بِمِثْلِهِ وَهَذَا هُوَ رَأْيُ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَأَعْيَانِ الْأَشَاعِرَةِ مِثْلِ أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَعَبْدِ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيِّ وَهُوَ الْمَشْهُورُ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ.
وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونُوا قَادِرِينَ عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ مُمْكِنَةً مِنْهُمُ الْمُعَارَضَةُ وَلَكِنَّهُمْ صَرَفَهُمُ اللَّهُ عَنِ التَّصَدِّي لَهَا مَعَ تَوَفُّرِ الدَّوَاعِي عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونُ صَدُّهُمْ عَنْ ذَلِكَ مَعَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ أَمْرًا خَارِقًا لِلْعَادَةِ أَيْضًا وَهُوَ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ، وَهَذَا مَذْهَبٌ مِنْ قَوْلٍ ذَهَبَ إِلَيْهِ فَرِيقٌ وَقَدْ ذَكَرَهُ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيُّ فِي كِتَابِهِ فِي «إِعْجَازِ الْقُرْآنِ» وَلَمْ يُعَيِّنْ لَهُ قَائِلًا وَقد نسبه التفتازانيّ فِي كِتَابِ «الْمَقَاصِدِ» إِلَى الْقَائِلِينَ إِنَّ الْإِعْجَازَ بِالصِّرْفَةِ (١) وَهُوَ قَوْلُ النَّظَّامِ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَكَثِيرٍ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَنَسَبَهُ الْخَفَاجِيُّ إِلَى أَبِي إِسْحَاقَ الْإِسْفَرَائِينِيِّ وَنَسَبَهُ عِيَاضٌ إِلَى أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ الشَّرِيفُ الْمُرْتَضَى مِنَ الشِّيعَةِ كَمَا فِي
«الْمَقَاصِدِ» وَهُوَ مَعَ كَوْنِهِ كَافِيًا فِي أَنَّ عَجْزَهُمْ عَلَى الْمُعَارَضَةِ بِتَعْجِيزِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ هُوَ مَسْلَكٌ ضَعِيفٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ تَفْصِيلًا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ.
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الْعَرَبِ لِلْمُعَارَضَةِ تَعَاجُزًا لَا عَجْزًا؟ وَبعد فَمن آمننا أَنْ يَكُونَ الْعَرَبُ قَدْ عَارَضُوا الْقُرْآنَ وَلَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا مَا عَارَضُوا بِهِ؟ قُلْتُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُهُمْ ذَلِكَ تَعَاجُزًا فَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُعِثَ فِي أُمَّةٍ مُنَاوِئَةٍ لَهُ مُعَادِيَةٍ لَا كَمَا بُعِثَ مُوسَى فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُوَالِينَ مُعَاضِدِينَ لَهُ وَمُشَايِعِينَ فَكَانَتِ الْعَرَبُ قاطبة مُعَارضَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ كَذَّبُوهُ وَلَمَزُوهُ بِالْجُنُونِ وَالسِّحْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمْ يَتِّبِعْهُ مِنْهُمْ إِلَّا نفر قَلِيل مستضعفين بَيْنَ قَوْمِهِمْ لَا نَصِيرَ لَهُمْ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ ثُمَّ كَانَ مِنْ أَمْرِ قَوْمِهِ أَنْ قَاطَعُوهُ ثُمَّ أَمَرُوهُ بِالْخُرُوجِ بَيْنَ هَمٍّ بِقَتْلِهِ وَاقْتِصَارٍ عَلَى إِخْرَاجِهِ كُلُّ هَذَا ثَبَتَ عَنْهُمْ فِي أَحَادِيثِهِمْ وَأَقْوَالِهِمُ الْمَنْقُولَةِ نَقْلًا يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُنَا عَلَيْهِ عَلَى الْكَذِبِ وَدَامُوا عَلَى مُنَاوَأَتِهِ بَعْدَ خُرُوجِهِ كَذَلِكَ يَصُدُّونَهُ عَنِ الْحَجِّ وَيَضْطَهِدُونَ أَتْبَاعَهُ إِلَى آخِرِ مَا عُرِفَ فِي التَّارِيخِ وَالسِّيَرِ وَلَمْ تَكُنْ تِلْكَ الْمُنَاوَأَةُ فِي أَمَدٍ قَصِيرٍ يُمْكِنُ فِي خِلَالِهِ كَتْمُ الْحَوَادِثِ وَطَيُّ نَشْرِ الْمُعَارَضَةِ فَإِنَّهَا مُدَّةُ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ.
_________
(١) وَقعت كلمة الصرفة فِي عِبَارَات الْمُتَكَلِّمين وَمِنْهُم أَبُو بكر الباقلاني فِي كِتَابه «إعجاز الْقُرْآن» وَلم أر من ضبط الصَّاد مِنْهُ فَيجوز أَن يكون صَاده مَفْتُوحًا على زنة الْمرة مرَادا بهَا مُطلق وجود الصّرْف وَالْأَظْهَر أَن يكون الصَّاد مَقْصُورا على صِيغَة الْهَيْئَة أَي حرفا مَخْصُوصًا بقدرة الله ويشعر بِهَذَا قَول الباقلاني فِي كتاب «إعجاز الْقُرْآن» صرفهم الله عَنهُ ضربا من الصّرْف.
