أَنْ تَجْعَلَهَا تَأْكِيدًا وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ فَقَدْ فُصِّلَتْ إِمَّا جَوَازًا عَلَى الْأَوَّلِ وَإِمَّا وُجُوبًا عَلَى الثَّانِي، وَقَدْ فَرَضُوا فِي إِعْرَابِهَا وُجُوهًا أُخَرَ لَا نُكْثِرُ بِهَا لِضَعْفِهَا، وَقَدْ جَوَّزَ فِي «الْكَشَّافِ» جَعْلَ جُمْلَةِ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ اعْتِرَاضًا لِجُمْلَةِ لَا يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَرْجُوحٌ لَمْ يَرْتَضِهِ السَّعْدُ وَالسَّيِّدُ، إِذْ لَيْسَ مَحَلَّ الْإِخْبَارِ هُوَ لَا يُؤْمِنُونَ إِنَّمَا الْمُهِمُّ أَنْ يُخْبِرَ عَنْهُمْ بِاسْتِوَاءِ الْإِنْذَارِ وَعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ، فَإِنَّ فِي ذَلِكَ نِدَاءً عَلَى مُكَابَرَتِهِمْ وغباوتهم، وعذرا للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحِرْصِ عَلَى إِيمَانِهِمْ، وَتَسْجِيلًا بِأَنَّ مَنْ لَمْ يَفْتَحْ سَمْعَهُ وَقَلْبَهُ لِتَلَقِّي الْحَقِّ وَالرَّشَادِ لَا يَنْفَعُ فِيهِ حِرْصٌ وَلَا ارْتِيَادٌ، وَهَذَا وَإِنْ كَانَ يَحْصُلُ عَلَى تَقْدِيرِهِ جَعْلَ لَا يُؤْمِنُونَ
خَبَرًا إِلَّا أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْكَلَامِ هُوَ الْأَوْلَى بِالْإِخْبَارِ، وَلِأَنَّهُ يَصِيرُ الْخَبَرُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ إِذْ يَصِيرُ بِمَثَابَةِ أَنْ يُقَالَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا يُؤْمِنُونَ، فَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُمْ كَفَرُوا فَعَدَمُ إِيمَانِهِمْ حَاصِلٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ مِنْ لَا يُؤْمِنُونَ اسْتِمْرَارُ الْكُفْرِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ إِلَّا أَنَّهُ خَبَرٌ غَرِيبٌ بِخِلَافِ مَا إِذَا جُعِلَ تَفْسِيرًا لِلْخَبَرِ.
وَقَدِ احْتَجَّ بِهَاتِهِ الْآيَةِ الَّذِينَ قَالُوا بِوُقُوعِ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ احْتِجَاجًا عَلَى الْجُمْلَةِ إِذْ مَسْأَلَةُ التَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ بَقِيَتْ زَمَانًا غَيْرَ مُحَرَّرَةٍ، وَكَانَ كُلُّ مَنْ لَاحَ لَهُ فِيهَا دَلِيلٌ اسْتَدَلَّ بِهِ، وَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهَا بِعِبَارَاتٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَنْوِنُهَا التَّكْلِيفَ بِالْمُحَالِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِمَا لَيْسَ بِمَقْدُورٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَبِّرُ بِالتَّكْلِيفِ بِمَا لَا يُطَاقُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَنْظُرُونَ مَرَّةً لِلِاسْتِحَالَةِ الذَّاتِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَمَرَّةً لِلذَّاتِيَّةِ الْعَادِيَّةِ، وَمَرَّةً لِلْعَرَضِيَّةِ، وَمَرَّةً لِلْمَشَقَّةِ الْقَوِيَّةِ الْمُحْرِجَةِ لِلْمُكَلَّفِ فَيَخْلِطُونَهَا بِمَا لَا يُطَاقُ وَلَقَدْ أَفْصَحَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ وَأَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ وَأَضْرَابُهُمَا عَمَّا يَرْفَعُ الْقِنَاعَ عَنْ وَجْهِ الْمَسْأَلَةِ فَصَارَتْ لَا تُحَيِّرُ أَفْهَامًا وَانْقَلَبَ قَتَادُهَا ثُمَامًا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُحَالَ مِنْهُ مُحَالٌ لِذَاتِهِ عَقْلًا كَجَمْعِ النَّقِيضَيْنِ وَمِنْهُ مُحَالٌ عَادَةً كَصُعُودِ السَّمَاءِ وَمِنْهُ مَا فِيهِ حَرَجٌ وَإِعْنَاتٌ كَذَبْحِ الْمَرْءِ وَلَدَهُ وَوُقُوفِ الْوَاحِدِ لِعَشَرَةٍ مِنْ أَقْرَانِهِ، وَمِنْهُ مَحَالٌ عَرَضَتْ لَهُ الِاسْتِحَالَةُ بِالنَّظَرِ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ كَإِيمَانِ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ عَدَمَ إِيمَانِهِ وَحَجِّ مَنْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا يَحُجُّ، وَكُلَّ هَاتِهِ أُطْلِقَ عَلَيْهَا مَا لَا يُطَاقُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ إِذِ الْمُرَادُ مَا يَشُقُّ مَشَقَّةً عَظِيمَةً، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا الْمُحَالُ حَقِيقَةً وَمُطَابَقَةً فِي بَعْضِهَا وَالْتِزَامًا فِي الْبَعْضِ، وَمَجَازًا فِي الْبَعْضِ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهَا عَدَمُ الْمَقْدُورِ كَذَلِكَ، كَمَا أُطْلِقَ الْجَوَازُ عَلَى الْإِمْكَانِ، وَعَلَى الْإِمْكَانِ لِلْحِكْمَةِ، وَعَلَى الْوُقُوعِ، فَنَشَأَ مِنْ تَفَاوُتِ هَاتِهِ الْأَقْسَامِ
وَإِحْيَاءُ الْمَوْتَى مُعْجِزَةٌ لِلْمَسِيحِ أَيْضًا، كَنَفْخِ الرُّوحِ فِي الطَّيْرِ الْمُصَوَّرِ مِنَ الطِّينِ، فَكَانَ إِذَا أَحْيَا مَيِّتًا كَلَّمَهُ ثُمَّ رَجَعَ مَيِّتًا، وَوَرَدَ فِي الْأَنَاجِيلِ أَنَّهُ أَحْيَا بِنْتًا كَانَتْ مَاتَتْ فَأَحْيَاهَا عَقِبَ مَوْتِهَا. وَوَقَعَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ ١٧ أَنَّ عِيسَى صَعِدَ الْجَبَلَ وَمَعَهُ بُطْرُسُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا أَخُوهُ وَأَظْهَرَ لَهُمْ مُوسَى وَإِيلِيَاءَ يَتَكَلَّمَانِ مَعَهُمْ، وَكُلُّ ذَلِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ أَنَّهُ يُخْبِرُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الَّتِي لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ فَيُخْبِرُهُمْ بِمَا أَكَلُوهُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَمَا عِنْدَهُمْ مُدَّخَرٌ فِيهَا، لِتَكُونَ هَاتِهِ الْمُتَعَاطِفَاتُ كُلُّهَا مِنْ قَبِيلِ الْمُعْجِزَاتِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ أُنَبِّئُكُمْ لِأَنَّ الْإِنْبَاءَ يَكُونُ فِي الْأُمُورِ الْخَفِيَّةِ.
وَقَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ جَعَلَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا آيَاتٍ تَدْعُو إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ الْإِيمَانَ، بِخِلَافِ مَا إِذَا كَانَ دَأْبُكُمُ الْمُكَابَرَةَ.
وَالْخِطَابُ مُوَجَّهٌ مِنْهُ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فَإِنَّهُمْ بَادَرُوا دَعْوَتَهُ بِالتَّكْذِيبِ وَالشَّتْمِ.
وَتَعَرُّضُ الْقُرْآنِ لِذِكْرِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ تَعْرِيضٌ بِالنَّصَارَى الَّذِينَ جَعَلُوا مِنْهَا دَلِيلًا عَلَى أُلُوهِيَّةِ عِيسَى، بِعِلَّةِ أَنَّ هَذِهِ الْأَعْمَالَ لَا تَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَةِ الْبَشَرِ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَهُوَ الْإِلَهُ، وَهَذَا دَلِيلٌ سُفِسْطَائِيٌّ أَشَارَ اللَّهُ إِلَى كَشْفِهِ بِقَوْلِهِ: بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَقَوْلِهِ: بِإِذْنِ اللَّهِ مَرَّتَيْنِ. وَقَدْ رَوَى أَهْلُ السِّيَرِ أَنَّ نَصَارَى نَجْرَانَ اسْتَدَلُّوا بِهَذِهِ الْأَعْمَالِ لَدَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[٥٠، ٥١]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : الْآيَات ٥٠ إِلَى ٥١]
وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١)
عَطْفٌ عَلَى «بِآيَةٍ» بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: «بِآيَةٍ» ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَمَا تَقَدَّمَ أَوْ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ جِئْتُكُمْ فَيُقَدَّرُ فِعْلُ جِئْتُكُمْ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ، وَمُصَدِّقاً حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُقَدَّرِ مَعَهُ، وَلَيْسَ عَطْفًا عَلَى قَوْله: وَرَسُولًا [آل عمرَان: ٤٩] لِأَنَّ رَسُولًا مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ، وَمُصَدِّقاً مِنْ كَلَامِ عِيسَى بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: لِما بَيْنَ يَدَيَّ.
وَالْأَمْرُ بِأَنْ يَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا أَيْ قَوْلًا حَسَنًا وَهُوَ ضِدُّ الْمُنْكَرِ تَسْلِيَةً لِبَعْضِهِمْ
عَلَى مَا حُرِمُوا مِنْهُ مِنْ مَالِ الْمَيِّتِ كَمَا كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة.
[٩]
[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٩]
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (٩)
مَوْعِظَةٌ لِكُلِّ مَنْ أُمِرَ أَوْ نُهِيَ أَوْ حُذِّرَ أَوْ رُغِّبَ فِي الْآيِ السَّابِقَةِ، فِي شَأْنِ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَأَمْوَالِ الضِّعَافِ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ، فَابْتُدِئَتِ الْمَوْعِظَةُ بِالْأَمْرِ بِخَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى أَيْ خَشْيَةِ عَذَابِهِ، ثُمَّ أُعْقِبَ بِإِثَارَةِ شَفَقَةِ الْآبَاءِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِمْ بِأَنْ يُنَزِّلُوا أَنْفُسَهُمْ مَنْزِلَةَ الْمَوْرُوثِينَ، الَّذِينَ اعْتَدَوْا هُمْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ، وَيُنَزِّلُوا ذُرِّيَّاتِهِمْ مَنْزِلَةَ الذُّرِّيَّةِ الَّذِينَ أَكَلُوا هُمْ حُقُوقَهُمْ، وَهَذِهِ الْمَوْعِظَةُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى قِيَاسِ
قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ»
وَزَادَ إِثَارَةَ الشَّفَقَةِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَدَى عَلَيْهِمْ خَلْقٌ ضِعَافٌ بِقَوْلِهِ: ضِعافاً، ثُمَّ أَعْقَبَ بِالرُّجُوعِ إِلَى الْغَرَضِ الْمُنْتَقِلِ مِنْهُ وَهُوَ حِفْظُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى، بِالتَّهْدِيدِ عَلَى أَكْلِهِ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ بَعْدَ التَّهْدِيدِ بِسُوءِ الْحَالِ فِي الدُّنْيَا. فَيُفْهَمُ مِنَ الْكَلَامِ تَعْرِيضٌ بِالتَّهْدِيدِ بأنّ نصيب أَبْنَاءَهُم مِثْلُ مَا فَعَلُوهُ بِأَبْنَاءِ غَيْرِهِمْ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ مَفْعُولَ (يَخْشَ) حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ فِي تَقْدِيرِهِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُحْتَمَلٍ، فَيَنْظُرُ كُلَّ سَامِعٍ بِحَسَبِ الْأَهَمِّ عِنْدَهُ مِمَّا يَخْشَاهُ أَنْ يُصِيبَ ذُرِّيَّتَهُ.
