جُزْئِيَّتِهَا مِنَ السُّوَرِ وَهُوَ الصَّحِيحُ عَنْهُ. قَالَ عَبْدُ الْحَكِيمِ لِأَنَّهُ قَالَ بِعَدَمِ الْجَهْرِ بِهَا مَعَ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَكَرِهَ قِرَاءَتَهَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ الْمَوْصُولَةِ بِالْفَاتِحَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ. وَأَزِيدُ فَأَقُولُ إِنَّهُ لَمْ يَرَ الِاقْتِصَارَ عَلَيْهَا فِي الصَّلَاةِ مُجْزِئًا عَنِ الْقِرَاءَةِ.
أَمَّا حُجَّةُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ فَلَهُمْ فِيهَا مَسَالِكُ: أَحَدُهَا مِنْ طَرِيقِ النَّظَرِ، وَالثَّانِي مِنْ طَرِيقِ الْأَثَرِ، وَالثَّالِثُ مِنْ طَرِيقِ الذَّوْقِ الْعَرَبِيِّ.
فَأَمَّا الْمَسْلَكُ الْأَوَّلُ: فَلِلْمَالِكِيَّةِ فِيهِ مَقَالَةٌ فَائِقَةٌ لِلْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ الْبَاقِلَّانِيِّ وَتَابَعَهُ أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» وَالْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي كِتَابِ «الْأَشْرَافِ»، قَالَ الْبَاقِلَّانِيُّ: «لَوْ كَانَتِ التَّسْمِيَةُ مِنَ الْقُرْآنِ لَكَانَ طَرِيقُ إِثْبَاتِهَا إِمَّا التَّوَاتُرَ أَوِ الْآحَادَ، وَالْأَوَّلُ:
بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ كَوْنُهَا مِنَ الْقُرْآنِ لَحَصَلَ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِذَلِكَ وَلَامْتَنَعَ وُقُوعُ الْخِلَافِ فِيهِ بَيْنَ الْأُمَّةِ، وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ لَا يُفِيدُ إِلَّا الظَّنَّ فَلَوْ جَعَلْنَاهُ طَرِيقًا إِلَى إِثْبَاتِ الْقُرْآنِ لَخَرَجَ الْقُرْآنُ عَنْ كَوْنِهِ حُجَّةً يَقِينِيَّةً، وَلَصَارَ ذَلِكَ ظَنِّيًّا، وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ ادِّعَاءُ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْقُرْآنَ دَخَلَهُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ وَالتَّغْيِيرُ وَالتَّحْرِيفُ»
اهـ وَهُوَ كَلَامٌ وَجِيهٌ وَالْأَقْيِسَةُ الِاسْتِثْنَائِيَّةُ الَّتِي طَوَاهَا فِي كَلَامِهِ وَاضِحَةٌ لِمَنْ لَهُ مُمَارَسَةٌ لِلْمَنْطِقِ وَشَرْطِيَّاتُهَا لَا تَحْتَاجُ لِلِاسْتِدْلَالِ لِأَنَّهَا بَدِيهِيَّةٌ مِنَ الشَّرِيعَةِ فَلَا حَاجَةَ إِلَى بَسْطِهَا. زَادَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» فَقَالَ: يَكْفِيكَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْقُرْآنِ الِاخْتِلَافُ فِيهَا، وَالْقُرْآنُ لَا يخْتَلف فه اهـ. وَزَادَ عَبْدُ الْوَهَّابِ فَقَالَ: «إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ الْقُرْآنَ بَيَانًا وَاحِدًا مُتَسَاوِيًا وَلَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ فِي بَيَانِهِ مُخْتَلِفَةً بِالظُّهُورِ وَالْخَفَاءِ حَتَّى يَخْتَصَّ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ وَلِذَلِكَ قَطَعْنَا بِمَنْعِ أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الْقُرْآنِ لَمْ يُنْقَلْ إِلَيْنَا وَأَبْطَلْنَا قَوْلَ الرَّافِضَةِ إِنَّ الْقُرْآنَ حِمْلُ جَمَلٍ عِنْدَ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ الْمُنْتَظَرِ فَلَوْ كَانَتِ الْبَسْمَلَةُ مِنَ الْحَمْدِ لَبَيَّنَهَا رَسُولُ اللَّهِ بَيَانًا شَافِيًا» اهـ. وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَةِ» : إِنَّ الْقَاضِيَ أَبَا بَكْرِ بْنَ الطَّيِّبِ، لَمْ يَتَكَلَّمْ مِنَ الْفِقْهِ إِلَّا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ خَاصَّةً لِأَنَّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأُصُولِ.
وَقَدْ عَارَضَ هَذَا الدَّلِيلَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ فِي «الْمُسْتَصْفَى» فَقَالَ: «نَفْيُ كَوْنِ الْبَسْمَلَةِ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْضًا إِنْ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ لَزِمَ أَنْ لَا يَبْقَى الْخِلَافُ (أَيْ وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ) وَإِنْ ثَبَتَ بِالْآحَادِ يَصِيرُ الْقُرْآنُ ظَنِّيًّا، قَالَ: وَلَا يُقَالُ: إِنَّ كَوْنَ شَيْءٍ لَيْسَ مِنَ الْقُرْآنِ عَدَمٌ وَالْعَدَمُ لَا
يَحْتَاجُ إِلَى الْإِثْبَاتِ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ بِخِلَافِ الْقَوْلِ بِأَنَّهَا مِنَ الْقُرْآنِ، لِأَنَّا نُجِيبُ بِأَنَّ هَذَا وَإِنْ كَانَ عَدَمًا
لَمَّا صَيَّرَتْهُ اسْمَ جِنْسٍ صَارَ الْحُكْمُ عَلَى الْجِنْسِ وَبَطَلَ مَا فِيهِ مِنْ صِيغَةِ تَأْنِيثٍ كَمَا يَبْطُلُ مَا فِيهِ مِنْ صِيغَةِ جَمْعٍ إِنْ كَانَتْ فِيهِ.
وَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ سَأَلْتُ الْعَلَّامَةَ الْجِدَّ الْوَزِيرَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ وَجْهِ مَجِيءِ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الْمُشْعِرَةِ بِأَلَّا يُقْتَصَّ مِنْ صِنْفٍ إِلَّا لِقَتْلِ مُمَاثِلِهِ فِي الصِّفَةِ فَتَرَكَ لِي وَرَقَةً بِخَطِّهِ فِيهَا
مَا يَأْتِي: الظَّاهِرُ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّ الْآيَةَ (يَعْنِي آيَةَ سُورَةِ الْمَائِدَةِ) نَزَلَتْ إِعْلَامًا بِالْحُكْمِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ تَأْنِيسًا وَتَمْهِيدًا لِحُكْمِ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَلِذَلِكَ تَضَمَّنَتْ إِنَاطَةَ الْحُكْمِ بِلَفْظِ النَّفْسِ الْمُتَنَاوَلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى الْحُرِّ وَالْعَبْدِ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلَمْ تَتَضَمَّنْ حُكْمًا لِلْعَبِيدِ وَلَا لِلْإِنَاثِ، وَصُدِّرَتْ بِقَوْلِهِ وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها [الْمَائِدَة: ٤٥]، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ (يَعْنِي آيَةَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) صُدِّرَتْ بِقَوْلِهِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ وَنَاطَ الْحُكْمُ فِيهَا بِالْحُرِّيَّةِ الْمُتَنَاوِلَةِ لِلْأَصْنَافِ كُلِّهَا ثُمَّ ذَكَرَ حُكْمَ الْعَبِيدِ وَالْإِنَاثِ رَدًّا عَلَى مَنْ يَزْعُمُ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ لَهُمْ، وَخَصَّصَ الْأُنْثَى بِالْأُنْثَى لِلدَّلَالَةِ على أَن عدمهَا مَعْصُومٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا اقْتَصَّ لَهَا مِنَ الْأُنْثَى وَلَمْ يَقْتَصَّ لَهَا مِنَ الذَّكَرِ صَارَ الدَّمُ مَعْصُومًا تَارَةً لِذَاتِهِ غَيْرَ مَعْصُومٍ أُخْرَى وَهَذَا مِنْ لُطْفِ التَّبْلِيغِ حَيْثُ كَانَ الْحُكْمُ مُتَضَمِّنًا لِدَلِيلِهِ، فَقَوْلُهُ:

كَتَبَ الْقَتْلَ وَالْقِتَالَ عَلَيْنَا وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
حكم جاهلي اهـ.