لُقْمَانُ الْعَادِيُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ وَلَدُ عَادِ بْنِ عَوْصِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ، وَهُوَ غَيْرُ لُقْمَانَ الْحَكِيمِ، وَالْعَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ لُقْمَانَ كَانَ أَكْثَرَ النَّاسِ لَعِبًا بِالْمَيْسِرِ حَتَّى قَالُوا فِي الْمَثَلِ «أَيْسَرُ مِنْ لُقْمَانَ» وَزَعَمُوا أَنَّهُ كَانَ لَهُ ثَمَانِيَةُ أَيْسَارٍ لَا يُفَارِقُونَهُ (١) هُمْ مِنْ سَادَةِ عَادٍ وَأَشْرَافِهِمْ، وَلِذَلِكَ يُشَبِّهُونَ أَهْلَ الْمَيْسِرِ إِذَا كَانُوا مِنْ أَشْرَافِ الْقَوْمِ بِأَيْسَارِ لُقْمَانَ قَالَ طَرَفَةُ بْنُ الْعَبْدِ:
وَهُمْ أَيْسَارُ لُقْمَانَ إِذَا | أَغْلَتِ الشَّتْوَةُ أَبْدَاءَ الْجُزُرْ |
وَصِفَةُ الْمَيْسِرِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَجْعَلُونَ عَشْرَةَ قِدَاحٍ جَمْعُ قِدْحٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ السَّهْمُ الَّذِي هُوَ أَصْغَرُ مِنَ النِّبْلِ وَمِنَ السَّهْمِ فَهُوَ سَهْمٌ صَغِيرٌ مِثْلُ السِّهَامِ الَّتِي تَلْعَبُ بِهَا الصِّبْيَانُ وَلَيْسَ فِي رَأْسِهِ سِنَانٌ وَكَانُوا يسمونها الخطاء جَمْعُ حُظْوَةٍ وَهِيَ السَّهْمُ الصَّغِيرُ وَكُلُّهَا مِنْ قَصَبِ النَّبْعِ، وَهَذِهِ الْقِدَاحُ هِيَ: الْفَذُّ، وَالتَّوْأَمُ، وَالرَّقِيبُ، وَالْحِلْسُ، وَالنَّافِسُ، وَالْمُسْبِلُ، وَالْمُعَلَّى، وَالسَّفِيحُ، وَالْمَنِيحُ، وَالْوَغْدُ، وَقِيلَ النَّافِسُ هُوَ الرَّابِعُ وَالْحِلْسُ خَامِسٌ، فَالسَّبْعَةُ الْأُوَلُ لَهَا حُظُوظٌ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى سَبْعَةٍ عَلَى تَرْتِيبِهَا، وَالثَّلَاثَةُ الْأَخِيرَةُ لَا حُظُوظَ لَهَا وَتُسَمَّى أَغْفَالًا جَمْعُ غُفْلٍ بِضَمِّ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَهُوَ الَّذِي أُغْفِلَ مِنَ الْعَلَامَةِ، وَهَذِهِ العلامات خطوط من وَاحِدٌ إِلَى سَبْعَةٍ (كَأَرْقَامِ الْحِسَابِ الرُّومَانِيِّ إِلَى الْأَرْبَعَةِ)، وَقَدْ خَطُّوا الْعَلَامَاتِ عَلَى الْقِدَاحِ ذَاتِ الْعَلَامَاتِ بِالشَّلْطِ فِي الْقَصَبَةِ أَوْ بِالْحَرْقِ بِالنَّارِ فَتُسَمَّى الْعَلَامَةُ حِينَئِذٍ قَرْمَةً، وَهَذِهِ الْعَلَامَاتُ تُوضَعُ فِي أَسَافِلِ الْقِدَاحِ. فَإِذَا أَرَادُوا التَّقَامُرَ اشْتَرَوْا جَزُورًا بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ إِلَى مَا بَعْدَ التَّقَامُرِ وَقَسَّمُوهُ أَبِدَاءً أَيْ أَجْزَاءً إِلَى ثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا أَوْ إِلَى عَشَرَةِ أَجْزَاءٍ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَ الْأَصْمَعِيِّ وَأَبِي عُبَيْدَةَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ لِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ طَرِيقَتَيْنِ فَلِذَلِكَ اخْتَلَفَ الْأَصْمَعِيُّ وَأَبُو عُبَيْدَةَ، ثُمَّ يَضَعُونَ تِلْكَ الْقِدَاحَ فِي خَرِيطَةٍ مِنْ جِلْدٍ تُسَمَّى
الرِّبَابَةَ بِكَسْرِ الرَّاءِ هِيَ مِثْلُ كِنَانَةِ النِّبَالِ وَهِيَ وَاسِعَةٌ لَهَا مَخْرَجٌ ضَيِّقٌ يَضِيقُ عَنْ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ قِدْحَانِ أَوْ ثَلَاثَةٌ، وَوَكَّلُوا بِهَذِهِ الرِّبَابَةِ رَجُلًا يُدْعَى عِنْدَهُمُ الْحُرْضَةَ وَالضَّرِيبَ وَالْمُجِيلَ، وَكَانُوا يُغَشُّونَ عَيْنَيْهِ بِمَغْمَضَةٍ، وَيَجْعَلُونَ عَلَى يَدَيْهِ خِرْقَةً بَيْضَاءَ يُسَمُّونَهَا الْمِجْوَلَ يَعْصِبُونَهَا عَلَى يَدَيْهِ أَوْ جِلْدَةً رَقِيقَةً يُسَمُّونَهَا السُّلْفَةَ بِضَمِّ السِّينِ وَسُكُون اللَّام، ويلتحق هَذَا الْحُرْضَةُ بِثَوْبٍ يُخْرِجُ رَأْسَهُ مِنْهُ ثُمَّ يَجْثُو عَلَى رُكْبَتَيْهِ
_________
(١) هم: بيض، وحممة، وطفيل، وذفافة، وَمَالك، وفرعة، وثميل، وعمّار.
بِصِفَةِ النُّبُوءَةِ. وَقِصَّةُ ابْنَيْ آدَمَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ آدَمَ بَلَّغَ لِأَبْنَائِهِ شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِيهَا إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ [الْمَائِدَة: ٢٧- ٢٩].
فَالَّذِي نَعْتَمِدُهُ أَنَّ الَّذِي يُنْكِرُ نُبُوءَةَ مُعَيَّنٍ مِمَّنْ سُمِّيَ فِي الْقُرْآنِ فِي عِدَادِ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ وَسُورَةِ هُودٍ وَسُورَةِ الْأَنْعَامِ وَسُورَةِ مَرْيَمَ، وَكَانَ الْمُنْكَرُ مُحَقَّقًا عِلْمُهُ بِالْآيَةِ الَّتِي وُصِفَ فِيهَا بِأَنَّهُ نَبِيءٌ وَوَقَفَ عَلَى دَلِيلِ صِحَّةِ مَا أَنْكَرَهُ وَرُوجِعَ فَصَمَّمَ عَلَى إِنْكَارِهِ، إِنَّ ذَلِكَ الْإِنْكَارَ يَكُونُ كُفْرًا لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَعْلُومًا بِالضَّرُورَةِ بَعْدَ التَّنْبِيهِ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَعْتَذِرَ بِجَهْلٍ أَوْ تَأْوِيلٍ مَقْبُولٍ.