وَجُمْلَةُ لَوْ تَرَكُوا إِلَى خافُوا عَلَيْهِمْ صِلَةُ الْمَوْصُولِ، وَجُمْلَةُ خافُوا عَلَيْهِمْ جَوَابُ (لَوْ).
وَجِيءَ بِالْمَوْصُولِ لِأَنَّ الصِّلَةَ لَمَّا كَانَتْ وَصْفًا مَفْرُوضًا حَسُنَ التَّعْرِيفُ بِهَا إِذِ الْمَقْصُودُ تَعْرِيفُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَذَلِكَ كَافٍ فِي التَّعْرِيفِ لِلْمُخَاطَبِينَ بِالْخَشْيَةِ إِذْ كُلُّ سَامِعٍ يَعْرِفُ مَضْمُونَ هَذِهِ الصِّلَةِ لَوْ فَرْضَ حُصُولِهَا لَهُ، إِذْ هِيَ أَمْرٌ يَتَصَوَّرُهُ كُلُّ النَّاسِ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ (لَوْ) هُنَا مِنْ بَيْنِ أَدَوَاتِ الشَّرْطِ أَنَّهَا هِيَ الْأَدَاةُ الصَّالِحَةُ لِفَرْضِ الشَّرْطِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِإِمْكَانِهِ، فَيَصْدُقُ مَعَهَا الشَّرْطُ الْمُتَعَذِّرُ الْوُقُوعِ وَالْمُسْتَبْعَدُهُ
وَمِنْ بَدَاعَةِ هَذَا التَّمْثِيلِ أَنَّهُ صَالِحٌ لِأَنْ يُعْتَبَرَ فِيهِ جَمْعُهُ وَتَفْرِيقُهُ، بِأَنْ يُجْعَلَ تَمْثِيلًا وَاحِدًا لِحَالَةِ مَجْمُوعَةٍ أَوْ تَمْثِيلَيْنِ لِحَالَتَيْنِ، وَقَبُولُ التَّمْثِيلِ لِلتَّفْرِيقِ أَتَمُّ بَلَاغَةً. وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَا يَلْتَئِمُ لَهُمْ أَمْرُ حَرْبٍ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ نِكَايَةَ عَدُوٍّ، وَلَوْ حَارَبُوا أَوْ حُورِبُوا انْهَزَمُوا، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى هَذَا كَقَوْلِهِ: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا [آل عمرَان: ١١٢].
وَأَمَّا مَا يُرْوَى أَنَّ مَعَدًّا كُلَّهَا لمّا حَاربُوا مذبح يَوْمَ (خَزَازَى)، وَسِيَادَتُهُمْ لِتَغْلِبَ وَقَائِدُهُمْ كُلَيْبٌ، أَمَرَ كُلَيْبٌ أَنْ يُوقِدُوا نَارًا عَلَى جَبَلِ خَزَازَى لِيَهْتَدِيَ بِهَا الْجَيْشُ لِكَثْرَتِهِ، وَجَعَلُوا الْعَلَامَةَ بَيْنَهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا دَهَمَتْهُمْ جُيُوشُ مَذْحِجَ أَوْقَدُوا نَارَيْنِ عَلَى (خَزَازَى)، فَلَمَّا دَهَمَتْهُمْ مَذْحِجُ أَوْقَدُوا النَّارَ فَتَجَمَّعَتْ مَعَدٌّ كُلُّهَا إِلَى سَاحَةِ الْقِتَالِ وَانْهَزَمَتْ مَذْحِجُ. وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ عَمْرُو بْنُ كُلْثُومٍ بِقَوْلِهِ:
وَنَحْنُ غَدَاةَ أُوقِدَ فِي خَزَازَى | رَفَدْنَا فَوْقَ رَفْدِ الرَّافِدِينَا |
وَقَوْلُهُ: وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً الْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي نَظِيرِهِ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً [الْمَائِدَة:
٣٣].
[٦٥]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ٦٥]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥)
عَقَّبَ نَهْيَهُمْ وَذَمَّهُمْ بِدَعْوَتِهِمْ لِلْخَيْرِ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ إِذْ جَاءَ بِحَرْفِ الِامْتِنَاعِ فَقَالَ:
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا، وَالْمُرَادُ الْيَهُودُ. وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: آمَنُوا الْإِيمَانُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «اثْنَانِِِ
لِإِفَادَةِ تَأْكِيدِ ذَلِكَ النَّهْيِ وَلِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ لِوُقُوعِ طُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ التَّفْرِيعِ وَالْمُفَرَّعِ عَلَيْهِ. فَحَصَلَ بِإِعَادَةِ فِعْلِ فَتَطْرُدَهُمْ غَرَضَانِ لَفْظِيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ. عَلَى أَنَّهُ
يَجُوزُ أَنْ يَجْعَلَ فَتَطْرُدَهُمْ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّفْيِ مِنْ قَوْلِهِ: مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ، أَيْ لَا تَطْرُدْهُمْ إِجَابَةً لِرَغْبَةِ أَعْدَائِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ عُطِفَ عَلَى فَتَطْرُدَهُمْ مُتَفَرِّعٌ عَلَيْهِ، أَيْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِطَرْدِهِمْ، أَيْ فَكَوْنُهُ مِنَ الظَّالِمِينَ مُنْتَفٍ تَبَعًا لِانْتِفَاءٍ سَبَبِهِ وَهُوَ الطَّرْدُ.
وَإِنَّمَا جَعَلَ طَرْدَهُمْ ظُلْمًا لِأَنَّهُ لَمَّا انْتَفَى تَكْلِيفُهُ بِأَنْ يُحَاسِبَهُمْ صَارَ طَرْدُهُمْ لِأَجْلٍ إِرْضَاءِ غَيْرِهِمْ ظُلْمًا لَهُمْ. وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالَّذِينَ سَأَلُوا طَرْدَهُمْ لِإِرْضَاءِ كِبْرِيَائِهِمْ بأنّهم ظَالِمُونَ مفطرون عَلَى الظُّلْمِ وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ قَوْلُهُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ مَنْصُوبًا فِي جَوَابِ النَّهْيِ، وَيُجْعَلَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ جِيءَ بِهِ عَلَى هَذَا الْأُسْلُوبِ لِتَجْدِيدِ رَبْطِ الْكَلَامِ لِطُولِ الْفَصْلِ بَيْنَ النَّهْيِ وَجَوَابِهِ بِالظَّرْفِ وَالْحَالِ وَالتَّعْلِيلِ فَكَانَ قَوْلُهُ فَتَطْرُدَهُمْ كَالْمُقَدَّمَةِ لِقَوْلِهِ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَلَيْسَ مَقْصُود بِالذَّاتِ لِلْجَوَابِيَّةِ فَالتَّقْدِيرُ: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمين بطردهم.
[٥٣]
[سُورَة الْأَنْعَام (٦) : آيَة ٥٣]
وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (٥٣)
الْوَاوُ اسْتِئْنَافِيَّةٌ كَمَا هِيَ فِي نَظَائِرِهِ. وَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِأَنَّ السَّامِعَ لَمَّا شَعَرَ بِقِصَّةٍ أَوْمَأَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ [الْأَنْعَام: ٥٢] الْآيَةَ يَأْخُذُهُ الْعَجَبُ مِنْ كِبْرِيَاءِ عُظَمَاءِ أَهْلِ الشِّرْكِ وَكَيْفَ يَرْضَوْنَ الْبَقَاءَ فِي ضَلَالَةٍ تَكَبُّرًا عَنْ غِشْيَانِ مَجْلِسٍ فِيهِ ضُعَفَاءُ النَّاسِ مِنَ الصَّالِحِينَ، فَأُجِيبَ بِأَنَّ هَذَا الْخُلُقَ الْعَجِيبَ فِتْنَةٌ لَهُمْ خَلَقَهَا اللَّهُ فِي نُفُوسِهِمْ بِسُوءِ خُلُقِهِمْ.
وَقَعَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ اعْتِرَاضًا بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ تَعْجِيلًا لِلْبَيَانِ، وَقُرِنَتْ بِالْوَاوِ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى الِاعْتِرَاضِ، وَهِيَ الْوَاوُ الِاعْتِرَاضِيَّةُ، وَتُسَمَّى الِاسْتِئْنَافِيَّةَ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّ دَاعِيَهُمْ
وَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حُكْمِ الْأَنْفَالِ اخْتِلَافًا نَاشِئًا عَنِ اخْتِلَافِ اجْتِهَادِهِمْ فِي الْمُرَادِ مِنَ الْآيَةِ، وَهُوَ اخْتِلَافٌ يُعْذَرُونَ عَلَيْهِ لِسِعَةِ الْإِطْلَاقِ فِي أَسْمَاءِ الْأَمْوَالِ الْحَاصِلَةِ لِلْغُزَاةِ، فَقَالَ
مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: النَّفَلُ إِعْطَاءُ بَعْضِ الْجَيْشِ أَوْ جَمِيعِهِ زِيَادَةً عَلَى قِسْمَةِ أَخْمَاسِهِمُ الْأَرْبَعَةِ مِنَ الْمَغْنَمِ، فَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ خُمُسِ الْمَغْنَمِ الْمَجْعُولِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِخُلَفَائِهِ وَأُمَرَائِهِ جَمْعًا بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الْأَنْفَال: ٤١] الْآيَةَ فَلَا نَفَلَ إِلَّا مِنَ الْخُمُسِ الْمَجْعُولِ لِاجْتِهَادِ أَمِيرِ الْجَيْشِ وَعِلَّةُ ذَلِكَ تَجَنُّبُ إِعْطَاءِ حَقِّ أَحَدٍ لِغَيْرِهِ وَلِأَنَّهُ يُفْضِي إِلَى إِيقَادِ الْإِحَنِ فِي نُفُوسِ الْجَيْشِ، وَقَدْ يَبْعَثُ الْجَيْشَ عَلَى عِصْيَانِ الْأَمِيرِ، وَلَكِنْ إِذَا رَأَى الْإِمَامُ مَصْلَحَةً فِي تَنْفِيلِ بَعْضِ الْجَيْشٍ سَاغَ لَهُ ذَلِكَ مِنَ الْخُمُسِ الَّذِي هُوَ مَوْكُولٌ إِلَيْهِ، كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ، لِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: لَا يَكُونُ التَّنْفِيلُ قَبْلَ قِسْمَةِ الْمَغْنَمِ وَجَعَلَ مَا صَدَرَ مِنَ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ حُنَيْنٍ مِنْ
قَوْلِهِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ»
خُصُوصِيَّةً لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، لِأَنَّ طَاعَةَ النَّاسِ لِلرَّسُولِ أَشَدُّ مِنْ طَاعَتِهِمْ لِمَنْ سِوَاهُ لِأَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّهُ مَعْصُومٌ عَنِ الْجَوْرِ وَبِأَنَّهُ لَا يَتَصَرَّفُ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ، قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» : وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَلَا أَنَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَعَلَاهُ فِي فُتُوحِهِمَا.