يَعْنِي أَنَّ الْآيَةَ لَمْ يُقْصَدْ مِنْهَا إِلَّا إِبْطَالُ مَا كَانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَرْكِ الْقِصَاصِ لِشَرَفٍ أَوْ لِقِلَّةِ اكْتِرَاثٍ، فَقَصَدَتِ التَّسْوِيَةَ بِقَوْلِهِ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ أَيْ لَا فَضْلَ لِحُرٍّ شَرِيفٍ عَلَى حَرٍّ ضَعِيفٍ وَلَا لِعَبِيدِ السَّادَةِ عَلَى عَبِيدِ الْعَامَّةِ وَقَصَدَتْ مَنْ ذِكْرِ الْأُنْثَى إِبْطَالَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّةُ مِنْ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِجِنَايَةِ الْأُنْثَى وَاعْتِبَارِهَا غَيْرَ مُؤَاخَذَةٍ بِجِنَايَاتِهَا، وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: حُكْمٌ جَاهِلِيٌّ أَنَّهُ لَيْسَ جَارِيًا عَلَى أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْبَيْتَ لِعُمَرَ ابْن أَبِي رَبِيعَةَ وَهُوَ شَاعِرٌ إِسْلَامِيٌّ مِنْ صَدْرِ الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ.
فَإِنْ قُلْتَ: كَانَ الْوَجْهُ أَلَّا يَقُولَ: بِالْأُنْثى الْمُشْعِرُ بِأَنَّ الْأُنْثَى لَا تُقْتَلُ بِالرَّجُلِ مَعَ إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ يُقْتَصُّ مِنْهَا لِلرَّجُلِ. قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنَّ الْقَيْدَ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَإِنَّ الْجَارِيَ فِي الْعُرْفِ أَنَّ الْأُنْثَى لَا تَقْتُلُ إِلَّا أُنْثَى، إِذْ لَا يَتَثَاوَرُ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ فَذِكْرُ بِالْأُنْثى خَارِجٌ عَلَى اعْتِبَارِ الْغَالِبِ كَمَخْرَجِ وَصْفِ السَّائِمَةِ
فِي قَوْلِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ»
وَالْخُلَاصَةُ أَنَّ الْآيَةَ لَا يَلْتَئِمُ مِنْهَا مَعْنًى سَلِيمٌ مِنَ الْإِشْكَالِ إِلَّا مَعْنَى إِرَادَةِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْأَصْنَافِ لِقَصْدِ إِبْطَالِ عَوَائِدِ الْجَاهِلِيَّةِ.
كَحَرَكَةِ الْمَاشِي وَالْقَاتِلِ، ورعيا لحقّية التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ لِلْعِبَادِ لِئَلَّا يَكُونَ التَّكْلِيفُ عَبَثًا، وَلِحَقِّيَّةِ الْوَعْدِ والوعيد لئلّا يكون بَاطِلًا، تَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ لِلْعَبْدِ حَالَةٌ تُمَكِّنُهِ مِنْ فِعْلِ مَا يُرِيدُ فِعْلَهُ، وَتَرْكِ مَا يُرِيدُ تَرْكَهُ، وَهِيَ مَيْلُهُ إِلَى الْفِعْلِ أَوِ التَّرْكِ، فَهَذِهِ الْحَالَةُ سَمَّاهَا الْأَشْعَرِيُّ الِاسْتِطَاعَةَ، وَسَمَّاهَا كَسْبًا.
وَقَالَ: إِنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِالْفِعْلِ فَإِذَا تَعَلَّقَتْ بِهِ خَلَقَ اللَّهُ الْفِعْلَ الَّذِي مَالَ إِلَيْهِ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي اسْتَحْضَرَهَا وَمَالَ إِلَيْهَا.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورَيْنِ فِي الْآيَةِ: لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ، أَيْ لَا يَلْحَقُ غَيْرَهَا شَيْءٌ وَلَا يَلْحَقُهَا شَيْءٌ مِنْ فِعْلِ غَيْرِهَا، وَكَأَنَّ هَذَا إِبْطَالٌ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ: مِنِ اعْتِقَادِ شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ لَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ.
وَتَمَسَّكَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْأَعْمَالَ لَا تَقْبَلُ النِّيَابَةَ فِي الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، إِلَّا إِذَا كَانَ لِلْفَاعِلِ أَثَرٌ فِي عَمَلِ غَيْرِهِ
فَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ
ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ وَعِلْمٍ بَثَّهُ فِي صُدُورِ الرِّجَالِ، وَوَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ»

وَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا ذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
رَبَّنا لَا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا مَا لَا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الدُّعَاءُ مَحْكِيًّا مِنْ قَوْلِ الْمُؤْمِنِينَ: الَّذِينَ قَالُوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا [الْبَقَرَة: ٢٨٥]، بِأَنِ اتَّبَعُوا الْقَبُولَ وَالرِّضَا، فَتَوَجَّهُوا إِلَى طَلَبِ الْجَزَاءِ وَمُنَاجَاةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَاخْتِيَارُ حِكَايَةِ هَذَا عَنْهُمْ فِي آخِرِ السُّورَةِ تَكْمِلَةٌ لِلْإِيذَانِ بِانْتِهَائِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَلْقِينًا مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُمْ: بِأَنْ يَقُولُوا هَذَا الدُّعَاءَ، مِثْلَ مَا لُقِّنُوا التَّحْمِيدَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ فَيَكُونُ
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ [آل عمرَان: ١٥٣] وَمَا بَيْنَهُمَا جُمَلٌ بَعْضُهَا عَطْفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعَلِّلَةِ، وَبَعْضُهَا مُعْتَرِضَةٌ، فَهُوَ خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لَا مَحَالَةَ، وَهُوَ عِلَّةٌ ثَانِيَةٌ لِقَوْلِهِ: فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ [آل عمرَان: ١٥٣].
والصّدور هُنَا بِمَعْنَى الضَّمَائِرِ، وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ، وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنْ أَثَره، وَهُوَ إِظْهَاره لِلنَّاسِ وَالْحُجَّةُ عَلَى أَصْحَابِ تِلْكَ الضَّمَائِرِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا [آل عمرَان: ١٤٠].
وَالتَّمْحِيصُ تَخْلِيصُ الشَّيْءِ مِمَّا يُخَالِطُهُ مِمَّا فِيهِ عَيْبٌ لَهُ فَهُوَ كَالتَّزْكِيَةِ. وَالْقُلُوبُ هُنَا بِمَعْنَى الْعَقَائِدِ، وَمَعْنَى تمحيص مَا فِيهِ قُلُوبِهِمْ تَطْهِيرُهَا مِمَّا يُخَامِرُهَا مِنَ الرَّيْبِ حِينَ سَمَاعِ شُبَهِ الْمُنَافِقِينَ الَّتِي يَبُثُّونَهَا بَيْنَهُمْ.
وَأُطْلِقَ الصُّدُورُ عَلَى الضَّمَائِرِ لِأَنَّ الصَّدْرَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى الْإِحْسَاسِ الْبَاطِنِيِّ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْإِثْمُ مَا حاك فِي الصّدر»
وَأُطْلِقَ الْقَلْبُ عَلَى الِاعْتِقَادِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ هُوَ مَا بِهِ يَحْصُلُ التَّفَكُّرُ وَالِاعْتِقَادُ. وَعُدِّيَ إِلَى الصُّدُورِ فِعْلُ الِابْتِلَاءِ لِأَنَّهُ اخْتِبَارُ الْأَخْلَاقِ وَالضَّمَائِرِ: مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، وَلِيَتَمَيَّزَ مَا فِي النَّفْسِ. وَعُدِّيَ إِلَى الْقُلُوبِ فِعْلُ التَّمْحِيصِ لِأَنَّ الظُّنُونَ وَالْعَقَائِدَ مُحْتَاجَةٌ إِلَى التَّمْحِيصِ لِتَكُونَ مَصْدَرَ كلّ خير.