وَاعْلَمْ أَنِّي تَطَلَّبْتُ كَشْفَ الْقِنَاعِ عَنْ وَجْهِ الِاقْتِصَارِ عَلَى تَسْمِيَةِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَوْ ذُرِّيَّةِ نُوحٍ، (عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي مُعَادِ ضَمِيرِ ذُرِّيَّتِهِ). فَلَمْ يَتَّضِحْ لِي وَتَطَلَّبْتُ وَجْهَ تَرْتِيبِ أَسْمَائِهِمْ هَذَا التَّرْتِيبَ، وَمُوَالَاةِ بَعْضِ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِبَعْضٍ فِي الْعَطْفِ فَلَمْ يَبْدُ لِي، وَغَالِبُ ظَنِّي أَنَّ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ كَون هَؤُلَاءِ معروفون لِأَهْلِ الْكِتَابِ وَلِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَقْتَبِسُونَ مَعْرِفَةَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَنَّ الْمُنَاسَبَةَ فِي تَرْتِيبِهِمْ لَا تَخْلُو مِنْ أَنْ تَكُونَ نَاشِئَةً عَنِ الِابْتِدَاءِ بِذِكْرِ أَنَّ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَوْهِبَةٌ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُمَا أَبٌ وَابْنُهُ، فَنَشَأَ الِانْتِقَالُ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ بِمُنَاسَبَةٍ لِلِانْتِقَالِ، وَأَنَّ تَوْزِيعَ أَسْمَائِهِمْ عَلَى فَوَاصِلَ ثَلَاثٍ لَا يَخْلُو عَنْ مُنَاسَبَةٍ تَجْمَعُ بَيْنَ أَصْحَابِ تِلْكَ الْأَسْمَاءِ فِي الْفَاصِلَةِ الشَّامِلَةِ لِأَسْمَائِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنَّ خِفَّةَ أَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ فِي تَعْرِيبِهَا إِلَى الْعَرَبِيَّةِ حُرُوفًا وَوَزْنًا لَهَا أَثَرٌ فِي إِيثَارِهَا بِالذِّكْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنَ الْأَسْمَاءِ نَحْوُ (شَمْعُونَ وَشَمْوِيلَ وَحِزْقيَالَ وَنَحْمِيَا)، وَأَنَّ الْمَعْدُودِينَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الثَّلَاثِ تَوَزَّعُوا الْفَضَائِلَ إِذْ مِنْهُمُ الرُّسُلُ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالْمُلُوكُ وَأَهْلُ
الْأَخْلَاقِ الْجَلِيلَةِ الْعَزِيزَةِ مِنَ الصَّبْرِ وَجِهَادِ النَّفْسِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُصَابَرَةِ
تَعَالَى: إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٠٢] وَقَوله: وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٧١].
وَالْمُرَادُ هُنَا أَنْ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ انْتِفَاءَ والفتنة غَايَةً لِقِتَالِهِمْ، وَكَانَ قِتَالُهُمْ مَقْصُودًا مِنْهُ إِعْدَامُهُمْ أَوْ إِسْلَامُهُمْ، وَبِأَحَدِ هَذَيْنِ يَكُونُ انْتِفَاءُ الْفِتْنَةِ، فَنَتَجَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْفِتْنَةَ الْمُرَادَ نَفْيُهَا كَانَتْ حَاصِلَةً مِنْهُمْ وَهِيَ فِتْنَتُهُمُ الْمُسْلِمِينَ لَا مَحَالَةَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَفْتِنُونَ مَنْ خَالَفَهُمْ فِي الدِّينِ فَإِذَا أَسْلَمُوا حَصَلَ انْتِفَاءُ فِتْنَتِهِمْ وَإِذَا أَعْدَمَهُمُ اللَّهُ فَكَذَلِكَ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إِلَيْهِ جُمْهُورُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ وَاجِبٌ حَتَّى يُسْلِمُوا، وَأَنَّهُمْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةُ، وَلِذَلِكَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى هُنَا: حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ- وَقَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى- قاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [التَّوْبَة: ٢٩].
وَهِيَ أَيْضًا دَالَّةٌ عَلَى مَا رَآهُ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ مُؤَرِّخِينَا: مِنْ أَنَّ قِتَالَ الْمُسْلِمِينَ الْمُشْرِكِينَ إِنَّمَا كَانَ أَوَّلُهُ دِفَاعًا لِأَذَى الْمُشْرِكِينَ ضُعَفَاءَ الْمُسْلِمِينَ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِمْ حَيْثُمَا حَلُّوا، فَتِلْكَ الْفِتْنَةُ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا الْقُرْآنُ وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ [الْبَقَرَة: ١٩١].
وَالتَّعْرِيفُ فِي الدِّينُ لِلْجِنْسِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ زِيدَ فِيهَا اسْمُ التَّأْكِيدِ وَهُوَ كُلُّهُ وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَسْبَقُ نُزُولًا مِنْ آيَةِ الْبَقَرَةِ فَاحْتِيجَ فِيهَا إِلَى تَأْكِيدِ مُفَادِ صِيغَةِ اخْتِصَاصِ جِنْسِ الدِّينِ بِأَنَّهُ لِلَّهِ تَعَالَى، لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ الِاقْتِنَاعُ بِإِسْلَامِ غَالِبِ الْمُشْرِكِينَ فَلَمَّا تَقَرَّرَ مَعْنَى الْعُمُومِ وَصَارَ نَصًّا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَدَلَ عَنْ إِعَادَتِهِ فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ تَطَلُّبًا لِلْإِيجَازِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أَيْ عَلِيمٌ كِنَايَةً عَنْ حُسْنِ مُجَازَاتِهِ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ
الْقَادِرَ عَلَى نَفْعِ أَوْلِيَائِهِ وَمُطِيعِيهِ لَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ إِيصَالِ النَّفْع إِلَيْهِم الْإخْفَاء حَالِ مَنْ يُخْلَصُ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أُخْبِرُوا بِأَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَى انْتِهَائِهِمْ عَنِ الْكُفْرِ إِنِ انْتَهَوْا عَنْهُ وَكَانَ ذَلِكَ لَا يُظَنُّ خِلَافُهُ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ لَازِمُ ذَلِكَ.
مِنْ ذِكْرِ النَّاسِ بِالْأَصَالَةِ، وَلَا مُقْتَضَى لِلْعُدُولِ عَنْهُ هُنَا بَلِ الْأَمْرُ بِالْعَكْسِ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ الْقُرْآنِ وَأَنَّهُ يَنْزِلُ بِالْحَقِّ لَا بِهَوَى الْأَنْفُسِ.
وَالنَّاسُ: اسْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يَبْلُغُهُ الْقُرْآنُ فِي سَائِرِ الْعُصُورِ الْمُسْتَقْبَلَةِ، وَالْمَقْصُودُ عَلَى الْخُصُوصِ الْمُشْرِكُونَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا، فَوِزَانُهُ وِزَانُ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً [الْإِسْرَاء: ٨٩]، وَسَيَجِيءُ قَوْلُهُ: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ [الْكَهْف: ٥٦]. وَهَذَا يُشْبِهُ الْعَامَّ الْوَارِدَ عَلَى سَبَبٍ خَاصٍّ وَقَرَائِنَ خَاصَّةٍ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا تَذْيِيلٌ، وَهُوَ مُؤْذِنٌ بِكَلَامٍ مَحْذُوفٍ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَازِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَجَادَلُوا فِيهِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ جَدَلًا، فَإِنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ لِنَوْعِ بَنِي آدَمَ، وَحَرْفُ (أَلْ) فِيهِ لِتَعْرِيفِ الْحَقِيقَةِ فَهُوَ أَوْسَعُ عُمُومًا مِنْ لَفْظِ النَّاسِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ جَادَلُوا. وَالْجِدَالُ: خُلُقٌ، مِنْهُ ذَمِيمٌ يَصُدُّ عَنْهُ تَأْدِيبُ الْإِسْلَامِ وَيَبْقَى فِي خُلُقِ الْمُشْرِكِينَ،
وَمِنْهُ مَحْمُودٌ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ [هود: ٧٤- ٧٥]، فَأَشَارَ بِالثَّنَاءِ عَلَى إِبْرَاهِيمَ إِلَى أَنَّ جِدَالَهُ مَحْمُودٌ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْإِنْسَانَ الْكَافِرَ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا [مَرْيَم: ٦٦] وَلَا الْمُرَادُ بِالْجَدَلِ الْجَدَلَ بِالْبَاطِلِ، لِأَنَّ هَذَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ الْآيَةَ، فَقَوْلُهُ هُنَا: وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ [الْكَهْف: ٥٦].