وَإِنَّمَا اخْتَلَفَتِ الْفُقَهَاءُ: فِي أَنَّ النَّفَلَ هَلْ يَبْلُغُ جَمِيعَ الْخُمُسِ أَوْ يَخْرُجُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، فَقَالَ مَالِكٌ مِنَ الْخُمُسِ كُلِّهِ وَلَوِ اسْتَغْرَقَهُ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: النَّفَلُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ. وَالْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ خُمُسَ الْمَغْنَمِ أَهْوَ مُقَسَّمٌ عَلَى مَنْ سَمَّاهُ الْقُرْآنُ أَمْ مُخْتَلِطٌ، وَسَيَجِيءُ ذَلِكَ فِي آيَةِ الْمَغَانِمِ. وَالْحُجَّةُ لِمَالِكٍ حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ فِي «الْمُوَطَّأ» أَنهم غَزْو مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِبَلَ نَجْدٍ فَغَنِمُوا إِبِلًا كَثِيرَةً فَكَانَتْ سُهْمَانُهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ بَعِيرًا وَنُفِّلُوا بَعِيرًا بَعِيرًا فَأُعْطِيَ النَّفَلُ جَمِيعَ أَهْلِ الْجَيْشِ وَذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ خُمُسِ الْخُمُسِ، وَقَالَ جَمَاعَةٌ يَجُوزُ التَّنْفِيلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَغْنَمِ وَهَؤُلَاءِ يُخَصِّصُونَ عُمُومَ آيَةِ وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ [الْأَنْفَال: ٤١] بِآيَةِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أَيْ فَالْمَغَانِمُ الْمُخَمَّسَةُ مَا كَانَ دُونَ النَّفَلِ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَسَدُّ وَأَجْرَى عَلَى الْأُصُولِ وَأَوْفَقُ بِالسُّنَّةِ، وَالْمَسْأَلَةُ تُبْسَطُ فِي الْفِقْهِ وَلَيْسَ مِنْ غَرَضِ الْمُفَسِّرِ إِلَّا الْإِلْمَامُ بِمَعَاقِدِهَا مِنَ الْآيَةِ.
وَتَفْرِيعُ فَاتَّقُوا اللَّهَ عَلَى جُمْلَةِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ لِأَنَّ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ
تُقْطَعَ وَلَا تُعْطَفَ لِأَنَّ التَّوْبِيخَ يَقْتَضِي التَّعْدَادَ، فَتَقَعُ الْجُمَلُ الْمُوَبَّخُ بِهَا مَوْقِعَ الْأَعْدَادِ الْمَحْسُوبَةِ نَحْوَ وَاحِدٌ، اثْنَانِ، فَالْمَعْنَى لَا حَاجَةَ بِكُمْ لِلِاعْتِذَارِ عَنِ التَّنَاجِي فَإِنَّكُمْ قَدْ عُرِفْتُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَشْنَعُ.
وَالنَّهْيُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّسْوِيَةِ وَعَدَمِ الْجَدْوَى.
وَجُمْلَةُ: قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ مِنْ جُمْلَةِ: لَا تَعْتَذِرُوا تَعْلِيلًا لِلنَّهْيِ الْمُسْتَعْمَلِ فِي التَّسْوِيَةِ وَعَدَمِ الْجَدْوَى.
وَقَوْلُهُ: قَدْ كَفَرْتُمْ يَدُلُّ عَلَى وُقُوعِ الْكُفْرِ فِي الْمَاضِي، أَيْ قَبْلَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ كُفْرُهُمْ مِنْ قَبْلُ. وَالْمُرَادُ بِإِسْنَادِ الْإِيمَانِ إِلَيْهِمْ: إِظْهَارُ الْإِيمَانِ، وَإِلَّا فَهُمْ لَمْ يُؤْمِنُوا إِيمَانًا صَادِقًا. وَالْمُرَادُ بِإِيمَانِهِمْ: إِظْهَارُهُمُ الْإِيمَانَ، لَا وُقُوعُ حَقِيقَتِهِ. وَقَدْ أَنْبَأَ عَنْ ذَلِكَ إِضَافَةُ الْإِيمَانِ إِلَى ضَمِيرِهِمْ دُونَ تَعْرِيفِ الْإِيمَانِ بِاللَّامِ الْمُفِيدَةِ لِلْحَقِيقَةِ، أَيْ بَعْدَ إِيمَانٍ هُوَ مِنْ شَأْنِكُمْ، وَهَذَا تَعْرِيضٌ بِأَنَّهُ الْإِيمَانُ الصُّورِيُّ غَيْرُ الْحَقِّ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى
الْآتِي وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ [التَّوْبَة: ٧٤] وَهَذَا مِنْ لَطَائِفِ الْقُرْآن.
إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ.
جَاءَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي تَعْقِيبِ النِّذَارَةِ بِالتَّبْشِيرِ لِلرَّاغِبِ فِي التَّوْبَةِ تَذْكِيرًا لَهُ بِإِمْكَانِ تَدَارُكِ حَالِهِ.
وَلَمَّا كَانَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ عَجِيبًا كَانَتِ الْبِشَارَةُ لَهُمْ مَخْلُوطَةً بِبَقِيَّةِ النِّذَارَةِ، فَأَنْبَأَهُمْ أَنَّ طَائِفَةً مِنْهُمْ قَدْ يُعْفَى عَنْهَا إِذَا طَلَبَتْ سَبَبَ الْعَفْوِ: بِإِخْلَاصِ الْإِيمَانِ، وَأَنَّ طَائِفَةً تَبْقَى فِي حَالَةِ الْعَذَابِ، وَالْمَقَامُ دَالٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ عَبَثًا وَلَا تَرْجِيحًا بِدُونِ مُرَجِّحٍ، فَمَا هُوَ إِلَّا أَنَّ طَائِفَةً مَرْجُوَّةُ الْإِيمَانِ، فَيُغْفَرُ عَمَّا قَدَّمَتْهُ مِنَ النِّفَاقِ، وَأُخْرَى تُصِرُّ عَلَى النِّفَاقِ حَتَّى الْمَوْتِ، فَتَصِيرُ إِلَى الْعَذَابِ. وَالْآيَاتُ الْوَارِدَةُ بَعْدَ هَذِهِ تَزِيدُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ وُضُوحًا مِنْ قَوْلِهِ: نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- عَذابٌ مُقِيمٌ [التَّوْبَة: ٦٧، ٦٨]. وَقَوْلُهُ
جَاءَهُمْ مُوسَى لِقَصْدِ لَفْتِهِمْ عَمَّا وَجَدُوا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ فَكَانَ ذَلِكَ مَحَلَّ الْإِنْكَارِ عِنْدَهُمْ لِأَنَّ تَغْيِيرَ ذَلِكَ يَحْسَبُونَهُ إِفْسَادًا قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ [الْأَعْرَاف: ١٢٧]. وَالْإِتْيَانُ بِحَرْفِ (عَلَى) لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَمَكُّنِ آبَائِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ وَمُلَازَمَتِهِمْ لَهَا.
وَعَطْفُ وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ عَلَى الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، وَالْمَعْطُوفُ هُوَ الْعِلَّةُ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ أَرَادُوا أَنَّهُمْ تَفَطَّنُوا لِغَرَضِ مُوسَى وَهَارُونَ فِي مَجِيئِهِمَا إِلَيْهِمْ بِمَا جَاءُوا بِهِ، أَيْ أَنَّهُمَا يُحَاوِلَانِ نَفْعًا لِأَنْفُسِهِمَا لَا صَلَاحًا لِلْمَدْعُوِّينَ، وَذَلِكَ النَّفْعُ هُوَ الِاسْتِحْوَاذُ عَلَى سِيَادَةِ مِصْرَ بِالْحِيلَةِ.
وَالْكِبْرِيَاءُ: الْعَظَمَةُ وَإِظْهَارُ التَّفَوُّقِ عَلَى النَّاسِ.
وَالْأَرْضُ: هِيَ الْمَعْهُودَةُ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ أَرْضُ مِصْرَ، كَقَوْلِهِ: يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ [الْأَعْرَاف: ١١٠]. وَلَمَّا كَانُوا ظَنُّوا تَطَلُّبَهُمَا لِلسِّيَادَةِ أَتَوْا فِي خِطَابِ مُوسَى بِضَمِيرِ الْمُثَنَّى الْمُخَاطَبِ لِأَنَّ هَارُونَ كَانَ حَاضِرًا فَالْتَفَتُوا عَنْ خِطَابِ الْوَاحِدِ إِلَى خِطَابِ الِاثْنَيْنِ.
وَإِنَّمَا شَرَّكُوا هَارُونَ فِي هَذَا الظَّنِّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ جَاءَ مَعَ مُوسَى وَلَمْ يُبَاشِرِ الدَّعْوَةَ فَظَنُّوا أَنَّهُ جَاءَ مَعَهُ لِيَنَالَ مِنْ سِيَادَةِ أَخِيهِ حَظًّا لِنَفْسِهِ.
وَجُمْلَةُ: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: أَجِئْتَنا. وَهِيَ فِي قُوَّةِ النَّتِيجَةِ لِتِلْكَ الْجُمْلَةِ بِمَا مَعَهَا مِنَ الْعِلَّةِ، أَيْ لَمَّا تَبَيَّنَ مَقْصِدُكُمَا فَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ.
وَتَقْدِيمُ لَكُمَا عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَيْنِ هُمَا الْأَهَمُّ مِنْ جُمْلَةِ النَّفْيِ لِأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ كَانَ لِأَجَلِ مُوسَى وَهَارُونَ إِذْ تَوَهَّمُوهُمَا مُتَطَلِّبَيْ نَفْعٍ لِأَنْفُسِهِمَا. فَالْمُرَادُ مِنْ ضَمِيرِ التَّثْنِيَةِ ذَاتَاهُمَا بِاعْتِبَارِ مَا انْطَوَيَا عَلَيْهِ مِنْ قَصْدِ إِبْطَالِ دِينِ آبَاءِ الْقِبْطِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى سِيَادَةِ بِلَادِهِمْ.
وَصِيغَتْ جُمْلَةُ: وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ اسْمِيَّةً دُونَ أَنْ يَقُولُوا وَمَا نُؤْمِنُ لَكُمَا لِإِفَادَةِ الثَّبَاتِ وَالدَّوَامِ وَأَنَّ انْتِفَاءَ إِيمَانُهُمْ بِهِمَا مُتَقَرِّرٌ مُتَمَكِّنٌ لَا طَمَاعِيَةَ لِأَحَدٍ فِي ضِدّه.
الْقِبْطِ، وَإِمَّا لِأَنَّهُ أَتَى بِتَرْكِيبَيْنِ عُذْرَيْنِ لِامْتِنَاعِهِ فَحَكَاهُمَا الْقُرْآنُ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ وَالتَّوْجِيهِ.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَالْكَلَامُ تَعْلِيلٌ لِامْتِنَاعِهِ وَتَعْرِيضٌ بِهَا فِي خِيَانَةِ عَهْدِهَا.
وَفِي هَذَا الْكَلَامِ عِبْرَةٌ عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَفَافِ وَالتَّقْوَى وَعِصْمَةُ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ النُّبُوءَةِ مِنَ الْكَبَائِرِ.
وَذِكْرُ وَصْفِ الرَّبِّ عَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ لِمَا يُؤْذِنُ بِهِ مِنْ وُجُوبِ طَاعَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِيجَادِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّهِ، وَنِعْمَةِ التَّرْبِيَةِ بِالنِّسْبَةِ لِمَوْلَاهُ الْعَزِيزِ.
وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِوَصْفِهِ بِجُمْلَةِ أَحْسَنَ مَثْوايَ، أَيْ جَعَلَ آخِرَتِي حُسْنَى، إِذْ أَنْقَذَنِي مِنَ الْهَلَاكِ، أَوْ أَكْرَمَ كَفَالَتِي. وَتَقَدَّمَ آنِفًا تَفْسِيرُ الْمَثْوَى.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ تَعْلِيلٌ ثَانٍ لِلِامْتِنَاعِ. وَالضَّمِيرُ الْمَجْعُولُ اسْمًا لِ (إِنَّ) ضَمِيرُ الشَّأْنِ يُفِيدُ أَهَمِّيَّةَ الْجُمْلَةِ الْمَجْعُولَةِ خَبَرًا عَنْهُ لِأَنَّهَا مَوْعِظَةٌ جَامِعَةٌ. وَأَشَارَ إِلَى أَنَّ إِجَابَتَهَا لِمَا رَاوَدَتْهُ ظُلْمٌ، لِأَنَّ فِيهَا ظُلْمُ كِلَيْهِمَا نَفْسَهُ بِارْتِكَابِ مَعْصِيَةٍ مِمَّا اتَّفَقَتِ الْأَدْيَانُ عَلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ، وَظُلْمُ سَيِّدِهِ الَّذِي آمنهُ على بَينه وَآمَنَهَا عَلَى نَفْسِهَا إِذِ اتَّخَذَهَا زَوَجًا وَأَحْصَنَهَا.
وَالْهَمُّ: الْعَزْمُ عَلَى الْفِعْلِ. وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ [٧٤]. وَأَكَّدَ هَمَّهَا ب لَقَدْ وَلَامِ الْقَسَمِ لِيُفِيدَ أَنَّهَا عَزَمَتْ عَزْمًا مُحَقَّقًا.
وَجُمْلَةُ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. وَالْمَقْصُودُ: أَنَّهَا كَانَتْ جَادَّةً فِيمَا رَاوَدَتْهُ لَا مُخْتَبِرَةً. وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِ هَمِّهَا بِهِ التَّمْهِيدُ إِلَى ذِكْرِ انْتِفَاءِ هَمِّهِ بِهَا لِبَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ حَالَيْهِمَا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَعْصُومٌ.
وَجُمْلَةُ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ كُلِّهَا. وَلَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ هَمَّتْ الَّتِي هِيَ جَوَابُ الْقَسَمِ
تَنْفِي الْأَوَّلَ وَكَوْنُهُ صَاحِبَ انْتِقَامٍ يَنْفِي الثَّانِي. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ أَيْضًا وَبِهَا تمّ الْكَلَام.
[٤٨- ٥١]
[سُورَة إِبْرَاهِيم (١٤) : الْآيَات ٤٨ إِلَى ٥١]
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (٤٩) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٥١)
اسْتِئْنَافٌ لِزِيَادَةِ الْإِنْذَارِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ، لِأَنَّ فِي هَذَا تَبْيِينَ بَعْضِ مَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْأَهْوَالِ فَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ مُتَعَلِّقًا بِقَوْلِهِ: سَرِيعُ الْحِسابِ قُدِّمَ عَلَيْهِ
لِلِاهْتِمَامِ بِوَصْفِ مَا يَحْصُلُ فِيهِ، فَجَاءَ عَلَى هَذَا النَّظْمِ لِيَحْصُلَ مِنَ التَّشْوِيقِ إِلَى وَصْفِ هَذَا الْيَوْمِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّهْوِيلِ.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ، وَتَجْعَلُ جُمْلَةَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ عَلَى هَذَا تَذْيِيلًا.
وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَهُ مُتَعَلِّقًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ. وَالتَّقْدِيرُ يَجْزِي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ.. الْخَ.
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ تَذْيِيلٌ أَيْضًا.
وَالتَّبْدِيلُ: التَّغْيِيرُ فِي شَيْءٍ إِمَّا بِتَغْيِيرِ صِفَاتِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ [سُورَة الْفرْقَان: ٧٠]، وَقَوْلِكَ: بَدَّلْتُ الْحَلْقَةَ خَاتَمًا وَإِمَّا بِتَغْيِيرِ ذَاتِهِ وَإِزَالَتِهَا بِذَاتٍ أُخْرَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [سُورَة النِّسَاء: ٥٦]، وَقَوْلِهِ: وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ [سُورَة سبأ: ١٦].
تَغْيِيرِ صِيغَة الْفِعْل عَن الْمُضَارِعِ إِلَى الْمَاضِي تَهْيِئَةَ عَطْفِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ.
وَلَمْ يُوصَفِ الرَّسُولُ- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- بِأَنَّهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ لِأَنَّهُ مَبْعُوثٌ إِلَى جَمِيعِ الْأُمَمِ، وَشَهِيدٌ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَأَمَّا وَصْفُهُ بِذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ [١٢٨] فَذَلِكَ وَصْفٌ كَاشِفٌ اقْتَضَاهُ مَقَامُ التَّذْكِيرِ لِلْمُخَاطِبِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ ضَمُّوا إِلَى الْكُفْرِ بِاللَّهِ كُفْرَانَ نِعْمَةِ بَعْثِ رَسُولٍ إِلَيْهِمْ مَنْ قَوْمِهِمْ.
وَلَيْسَ فِي قَوْلِهِ: عَلى هؤُلاءِ مَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ شَهَادَتِهِ بِكَوْنِهَا شَهَادَةً عَلَى الْمُتَحَدِّثِ عَنْهُمْ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَلَكِنِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِمْ لِأَنَّ الْكَلَامَ جَارٍ فِي تَهْدِيدِهِمْ وَتَحْذِيرِهِمْ.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَهُمُ الْمُشْرِكُونَ الَّذِينَ أَكْثَرَ الْحَدِيثَ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ تَتَبَّعْتُ مَوَاقِعَ أَمْثَالِ اسْمِ الْإِشَارَةِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ فَرَأَيْتُهُ يُعْنَى بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١]، وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٩].
وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً أَيْ أَرْسَلْنَاكَ شَهِيدًا عَلَى الْمُشْرِكِينَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِيَنْتَفِعَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ، فَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَهِيدٌ عَلَى الْمُكَذِّبِينَ وَمُرْشِدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ.
وَهَذَا تَخَلُّصٌ لِلشُّرُوعِ فِي تَعْدَادِ النِّعَمِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ مِنْ نِعَمِ الْإِرْشَادِ وَنِعَمِ الْجَزَاء على الِامْتِثَال وَبَيَانُ بَرَكَاتِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ لَهُمْ.
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً اسْتِئْنَافٌ بِالتَّشَاؤُمِ بِذَلِكَ الْقَوْلِ الشَّنِيعِ.
وَوَجْهُ فَصْلِ الْجُمْلَةِ أَنَّهَا مُخَالِفَةٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا بِالْإِنْشَائِيَّةِ الْمُخَالَفَةِ لِلْخَبَرِيَّةِ.
وَفِعْلُ كَبُرَتْ- بِضَمِّ الْبَاءِ-. أَصْلُهُ: الْإِخْبَارُ عَنِ الشَّيْءِ بِضَخَامَةِ جِسْمِهِ، وَيُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي الشِّدَّةِ وَالْقُوَّةِ فِي وَصْفٍ مِنَ الصِّفَاتِ الْمَحْمُودَةِ وَالْمَذْمُومَةِ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِعَارَةِ، وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمل فِي التعجيب مِنْ كِبَرِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ فِي الشَّنَاعَةِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ.
وَدَلَّ على قصد التعجيب مِنْهَا انْتِصَابُ كَلِمَةً عَلَى التَّمْيِيزِ إِذْ لَا يَحْتَمِلُ التَّمْيِيزُ هُنَا مَعْنًى غَيْرَ أَنَّهُ تَمْيِيز نِسْبَة التعجيب، وَمِنْ أَجْلِ هَذَا مَثَّلُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ لِوُرُودِ فَعُلَ الْأَصْلِيِّ وَالْمُحَوَّلِ لِمَعْنَى الْمَدْحِ وَالذَّمِّ فِي مَعْنَى نِعْمَ وَبِئْسَ بِحَسَبِ الْمَقَامِ.
وَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: كَبُرَتْ يَرْجِعُ إِلَى الْكَلِمَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا التَّمْيِيزُ.
وَأُطْلِقَتِ الْكَلِمَةُ عَلَى الْكَلَامِ وَهُوَ إِطْلَاقٌ شَائِعٌ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠]،
وَقَول النبيء صلّى الله عَلَيْهِ وَآله وسلّم: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيَدٍ:
أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ»
وَجُمْلَةُ تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صِفَةٌ لِ كَلِمَةً مَقْصُودٌ بِهَا مِنْ جَرْأَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ بِهَا وَوَقَاحَتِهِمْ فِي قَوْلِهَا.
وَالتَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ لِاسْتِحْضَارِ صُورَةِ خُرُوجِهَا من أَفْوَاههم تخييلا لِفَظَاعَتِهَا.
وَفِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ لَيْسَ لَهُ مَصْدَرٌ غَيْرُ الْأَفْوَاهِ، لِأَنَّهُ لِاسْتِحَالَتِهِ تَتَلَقَّاهُ وَتَنْطِقُ بِهِ أَفْوَاهُهُمْ وَتَسْمَعُهُ أسماعهم وَلَا تتعقله عُقُولُهُمْ لِأَنَّ الْمُحَالَ لَا يَعْتَقِدُهُ الْعَقْلُ وَلَكِنَّهُ يَتَلَقَّاهُ الْمُقَلِّدُ دُونَ تَأَمُّلٍ.
مُشَدَّدَةً أَوْ مُخَفَّفَةً، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَشْهُورِ الْقِرَاءَاتِ الْمُتَوَاتِرَةِ قَرَأُوا- بِتَشْدِيدِ نُونِ- (أَنَّ) مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ وَحَفْصًا عَنْ عَاصِمٍ فَهُمَا قَرَءَا (أَنْ) - بِسُكُونِ النُّونِ- عَلَى أَنَّهَا مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ.
وَإِنَّ الْمُصْحَفَ الْإِمَامَ مَا رَسَمُوهُ إِلَّا اتِّبَاعًا لِأَشْهَرِ الْقِرَاءَاتِ الْمَسْمُوعَةِ الْمَرْوِيَّةِ مِنْ زَمَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقُرَّاءِ أَصْحَابِهِ، فَإِنَّ حِفْظَ الْقُرْآنِ فِي صُدُورِ الْقُرَّاءِ أَقْدَمُ مِنْ كِتَابَتِهِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَمَا كُتِبَ فِي أُصُولِ الْمَصَاحِفِ إِلَّا مِنْ حِفْظِ الْكَاتِبِينَ، وَمَا كُتِبَ الْمُصْحَفُ الْإِمَامُ إِلَّا مِنْ مَجْمُوعِ مَحْفُوظِ الْحُفَّاظِ وَمَا كَتَبَهُ كُتَّابُ الْوَحْيِ فِي مُدَّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ.
فَأَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ إِنْ هذانِ لَساحِرانِ- بِتَشْدِيدِ نُونِ- (إِنَّ) وَبِالْأَلِفِ فِي هذانِ وَكَذَلِكَ فِي لَساحِرانِ، فَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَوْجِيهِهَا آرَاءٌ بَلَغَتِ السِّتَّةَ. وَأَظْهَرُهَا أَنْ تَكُونَ (إِنَّ) حَرْفُ جَوَابٍ مِثْلَ: نَعَمْ وَأَجَلْ، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ (إِنَّ)، أَيِ اتَّبَعُوا لَمَّا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ النَّجْوَى كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
وَيَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلَا | كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إِنَّهُ |
وَقُلْتُ: لَقَدْ صَدَقَا وَحَقَّقَا، وَمَا أَوْرَدَهُ ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَيْهِ مِنَ الرَّدِّ فِيهِ نَظَرٌ.
وَجُمْلَةُ وَمَنْ يُعَظِّمْ إِلَخْ... مُعْتَرِضَةٌ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ [الْحَج: ٢٦] عَطْفَ الْغَرَضِ عَلَى الْغَرَضِ. وَهُوَ انْتِقَالٌ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ الْحِفَاظُ عَلَيْهِ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ وَالتَّنْبِيهِ إِلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ بُنِيَ عَلَى أَسَاسِهَا.
وَضَمِيرُ فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى التَّعْظِيمِ الْمَأْخُوذِ مَنْ فِعْلِ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ.