[١٥٥]
[سُورَة آل عمرَان (٣) : آيَة ١٥٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥)
اسْتِئْنَافٌ لِبَيَانِ سَبَبِ الْهَزِيمَةِ الْخَفِيِّ، وَهِيَ اسْتِزْلَالُ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُمْ، وَأَرَادَ بِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يَوْمَ أُحُدٍ، وَ (اسْتَزَلَّهُمُ) بِمَعْنَى أَزَلَّهُمْ أَيْ جَعَلَهُمْ زَالِّينَ، وَالزَّلَلُ

[سُورَة النِّسَاء (٤) : آيَة ٨٣]

وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَيَقُولُونَ طاعَةٌ [النِّسَاء: ٨١] فَضَمِيرُ الْجَمْعِ رَاجِعٌ إِلَى الضَّمَائِرِ قَبْلَهُ، الْعَائِدَةِ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الْمُلَائِمُ لِلسِّيَاقِ، وَلَا يُعَكِّرُ عَلَيْهِ إِلَّا قَوْلُهُ: وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ، وسنعلم تَأْوِيلَهُ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ هَذَا رَاجَعٌ إِلَى فَرِيقٍ مِنْ ضَعَفَةِ الْمُؤْمِنِينَ:
مِمَّنْ قَلَّتْ تَجْرِبَتُهُ وَضَعُفَ جَلَدُهُ، وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ، فَيَكُونُ مَعَادُ الضَّمِيرِ مَحْذُوفًا مِنَ الْكَلَامِ اعْتِمَادًا عَلَى قَرِينَةِ حَالِ النُّزُولِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ: حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ [ص: ٣٢].
وَالْكَلَامُ مَسُوقٌ مَسَاقَ التَّوْبِيخِ لِلْمُنَافِقِينَ وَاللَّوْمِ لِمَنْ يَقْبَلُ مِثْلَ تِلْكَ الْإِذَاعَةِ، مِنَ الْمُسْلِمِينَ الْأَغْرَارِ.
وَمَعْنَى جاءَهُمْ أَمْرٌ أَيْ أُخْبِرُوا بِهِ، قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ:
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي فَالْمَجِيءُ مَجَازٌ عُرْفِيٌّ فِي سَمَاعِ الْأَخْبَارِ، مِثْلُ نَظَائِرِهِ. وَهِيَ: بَلَغَ، وَانْتَهَى إِلَيْهِ وَأَتَاهُ، قَالَ النَّابِغَةُ:
أَتَأْنِي- أَبَيْتَ اللَّعْنَ- أَنَّكَ لُمْتَنِي وَالْأَمْرُ هُنَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ، وَهُوَ هُنَا الْخَبَرُ، بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَذاعُوا بِهِ.
وَمَعْنَى أَذاعُوا أَفْشَوْا، وَيَتَعَدَّى إِلَى الْخَبَرِ بِنَفْسِهِ، وَبِالْبَاءِ، يُقَالُ: أَذَاعَهُ وَأَذَاعَ بِهِ، فَالْبَاءُ لِتَوْكِيدِ اللُّصُوقِ كَمَا فِي وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ [الْمَائِدَة: ٦].
وَالْمَعْنَى إِذَا سَمِعُوا خَبَرًا عَنْ سَرَايَا الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْأَمْنِ، أَيِ الظَّفَرِ الَّذِي يُوجِبُ أَمْنَ الْمُسْلِمِينَ أَوِ الْخَوْفَ وَهُوَ مَا يُوجِبُ خَوْفَ الْمُسْلِمِينَ، أَيِ اشْتِدَادَ الْعَدُوِّ عَلَيْهِمْ،
وَالْأَمْرُ بِالتَّقْوَى عَقِبَ ذَلِكَ لأنّها أظهر للشكر، فَعَطَفَ الْأَمْرَ بِالتَّقْوَى بِالْوَاوِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ التَّقْوَى مَقْصُودَةٌ لِذَاتِهَا، وَأَنَّهَا شُكْرٌ لِلَّهِ بِدَلَالَةِ وُقُوعِ الْأَمْرِ عَقِبَ التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةٍ عُظْمَى.
وَقَوْلُهُ: وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ أَمْرٌ لَهُمْ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى اللَّهِ دُونَ غَيْرِهِ. وَذَلِكَ التَّوَكُّلُ يَعْتَمِدُ امْتِثَالَ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابَ الْمَنْهِيَّاتِ فَنَاسَبَ التَّقْوَى. وَكَانَ مِنْ مَظَاهِرِهِ تِلْكَ النِّعْمَةُ الَّتِي ذكّروا بهَا.
[١٢]
[سُورَة الْمَائِدَة (٥) : آيَة ١٢]
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢)
نَاسَبَ ذِكْرُ مِيثَاقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَقِبَ ذِكْرِ مِيثَاقِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَوْلِهِ: وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ [الْمَائِدَة: ٧] تَحْذِيرًا مِنْ أَنْ يَكُونَ مِيثَاقُنَا كَمِيثَاقِهِمْ. وَمَحَلُّ الْمَوْعِظَةِ هُوَ قَوْلُهُ:
فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ. وَهَكَذَا شَأْنُ الْقُرْآنِ فِي التَّفَنُّنِ وَمَجِيءِ الْإِرْشَادِ فِي قَالَبِ الْقِصَصِ، وَالتَّنَقُّلِ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى أُسْلُوبٍ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ بِقَدْ وَبِاللَّامِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، كَمَا يَجِيءُ التَّأْكِيدُ بِإِنَّ لِلِاهْتِمَامِ وَلَيْسَ ثَمَّ مُتَرَدَّدٌ وَلَا مُنَزَّلٌ مَنْزِلَتَهُ. وَذِكْرُ مَوَاثِيقِ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَالْبَعْثُ أَصْلُهُ التَّوْجِيهُ وَالْإِرْسَالُ، وَيُطْلَقُ مَجَازًا عَلَى الْإِقَامَةِ وَالْإِنْهَاضِ
الْعَرَبِ الْبَائِدَةِ كَانُوا أَشَدَّ قُوَّةً وَأَكْثَرَ جَمْعًا مِنَ الْعَرَبِ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ وَأَعْظَمَ مِنْهُمْ آثَارَ حَضَارَةٍ وَسَطْوَةٍ. وَحَسْبُكَ أَنَّ الْعَرَبَ كَانُوا يَضْرِبُونَ الْأَمْثَالَ لِلْأُمُورِ الْعَظِيمَةِ بِأَنَّهَا عَادِيَّةٌ أَوْ ثَمُودِيَّةٌ أَوْ سَبَئِيَّةٌ قَالَ تَعَالَى: وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أَيْ عَمَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِ أَهْلِ الْعَصْرِ الْأَرْضَ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرَهَا أَهْلُ الْعَصْرِ.
وَالسَّمَاءُ مِنْ أَسْمَاءِ الْمَطَرِ، كَمَا فِي حَدِيثِ «الْمُوَطَّأِ» مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ، أَيْ عَقِبَ مَطَرٍ. وَهُوَ الْمُرَادُ هُنَا لِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ:
أَرْسَلْنَا بِخِلَافِهِ فِي نَحْوِ قَوْلِهِ: وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ مَاءً. وَالْمِدْرَارُ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ، مِثْلَ مِنْحَارٍ لِكَثِيرِ النَّحْرِ لِلْأَضْيَافِ، وَمِذْكَارٍ لِمَنْ يُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ، مِنْ دَرَّتِ النَّاقَةُ وَدَرَّ الضَّرْعُ إِذَا سَمَحَ ضَرْعُهَا بِاللَّبَنِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَ اللَّبَنُ الدَّرَّ. وَوَصْفُ الْمَطَرِ بِالْمِدْرَارِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ، وَإِنَّمَا الْمِدْرَارُ سَحَابَةٌ. وَهَذِهِ الصِّيغَةُ يَسْتَوِي فِيهَا الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ.