وَ (شَيْءٌ) اسْمٌ مُفْرَدٌ مُتَوَغِّلٌ فِي الْعُمُومِ. وَلِذَلِكَ صَحَّتْ إِضَافَةُ اسْمِ التَّفْضِيلِ إِلَيْهِ، أَيْ أَكْثَرُ الْأَشْيَاءِ. وَاسْمُ التَّفْضِيلِ هُنَا مَسْلُوبُ الْمُفَاضَلَةِ مِثْلُ قَوْلِهِ: رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يُوسُف: ٣٣]، وَإِنَّمَا أُتِيَ بِصِيغَتِهِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ فِي شِدَّةِ جَدَلِ الْإِنْسَانِ وَجُنُوحِهِ إِلَى الْمُمَارَاةِ وَالنِّزَاعِ حَتَّى فِيمَا تَرْكُ الْجِدَالِ فِي شَأْنِهِ أَحْسَنُ، بِحَيْثُ إِنَّ شِدَّةَ الْوَصْفِ فِيهِ تُشْبِهُ تَفَوُّقَهُ فِي الْوَصْفِ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْرِضُ أَنَّهُ مَوْصُوفٌ بِهِ.
الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ، وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُؤَاخِذُ أَهْلَ الْفَتْرَةِ عَلَى الْإِشْرَاكِ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِمْ رَسُولًا، وَأَنَّ قُرَيْشًا كَانُوا أَهْلَ فَتْرَةٍ قَبْلَ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَمَعْنَى لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ يَوْمَ الْحِسَابِ بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ الْإِهْلَاكَ الْمَفْرُوضَ، لِأَنَّ الْإِهْلَاكَ بِعَذَابِ الدُّنْيَا يَقْتَضِي أَنَّهُمْ مُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ.
وَ (لَوْلَا) حَرْفُ تَحْضِيضٍ، مُسْتَعْمَلٌ فِي اللَّوْمِ أَوِ الِاحْتِجَاجِ لِأَنَّهُ قَدْ فَاتَ وَقْتُ الْإِرْسَالِ، فَالتَّقْدِيرُ: هَلَّا كُنْتَ أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا وَانْتَصَبَ فَنَتَّبِعَ عَلَى جَوَابِ التَّحْضِيضِ بِاعْتِبَارِ تَقْدِيرِ حُصُولِهِ فِيمَا مَضَى.
وَالذُّلُّ: الْهَوَانُ. وَالْخِزْيُ: الِافْتِضَاحُ، أَيِ الذُّلُّ بِالْعَذَابِ. وَالْخِزْيُ فِي حَشْرِهِمْ مَعَ الْجُنَاةِ كَمَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ- عَلَيْهِ السَّلَامُ- وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: ٨٧].
[١٣٥]
[سُورَة طه (٢٠) : آيَة ١٣٥]
قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (١٣٥)
جَوَابٌ عَنْ قَوْلِهِمْ لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ [طه: ١٣٣] وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ.
وَالْمَعْنَى: كُلُّ فَرِيقٍ مُتَرَبِّصٌ فَأَنْتُمْ تَتَرَبَّصُونَ بِالْإِيمَانِ، أَيْ تُؤَخِّرُونَ الْإِيمَانَ إِلَى أَنْ تَأْتِيَكُمْ آيَةٌ مِنْ رَبِّي، وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ أَنْ يَأْتِيَكُمْ عَذَابُ الدُّنْيَا أَوْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، وَتُفَرَّعُ عَلَيْهِ جُمْلَةُ فَتَرَبَّصُوا. وَمَادَّةُ الْفِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي الدَّوَامِ بِالْقَرِينَةِ، نَحْوَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦]، أَي فداوموا عَلَى تَرَبُّصِكُمْ.
فِي رِوَايَةِ الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِهِ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي «الْكَافِي» :«وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا مَنْ يَرَى السُّجُودَ فِي الثَّانِيَةِ مِنَ الْحَجِّ قَالَ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ». وَتَحْصِيلُ مَذْهَبِهِ أَنَّهَا إِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ»، فَلَمْ يَنْسِبْهُ إِلَى مَالِكٍ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَكَذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ فِي «الْمُقَدِّمَاتِ» : فَمَا نَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الْمَدَنِيِّينَ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ غَرِيبٌ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ مِشْرَحٍ (١) عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ لِأَنَّ فِيهَا سَجْدَتَيْنِ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْهُمَا فَلَا يَقْرَأْهُمَا»
اه. قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ إِسْنَادُهُ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ اه، أَيْ مِنْ أَجْلِ أَنَّ ابْنَ لَهِيعَةَ ضَعَّفَهُ يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، وَقَالَ مُسْلِمٌ: تَرَكَهُ وَكِيعٌ، وَالْقَطَّانُ، وَابْنُ مَهْدِيٍّ. وَقَالَ أَحْمَدُ:
احْتَرَقَتْ كُتُبُهُ فَمَنْ رَوَى عَنْهُ قَدِيمًا (أَيْ قَبْلَ احْتِرَاقِ كُتُبِهِ) قُبِلَ.
[٧٨]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٧٨]
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ
الْجِهَادُ بِصِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ حَقِيقَةٌ عُرْفِيَّةٌ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ لِأَجْلِ إِعْلَاءِ كَلِمَةِ الْإِسْلَامِ أَوْ لِلدَّفْعِ عَنْهُ كَمَا
فَسَّرَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
. وَأَنَّ مَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ حِينَ قَفَلَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ»
، وَفَسَّرَهُ لَهُمْ بِمُجَاهَدَةِ الْعَبْدِ هَوَاهُ (٢)، فَذَلِكَ
_________
(١) مشرح- بميم مَكْسُورَة فشين مُعْجمَة سَاكِنة هُوَ ابْن عاهان الْمعَافِرِي تَابِعِيّ توفى سنة ١٢٠ هـ.
(٢) رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ عَن جَابر بن عبد الله بِسَنَد ضَعِيف.
حَذْفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي سَمَّاهُ السَّكَّاكِيُّ الْحَذْفُ الْجَارِي عَلَى مُتَابَعَةِ الِاسْتِعْمَالِ فِي أَمْثَالِهِ.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ إِذَا أَجْرَوْا حَدِيثًا عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ أَخْبَرُوا عَنْهُ الْتَزَمُوا حَذْفَ ضَمِيرِهِ الَّذِي هُوَ مُسْنَدٌ إِلَيْهِ إِشَارَةً إِلَى التَّنْوِيهِ بِهِ كَأَنَّهُ لَا يَخْفَى كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ الصُّولِيِّ، أَوْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ أَوْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْكَاتِبِ، وَهِيَ مِنْ أَبْيَاتِ الْحَمَاسَةِ فِي بَابِ الْأَضْيَافِ:
سَأَشْكُرُ عَمْرًا إِنْ تَرَاخَتْ مَنِيَّتِي | أَيَادِيَ لَمْ تَمْنُنْ وَإِنْ هِيَ جَلَّتِ |
فَتًى غَيْرُ مَحْجُوبِ الْغِنَى عَنْ صَدِيقِهِ | وَلَا مُظْهِرِ الشَّكْوَى إِذِ النَّعْلُ زَلَّتِ |
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَخَلَفٌ بِنَصْبِ تَنْزِيلَ عَلَى تَقْدِيرِ: أَعْنِي. وَالْمَعْنَى: أَعْنِي مِنْ قَسَمِي قُرْآنًا نَزَّلْتُهُ، وَتِلْكَ الْعِنَايَةُ زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِهِ وَهِيَ تُعَادِلُ حَذْفَ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ الَّذِي فِي قِرَاءَةِ الرَّفْعِ.
وَالتَّنْزِيلُ: مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ أُخْبِرَ عَنْهُ بِالْمَصَدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي تَحْقِيقِ كَوْنِهِ مُنَزَّلًا.
وَأُضِيفَ التَّنْزِيلُ إِلَى اللَّهِ بِعُنْوَانِ صِفَتَيِ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ لِأَنَّ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ لَا يَعْدُو أَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ عِزَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَا فِيهِ مِنْ حَمْلِ النَّاسِ عَلَى الْحَقِّ وَسُلُوكِ طَرِيقِ الْهُدَى دُونَ مُصَانَعَةٍ وَلَا ضَعْفٍ مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْإِنْذَارِ وَالْوَعِيدِ عَلَى الْعِصْيَانِ وَالْكُفْرَانِ.
وَأَنْ يَكُونَ مِنْ آثَارِ رَحْمَتِهِ وَهُوَ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَصْبِ الْأَدِلَّةِ وَتَقْرِيبِ الْبَعِيدِ وَكَشْفِ
الْحَقَائِقِ لِلنَّاظِرِينَ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ الْبِشَارَةِ لِلَّذِينِ يَكُونُونَ عِنْدَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ مَا وَرَدَ بَيَانُهُ بَعْدُ إِجْمَالًا مِنْ قَوْلِهِ: لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ، [يس: ٦] ثُمَّ تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ [يس: ٧] وَبِقَوْلِهِ: إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ [يس: ١١].
فَاللَّامُ فِي لِتُنْذِرَ مُتَعَلِّقَةٌ بِ تَنْزِيلَ وَهِيَ لَامُ التَّعْلِيلِ تَعْلِيلًا لِإِنْزَالِ الْقُرْآنِ.
وَاقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْذَارِ لِأَنَّ أَوَّلَ مَا ابْتُدِئَ بِهِ الْقَوْمُ مِنَ التَّبْلِيغِ إِنْذَارُهُمْ جَمِيعًا بِمَا
أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ لَا يَدْعُونَ اللَّهَ إِلَّا فِي نَادِرِ الْأَوْقَاتِ، وَهِيَ أَوْقَاتُ الِاضْطِرَارِ، ثُمَّ يُشْرِكُونَ بِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا اهْتِمَامَ لَهُمْ إِلَّا بِعَاجِلِ الدُّنْيَا لَا يَحْذَرُونَ الْآخِرَةَ وَلَا يَرْجُونَ ثَوَابَهَا.
وَالرَّجَاءُ وَالْخَوْف مِنْ مَقَامَاتِ السَّالِكِينَ، أَيْ أَوْصَافِهِمُ الثَّابِتَةِ الَّتِي لَا تَتَحَوَّلُ.
وَالرَّجَاءُ: انْتِظَارُ مَا فِيهِ نَعِيمٌ وَمُلَاءَمَةٌ لِلنَّفْسِ. وَالْخَوْفُ: انْتِظَارُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ لِلنَّفْسِ.
وَالْمُرَادُ هُنَا: الْمُلَاءَمَةُ الْأُخْرَوِيَّةُ لِقَوْلِهِ: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ، أَيْ يَحْذَرُ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَتَعَيَّنَ أَنَّ الرَّجَاءَ أَيْضًا الْمَأْمُولَ فِي الْآخِرَةِ. وَلِلْخَوْفِ مَزِيَّتُهُ مِنْ زَجْرِ النَّفْسِ عَمَّا لَا يُرْضِي اللَّهَ، وَلِلرَّجَاءِ مَزِيَّتُهُ مِنْ حَثِّهَا عَلَى مَا يُرْضِي اللَّهَ وَكِلَاهُمَا أَنِيسُ السَّالِكِينَ.
وَإِنَّمَا يَنْشَأُ الرَّجَاءُ عَلَى وُجُودِ أَسْبَابِهِ لِأَنَّ الْمَرْءَ لَا يَرْجُو إِلَّا مَا يَظُنُّهُ حَاصِلًا وَلَا يَظُنُّ
الْمَرْءُ أَمْرًا إِلَّا إِذَا لَاحَتْ لَهُ دَلَائِلُهُ وَلَوَازِمُهُ، لِأَنَّ الظَّنَّ لَيْسَ بِمُغَالَطَةٍ وَالْمَرْءُ لَا يُغَالِطُ نَفْسَهُ، فَالرَّجَاءُ يَتْبَعُ السَّعْيَ لِتَحْصِيلِ الْمَرْجُوِّ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً [الْإِسْرَاء: ١٩] فَإِنَّ تَرَقُّبَ الْمَرْءِ الْمَنْفَعَةَ مِنْ غَيْرِ أَسْبَابِهَا فَذَلِكَ التَّرَقُّبُ يُسَمَّى غُرُورًا.
وَإِنَّمَا يَكُونُ الرَّجَاءُ أَوِ الْخَوْفُ ظَنًّا مَعَ تَرَدُّدٍ فِي الْمَظْنُونِ، أَمَّا الْمَقْطُوعُ بِهِ فَهُوَ الْيَقِينُ وَالْيَأْسُ وَكِلَاهُمَا مَذْمُومٌ قَالَ تَعَالَى: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ [الْأَعْرَاف:
٩٩]، وَقَالَ: إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ [يُوسُف: ٨٧].