وَالْكَلَامُ مُوَجَّهٌ إِلَى الْمُسْلِمِينَ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْحُرُمَاتِ لَمْ يُعَطِّلِ الْإِسْلَامُ حُرْمَتَهَا، فَيَكُونُ الِانْتِقَالُ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ وَمِنْ مُخَاطَبٍ إِلَى مُخَاطَبٍ آخَرَ. فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَعْتَمِرُونَ وَيَحُجُّونَ قَبْلَ إِيجَابِ الْحَجِّ عَلَيْهِمْ، أَيْ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ.
وَالْحُرُمَاتُ: جَمْعُ حُرُمَةٍ- بِضَمَّتَيْنِ-: وَهِيَ مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ.
وَالِاحْتِرَامُ: اعْتِبَارُ الشَّيْءِ ذَا حَرَمٍ، كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الدُّخُولِ فِيهِ. أَيْ عَدَمِ انْتِهَاكِهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي شَأْنِهِ، وَالْحُرُمَاتُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا أَوْصَى اللَّهُ بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِ فَتَشْمَلُ مَنَاسِكَ الْحَجِّ كُلَّهَا.
وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: الْحُرُمَاتُ خَمْسٌ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمُحْرِمُ مَا دَامَ مُحْرِمًا، فَقَصْرُهُ عَلَى الذَّوَاتِ دُونَ الْأَعْمَالِ.
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْحُرُمَاتِ يَشْمَلُ الْهَدَايَا وَالْقَلَائِدَ وَالْمَشْعَرَ الْحَرَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، كَالْغُسْلِ فِي مَوَاقِعِهِ، وَالْحَلْقِ وَمَوَاقِيتِهِ وَمَنَاسِكِهِ.
وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا مَا يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ لَمَّا ذَكَرَ آنِفًا بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ وَتَعْظِيمَ حُرُمَاتِ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ مِنَ الْأَنْعَامِ مِثْلِ: الْبَحِيرَةِ، وَالسَّائِبَةِ،
وَالسَّرَابُ: رُطُوبَةٌ كَثِيفَةٌ تَصْعَدُ عَلَى الْأَرْضِ وَلَا تَعْلُو فِي الْجَوِّ تَنْشَأُ مِنْ بَيْنِ رُطُوبَةِ الْأَرْضِ وَحَرَارَةِ الْجَوِّ فِي الْمَنَاطِقِ الْحَارَّةِ الرَّمْلِيَّةِ فَيَلُوحُ مِنْ بَعِيدٍ كَأَنَّهُ مَاءٌ. وَسَبَبُ حُدُوثِ السَّرَابِ اشْتِدَادُ حَرَارَةِ الرِّمَالِ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ فَتَشْتَدُّ حَرَارَةُ طَبَقَةِ الْهَوَاءِ الْمُلَاصِقَةِ لِلرَّمْلِ وَتَحِرُّ الطَّبَقَةُ الْهَوَائِيَّةُ الَّتِي فَوْقَهَا حَرًّا أَقَلَّ مِنْ حَرَارَةِ الطَّبَقَةِ الْمُلَاصِقَةِ. وَهَكَذَا تَتَنَاقَصُ الْحَرَارَةُ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنَ الْهَوَاءِ عَنْ حَرَارَةِ الطَّبَقَةِ الَّتِي دُونَهَا. وَبِذَلِكَ تَزْدَادُ كَثَافَةُ الْهَوَاءِ بِزِيَادَةِ الِارْتِفَاعِ عَنْ سَطْحِ الْأَرْضِ. وَبِحَرَارَةِ الطَّبَقَةِ السُّفْلَى الَّتِي تَلِي الْأَرْضَ تَحْدُثُ فِيهَا
حَرَكَاتٌ تَمْوِجِيَّةٌ فَيَصْعَدُ جُزْءٌ مِنْهَا إِلَى مَا فَوْقَهَا مِنَ الطَّبَقَاتِ وَهَكَذَا.. فَتَكُونُ كُلُّ طَبَقَةٍ أَكْثَفَ مِنَ الَّتِي تَحْتَهَا. فَإِذَا انْعَكَسَ عَلَى تِلْكَ الْأَشِعَّةِ نُورُ الْجَوِّ مِنْ قُرْبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إِلَى بَقِيَّةِ النَّهَارِ تَكَيَّفَتْ تِلْكَ الْأَشِعَّةُ بِلَوْنِ الْمَاءِ. فَفِي أَوَّلِ ظُهُورِ النُّورِ يَلُوحُ السَّرَابُ كَأَنَّهُ الْمَاءُ الرَّاكِدُ أَوِ الْبَحْرُ وَكُلَّمَا اشْتَدَّ الضِّيَاءُ ظَهَرَ فِي السَّرَابِ تَرَقْرُقٌ كَأَنَّهُ مَاءٌ جَارٍ.
ثُمَّ قَدْ يُطْلَقُ السَّرَابُ عَلَى هَذَا الْهَوَاءِ الْمُتَمَوِّجِ فِي سَائِرِ النَّهَارِ مِنَ الْغُدْوَةِ إِلَى الْعَصْرِ.
وَقَدْ يُخَصُّ مَا بَيْنَ أَوَّلِ النَّهَارِ إِلَى الضُّحَى بِاسْمِ الْآلِ ثُمَّ سَرَابٌ. وَعَلَى هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالْعَرَبِ يَتَسَامَحُونَ فِي إِطْلَاقِ أَحَدِ اللَّفْظَيْنِ مَكَانَ الْآخَرِ، وَقَدْ شَاهَدْتُهُ فِي شَهْرِ نُوفَمْبِرَ فِيمَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ بِمَقْرُبَةٍ مِنْ مَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: أُمُّ الْعَرَائِسِ مِنْ جِهَاتِ تَوْزَرَ، وَأَنَا فِي قِطَارِ السِّكَّةِ الْحَدِيدِيَّةِ فخلت فِي أَوَّلَ النَّظَرِ أَنَّا أَشْرَفْنَا عَلَى بَحْرٍ.
وَقَوْلُهُ: بِقِيعَةٍ الْبَاءُ بِمَعْنَى فِي. وَ (قِيعَةٍ) أَرْضٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَصْفٌ لِسَرَابٍ وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لِأَنَّ السَّرَابَ لَا يَتَكَوَّنُ إِلَّا فِي قِيعَةِ. وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ فِي الْمَثَلِ لِلذَّلِيلِ «هُوَ فَقْعٌ فِي قَرْقَرٍ» فَإِنَّ الْفَقْعَ لَا يَنْبُتُ إِلَّا فِي قَرْقَرٍ. وَالْقِيعَةُ: الْأَرْضُ الْمُنْبَسِطَةُ لَيْسَ فِيهَا رُبًى وَيُرَادِفُهَا الْقَاعَةُ. وَقِيلَ قِيعَةُ جَمْعُ قَاعٍ مِثْلُ جِيرَةٍ جَمْعُ جَارٍ، وَلَعَلَّهُ غُلِّبَ لَفْظُ الْجَمْعِ فِيهِ حَتَّى سَاوَى الْمُفْرَدَ.
وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ: بِنَبَإٍ لِلْمُصَاحَبَةِ لِأَنَّ النَّبَأَ كَانَ مُصَاحِبًا لِلْهُدْهُدِ حِينَ مَجِيئِهِ، وَالنَّبَأُ: الْخَبَرُ المهم.
وَبَين ب سَبَإٍ وبِنَبَإٍ الْجِنَاسُ الْمُزْدَوَجُ. وَفِيهِ أَيْضًا جِنَاسُ الْخَطِّ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ صُورَةُ الْكَلِمَتَيْنِ وَاحِدَةً فِي الْخَطِّ وَإِنَّمَا تَخْتَلِفَانِ فِي النُّطْقِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشُّعَرَاء: ٧٩، ٨٠].
وَوَصْفُهُ بِ يَقِينٍ تَحْقِيقٌ لَكَوْنِ مَا سَيُلْقَى إِلَيْهِ شَيْءٌ مُحَقَّقٌ لَا شُبْهَةَ فِيهِ فَوُصِفَ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ.
وَجُمْلَةُ: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً بَيَان لنبأ فَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ. وَإِدْخَالُ (إِنَّ) فِي صَدْرِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِأَهَمِّيَّةِ الْخَبَرِ إِذْ لَمْ يَكُنْ مَعْهُودًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ مَلِكًا.
وَفِعْلُ تَمْلِكُهُمْ هُنَا مُشْتَقٌّ مِنَ الْمُلْكِ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفِعْلُهُ كَفِعْلِ مِلْكِ الْأَشْيَاءِ. وَرَوِيَ حَدِيثُ هِرَقْلَ «هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلَكٍ» بِفَتْحِ اللَّامِ، أَيْ كَانَ مَلِكًا، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ بِالْمَصْدَرِ فَمَصْدَرُ هَذَا مُلْكٌ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَالْآخَرُ بِكَسْرِهَا، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ رَاجِعٌ إِلَى سَبَأٍ.
وَهَذِهِ الْمَرْأَةُ أُرِيدَ بِهَا بِلْقِيسُ (بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ الْقَافِ) ابْنَةُ شَرَاحِيلَ وَفِي تَرْتِيبِهَا مَعَ مُلُوكِ سَبَأٍ وَتَعْيِينِ اسْمِهَا وَاسْمِ أَبِيهَا اضْطِرَابٌ لِلْمُؤَرِّخِينَ.
وَالْمَوْثُوقُ بِهِ أَنَّهَا كَانَتْ مُعَاصِرَةً سُلَيْمَانَ فِي أَوَائِلِ الْقَرْنِ السَّابِعِ عَشَرَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَكَانَتِ امْرَأَةً عَاقِلَةً. وَيُقَالُ: هِيَ الَّتِي بَنَتْ سَدَّ مَأْرِبَ. وَكَانَتْ حَاضِرَةُ مُلْكِهَا مَأْرِبَ مَدِينَةً عَظِيمَةً بِالْيَمَنِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ مَسِيرَةَ ثَلَاثِ مَرَاحِلَ وَسَيَأْتِي ذِكْرُهَا فِي سُورَةِ سَبَأٍ.
وَتَنْكِيرُ امْرَأَةً وَهُوَ مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ وَجَدْتُ لَهُ حُكْمُ الْمُبْتَدَأِ فَهُوَ كَالِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ إِذَا أُرِيدَ بِالنَّكِرَةِ التَّعَجُّبُ مِنْ جِنْسِهَا كَقَوْلِهِمْ: بَقَرَةٌ تَكَلَّمَتْ، لِأَنَّ الْمُرَادَ حِكَايَةُ أَمْرٍ عَجِيبٍ عِنْدَهُمْ أَنْ تَكُونَ امْرَأَةٌ مَلِكَةً عَلَى قَوْمٍ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: وَجَدْتُهُمْ تَمْلِكُهُمُ امْرَأَةٌ.
وَالْإِيتَاءُ: الْإِعْطَاءُ، وَهُوَ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْمُعْطَى مَرْغُوبٌ فِيهِ، وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازَمِهِ وَهُوَ النَّوْلُ.
مَقَامِ التَّكْوِينِ فَلَا. وَظُلْمُهُمْ أَنْفُسَهُمْ هُوَ تَسَبُّبُهُمْ فِي عَذَابِ أَنْفُسِهِمْ فَجَرُّوا إِلَيْهَا الْعِقَابَ لِأَنَّ النَّفْسَ أَوْلَى الْأَشْيَاءِ بِرَأْفَةِ صَاحِبِهَا بِهَا وَتَفْكِيرِهِ فِي أَسْبَابِ خَيرهَا.
والاستدراك ناشىء عَنْ نَفْيِ الظُّلْمِ عَنِ اللَّهِ فِي عِقَابِهِمْ لِأَنَّهُ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ انْتِفَاءُ مُوجِبِ الْعِقَابِ فَالِاسْتِدْرَاكُ لِرَفْعِ هَذَا التَّوَهُّم.
