِ مَا عَدَا صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَرَوَاتِبِهِمَا.
وَأَمْرُ الرَّسُولِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ أَمْرُ إِيجَابٍ وَهُوَ خَاصٌّ بِهِ لِأَنَّ الْخِطَابَ مُوَجَّهٌ إِلَيْهِ وَحْدَهُ مِثْلَ السُّوَرِ الَّتِي سَبَقَتْ نُزُولَ هَذِهِ السُّورَةِ، وَأَمَّا قِيَامُ اللَّيْلِ لِلْمُسْلِمِينَ فَهُمُ اقْتَدَوْا فِيهِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ إِلَى قَوْلِهِ: وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ [المزمل: ٢٠] الْآيَاتِ قَالَ الْجُمْهُورُ وَذَلِكَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فِي أَوْقَاتِ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ وَلَعَلَّ حِكْمَةَ هَذَا الْقِيَامِ الَّذِي فُرِضَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَدْرِ رِسَالَتِهِ هُوَ أَنْ تَزْدَادَ بِهِ سَرِيرَتُهُ زَكَاءً يُقَوِّي اسْتِعْدَادَهُ لِتَلَقِّي الْوَحْيِ حَتَّى لَا يُحْرِجَهُ الْوَحْيُ كَمَا ضَغَطَهُ عِنْدَ نُزُولِهِ كَمَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ: «فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدُ» ثُمَّ قَالَ:
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ
[العلق: ١] الْحَدِيثَ، وَيَدُلُّ لِهَذِهِ الْحِكْمَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَهُ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا [المزمل: ٥].
وَقَدْ كَانَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَحَنَّثُ فِي غَارِ حِرَاءَ قُبَيْلَ بَعْثَتِهِ بِإِلْهَامٍ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، فَالَّذِي أَلْهَمَهُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ يَجْدُرُ بِأَنْ يَأْمُرَهُ بِهِ بَعْدَ أَنْ أَوْحَى إِلَيْهِ فَلَا يَبْقَى فَتْرَةً مِنَ الزَّمَنِ غَيْرَ مُتَعَبِّدٍ لِعِبَادَةٍ، وَلِهَذَا نُرَجِّحُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فُرِضَ عَلَيْهِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأُمَّةِ.
وَقَدِ اسْتَمَرَّ وُجُوبُ قِيَامِ اللَّيْلِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ بِكَثْرَةِ الْإِقْبَالِ عَلَى مُنَاجَاةِ رَبِّهِ فِي وَقْتِ فَرَاغِهِ مِنْ تَبْلِيغِ الْوَحْي وتدبير شؤون الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ وَقْتُ اللَّيْلِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً، أَيْ زِيَادَةَ قُرْبٍ لَكَ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ [الْإِسْرَاءِ: ٧٩].
فَكَانَ هَذَا حُكْمًا خَاصًّا بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ خَصَائِصِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ وَاجِبًا عَلَى غَيْرِهِ وَلَمْ تُفْرَضْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَلَاةٌ قَبْلَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَإِنَّمَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَقْتَدُونَ بِفِعْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُقِرُّهُمْ عَلَى ذَلِكَ فَكَانُوا يَرَوْنَهُ لِزَامًا عَلَيْهِمْ، وَقَدْ أَثْنَى اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ [السَّجْدَة: ١٦]، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: ٢٠] الْآيَةَ،
قَالَتْ عَائِشَةُ: «إِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ
وَإِثْبَاتُ إِمْكَانِ الْبَعْثِ بِنَقْضِ مَا أَحَالَهُ الْمُشْرِكُونَ بِبَيَانِ إِمْكَانِ إِعَادَةِ الْأَجْسَامِ.
وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ التَّذْكِيرُ بِدَقِيقِ صُنْعِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ فِي خَلْقِ الْإِنْسَانِ.
وَالتَّنْوِيهُ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ.
وَصِدْقُ مَا ذُكِرَ فِيهِ مِنَ الْبَعْثِ لِأَنَّ إِخْبَارَ الْقُرْآنِ بِهِ لَمَّا اسْتَبْعَدُوهُ وَمَوَّهُوا عَلَى النَّاسِ بِأَنَّ مَا فِيهِ غَيْرُ صِدْقٍ. وَتَهْدِيدُ الْمُشْركين الَّذين ناوؤا الْمُسْلِمِينَ.
وَتَثْبِيتُ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَعْدُهُ بِأَنَّ اللَّهَ مُنْتَصِرٌ لَهُ غير بعيد.
[١- ٤]
[سُورَة الطارق (٨٦) : الْآيَات ١ إِلَى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
افْتِتَاحُ السُّورَةِ بِالْقَسَمِ تَحْقِيقٌ لِمَا يُقْسِمُ عَلَيْهِ وَتَشْوِيقٌ إِلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سَوَابِقِهَا. وَوَقَعَ الْقَسَمُ بِمَخْلُوقَيْنِ عَظِيمَيْنِ فِيهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَةِ خَالِقِهِمَا هُمَا: السَّمَاءُ، وَالنُّجُومُ، أَوْ نَجْمٌ مِنْهَا عَظِيمٌ مِنْهَا مَعْرُوفٌ، أَوْ مَا يَبْدُو انْقِضَاضُهُ مِنَ الشُّهُبِ كَمَا سَيَأْتِي.
والطَّارِقِ: وَصْفٌ مُشْتَقٌّ مِنَ الطُّرُوقِ، وَهُوَ الْمَجِيءُ لَيْلًا لِأَنَّ عَادَةَ الْعَرَبِ أَنَّ النَّازِلَ بِالْحَيِّ لَيْلًا يَطْرُقُ شَيْئًا مِنْ حَجَرٍ أَوْ وَتِدٍ إِشْعَارًا لِرَبِّ الْبَيْتِ أَنَّ نَزِيلًا نَزَلَ بِهِ لِأَنَّ نُزُولَهُ يَقْضِي بِأَنْ يُضَيِّفُوهُ، فَأَطْلَقَ الطُّرُوقَ عَلَى النُّزُولِ لَيْلًا مَجَازًا مُرْسَلًا فَغَلَبَ الطُّرُوقُ عَلَى الْقُدُومِ لَيْلًا.
وَأُبْهِمَ الْمَوْصُوفُ بِالطَّارِقِ ابْتِدَاءً، ثُمَّ زِيدَ إِبْهَامًا مَشُوبًا بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِ بِقَوْلِهِ: وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ ثُمَّ بَيَّنَ بِأَنَّهُ: النَّجْمُ الثَّاقِبُ لِيَحْصُلَ مِنْ ذَلِكَ مَزِيدُ تَقَرُّرٍ لِلْمُرَادِ بِالْمُقْسَمِ بِهِ وَهُوَ أَنَّهُ مِنْ جِنْسِ النُّجُومِ، شُبِّهَ طُلُوعُ النَّجْمِ لَيْلًا بِطُرُوقِ الْمُسَافِرِ الطَّارِقِ بَيْتًا بِجَامِعِ كَوْنِهِ ظُهُورًا فِي اللَّيْلِ.
وَمَا أَدْراكَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي تَعْظِيمِ الْأَمْرِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:


الصفحة التالية
Icon