وَقَدْ بَسَطَ ذَلِكَ حُجَّةُ الْإِسْلَامِ أَبُو حَامِدٍ فِي كِتَابِ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ مِنْ كِتَابِ «الْإِحْيَاءِ». وَلِلَّهِ دَرُّ أَبِي الْحَسَنِ التِّهَامِيِّ إِذْ يَقُولُ:
وَإِذَا رَجَوْتَ الْمُسْتَحِيلَ فَإِنَّمَا | تَبْنِي الرَّجَاءَ عَلَى شَفِيرٍ هَارِ |
وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرين أُرِيد بِمن هُوَ قانِتٌ أَبُو بَكْرٍ، وَقِيلَ عَمَّارُ بْنُ
قَبْلَ أَنْ يَحُثَّهُمُ الْعِلْمُ فَلَمَّا اسْتُفِيدَ ذَلِكَ بِالِاسْتِثْنَاءِ صَارَ الِاخْتِلَافُ ثَابِتًا وَمَا عَدَا ذَلِكَ غَيْرُ مَنْفِيٍّ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ خَبَرَهُمُ الْعَجِيبُ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي نَفْسِ سَامِعِهِ عَنْ جَزَاءِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى فِعْلِهِمْ، وَهَذَا جَوَابٌ فِيهِ إِجْمَالٌ لِتَهْوِيلِ مَا سَيُقْضَى بِهِ بَيْنَهُمْ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِأَنَّ الْخِلَافَ يَقْتَضِي مُحِقًّا وَمُبْطِلًا.
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فِي سُورَة يُونُس [٩٣].
[١٨، ١٩]
[سُورَة الجاثية (٤٥) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (١٨) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (١٩)
ثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ كَمَا هُوَ شَأْنُهَا فِي عَطْفِ الْجُمَلِ، وَلَوْلَا إِرَادَةُ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ لَكَانَتِ الْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً بِالْوَاوِ. وَهَذَا التَّرَاخِي يُفِيدُ أَنَّ مَضْمُونَ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفَةِ بِحَرْفِ ثُمَّ أَهَمُّ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهَا أَهَمِّيَّةُ الْغَرَضِ عَلَى الْمُقَدِّمَةِ وَالنَّتِيجَةُ عَلَى الدَّلِيلِ. وَفِي هَذَا التَّرَاخِي تَنْوِيهٌ بِهَذَا الْجَعْلِ وَإِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إِيتَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكتاب وَالْحكم والنبوءة وَالْبَيِّنَاتِ من الْأَمر، فنبوءة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابُهُ وَحُكْمُهُ وَبَيِّنَاتُهُ
أَفْضَلُ وَأَهْدَى مِمَّا أُوتِيهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ.
وعَلى لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمَجَازِيِّ، أَيِ التَّمَكُّنِ وَالثَّبَاتِ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ [الْبَقَرَة: ٥].
وَتَنْوِينُ شَرِيعَةٍ لِلتَّعْظِيمِ بِقَرِينَةِ حَرْفِ التَّرَاخِي الرُّتْبِيِّ.
[سُورَة الذاريات (٥١) : الْآيَات ١٥ إِلَى ١٩]
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٥) آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (١٦) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (١٧) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (١٨) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (١٩)اعْتِرَاضٌ قَابَلَ بِهِ حَالَ الْمُؤْمِنِينَ فِي يَوْمِ الدِّينِ جَرَى عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي اتِّبَاعِ النِّذَارَةِ بِالْبِشَارَةِ، وَالتَّرْهِيبِ بِالتَّرْغِيبِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ نَظِيرُ قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ [٥١، ٥٢] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ.
وَجَمَعَ جَنَّاتٍ بِاعْتِبَارِ جَمْعِ الْمُتَّقِينَ وَهِيَ جَنَّاتٌ كَثِيرَةٌ مُخْتَلِفَةٌ
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهَا لِجِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ لَفِي الْفِرْدَوْسِ»
، وَتَنْكِيرُ جَنَّاتٍ لِلتَّعْظِيمِ.
وَمَعْنَى آخِذِينَ مَا آتاهُمْ رَبُّهُمْ: أَنَّهُمْ قَابِلُونِ مَا أَعْطَاهُمْ، أَيْ رَاضُونَ بِهِ فَالْأَخْذُ مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ كِنَايَةً رَمْزِيَّةً عَنْ كَوْنِ مَا يُؤْتَوْنَهُ أَكْمَلَ فِي جِنْسِهِ لِأَنَّ مَدَارِكَ الْجَمَاعَاتِ تَخْتَلِفُ فِي الِاسْتِجَادَةِ حَتَّى تَبْلُغَ نِهَايَةَ الْجَوْدَةِ فَيَسْتَوِي النَّاسُ فِي اسْتَجَادَتِهِ، وَهِيَ كِنَايَةٌ تَلْوِيحِيَّةٌ. وَأَيْضًا فَالْأَخْذُ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ لِأَنَّ مَا يُؤْتِيهم الله بَعضهم مِمَّا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ كَالْفَوَاكِهِ وَالشَّرَابِ وَالرَّيَاحِينِ، وَبَعْضُهُ لَا يُتَنَاوَلُ بِالْيَدِ كَالْمَنَاظِرِ الْجَمِيلَةِ وَالْأَصْوَاتِ الرَّقِيقَةِ وَالْكَرَامَةِ وَالرِّضْوَانِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنَ الْأَوَّلِ.
فَإِطْلَاقُ الْأَخْذِ عَلَى ذَلِكَ اسْتِعَارَةٌ بِتَشْبِيهِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٣]، وَقَوْلِهِ: وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٤٥].
فَاجْتَمَعَ فِي لَفْظِ آخِذِينَ كِنَايَتَانِ وَمَجَازٌ.
رَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ. فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ رَبَّنَا وَسَعْدَيْكَ وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.
فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لَا نَرْضَى يَا رَبَّنَا وَقَدْ أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ فَيَقُولُ: أَلَا أُعْطِيكُمْ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ
[سُورَة الْوَاقِعَة (٥٦) : الْآيَات ٨٨ إِلَى ٩٤]
فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٨٨) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (٨٩) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩٠) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (٩١) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (٩٢)فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (٩٣) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (٩٤)
لَمَّا اقْتَضَى الْكَلَامُ بِحَذَافِرِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ صَاحِبُ الرُّوحِ صَائِرٌ إِلَى الْجَزَاءِ فَرَّعَ عَلَيْهِ إِجْمَالَ أَحْوَالِ الْجَزَاءِ فِي مَرَاتِبِ النَّاسِ إِجْمَالًا لِمَا سَبَقَ تَفْصِيلُهُ بِقَوْلِهِ: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً إِلَى قَوْلِهِ: لَا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [الْوَاقِعَة: ٧- ٤٤] لِيَكُونَ هَذَا فَذْلَكَةً لِلسُّورَةِ وَرَدًّا لِعَجُزِهَا عَلَى صَدْرِهَا.
فَضَمِيرُ إِنْ كانَ عَائِدٌ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ إِلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ [الْوَاقِعَة: ٨٥].