[٤١]
[سُورَة العنكبوت (٢٩) : آيَة ٤١]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١)
لَمَّا بُيِّنَتْ لَهُمُ الْأَشْبَاهُ وَالْأَمْثَالُ مِنَ الْأُمَمِ الَّتِي اتَّخَذَتِ الْأَصْنَامَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ أَصْنَامُهُمْ لَمَّا جَاءَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِضَرْبِ الْمَثَلِ لِحَالِ جَمِيعِ أُولَئِكَ وَحَالِ مَنْ مَاثَلَهُمْ مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ فِي اتِّخَاذِهِمْ مَا يَحْسَبُونَهُ دَافِعًا عَنْهُمْ وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ، بِحَالِ الْعَنْكَبُوتِ تَتَّخِذُ لِنَفْسِهَا بَيْتًا تَحْسَبُ أَنَّهَا تَعْتَصِمُ بِهِ مِنَ الْمُعْتَدِي عَلَيْهَا فَإِذَا هُوَ لَا يَصْمُدُ وَلَا يَثْبُتُ لِأَضْعَفِ تَحْرِيكٍ فَيَسْقُطُ وَيَتَمَزَّقُ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْكَلَامِ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ، وَتُعْلَمُ مُسَاوَاةُ غَيْرِهِمْ لَهُمْ فِي ذَلِكَ بِدَلَالَةِ لَحْنِ الْخِطَابِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ بَعْدَهُ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [العنكبوت: ٤٢] فَضَمِيرُ اتَّخَذُوا عَائِدٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنْ سِيَاقِ الْكَلَامِ وَهُمْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ.
وَجُمْلَةُ اتَّخَذَتْ بَيْتاً حَالٌ مِنَ الْعَنْكَبُوتِ وَهِيَ قَيْدٌ فِي التَّشْبِيهِ. وَهَذِهِ الْهَيْئَةُ الْمُشَبَّهُ بِهَا مَعَ الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهَةِ قَابِلَةٌ لِتَفْرِيقِ التَّشْبِيهِ عَلَى أَجْزَائِهَا فَالْمُشْرِكُونَ أَشْبَهُوا الْعَنْكَبُوتَ فِي الْغُرُورِ بِمَا أَعَدُّوهُ، وَأَوْلِيَاؤُهُمْ أَشْبَهُوا بَيْتَ الْعَنْكَبُوتِ فِي عَدَمِ الْغَنَاءِ عَمَّنِ اتَّخَذُوهَا وَقْتَ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا وَتَزُولُ بِأَقَلِّ تَحْرِيكٍ، وَأَقْصَى مَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ مِنْهَا نَفْعٌ ضَعِيفٌ وَهُوَ السُّكْنَى فِيهَا وَتَوَهُّمُ أَنْ تَدْفَعَ عَنْهُمْ كَمَا يَنْتَفِعُ الْمُشْرِكُونَ بِأَوْهَامِهِمْ فِي أَصْنَامِهِمْ. وَهُوَ تَمْثِيلٌ بَدِيعٌ مِنْ مُبْتَكَرَاتِ الْقُرْآنِ كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا عِنْدَ قَوْلِهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ فِي
هَذِهِ السُّورَةِ [٤٣].
والْعَنْكَبُوتِ: صِنْفٌ مِنَ الْحَشَرَاتِ ذَاتُ بُطُونٍ وَأَرْجُلٍ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ، مِنْهَا صِنْفٌ يُسَمَّى لَيْثَ الْعَنَاكِبِ وَهُوَ الَّذِي يَفْتَرِسُ الذُّبَابَ، وَكُلُّهَا تَتَّخِذُ لِأَنْفُسِهَا نَسِيجًا تَنْسِجُهُ مِنْ لُعَابِهَا يَكُونُ خُيُوطًا مَشْدُودَةً بَيْنَ طَرَفَيْنِ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ
وَأَنْ يَنْزِلُوا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ ثُمَّ جَاءُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيَّ وَمُعَتِّبِ بْنِ قُشَيْرٍ، وَالْجَدِّ بن قيس، وطمعة بْنِ أُبَيْرِقٍ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَتْرُكَ ذِكْرَ آلِهَةِ قُرَيْشٍ، فَغَضِبَ الْمُسْلِمُونَ وَهَمَّ عُمَرُ بقتل النَّفر القرشيين، فَمَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَعْطَاهُمُ الْأَمَانَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، أَيِ:- اتَّقِ اللَّهَ فِي حِفْظِ الْأَمَانِ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ- وَهُمُ النَّفَرُ الْقُرَشِيُّونَ- وَالْمُنَافِقِينَ- وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمَنْ مَعَهُ-. وَهَذَا الْخَبَرُ لَا سَنَدَ لَهُ وَلَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ أَهْلُ النَّقْدِ مِثْلَ الطَّبَرِيِّ وَابْن كثير.
[٢]
[سُورَة الْأَحْزَاب (٣٣) : آيَة ٢]
وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (٢)
هَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا يَرِدُ مِنَ الْوَحْيِ فِي شَأْنِ أَحْكَامِ التَّبَنِّي وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا، وَلِذَلِكَ جِيءَ
بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ الصَّالِحِ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَجُرِّدَ مِنْ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ لِأَنَّهُ قَرِيبٌ مِنْ زَمَنِ الْحَالِ. وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ أَنَّهُ أَمْرٌ بِاتِّبَاع خَاص تَأْكِيد لِلْأَمْرِ الْعَامِّ بِاتِّبَاعِ الْوَحْيِ.
وَفِيهِ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَا سَيُوحَى إِلَيْهِ قَرِيبًا هُوَ مِمَّا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِبْطَالِ حُكْمِ التَّبَنِّي لِأَنَّهُمْ أَلِفُوهُ وَاسْتَقَرَّ فِي عَوَائِدِهِمْ وَعَامَلُوا الْمُتَبَنِّينَ مُعَامَلَةَ الْأَبْنَاءِ الْحَقِّ.
وَلِذَلِكَ ذُيِّلَتْ جُمْلَةُ وَاتَّبِعْ مَا يُوحى إِلَيْكَ بِجُمْلَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تَعْلِيلًا لِلْأَمْرِ بِالِاتِّبَاعِ وَتَأْنِيسًا بِهِ لِأَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا فِي عَوَائِدِكُمْ وَنُفُوسِكُمْ فَإِذَا أَبْطَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّ إِبْطَالَهُ مِنْ تَعَلُّقِ الْعِلْمِ بِلُزُومِ تَغْيِيرِهِ فَلَا تَتَرَيَّثُوا فِي امْتِثَالِ أَمْرِهِ فِي ذَلِكَ، فَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فِي مَوْقِعِ الْعِلَّةِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ لِأَنَّ حَرْفَ التَّوْكِيدِ مُغْنٍ غَنَاءَ فَاءِ التَّفْرِيعِ كَمَا مَرَّ آنِفًا.
وَفِي إِفْرَادِ الْخِطَابِ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ وَاتَّبِعْ وَجَمْعِهِ بِمَا يَشْمَلُهُ وَأُمَّتَهُ فِي قَوْلِهِ بِما تَعْمَلُونَ إِيمَاءً إِلَى أَنَّ فِيمَا سَيَنْزِلُ مِنَ الْوَحْيِ مَا يَشْتَمِلُ عَلَى تَكْلِيفٍ يَشْمَلُ تَغْيِيرَ حَالَةٍ كَانَ النَّبِيءُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُشَارِكًا لِبَعْضِ الْأُمَّةِ فِي التَّلَبُّسِ بِهَا وَهُوَ حُكْمُ التَّبَنِّي إِذْ كَانَ النَّبِيءُ مُتَبَنِّيًا زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنْ قَبْلِ بَعْثَتِهِ.
فَأُجِيبُوا بِقَوْلِ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [إِبْرَاهِيم: ١١].
[٢]
[سُورَة فاطر (٣٥) : آيَة ٢]
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢)
هَذَا مِنْ بَقِيَّةِ تَصْدِيرِ السُّورَةِ بِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [فاطر: ١]، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَخْ. وَالتَّقْدِيرُ: وَفَاتِحِ الرَّحْمَةِ لِلنَّاسِ وَمُمْسِكِهَا عَنْهُمْ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى إِمْسَاكِ مَا فَتَحَهُ وَلَا عَلَى فَتْحِ مَا أَمْسَكَهُ.
وَمَا شَرْطِيَّةٌ، أَيِ اسْمٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ. وَأَصْلُهَا اسْمٌ مَوْصُولٌ ضُمِّنَ مَعْنَى الشَّرْطِ. فَانْقَلَبَتْ صِلَتُهُ إِلَى جُمْلَةٍ شَرْطِيَّةٍ وَانْقَلَبَتْ جُمْلَةُ الْخَبَرِ جَوَابًا وَاقْتَرَنَتْ بِالْفَاءِ لِذَلِكَ، فَأَصْلُ مَا الشَّرْطِيَّةِ هُوَ الْمَوْصُولَةُ. وَمَحَلُّ مَا الِابْتِدَاءُ وَجَوَابُ الشَّرْط أغْنى عَن الْخَبَرِ.
ومِنْ رَحْمَةٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا وَالرَّابِطُ مَحْذُوفٌ لِأَنَّهُ ضَمِيرٌ مَنْصُوبٌ.
وَالْفَتْح: تَمْثِيلِيَّةٌ لِإِعْطَاءِ الرَّحْمَةِ إِذْ هِيَ مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي تُشْبِهُ الْمُدَّخَرَاتِ الْمُتَنَافَسِ فِيهَا فَكَانَتْ حَالَةُ إِعْطَاءِ اللَّهِ الرَّحْمَةَ شَبِيهَةً بِحَالَةِ فَتْحِ الْخَزَائِنِ لِلْعَطَاءِ، فَأُشِيرَ إِلَى هَذَا التَّمْثِيلِ بِفِعْلِ الْفَتْحِ، وَبَيَانُهُ بِقَوْلِهِ: مِنْ رَحْمَةٍ قَرِينَةُ الِاسْتِعَارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ.
وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَتُهُ: أَخْذُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ مَعَ الشَّدِّ عَلَيْهِ بِهَا لِئَلَّا يَسْقُطَ أَوْ يَنْفَلِتَ، وَهُوَ يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ، أَوْ هُوَ هُنَا مَجَازٌ عَنِ الْحَبْسِ وَالْمَنْعِ وَلِذَلِكَ قُوبِلَ بِهِ الْفَتْحُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: أَمْسَكَ بِكَذَا، فَالْبَاءُ إِمَّا لِتَوْكِيدِ لُصُوقِ الْمَفْعُولِ بِفِعْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: ١٠]، وَإِمَّا لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الِاعْتِصَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى [لُقْمَان: ٢٢].
وَقَدْ أُوهِمَ فِي «الْقَامُوس» و «اللِّسَان» و «التَّاج» أَنَّهُ لَا يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ.
وَالتَّدَبُّرُ: التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ الَّذِي يَبْلُغُ بِهِ صَاحِبُهُ مَعْرِفَةَ الْمُرَادِ مِنَ الْمَعَانِي، وَإِنَّمَا يَكُونُ
ذَلِكَ فِي كَلَامٍ قَلِيلِ اللَّفْظِ كَثِيرِ الْمَعَانِي الَّتِي أُودِعَتْ فِيهِ بِحَيْثُ كُلَّمَا ازْدَادَ المتدبر تدبرا انكشفت لَهُ مَعَانٍ لَمْ تَكُنْ بادية لَهُ بادىء النَّظَرِ. وَأَقْرَبُ مَثَلٍ لِلتَّدَبُّرِ هُنَا هُوَ مَا مَرَّ آنِفًا مِنْ مَعَانِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا إِلَى قَوْلِهِ: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٧، ٢٨]، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٨٢].