وَالْمُرَادُ إِرْسَالُ الْمَطَرِ فِي أَوْقَاتِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ بِحَيْثُ كَانَ لَا يُخَلِّفُهُمْ فِي مَوَاسِمِ نُزُولِهِ. وَمِنْ لَوَازِمِ ذَلِكَ كَثْرَةُ الْأَنْهَارِ وَالْأَوْدِيَةِ بِكَثْرَةِ انْفِجَارِ الْعُيُونِ مِنْ سِعَةِ رِيِّ طَبَقَاتِ الْأَرْضِ، وَقَدْ كَانَتْ حَالَةُ مُعْظَمِ بِلَادِ الْعَرَبِ فِي هَذَا الْخِصْبِ وَالسِّعَةِ، كَمَا عَلِمَهُ اللَّهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ آثَارُ مَصَانِعِهِمْ وَسُدُودِهِمْ وَنَسَلَانُ الْأُمَمِ إِلَيْهَا، ثُمَّ تَغَيَّرَتِ الْأَحْوَالُ بِحَوَادِثَ سَمَاوِيَّةٍ كَالْجَدْبِ الَّذِي حَلَّ سِنِينَ بِبِلَادِ عَادٍ، أَوْ أَرْضِيَّةٍ، فَصَارَ مُعْظَمُهَا قَاحِلًا فَهَلَكَتْ أُمَمُهَا وَتَفَرَّقُوا أَيَادِيَ سَبَا.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى الْأَنْهَارِ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فِي نَظِيرِهِ وَهُوَ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [].
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَهْلَكْناهُمْ لِلتَّعْقِيبِ عَطْفٌ عَلَى مَكَّنَّاهُمْ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَمَّا تَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: فَأَهْلَكْناهُمْ قَوْلُهُ: بِذُنُوبِهِمْ دَلَّ عَلَى أَنَّ تَعْقِيبَ التَّمْكِينِ وَمَا مَعَهُ بِالْإِهْلَاكِ وَقَعَ بَعْدَ أَنْ أَذْنَبُوا. فَالتَّقْدِيرُ: فَأَذْنَبُوا فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ، أَوْ فَبَطَرُوا النِّعْمَةَ فَأَهْلَكْنَاهُمْ، فَفِيهِ إِيجَازُ حَذْفٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ الْآيَةَ، أَيْ فَضَرَبَ فَانْفَجَرَتْ إِلَخْ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْفَاءَ لِلتَّفْصِيلِ تَفْصِيلًا لِ أَهْلَكْنا الْأَوَّلِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ
وَالرِّجْسُ: الْخَبِيثُ وَالْقَذَرُ. وَقَدْ مَضَى بَيَانُهُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ [١٢٥].
فَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى لَحْمِ الْخِنْزِيرِ خَاصَّةً فَوَصْفُهُ بِرِجْسٍ تَنْبِيهٌ عَلَى ذَمِّهِ. وَهُوَ
ذَمٌّ زَائِدٌ عَلَى التَّحْرِيمِ، فَوَصْفُهُ بِهِ تَحْذِيرٌ مِنْ تَنَاوُلِهِ. وَتَأْنِيسٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِتَحْرِيمِهِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ الْعَرَبِ كَانُوا يَأْكُلُونَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ بِخِلَافِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ فَمَا يَأْكُلُونَهَا إِلَّا فِي الْخَصَاصَةِ.
وَخَبَاثَةُ الْخِنْزِيرِ عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى الَّذِي خَلَقَهُ. وَتَبَيَّنَ أَخِيرًا أَنَّ لَحْمَهُ يَشْتَمِلُ عَلَى ذَرَّاتٍ حَيَوَانِيَّةٍ مُضِرَّةٍ لِآكِلِهِ أَثْبَتَهَا عِلْمُ الْحَيَوَانِ وَعِلْمُ الطِّبِّ. وَقِيلَ: أُرِيدَ أَنَّهُ نَجِسٌ لِأَنَّهُ يَأْكُلُ النَّجَاسَاتِ وَهَذَا لَا يَسْتَقِيمُ لِأَنَّ بَعْضَ الدَّوَابِّ تَأْكُلُ النَّجَاسَةِ وَتُسَمَّى الْجَلَّالَةَ وَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةَ الْأَكْلِ فِي صَحِيحِ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ.
وَإِنْ كَانَ الضَّمِيرُ عَائِدًا إِلَى الثَّلَاثَةِ بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ كَانَ قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ تَنْبِيهًا عَلَى عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَأَنَّهَا لِدَفْعِ مَفْسَدَةٍ تَحْصُلُ مَنْ أَكْلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَهِيَ مَفْسَدَةٌ بَدَنِيَّةٌ. فَأَمَّا الْمَيْتَةُ فَلِمَا يَتَحَوَّلُ إِلَيْهِ جِسْمُ الْحَيَوَانِ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنَ التَّعَفُّنِ، وَلِأَنَّ الْمَرَضَ الَّذِي كَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ قَدْ يَنْتَقِلُ إِلَى آكِلِهِ. وَأَمَّا الدَّمُ فَلِأَنَّ فِيهِ أَجْزَاءً مُضِرَّةً. وَلِأَنَّ شُرْبَهُ يُورِثُ ضَرَاوَةً.
وَالْفِسْقُ: الْخُرُوجُ عَنْ شَيْءٍ. وَهُوَ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ فِي الْخُرُوجِ عَنِ الْإِيمَانِ، أَوِ عَن الطَّاعَةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلِذَلِكَ يُوصَفُ بِهِ الْفِعْلُ الْحَرَامُ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِفِسْقِ صَاحِبِهِ عَنِ الطَّاعَةِ. وَقَدْ سَمَى الْقُرْآنُ مَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فِسْقًا فِي الْآيَةِ السَّالِفَةِ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَصَارَ وَصْفًا مَشْهُورًا لِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ. فَتَكُونُ جُمْلَةُ: أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صِفَةً أَوْ بَيَانًا لِ فِسْقاً، وَفِي هَذَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ تَحْرِيمَ مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ لَيْسَ لِأَنَّ لَحْمُهُ مُضِرٌّ بَلْ لِأَنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِاللَّهِ.
وَقَدْ دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى انْحِصَارِ الْمُحَرَّمَاتِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعَةِ، وَذَلِكَ الِانْحِصَارُ بِحَسَبِ مَا كَانَ مُحَرَّمًا يَوْمَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَإِنَّهُ لَمْ
حِينَئِذٍ قَدْ عَلِمُوا الْحَقَّ وَشَاهَدُوهُ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: نَعَمْ.