وَالْمُقَرَّبُونَ هُمُ السَّابِقُونَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٥] وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ قَدْ تَقَدَّمَ وَالْمُكَذِّبُونَ الضَّالُّونَ: هُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ الْمُتَقَدِّمُ ذِكْرُهُمْ.
وَقَدْ ذُكِرَ لِكُلِّ صِنْفٍ مِنْ هَؤُلَاءِ جَزَاءٌ لَمْ يُذْكَرْ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ لِيُضَمَّ إِلَى مَا أُعِدَّ لَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَى طَرِيقَةِ الْقُرْآنِ فِي تَوْزِيعِ الْقِصَّةِ.
وَالرَّوْحُ: بِفَتْحِ الرَّاءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ، وَهُوَ الرَّاحَةُ، أَيْ فَرَوْحٌ لَهُ، أَيْ هُوَ فِي رَاحَةٍ وَنَعِيمٍ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٨٧]. وَقَرَأَهُ رُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِضَمِّ الرَّاءِ. وَرُوِيَتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ أَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ، أَيْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُوِيَ عَنْهُ الْوَجْهَانِ، فَالْمَشْهُورُ رُوِيَ مُتَوَاتِرًا، وَالْآخَرُ رُوِيَ مُتَوَاتِرًا وَبِالْآحَادِ، وَكِلَاهُمَا مُرَادٌ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ عَلَى قِرَاءَةِ ضَمِّ الرَّاءِ: أَنَّ رُوحَهُ مَعَهَا الرَّيْحَانُ وَهُوَ الطِّيبُ وَجَنَّةُ النَّعِيمِ.
وَقَدْ وَرَدَ
فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «أَنَّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ تَخَرُجُ طَيِّبَةً»
. وَقِيلَ: أَطْلَقَ الرُّوحَ بِضَمِّ الرَّاءِ
عَلَى الرَّحْمَةِ لِأَنَّ مَنْ كَانَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ فَهُوَ الْحَيُّ حَقًّا، فَهُوَ
يُوجِبُ قَطْعَهُ مِنْ ضُرٍّ أَوْ مَرَضٍ لِأَنَّ تَنَاوُلَهُ شُكْرٌ لِلَّهِ وَاعْتِرَافٌ بِنِعْمَتِهِ وَالْحَاجَةِ إِلَيْهِ.
وَفِي قَوْله: تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ عذر للنَّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَعَلَهُ مِنْ أَنَّهُ أَرَادَ بِهِ خَيْرًا وَهُوَ جَلْبُ رِضَا الْأزْوَاج لِأَنَّهُ أعون عَلَى مُعَاشَرَتِهِ مَعَ الْإِشْعَارِ بِأَنَّ مِثْلَ هَذِهِ الْمَرْضَاةِ لَا يَعْبَأُ بِهَا لِأَنَّ الْغَيْرَةَ نَشَأَتْ عَنْ مُجَرَّدِ مُعَاكَسَةِ بَعْضِهِنَّ بَعْضًا وَذَلِكَ مِمَّا يَخْتَلُّ بِهِ حُسْنُ الْمُعَاشَرَةِ بَيْنَهُنَّ، فَأَنْبَأَهُ اللَّهُ أَنَّ هَذَا الِاجْتِهَادَ مُعَارَضٌ بِأَنَّ تَحْرِيمَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ يُفْضِي إِلَى قَطْعِ كَثِيرٍ مِنْ أَسْبَابِ شُكْرِ اللَّهِ عِنْدَ تَنَاوُلِ نِعَمَهُ وَأَنَّ ذَلِكَ يَنْبَغِي إِبْطَالُهُ فِي سِيرَةِ الْأُمَّةِ.
وَذُيِّلَ بِجُمْلَةِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ استئناسا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَحْشَةِ هَذَا الْمَلَامِ، أَيْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لَكَ مِثْلَ قَوْلِهِ: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ [التَّوْبَة: ٤٣].
[٢]
[سُورَة التَّحْرِيم (٦٦) : آيَة ٢]
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٢)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ بَيَّنَ الله بِهِ لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ لَهُ سِعَةً فِي التَّحَلُّلِ مِمَّا الْتَزَمَ تَحْرِيمَهُ عَلَى
نَفْسِهِ، وَذَلِكَ فِيمَا شَرَعَ اللَّهُ مِنْ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَأَفْتَاهُ اللَّهُ بِأَنْ يَأْخُذَ بِرُخْصَتِهِ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الْمَشْرُوعَةِ لِلْأُمَّةِ كُلِّهَا وَمِنْ آثَارِ حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
قَالَه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِوَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بَعْدَ أَنِ اسْتَحْمَلُوهُ وَحَلَفَ أَنْ لَا يَحْمِلَهُمْ إِذْ لَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ، فَجَاءَهُ ذَوْدٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ فَقَالَ لَهُمْ: «وَإِنِّي وَاللَّهِ لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا كَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي وَفَعَلْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ»
. وَافْتِتَاحُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ التَّحْقِيقِ لتنزيل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ فَرَضَ تَحِلَّةَ الْأَيْمَانِ بِآيَةِ الْكَفَّارَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَأْخُذْ بِالرُّخْصَةِ تَعْظِيمًا لِلْقَسَمِ. فَأَعْلَمَهُ اللَّهُ أَنَّ الْأَخْذَ بِالْكَفَّارَةِ لَا تَقْصِيرَ عَلَيْهِ فِيهِ فَإِنَّ فِي الْكَفَّارَةِ مَا يَكْفِي لِلْوَفَاءِ بِتَعْظِيمِ الْيَمِينِ بِاللهِ إِلَى شَيْءٍ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ [ص: ٤٤] كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَفْسِيرِهَا وفَرَضَ عَيَّنَ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: نَصِيباً مَفْرُوضاً [النِّسَاء: ٧]. وَقَالَ: فَرَضَ لَهُ فِي الْعَطَاءِ وَالْمَعْنَى: قَدْ بيّن الله لَكِن تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ إِلَّا أَنَّهُ الْتَزَمَ أَنْ لَا
وَتَنْبِئَةُ الْإِنْسَانِ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ كِنَايَةٌ عَنْ مُجَازَاتِهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ: إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ وَإِنْ سُوءًا فَسُوءٌ، إِذْ يُقَالُ لَهُ: هَذَا جَزَاءُ الْفِعْلَةِ الْفُلَانِيَّةِ فَيَعْلَمُ مِنْ ذَلِكَ فِعْلَتَهُ وَيَلْقَى جَزَاءَهَا، فَكَانَ الْإِنْبَاءُ مِنْ لَوَازِمِ الْجَزَاءِ قَالَ تَعَالَى: قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: ٧] وَيَحْصُلُ فِي ذَلِكَ الْإِنْبَاءِ تَقْرِيعٌ وَفَضْحٌ لحاله.