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: لِيَدَّبَّرُوا بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَتَشْدِيدِ الدَّالِّ. وَأَصْلُ «يَدَّبَّرُوا» يَتَدَبَّرُوا، فَقُلِبَتِ التَّاءُ دَالًّا لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا لِيَتَأَتَّى الْإِدْغَامُ لِتَخْفِيفِهِ وَهُوَ صِيغَةُ تُكَلُّفٍ مُشْتَقَّةٌ مِنْ فِعْلِ:
دَبَرَ بِوَزْنِ ضَرَبَ، إِذَا تَبِعَ، فَتَدَبَّرَهُ بِمَنْزِلَةِ تَتَبَّعَهُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُ يَتَعَقَّبُ ظَوَاهِرَ الْأَلْفَاظِ لِيَعْلَمَ مَا يَدْبِرُ ظَوَاهِرُهَا مِنَ الْمَعَانِي الْمَكْنُونَةِ وَالتَّأْوِيلَاتِ اللَّائِقَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [٦٨].
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ لِتَدَبَّرُوا بِتَاءِ الْخِطَابِ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ وَأَصْلُهَا: لِتَتَدَبَّرُوا فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ اخْتِصَارًا، وَالْخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَالتَّذَكُّرُ: اسْتِحْضَارُ الذِّهْنِ مَا كَانَ يَعْلَمُهُ وَهُوَ صَادِقٌ بِاسْتِحْضَارِ مَا هُوَ مَنْسِيٌّ وَبِاسْتِحْضَارِ مَا الشَّأْنُ أَنْ لَا يُغْفَلَ عَنْهُ وَهُوَ مَا يَهِمُّ الْعِلْمَ بِهِ، فَجَعَلَ الْقُرْآنَ لِلنَّاسِ لِيَتَدَبَّرُوا مَعَانِيَهُ وَيَكْشِفُوا عَنْ غَوَامِضِهِ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ فَإِنَّهُمْ عَلَى تَعَاقُبِ طَبَقَاتِ الْعُلَمَاءِ بِهِ لَا يَصِلُونَ إِلَى نِهَايَةٍ مِنْ مَكْنُونِهِ وَلِتَذَكُّرِهِمُ الْآيَةَ بِنَظِيرِهَا وَمَا يُقَارِبُهَا، وَلِيَتَذَكَّرُوا مَا هُوَ مَوْعِظَةٌ لَهُمْ وَمُوقِظٌ مِنْ غَفَلَاتِهِمْ.
وَضَمِيرُ «يَدَّبَّرُوا» عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ عَائِد إِلَى أُولُوا الْأَلْبابِ عَلَى طَرِيقَةِ الْإِضْمَارِ لِلْفِعْلِ الْمُهْمَلِ عَنِ الْعَمَلِ فِي التَّنَازُعِ، وَالتَّقْدِيرُ: لِيَدَّبَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ آيَاتِهِ وَيَتَذَكَّرُوا، وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ أَبِي جَعْفَرٍ فَإِسْنَادُ «يتَذَكَّر» إِلَى أُولُوا الْأَلْبابِ اكْتِفَاءٌ عَنْ وَصْفِ الْمُتَدَبِّرِينَ بِأَنَّهُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ لِأَنَّ التَّدَبُّرَ مُفْضٍ إِلَى التَّذَكُّر. وَالتَّذَكُّرُ مِنْ آثَارِ التَّدَبُّرِ فَوَصْفُ فَاعِلِ أَحَدِ الْفِعْلَيْنِ يُغْنِي عَنْ وَصْفِ فَاعِلِ الْفِعْلِ الْآخَرِ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَضْعُ الشَّيْءِ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، وَتَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ يس. وَتَقَدَّمَ وَجْهُ إِيثَارِ وَصْفَيِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ بِالذِّكْرِ.
[١٣، ١٤]
[سُورَة فصلت (٤١) : الْآيَات ١٣ الى ١٤]
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (١٤)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (١٣) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ.
بَعْدَ أَنْ قَرَعَتْهُمُ الْحُجَّةُ الَّتِي لَا تَتْرُكُ لِلشَّكِّ مَسْرَبًا إِلَى النُّفُوسِ بَعْدَهَا فِي أَنَّ اللَّهَ مُنْفَرِدٌ بِالْإِلَهِيَّةِ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ بِإِيجَادِ الْعَوَالِمِ كُلِّهَا. وَكَانَ ثُبُوتُ الْوَحْدَانِيَّةِ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُزِيلَ الرِّيبَةَ فِي أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِأَنَّهُمْ مَا كَفَرُوا بِهِ إِلَّا لِأَجْلِ إِعْلَانِهِ بِنَفْيِ الشَّرِيكِ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَمَّا اسْتَبَانَ ذَلِكَ كَانَ الشَّأْنُ أَنْ يَفِيئُوا إِلَى تَصْدِيقِ الرَّسُولِ وَالْإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ، وَأَنْ يُقْلِعُوا عَنْ إِعْرَاضِهِمُ الْمَحْكِيِّ عَنْهُمْ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ [فصلت: ٤] إِلَخْ، فَلِذَلِكَ جُعِلَ اسْتِمْرَارُهُمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ بَعْدَ تِلْكَ الْحُجَجِ أَمْرًا مَفْرُوضًا كَمَا يُفْرَضُ الْمُحَالُ، فَجِيءَ فِي جَانِبِهِ بِحَرْفِ (إِنَّ) الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَقَعَ فِي الْمَوْقِعِ الَّذِي لَا جَزْمَ فِيهِ بِحُصُولِ الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ [الزخرف: ٥] فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِكَسْرِ هَمْزَةِ (إِنْ).
فَمَعْنَى فَإِنْ أَعْرَضُوا إِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى إِعْرَاضِهِمْ بَعْدَ مَا هَدَيْتُهُمْ بِالدَّلَائِلِ الْبَيِّنَةِ وَكَابَرُوا فِيهَا، فَالْفِعْلُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [النِّسَاء: ١٣٦].
وَالْإِنْذَارُ: التَّخْوِيفُ، وَهُوَ هُنَا تَخْوِيفٌ بِتَوَقُّعِ عُقَابٍ مِثْلِ عِقَابِ الَّذِينَ شَابَهُوهُمْ فِي الْإِعْرَاضِ خَشْيَةَ أَنْ يَحِلَّ بِهِمْ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ أَنْ تَجْرِيَ أَفْعَالُ اللَّهِ عَلَى سَنَنٍ وَاحِدٍ، وَلَيْسَ هُوَ وَعِيدًا لِأَنَّ قُرَيْشًا لَمْ تُصِبْهُمْ صَاعِقَةٌ مِثْلُ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ، وَإِنْ كَانُوا قَدْ سَاوَوْهُمَا فِي التَّكْذِيبِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الرُّسُلِ وَفِي التَّعَلُّلَاتِ الَّتِي تَعَلَّلُوا بِهَا مِنْ قَوْلِهِمْ: لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [الْمُؤْمِنُونَ: ٢٤] وَأَمْهَلَ اللَّهُ قُرَيْشًا حَتَّى آمَنَ كَثِيرٌ
مِنْهُمْ وَاسْتَأْصَلَ كُفَّارَهُمْ بِعَذَابٍ خَاصٍّ.
[سُورَة الزخرف (٤٣) : الْآيَات ٦٧ إِلَى ٧٣]
الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (٦٧) يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٦٨) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (٦٩) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (٧٠) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (٧١)وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٧٢) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (٧٣)
اسْتِئْنَافٌ يُفِيدُ أَمْرَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بَيَانُ بَعْضِ الْأَهْوَالِ الَّتِي أَشَارَ إِلَيْهَا إِجْمَالُ التَّهْدِيدِ فِي قَوْلِهِ: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥].
وَثَانِيهمَا: موعظة الْمُشْركين بِمَا يَحْصُلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْأَهْوَالِ لِأَمْثَالِهِمْ وَالْحَبْرَةِ
لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقَدْ أُوثِرَ بِالذِّكْرِ هُنَا مِنَ الْأَهْوَالِ مَا لَهُ مَزِيدُ تَنَاسُبٍ لِحَالِ الْمُشْرِكِينَ فِي تَأَلُّبِهِمْ عَلَى مناواة الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدِينِ الْإِسْلَامِ، فَإِنَّهُمْ مَا أَلَّبَهُمْ إِلَّا تَنَاصُرُهُمْ وَتَوَادُّهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّبَاهِي بِذَلِكَ بَيْنَهُمْ فِي نَوَادِيهِمْ وَأَسْمَارِهِمْ، قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِبْرَاهِيمَ: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت: ٢٥] وَتِلْكَ شَنْشَنَةُ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ قَبْلُ.
وَفِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ [الزخرف: ٣٨].
والْأَخِلَّاءُ: جَمْعُ خَلِيلٍ، وَهُوَ الصَّاحِبُ الْمُلَازِمُ، قِيلَ: إِنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّخَلُّلِ لِأَنَّهُ كَالْمُتَخَلِّلِ لِصَاحِبِهِ وَالْمُمْتَزِجِ بِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [١٢٥]. وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ (إِذْ) مِنْ قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ هُوَ الْمُعَوِّضُ عَنْهُ التَّنْوِينُ دَلَّ عَلَيْهِ الْمَذْكُورُ قَبْلَهُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ [الزخرف: ٦٥].
الْمُسْلِمِ، وَقَدْ قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ الظَّنَّ الْقَبِيحَ بِمَنْ ظَاهِرُهُ الْخَيْرُ لَا يَجُوزُ. وَإِنْ لَمْ يَنْشَأْ عَلَيْهِ إِلَّا مُجَرَّدُ اعْتِقَادٍ دُونَ عَمَلٍ فَلْيُقَدِّرْ أَنَّ ظَنَّهُ كَانَ مُخْطِئًا يَجِدُ نَفْسَهُ قَدِ اعْتَقَدَ فِي أَحَدٍ مَا لَيْسَ بِهِ، فَإِنْ كَانَ اعْتِقَادًا فِي صِفَاتِ اللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادًا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ فَقَدْ خَسِرَ الِانْتِفَاعَ بِمَنْ ظَنَّهُ ضَارًّا، أَوِ الِاهْتِدَاءَ بِمَنْ ظَنَّهُ ضَالًّا، أَوْ تَحْصِيلَ الْعِلْمِ مِمَّنْ ظَنَّهُ جَاهِلًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
وَوَرَاءَ ذَلِكَ فَالظَّنُّ الْبَاطِلُ إِذَا تَكَرَّرَتْ مُلَاحَظَتُهُ وَمُعَاوَدَةُ جَوَلَانِهِ فِي النَّفْسِ قَدْ يَصِيرُ عِلْمًا رَاسِخًا فِي النَّفْسِ فَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْآثَارُ بِسُهُولَةٍ فَتُصَادِفُ مَنْ هُوَ حَقِيقٌ بِضِدِّهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى مَا فَعَلْتُمْ نادِمِينَ [الحجرات: ٦].
وَالِاجْتِنَابُ: افْتِعَالٌ مِنْ جَنَّبَهُ وَأَجْنَبَهُ، إِذَا أَبْعَدَهُ، أَيْ جَعَلَهُ جَانِبًا آخَرَ، وَفِعْلُهُ يُعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، يُقَالُ: جَنَّبَهُ الشَّرَّ، قَالَ تَعَالَى: وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ [إِبْرَاهِيم:
٣٥]. وَمُطَاوِعُهُ أَجْتَنِبُ، أَيْ أَبْتَعِدُ، وَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ فِعْلُ أَمْرٍ إِلَّا بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ.
وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِاجْتِنَابِ كَثِيرٍ مِنَ الظَّنِّ الْأَمْرُ بِتَعَاطِي وَسَائِلِ اجْتِنَابِهِ فَإِنَّ الظَّنَّ يَحْصُلُ فِي خَاطِرِ الْإِنْسَانِ اضْطِرَارًا عَنْ غَيْرِ اخْتِيَارٍ، فَلَا يُعْقَلُ التَّكْلِيفُ بِاجْتِنَابِهِ وَإِنَّمَا يُرَادُ الْأَمْرُ بِالتَّثَبُّتِ فِيهِ وَتَمْحِيصِهِ وَالتَّشَكُّكِ فِي صِدْقِهِ إِلَى أَنْ يَتَبَيَّنَ مُوجِبُهُ بِدُونِ تَرَدُّدٍ أَوْ بِرُجْحَانٍ أَوْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ فَتُكَذِّبُ نَفْسَكَ فِيمَا حَدَّثَتْكَ. وَهَذَا التَّحْذِيرُ يُرَادُ مِنْهُ مُقَاوَمَةُ الظُّنُونِ السَّيِّئَةِ بِمَا هُوَ مِعْيَارُهَا مِنَ الْأَمَارَاتِ الصَّحِيحَةِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «إِذَا ظَنَنْتُمْ فَلَا تُحَقِّقُوا»
. عَلَى أَنَّ الظَّنَّ الْحَسَنَ الَّذِي لَا مُسْتَنَدَ لَهُ غَيْرُ مَحْمُودٍ لِأَنَّهُ قَدْ يُوقِعُ فِيمَا لَا يُحَدُّ ضُرُّهُ مِنِ اغْتِرَارٍ فِي مَحَلِّ الْحَذَرِ وَمِنِ اقْتِدَاءٍ بِمَنْ لَيْسَ أَهْلًا لِلتَّأَسِّي. وَقَدْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِأُمِّ عَطِيَّةَ حِينَ مَاتَ فِي بَيْتِهَا عُثْمَانُ بن مَظْعُون وَقَالَ: «رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْكَ أَبَا السَّايِبِ فَشَهَادَتِي عَلَيْكَ لَقَدْ أَكْرَمَكَ اللَّهُ وَمَا يُدْرِيكِ أَنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ. فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ يُكْرِمُهُ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَمَّا هُوَ فَقَدْ جَاءَهُ الْيَقِينُ وَإِنِّي
تَذْكِيرًا بِنِعْمَةِ إِلْهَامِ النَّاسِ إِلَى اخْتِرَاعِ الشِّرَاعِ لِإِسْرَاعِ سَيْرِ السُّفُنِ وَهِيَ مِمَّا اخْتُرِعَ بَعْدَ صُنْعِ سَفِينَةِ نُوحٍ.
وَوُصِفَتِ الْجَوَارِي بِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ، أَيِ الْجِبَالِ وَصْفًا يُفِيدُ تَعْظِيمَ شَأْنِهَا فِي صُنْعِهَا الْمُقْتَضِي بَدَاعَةَ إِلْهَامِ عُقُولِ الْبَشَرِ لِصُنْعِهَا، وَالْمُقْتَضِي عِظَمَ الْمِنَّةِ بِهَا لِأَن السفن الْعَظِيمَة أَمْكَنُ لِحَمْلِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ النَّاس وَالْمَتَاع.
[٢٥]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : آيَة ٢٥]
فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٢٥)
تَكْرِيرٌ لنظيره السَّابِق.
[٢٦، ٢٧]
[سُورَة الرَّحْمَن (٥٥) : الْآيَات ٢٦ إِلَى ٢٧]
كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (٢٦) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (٢٧)
لَمَّا كَانَ قَوْله: وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ [الرَّحْمَن: ٢٤] مُؤْذِنًا بِنِعْمَةِ إِيجَادِ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنَ الْهَلَاكِ وَأَسْبَابِ السَّعْيِ لِتَحْصِيلِ مَا بِهِ إِقَامَةَ الْعَيْشِ إِذْ يَسَرَّ لِلنَّاسِ السُّفُنَ عَوْنًا لِلنَّاسِ عَلَى الْأَسْفَارِ وَقَضَاءَ الْأَوْطَارِ مَعَ السَّلَامَةِ مِنْ طُغْيَانِ مَاءِ الْبِحَارِ، وَكَانَ وَصْفُ السُّفُنِ بِأَنَّهَا كَالْأَعْلَامِ تَوْسِعَةً فِي هَذِهِ النِّعْمَةِ أَتْبَعُهُ بِالْمَوْعِظَةِ بِأَنَّ هَذَا لَا يَحُولُ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ لَهُمْ مِنَ الْفَنَاءِ، عَلَى عَادَةِ الْقُرْآنِ فِي الْفُرَصِ لِلْمَوْعِظَةِ وَالتَّذْكِيرِ كَقَوْلِهِ: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [النِّسَاء: ٧٨]. وَفَائِدَةُ هَذَا أَنْ لَا يَنْسَوُا الْاِسْتِعْدَادَ لِلْحَيَاةِ الْبَاقِيَةِ بِفِعْلِ الصَّالِحَاتِ، وَأَنْ يَتَفَكَّرُوا فِي عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَيُقْبِلُوا عَلَى تَوْحِيدِهِ وَطَلَبِ مَرْضَاتِهِ.
وَوُقُوعُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ عَقِبَ مَا عَدَّدَ مِنَ النِّعَمِ فِيهِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ مَصِيرَ نِعَمِ الدُّنْيَا إِلَى الْفَنَاءِ.
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ.
وَضَمِيرُ عَلَيْها مُرَادٌ بِهِ الْأَرْضَ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ مِثْلُ حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص:
٣٢]، أَيِ الشَّمْسِ وَمِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ وَكثير وَفِي كَلَامِ الْبُلَغَاءِ.
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ «النَّهْيُ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فعل».
وَالْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى اللَّهْوِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِسَبَبِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، أَيْ وَمَنْ يُلْهَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ يَتْرُكُ ذِكْرَ اللَّهِ الَّذِي أُوجَبَهُ مِثْلَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَيَتْرُكُ تَذَكُّرَ اللَّهِ، أَيْ مُرَاعَاةَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.
وَمَتَى كَانَ اللَّهْوُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ الْأَوْلَادِ كَانَ أَوْلَى بِحُكْمِ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ.
وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرَ صِفَةِ الْخَاسِرِ عَلَى الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ كَأَنَّ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ لَا يُعَدُّ خُسْرَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُسْرَانِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِم ب فَأُولئِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَعْنِي اللَّهْوَ عَنْ ذكر الله.
[١٠]
[سُورَة المُنَافِقُونَ (٦٣) : آيَة ١٠]
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠)
هَذَا إِبْطَالٌ وَنَقْضٌ لِكَيْدِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ قَالُوا: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: ٧]، وَهُوَ يَعُمُّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْمُلْتَفِّينَ حَوْلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْإِنْفَاقَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ كَالتَّذْيِيلِ.
وَفَعَلُ أَنْفِقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ الشَّامِلِ لِلْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ مَدْلُولَ صِيغَةِ:
افْعَلْ، مُطْلَقُ الطَّلَبِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.
وَفِي قَوْله: مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ شكر لله عَلَى مَا رَزَقَ الْمُنْفِقُ فَإِنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ الشَّرِيعَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
٧٣- سُورَةُ الْمُزَّمِّلِلَيْسَ لِهَذِهِ السُّورَةِ إِلَّا اسْمُ «سُورَةِ الْمُزَّمِّلِ» عُرِفَتْ بِالْإِضَافَةِ لِهَذَا اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَوَّلِهَا، فَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ حِكَايَةُ اللَّفْظِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْصُوفًا بِالْحَالِ الَّذِي نُودِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [الْمُزَّمِّلُ: ١].
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ مَكِّيَّةٌ إِلَّا قَوْلَهُ تَعَالَى: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ [المزمل: ٢٠] إِلَى نَهَايَةِ السُّورَةِ فَذَلِكَ مَدَنِيٌّ. وَحَكَى الْقُرْطُبِيُّ مِثْلَ هَذَا عَنِ الثَّعْلَبِيِّ.
وَقَالَ فِي «الْإِتْقَانِ» : إِنَّ اسْتِثْنَاءَ قَوْلِهِ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَى آخِرِ السُّورَةِ يَرُدُّهُ مَا أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ عَنْ عَائِشَةَ «نَزَلَ بَعْدَ نُزُولِ صَدْرِ السُّورَةِ بِسَنَةٍ وَذَلِكَ حِينَ فُرِضَ قِيَامُ اللَّيْلِ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ» اهـ.
[سُورَة البروج (٨٥) : الْآيَات ١٩ إِلَى ٢٠]
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠)إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ إِلَى إِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاعْتِبَارِ بِحَالِ الْأُمَمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ وَهُوَ أَنَّهُمْ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى التَّكْذِيبِ مُنْغَمِسُونَ فِيهِ انْغِمَاسَ الْمَظْرُوفِ فِي الظَّرْفِ فَجُعِلَ تَمَكُّنُ التَّكْذِيبِ مِنْ نُفُوسِهِمْ كَتَمَكُّنِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ.
وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ إِحَاطَةَ التَّكْذِيبِ بِهِمْ إِحَاطَةُ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ لَا يَتْرُكُ لِتَذَكُّرِ مَا حَلَّ بِأَمْثَالِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ مَسْلَكًا لِعُقُولِهِمْ، وَلِهَذَا لَمْ يَقُلْ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ الِانْشِقَاقِ.
وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ التَّكْذِيبِ لِظُهُورِهِ مِنَ الْمَقَامِ إِذِ التَّقْدِيرُ: أَنَّهُمْ فِي تَكْذِيبٍ بِالنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْوَحْيِ الْمُنَزَّلِ إِلَيْهِ وَبِالْبَعْثِ.
وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ، أَيْ هُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنَ التَّكْذِيبِ وَاللَّهُ يُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عِقَابًا لَا يُفْلِتُونَ مِنْهُ. فَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ تَمْثِيلٌ لِحَالِ انْتِظَارِ الْعَذَابِ إِيَّاهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةِ عَنْهُ بِحَالِ مَنْ أَحَاطَ بِهِ الْعَدُوُّ مِنْ وَرَائِهِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ حَتَّى إِذَا رَامَ الْفِرَارَ وَالْإِفْلَاتَ وَجَدَ الْعَدُوَّ مُحِيطًا بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هُنَا إِحَاطَةَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِتَكْذِيبِهِمْ إِذْ لَيْسَ لَهُ كَبِيرُ جَدْوَى.
وَقَدْ قُوبِلَ جَزَاءُ إِحَاطَةِ التَّكْذِيبِ بِهِمْ بِإِحَاطَةِ الْعَذَابِ بِهِمْ جَزَاءً وِفَاقًا فَقَوْلُهُ:
وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْوَعيد والتهديد.
[٢١، ٢٢]
[سُورَة البروج (٨٥) : الْآيَات ٢١ إِلَى ٢٢]
بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢)
إِضْرَابُ إِبْطَالٍ لِتَكْذِيبِهِمْ لِأَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَهُمْ بِدَلَائِلَ بَيِّنَةٍ فَاسْتِمْرَارُهُمْ على التَّكْذِيب ناشىء عَنْ سُوءِ اعْتِقَادِهِمْ صِدْقَ الْقُرْآنِ إِذْ وَصَفُوهُ بِصِفَاتِ النَّقْصِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، إِفْكٌ مُفْتَرًى، قَوْلُ كَاهِنٍ، قَوْلُ شَاعِرٍ، فَكَانَ التَّنْوِيهُ بِهِ جَامِعًا لِإِبْطَالِ جَمِيعِ تُرَّهَاتِهِمْ عَلَى طَريقَة الإيجاز.