وَإِنَّمَا عُرِّفُوا بِتِلْكَ الْأَحْوَالِ الْمَاضِيَةِ لِأَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ تُعْرَفُ بِالْأَحْوَالِ الَّتِي كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً
بِهَا فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ الْأُولَى. فَبِالْمَوْتِ تَنْتَهِي أَحْوَالُ الْإِنْسَانِ فَيَسْتَقِرُّ اتِّصَافُ نَفْسِهِ بِمَا عَاشَتْ عَلَيْهِ،
وَفِي الْحَدِيثِ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ
، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ اللَّعْنَةُ كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ يَلْعَنُونَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا. فَجَهَرُوا بِهَا فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالشِّعَارِ لِلْكَفَرَةِ يُنَادُونَ بِهَا، وَهَذَا كَمَا
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «يُؤْتَى بِالْمُؤَذِّنِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَصْرُخُونَ بِالْأَذَانِ»
مَعَ أَنَّ فِي أَلْفَاظِ الْأَذَانِ مَا لَا يُقْصَدُ مَعْنَاهُ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ: «حَيِّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيِّ عَلَى الْفَلَاحِ». وَفِي حِكَايَةِ ذَلِكَ هُنَا إِعْلَامٌ لِأَصْحَابِ هَذِهِ الصِّفَاتِ فِي الدُّنْيَا بِأَنَّهُمْ مَحْقُوقُونَ بِلَعْنَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ: الْمُشْرِكُونَ، وَبِالصَّدِّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ: إِمَّا تَعَرُّضُ الْمُشْرِكِينَ لِلرَّاغِبِينَ فِي الْإِسْلَامِ بِالْأَذَى وَالصَّرْفِ عَنِ الدُّخُولِ فِي الدِّينِ بِوُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَسَبِيلُ اللَّهِ مَا بِهِ الْوُصُولُ إِلَى مَرْضَاتِهِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَيَكُونُ الصَّدُّ مُرَادًا بِهِ الْمُتَعَدِّي إِلَى الْمَفْعُولِ. وَإِمَّا إِعْرَاضُهُمْ عَنْ سَمَاعِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ وَسَمَاعِ الْقُرْآنِ، فَيَكُونُ الصَّدُّ مُرَادًا بِهِ الْقَاصِرُ، الَّذِي قِيلَ: إِنَّ مُضَارِعَهُ بِكَسْرِ الصَّادِ، أَوْ إِنَّ حَقَّ مُضَارِعِهِ كَسْرُ الصَّادِ، إِذْ قِيلَ لَمْ يُسْمَعْ مَكْسُورُ الصَّادِ، وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ كَسْرُ الصَّادِ فِي اللَّازِمِ وَضَمُّهَا فِي الْمُتَعَدِّي.
وَالضَّمِيرُ الْمُؤَنَّثُ فِي قَوْلِهِ: وَيَبْغُونَها عَائِدٌ إِلَى سَبِيلِ اللَّهِ. لِأَنَّ السَّبِيلَ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ قَالَ تَعَالَى: قُلْ هذِهِ سَبِيلِي [يُوسُف: ١٠٨] وَقَالَ: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الْأَعْرَاف: ١٤٦].
وَالْعِوَجُ: ضِدُّ الِاسْتِقَامَةِ، وَهُوَ بِفَتْحِ الْعَيْنِ فِي الْأَجْسَامِ: وَبِكَسْرِ الْعَيْنِ فِي الْمَعَانِي.
وَأَصْلُهُ أَنْ يَجُوزَ فِيهِ الْفَتْحُ وَالْكَسْرُ. وَلَكِنَّ الِاسْتِعْمَالَ خَصَّصَ الْحَقِيقَةَ بِأَحَدِ الْوَجْهَيْنِ وَالْمَجَازَ بِالْوَجْهِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ مِنْ مَحَاسِنِ الِاسْتِعْمَالِ، فَالْإِخْبَارُ عَنِ السَّبِيلِ- (عِوَجٍ) إِخْبَارٌ بِالْمَصْدَرِ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ وَيَرُومُونَ وَيُحَاوِلُونَ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَنْوِيهٌ بِعَظِيمِ فَضْلِ أَصْحَاب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَيُلْحَقُ بِهِمْ مَنْ نَصَرَ دينه بعدهمْ.
[١٥٨]
[سُورَة الْأَعْرَاف (٧) : آيَة ١٥٨]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ قَصَصِ بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَتْ مُسْتَطْرِدَةً لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الرَّسُول الْأُمِّي، تذكير لِبَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا وَعَدَ اللَّهُ بِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِيقَاظًا لِأَفْهَامِهِمْ بِأَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ مِصْدَاقُ الصِّفَاتِ الَّتِي عَلَّمَهَا اللَّهُ مُوسَى وَالْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِجَمِيعِ الْبَشَرِ، وَضَمِيرُ التَّكَلُّمِ ضَمِيرُ الرَّسُول مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) بِاعْتِبَارِ أَنَّ فِي جُمْلَةِ الْمُخَاطَبِينَ مُنْكِرِينَ وَمُتَرَدِّدِينَ، اسْتِقْصَاءٌ فِي إِبْلَاغِ الدَّعْوَةِ إِلَيْهِمْ.
وَتَأْكِيدُ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ بِوَصْفِ جَمِيعاً الدَّالِّ نَصًّا عَلَى الْعُمُومِ، لِرَفْعِ احْتِمَالِ تَخْصِيصِ رِسَالَتِهِ بِغَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَأَنَّ مِنَ الْيَهُودِ فَرِيقًا كَانُوا يَزْعُمُونَ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيءٌ، وَيَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيءُ الْعَرَبِ خَاصَّةً، وَلِذَلِكَ لَمَّا
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِابْنِ صَيَّادٍ- وَهُوَ يَهُودِيٌّ- أَتَشْهَدُ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الْأُمِّيِّينَ.
وَقَدْ ثَبَتَ مِنْ مَذَاهِبِ الْيَهُودِ مَذْهَبُ فَرِيقٍ مِنْ يَهُودِ أَصْفَهَانَ يُدْعَوْنَ بِالْعِيسَوِيَّةِ وَهُمْ أَتَبَاعُ أَبِي عِيسَى الْأَصْفَهَانِيِّ الْيَهُودِيِّ الْقَائِلِ بِأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَى الْعَرَبِ خَاصَّةً لَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، لِأَنَّ الْيَهُودَ فَرِيقَانِ: فَرِيقٌ يَزْعُمُونَ أَنَّ شَرِيعَةَ مُوسَى لَا تُنْسَخُ بِغَيْرِهَا، وَفَرِيقٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا لَا تُنْسَخُ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُبْعَثَ رَسُولٌ لِغَيْرِ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَانْتَصَبَ جَمِيعاً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، بِ (إِلَى) وَهُوَ فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ أَيْ مَجْمُوعِينَ، وَلِذَلِكَ لَزِمَ الْإِفْرَادَ لِأَنَّهُ لَا يُطَابِقُ مَوْصُوفَهُ.
وَ (الْوَلِيجَةُ) فَعَيْلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ، أَيِ الدَّخِيلَةُ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ الَّتِي يُخْفِيهَا فَاعِلُهَا، فَكَأَنَّهُ يُولِجُهَا، أَيْ يُدْخِلُهَا فِي مَكْمَنٍ بِحَيْثُ لَا تَظْهَرُ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا: مَا يَشْمَلُ الْخَدِيعَةَ وَإِغْرَاءَ
الْعَدُوِّ بِالْمُسْلِمِينَ، وَمَا يَشْمَلُ اتِّخَاذَ أَوْلِيَاءَ مِنْ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ يُخْلِصُ إِلَيْهِمْ وَيُفْضِي إِلَيْهِمْ بِسِرِّ الْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ تَنْكِيرَ وَلِيجَةً فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ سَائِرَ أَفْرَادِهَا.
ومِنْ دُونِ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ وَلِيجَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ الْمُبَيِّنَةِ.
ومِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ، أَيْ وَلِيجَةً كَائِنَةً فِي حَالَةِ تَشْبِيهِ الْمَكَانِ الَّذِي هُوَ مَبْدَأٌ لِلْبُعْدِ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ تَذْيِيلٌ لِإِنْكَارِ ذَلِكَ الْحُسْبَانِ، أَيْ: لَا تَحْسَبُوا ذَلِكَ مَعَ عِلْمِكُمْ بِأَنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِكُلِّ مَا تعملونه.
[١٧]
[سُورَة التَّوْبَة (٩) : آيَة ١٧]
مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (١٧)
هَذَا ابْتِدَاءُ غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِ مُعَامَلَةِ الْمُشْرِكِينَ، وَهُوَ مَنْعُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ، وَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ الْبَرَاءَةُ فِي قَوْلِهِ: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التَّوْبَة: ١] وَلِمَا اتَّصَلَ بِتِلْكَ الْآيَةِ مِنْ
بَيَانِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي أَرْسَلَ بِهِ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: أَنْ لَا يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلَا يَطُوفَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ
. وَهُوَ تَوْطِئَةٌ لِقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هَذَا [التَّوْبَة: ٢٨].