وَالْمرَاد بِمَا قَدَّمَ: مَا فعله وَبِمَا أَخَّرَ
: مَا تَرَكَهُ مِمَّا أُمِرَ بِفِعْلِهِ أَوْ نُهِيَ عَنْ
فِعْلِهِ فِي الْحَالَيْنِ فَخَالَفَ مَا كُلِّفَ بِهِ وَمِمَّا عَلَّمَهُ
النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الدُّعَاءِ: «فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أعلنت»
. [١٤- ١٥]
[سُورَة الْقِيَامَة (٧٥) : الْآيَات ١٤ إِلَى ١٥]
بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (١٥)
إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌ، وَهُوَ لِلتَّرَقِّي من مَضْمُون يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ
[الْقِيَامَة: ١٣] إِلَى الْإِخْبَارِ بِأَنَّ الْكَافِرَ يَعْلَمُ مَا فَعَلَهُ لِأَنَّهُمْ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ، إِذْ هُوَ قَرَأَ كِتَابَ أَعْمَالِهِ فَقَالَ: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٥، ٢٦]، وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لَا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: ٤٩]. وَقَالَ تَعَالَى: اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً [الْإِسْرَاء: ١٤].
وَنَظْمُ قَوْلِهِ: بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ
صَالِحٌ لِإِفَادَةِ مَعْنَيَيْنِ:
أَوَّلُهُمَا أَنْ يَكُونَ بَصِيرَةٌ
بِمَعْنَى مُبْصِرٍ شَدِيدِ الْمُرَاقَبَةِ فَيَكُونَ بَصِيرَةٌ
خَبَرًا عَنِ الْإِنْسانُ
. وعَلى نَفْسِهِ
مُتَعَلِّقًا بِ بَصِيرَةٌ
، أَيِ الْإِنْسَانُ بَصِيرٌ بِنَفْسِهِ. وَعُدِّي بِحَرْفِ عَلى
لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْمُرَاقَبَةِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى: كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً. وَهَاءُ بَصِيرَةٌ
تَكُونُ لِلْمُبَالَغَةِ مِثْلَ هَاءِ عَلَّامَةٍ وَنَسَّابَةٍ، أَيِ الْإِنْسَانُ عَلِيمٌ بَصِيرٌ قَوِيُّ الْعِلْمِ بِنَفْسِهِ يَوْمَئِذٍ.
وَالْمَعْنَى الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَصِيرَةٌ
مُبْتَدَأً ثَانِيًا، وَالْمُرَادُ بِهِ قَرِينُ الْإِنْسَانِ مِنَ الْحَفَظَةِ وَعَلَى نَفْسِهِ خَبَرَ الْمُبْتَدَأِ الثَّانِي مُقَدَّمًا عَلَيْهِ، وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ خَبَرًا عَنِ الْإِنْسانُ
، وبَصِيرَةٌ
حِينَئِذٍ يُحْتَمَلُ أَن يكون بِمَعْنى بَصِيرٍ، أَيْ مُبْصِرٍ
وَالْقَسَمُ بِالْبَلْدَةِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَدُلُّ عَلَى صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ وَلَا مِنْ صِفَاتِ أَفْعَالِهِ كِنَايَةٌ عَنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ وَتَفْضِيلِهِ.
وَجُمْلَةُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَاتِ الْمُقْسَمِ بِهَا وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الِاعْتِرَاضِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحْمَلِ مَعْنَى وَأَنْتَ حِلٌّ فَيَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ حِلٌّ اسْمَ مَصْدَرِ أَحَلَّ، أَيْ أَبَاحَ، فَالْمَعْنَى وَقَدْ جَعَلَكَ أَهْلُ مَكَّةَ حَلَالًا بِهَذَا الْبَلَدِ الَّذِي يَحْرُمُ أَذَى صَيْدِهِ وَعَضْدُ شَجَرِهِ، وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ يُحِلُّونَ قَتْلَكَ وَإِخْرَاجَكَ، قَالَ هَذَا شُرَحْبِيلُ بْنُ سَعْدٍ (١) فَيَكُونُ الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الِاعْتِرَاضِ التَّعَجِيبُ مِنْ مَضْمُونِ الْجُمْلَةِ وَعَلَيْهِ فَالْإِخْبَارُ عَنْ ذَاتِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ حِلٌّ يُقَدَّرُ فِيهِ مُضَافٌ يُعَيِّنُهُ مَا يَصْلُحُ لِلْمَقَامِ، أَيْ وَأَنْتَ حَلَالٌ مِنْكَ مَا حَرُمَ مِنْ حَقِّ سَاكِنِ هَذَا الْبَلَدِ مِنَ الْحُرْمَةِ وَالْأَمْنِ.
وَالْمَعْنَى التَّعْرِيضُ بِالْمُشْرِكِينَ فِي عُدْوَانِهِمْ وَظُلْمِهِمُ الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَلَدٍ لَا يَظْلِمُونَ فِيهِ أَحَدًا. وَالْمُنَاسَبَةُ ابْتِدَاءُ الْقَسَمِ بِمَكَّةَ الَّذِي هُوَ إِشْعَارٌ بِحُرْمَتِهَا الْمُقْتَضِيَةِ حُرْمَةَ مَنْ يَحِلُّ بِهَا، أَيْ فَهُمْ يُحَرِّمُونَ أَنْ يَتَعَرَّضُوا بِأَذًى لِلدَّوَابِّ، وَيَعْتَدُونَ عَلَى رَسُولٍ جَاءَهُمْ بِرِسَالَةٍ مِنَ اللَّهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حِلٌّ اسْمًا مُشْتَقًّا مِنَ الْحِلِّ وَهُوَ ضِدُّ الْمَنْعِ، أَيِ الَّذِي لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ، أَيْ مَا صَنَعْتَ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَأَنْتَ فِي حِلٍّ أَوْ أَنْتَ فِي حِلٍّ مِمَّنْ قَاتَلَكَ أَنْ تُقَاتِلَهُ. وَقَرِيبٌ مِنْهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَيْ مَهْمَا تَمَكَّنْتَ مِنْ ذَلِكَ.
فَيَصْدُقُ بِالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» :«يَعْنِي وَأَنْتَ حِلٌّ بِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَنَظِيرُهُ فِي الِاسْتِقْبَالِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: ٣٠]، تَقُولُ لِمَنْ تَعِدُهُ بِالْإِكْرَامِ وَالْحِبَاءِ أَنْت مكرم محبّوا اهـ.
فَهَذَا الِاعْتِرَاضُ تَسْلِيَةٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدِّمَتْ لَهُ قَبْلَ ذِكْرِ إِعْرَاضِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَوَعْدٌ بِأَنَّهُ سَيُمَكِّنُهُ مِنْهُمْ.
وَعَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ فِي مَحْمَلِ صِفَةِ حِلٌّ هُوَ خُصُوصِيَّة لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ خَصَّصَهُ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَوْمِ الْفَتْحِ
فَقَالَ: «وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ»
_________
(١) أَبُو مُعَاوِيَة تَابِعِيّ توفّي سنة ١٢٣ هـ.