وَتَرْكِيبُ (مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَفْعَلُوا) يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ بُعَدَاءُ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ والنبوءة فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [٧٩]، أَيْ لَيْسُوا بِأَهْلٍ لِأَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ بِمَا تُعْمَرُ بِهِ مِنَ الْعِبَادَاتِ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بِغَيْرِ الْحَقِّ هُوَ قَيْدٌ كَاشِفٌ لِمَعْنَى الْبَغْيِ، إِذِ الْبَغْيُ لَا يَكُونُ بِحَقٍّ، فَهُوَ كَالتَّقْيِيدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ [الْقَصَص: ٥٠].
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ اسْتِئْنَافُ خِطَابٍ لِلْمُشْرِكِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ.
وَافْتُتِحَ الْخِطَابُ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ لِاسْتِصْغَاءِ أَسْمَاعِهِمْ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْذِيرُ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ تَهْدِيدُهُمْ.
وَصِيغَةُ قَصْرِ الْبَغْيِ عَلَى الْكَوْنِ مُضِرًّا بِهِمْ كَمَا هُوَ مُفَادُ حَرْفِ الِاسْتِعْلَاءِ تَنْبِيهً عَلَى حَقِيقَةٍ وَاقِعِيَّةٍ وَمَوْعِظَةٍ لَهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ التَّحْذِيرَ مِنَ الشِّرْكِ وَالتَّهْدِيدِ عَلَيْهِ لِرَعْيِ صَلَاحِهِمْ لَا لِأَنَّهُمْ يَضُرُّونَهُ كَقَوْلِهِ: وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً [التَّوْبَة: ٣٩]. فَمَعْنَى (عَلَى) الِاسْتِعْلَاءُ الْمَجَازِيُّ الْمُكَنَّى بِهِ عَنِ الْإِضْرَارِ لِأَنَّ الْمُسْتَعْلِي الْغَالِبُ يَضُرُّ بِالْمَغْلُوبِ الْمُسْتَعْلَى عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ أَنْ يَقُولُوا: هَذَا الشَّيْءُ عَلَيْكَ، وَفِي ضِدِّهِ: هَذَا الشَّيْءُ لَكَ، كَقَوْلِهِ: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت: ٤٦]. وَيَقُولُ الْمُقِرُّ: لَكَ عَلَيَّ كَذَا. وَقَالَ تَوْبَةُ بْنُ الْحُمَيِّرِ:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا
وَقَالَ السَّمَوْأَلُ الْيَهُودِيُّ:
أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إِذَا حُو سِبْتُ إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ
وَذَلِكَ أَنَّ (عَلَى) تَدُلُّ عَلَى الْإِلْزَامِ وَالْإِيجَابِ، وَاللَّامُ تَدَلُّ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «الْقُرْآن حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ»
. فَالْمُرَادُ بِالْأَنْفُسِ أَنْفُسُ الْبَاغِينَ بِاعْتِبَارِ التَّوْزِيعِ بَيْنَ أَفْرَادِ مُعَادِ ضَمِيرِ الْجَمَاعَةِ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: بَغْيُكُمْ وَبَيْنَ أَفْرَادِ الْأَنْفُسِ، كَمَا فِي قَوْلِهِمْ: «رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ» أَيْ،
وَإِذْ قَدْ كَانَتْ غَايَةُ الْمُفْسِدِ مِنَ الْإِفْسَادِ اجْتِلَابَ مَا فِيهِ نَفْعٌ عَاجِلٌ لَهُ مِنْ نَوَالِ مَا يُحِبُّهُ أَعْقَبَ شُعَيْبٌ مَوْعِظَتَهُ بِمَا ادَّخَرَهُ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى امْتِثَالِ أَمْرِهِ وَهُوَ النَّفْعُ الْبَاقِي هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِمَّا يَقْتَرِفُونَهُ مِنَ الْمَتَاعِ العاجل.
وَلَفظ بَقِيَّتُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِمَعَانٍ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، مِنْهَا: الدَّوَامُ، وَمُؤْذِنَةٌ بِضِدِّهِ وَهُوَ الزَّوَالُ، فَأَفَادَتْ أَنَّ مَا يَقْتَرِفُونَهُ مَتَاعٌ زَائِلٌ، وَمَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ حَظٌّ بَاقٍ غَيْرُ زَائِلٍ، وَبَقَاؤُهُ دُنْيَوِيٌّ وَأُخْرَوِيٌّ.
فَأَمَّا كَوْنُهُ دُنْيَوِيًّا فَلِأَنَّ الْكسْب الْحَلَال ناشىء عَنِ اسْتِحْقَاقٍ شَرْعِيٍّ فِطْرِيٍّ، فَهُوَ حَاصِلٌ مِنْ تَرَاضٍ بَيْنَ الْأُمَّةِ فَلَا يَحْنَقُ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ عَلَى آخِذِهِ فَيُعَادِيهِ وَيَتَرَبَّصُ بِهِ الدَّوَائِرَ فَبِتَجَنُّبِ ذَلِكَ تَبْقَى الْأُمَّةُ فِي أَمْنٍ مِنْ تَوَثُّبِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَرَنَ الْأَمْوَالَ بِالدِّمَاءِ فِي خُطْبَةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ إِذْ
قَالَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ»
فَكَمَا أَنَّ إِهْرَاقَ الدِّمَاءِ بِدُونِ حَقٍّ يُفْضِي إِلَى التَّقَاتُلِ وَالتَّفَانِي بَيْنَ الْأُمَّةِ فَكَذَلِكَ انْتِزَاعُ الْأَمْوَالِ بِدُونِ وَجْهِهَا يُفْضِي إِلَى التَّوَاثُبِ وَالتَّثَاوُرِ فَتَكُونُ مُعَرَّضَةً لِلِابْتِزَازِ وَالزَّوَالِ. وَأَيْضًا فَلِأَنَّ نَوَالَهَا بِدُونِ رِضَى اللَّهِ عَنْ وَسَائِلِ أَخْذِهَا كُفْرَانٌ لِلَّهِ يُعَرِّضُ إِلَى تَسْلِيطِ عِقَابِهِ بِسَلْبِهَا مِنْ أَصْحَابِهَا. قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: «مَنْ لَمْ يَشْكُرِ النِّعَمَ فَقَدْ تَعَرَّضَ لِزَوَالِهَا وَمَنْ شَكَرَهَا فَقَدْ قَيَّدَهَا بِعِقَالِهَا».
وَأَمَّا كَوْنُهُ أُخْرَوِيًّا فَلِأَنَّ نَهْيَ اللَّهِ عَنْهَا مُقَارَنٌ لِلْوَعْدِ بِالْجَزَاءِ عَلَى تَرْكِهَا، وَذَلِكَ الْجَزَاءُ مِنَ النَّعِيمِ الْخَالِدِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مَرْيَم: ٧٦].
عَلَى أَنَّ لفظ (الْبَقِيَّة) يحْتَمل مَعْنًى آخَرَ مِنَ الْفَضْلِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَهُوَ مَعْنَى الْخَيْرِ
وَالْبَرَكَةِ لِأَنَّهُ لَا يَبْقَى إِلَّا مَا يَحْتَفِظُ بِهِ أَصْحَابُهُ وَهُوَ النَّفَائِسُ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَتِ (الْبَقِيَّةُ) عَلَى الشَّيْءِ النَّفِيسِ الْمُبَارَكِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ [الْبَقَرَة: ٢٤٨]،

[سُورَة الرَّعْد (١٣) : آيَة ٣٠]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (٣٠)
هَذَا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لِأَنَّ الْجَوَابَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ:
قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ جَوَابٌ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ جَهَالَتِهِمْ وَالتَّعَجُّبِ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَمَا هُنَا هُوَ الْجَوَابُ الرَّادُّ لِقَوْلِهِمْ. فَيَجُوزُ جَعْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مِنْ مَقُولِ القَوْل، وَيجوز جعله مَقْطُوعَةً عَنْ جُمْلَةِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ الْقَوْلِ كُلِّهَا، أَوِ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ الْمَقُولِ وَهُوَ التَّعَجُّبُ.
وَفِي افْتِتَاحِهَا بِقَوْلِهِ: كَذلِكَ الَّذِي هُوَ اسْمُ إِشَارَةٍ تَأْكِيدٌ لِلْمُشَارِ إِلَيْهِ وَهُوَ التَّعَجُّبُ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ إِذْ عَمُوا عَنْ صِفَةِ الرِّسَالَةِ.
وَالْمُشَارُ إِلَيْهِ: الْإِرْسَالُ الْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِ أَرْسَلْناكَ، أَيْ مِثْلَ الْإِرْسَالِ الْبَيِّنِ أَرْسَلْنَاكَ، فَالْمُشَبَّهُ بِهِ عَيْنُ الْمُشَبَّهِ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ لِوُضُوحِهِ لَا يُبَيِّنُ مَا وَضَحَ مِنْ نَفْسِهِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
وَلَمَّا كَانَ الْإِرْسَالُ قَدْ عُلِّقَ بِقَوْلِهِ: فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ صَارَتِ الْإِشَارَةُ أَيْضًا مُتَحَمِّلَةً لِمَعْنَى إِرْسَالِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِهِ إِلَى أُمَمٍ يَقْتَضِي مُرْسَلِينَ، أَيْ مَا كَانَتْ رِسَالَتُكَ إِلَّا مِثْلَ رِسَالَةِ الرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ. كَقَوْلِهِ: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ [سُورَة الْأَحْقَاف: ٩] وَقَوْلِهِ: وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ [سُورَة الْفرْقَان: ٢٠] لِإِبْطَالِ تَوَهُّمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا لَمْ يَأْتِهِمْ بِمَا سَأَلُوهُ فَهُوَ غَيْرُ مُرْسَلٍ مِنَ اللَّهِ. وَفِي هَذَا الِاسْتِدْلَالِ تَمْهِيدٌ لِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [سُورَة الرَّعْد: ٣١] الْآيَاتِ.
ذُكِرَتْ حَالَةُ وَفَاتِهِمُ الَّتِي هِيَ بَيْنَ حَالَيِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَهِيَ حَالٌ تَعْرِضُ لِجَمِيعِهِمْ سَوَاءٌ مِنْهُمْ مَنْ أَدْرَكَهُ الِاسْتِئْصَالُ وَمَنْ هَلَكَ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَأَطْبَقَ مَنْ تَصَدَّى لِرَبْطِهِ بِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، عَلَى جَعْلِ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ الْآيَةَ بَدَلًا مِنَ الْكافِرِينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ [سُورَة النَّحْل: ٢٧]، أَوْ صِفَةً لَهُ. وَسَكَتَ عَنْهُ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» (وَهُوَ سُكُوتٌ مِنْ ذَهَبٍ). وَقَالَ الْخَفَاجِيُّ: «وَهُوَ يَصِحُّ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَقُولًا لِلْقَوْلِ وَغَيْرَ مُنْدَرِجٍ تَحْتَهُ». وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: «وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الَّذِينَ مُرْتَفِعًا بِالِابْتِدَاءِ مُنْقَطِعًا مِمَّا قَبْلَهُ وَخَبَرُهُ فِي قَوْلِهِ: فَأَلْقَوُا السَّلَمَ [سُورَة النَّحْل: ٢٨] اه.
وَاقْتِرَانُ الْفِعْلِ بِتَاءِ الْمُضَارَعَةِ الَّتِي لِلْمُؤَنَّثِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِاعْتِبَارِ إِسْنَادِهِ إِلَى الْجَمَاعَةِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَخَلَفٌ يَتَوَفَّاهُمْ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلَى الْأَصْلِ.
وَظُلْمُ النَّفْسِ: الشِّرْكُ.
وَالْإِلْقَاءُ: مُسْتَعَارٌ إِلَى الْإِظْهَارِ الْمُقْتَرِنِ بِمَذَلَّةٍ. شُبِّهَ بِإِلْقَاءِ السِّلَاحِ عَلَى الْأَرْضِ، ذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا اسْتِكْبَارَهُمْ وَإِنْكَارَهُمْ وَأَسْرَعُوا إِلَى الِاعْتِرَاف ولخضوع لَمَّا ذَاقُوا عَذَابَ انْتِزَاعِ أَرْوَاحِهِمْ.
وَالسَّلَمُ- بِفَتْحِ السِّينِ وَفَتْحِ اللَّامِ- الِاسْتِسْلَامُ. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ وَالسَّلَمُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٩٠]. وَتَقَدَّمَ الْإِلْقَاءُ الْحَقِيقِيُّ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ [١٥].
وَوَصْفُهُمْ بِ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ يَرْمِي إِلَى أَنَّ تَوَفِّيَ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ مُلَابِسٌ لِغِلْظَةٍ وَتَعْذِيبٍ، قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ [سُورَة الْأَنْفَال: ٥٠].
وَجُمْلَةُ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دلّ عَلَيْهِ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ، لِأَنَّ إِلْقَاءَ السَّلَمِ أَوَّلُ مَظَاهِرِهِ الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْخُضُوعِ. يَقُولُونَ ذَلِكَ لِلْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ يَنْتَزِعُونَ أَرْوَاحَهُمْ لِيَكُفُّوا عَنْهُمْ تَعْذِيبَ الِانْتِزَاعِ، وَهُمْ مِنَ
مُنَاسَبَاتِ الْمَوْعِظَةِ، وَذَلِكَ مِنْ أُسْلُوبِ الْخُطَبَاءِ. فَهَذِهِ الْآيَةُ مُتَّصِلَةُ الْمَعْنَى بِآيَةِ قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [الْإِسْرَاء: ٤٢]. فَبَعْدَ أَنْ أَبْطَلَ أَنْ يَكُونَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةٌ بِبُرْهَانِ الْعَقْلِ عَادَ
إِلَى إِبْطَالِ إِلَهِيَّتِهِمُ الْمَزْعُومَةِ بِبُرْهَانِ الْحِسِّ. وَهُوَ مُشَاهَدَةُ أَنَّهَا لَا تُغْنِي عَنْهُمْ كَشْفَ الضُّرِّ.
فَأَصْلُ ارْتِبَاطِ الْكَلَامِ هَكَذَا: وَلَقَدْ فضلنَا بعض النبيئين عَلَى بعض وآتينا دَاوُود زَبُورًا أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ الْآيَةَ. فَبِمُنَاسَبَةِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِمْ بِابْتِهَالِهِمْ إِلَى رَبِّهِمْ ذَكَرَ ضِدَّ ذَلِكَ مِنْ دُعَاءِ الْمُشْرِكِينَ آلِهَتَهُمْ. وَقَدَّمَ ذَلِكَ، عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي أَثَارَ الْمُنَاسَبَةَ، اهْتِمَامًا بِإِبْطَالِ فِعْلِهِمْ لِيَكُونَ إِبْطَالُهُ كَالْغَرَضِ الْمَقْصُودِ وَيَكُونَ ذِكْرُ مُقَابِلِهِ كَالِاسْتِدْلَالِ عَلَى ذَلِكَ الْغَرَضِ.
وَلَعَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ إِصَابَةِ الْقَحْطِ قُرَيْشًا بِمَكَّةَ، وَهِيَ السَّبْعُ السُّنُونَ الَّتِي هِيَ
دَعْوَة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِينَ يُوسُفَ»
. وَتَسَلْسَلَ الْجِدَالُ وَأَخَذَ بَعْضُهُ بِحُجَزِ بَعْضٍ حَتَّى انْتَهَى إِلَى هَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ.
وَالْمُلْكُ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ وَالْقُدْرَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ١٧]، وَقَوْلِهِ: قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [٧٦].
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ الْبَوْنِ بَيْنَ الدُّعَاءِ الْحَقِّ وَالدُّعَاءِ الْبَاطِلِ. وَمِنْ نَظَائِرِ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٩٦- ١٩٧].
وَالْكَشْفُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِزَالَةِ.
وَالتَّحْوِيلُ: نَقْلُ الشَّيْءِ مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، أَيْ لَا يَسْتَطِيعُونَ إِزَالَةَ الضُّرِّ عَنِ الْجَمِيعِ وَلَا إِزَالَتَهُ عَنْ وَاحِدٍ إِلَى غَيره.

[سُورَة مَرْيَم (١٩) : آيَة ٦٤]

وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (٦٤)
مَوْقِعُ هَذِهِ الْآيَةِ هُنَا غَرِيبٌ. فَقَالَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَبْطَأَ أَيَّامًا عَنِ النُّزُولِ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّ النَّبِيءَ وَدَّ أَنْ تَكُونَ زِيَارَةُ جِبْرِيلَ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا هُوَ يَزُورُهُ
فَقَالَ لِجِبْرِيلَ: «أَلَا تَزُورُنَا أَكْثَرَ مِمَّا تَزُورُنَا». فَنَزَلَتْ: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. أَيْ إِلَى قَوْلِهِ نَسِيًّا، رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ رِوَايَةٌ وَهُوَ أَصَحُّ مَا رُوِيَ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا وَأَلْيَقُهُ بِمَوْقِعِهَا هُنَا. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَقْوَالِ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يَقُولَ هَذَا الْكَلَامَ جَوَابًا عَنْهُ، فَالنَّظْمُ نَظْمُ الْقُرْآنِ بِتَقْدِيرِ: وَقُلْ مَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ، أَيْ قُلْ يَا جِبْرِيلُ، فَكَانَ هَذَا خِطَابًا لِجِبْرِيلَ لِيُبَلِّغُهُ إِلَى النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُرْآنًا. فَالْوَاوُ عَاطِفَةُ فِعْلِ الْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ عَلَى الْكَلَامِ الَّذِي قَبْلَهُ عَطْفَ قِصَّةٍ عَلَى قِصَّةٍ مَعَ اخْتِلَافِ الْمُخَاطَبِ، وَأَمْرَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يَقْرَأَهَا هُنَا، وَلِأَنَّهَا نَزَلَتْ لِتَكُونَ مِنَ الْقُرْآنِ.
وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ لِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عِنْدَ انْتِهَاءِ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَأُثْبِتَتِ الْآيَةُ فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي بَلَغَ إِلَيْهِ نُزُولُ الْقُرْآنِ.
وَالضَّمِيرُ لِجِبْرِيلَ وَالْمَلَائِكَةِ، أَعْلَمَ اللَّهُ نَبِيئَهُ عَلَى لِسَانِ جِبْرِيلَ أَنَّ نُزُولَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَقَعُ إِلَّا عَنْ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَلَيْسَ لَهُمُ اخْتِيَارٌ
اللَّهِ تَعَالَى بِدُونِ وَسَاطَةِ التَّطَوُّرَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ لِلتَّكْوِينِ النَّسْلِيِّ.
وَجَعْلُهَا وَابْنِهَا آيَةً هُوَ مِنْ أَسْبَابِ تَشْرِيفِهِمَا وَالتَّنْوِيهِ بِهِمَا إِذْ جَعَلَهُمَا اللَّهُ وَسِيلَةً لِلْيَقِينِ بِقُدْرَتِهِ وَمُعْجِزَاتِ أَنْبِيَائِهِ كَمَا قَالَ فِي [سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ: ٥٠] وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً. وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ حَصَلَ تَشْرِيفُ بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا نَحْوَ: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى [اللَّيْل:
١]، وَالشَّمْسِ وَضُحاها وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها [الشَّمْس: ١- ٢].
وَإِفْرَادُ الْآيَةِ لِأَنَّهُ أُرِيدَ بِهَا الْجِنْسُ. وَحَيْثُ كَانَ الْمَذْكُورُ ذَاتَيْنِ فَأَخْبَرَ عَنْهُمَا بِأَنَّهُمَا آيَةٌ عُلِمَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ آيَةٌ خَاصَّةٌ. وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الْإِفْرَادِ أَنَّ بَيْنَ مَرْيَمَ وَابْنِهَا حَالَةً مُشْتَرَكَةً هِيَ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، ثُمَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا آيَةٌ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٌ بِاخْتِلَافِ حَالِ النَّاظر المتأمل.
[٩٢]
[سُورَة الْأَنْبِيَاء (٢١) : آيَة ٩٢]
إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (٩٢)
إِنَّ مَكْسُورَةُ الْهَمْزَةِ عِنْدَ جَمِيعِ الْقُرَّاءِ، فَهِيَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ. وَاتَّفَقَتِ الْقِرَاءَاتُ الْمَشْهُورَةُ عَلَى رَفْعِ أُمَّتُكُمْ. وَالْأَظْهَرُ أَنَّ الْجُمْلَةَ مَحْكِيَّةٌ بِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ. وَحَذْفُ الْقَوْلِ فِي مِثْلِهِ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْخِطَابُ لِلْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ. وَالْوَجْهُ حِينَئِذٍ أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ مَصُوغًا فِي صِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِ. وَالتَّقْدِيرُ: قَائِلِينَ لَهُمْ إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ إِلَى آخِرِهِ. وَالْمَقُولُ مَحْكِيٌّ بِالْمَعْنَى، أَيْ قَائِلِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ رُسُلِنَا وَأَنْبِيَائِنَا الْمَذْكُورِينَ مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ.
فَصِيغَةُ الْجَمْعِ مُرَاد بهَا التَّوْزِيع، وَهِيَ طَرِيقَةٌ شَائِعَةٌ فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْجَمَاعَاتِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: رَكِبَ الْقَوْمُ دَوَابَّهُمْ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ جَارِيَةً عَلَى أُسْلُوبِ نَظِيرِهَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ. وَفِيهِ مَا يَزِيدُ هَذِهِ تَوْضِيحًا فَإِنَّهُ وَرَدَ هُنَالك ذكر عدَّة مِنَ الْأَنْبِيَاءِ تَفْصِيلًا وَإِجْمَالًا، كَمَا ذُكِرُوا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. ثُمَّ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [الْمُؤْمِنُونَ: ٥١] وَأَنَّ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٢٤- سُورَةُ النُّورِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ «سُورَةَ النُّورِ» مِنْ عهد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: «عَلِّمُوا نِسَاءَكُمْ سُورَةَ النُّورِ»
وَلَمْ أَقِفْ عَلَى إِسْنَادِهِ. وَعَنْ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرَ: «كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنْ تَعَلَّمُوا سُورَةَ النِّسَاءِ وَالْأَحْزَابِ وَالنُّورِ». وَهَذِهِ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا يُعْرَفُ لَهَا اسْمٌ آخَرُ. وَوَجْهُ التَّسْمِيَةِ أَنَّ فِيهَا آيَةَ اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [النُّور: ٣٥].
وَهِيَ مَدَنِيَّةٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ وَلَا يُعْرَفُ مُخَالِفٌ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَقَعَ فِي نُسَخِ «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ [النُّور: ٥٨] الْآيَةَ فِي الْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ كَلِمَةُ «وَهِيَ مَكِّيَّةٌ» يَعْنِي الْآيَةَ. فَنَسَبَ الْخَفَاجِيُّ فِي «حَاشِيَتِهِ» عَلَى «تَفْسِيرِ الْبَيْضَاوِيِّ» وَتَبِعَهُ الْآلُوسِيُّ، إِلَى الْقُرْطُبِيِّ أَنَّ تِلْكَ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ مَعَ أَنَّ سَبَبَ نُزُولِهَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْقُرْطُبِيُّ صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ كَيْفَ وَقَدْ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ «مَدَنِيَّةٌ بِالْإِجْمَاعِ». وَلَعَلَّ تَحْرِيفًا طَرَأَ عَلَى النُّسَخِ مِنْ تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَأَنَّ صَوَابَ الْكَلِمَةِ «وَهِيَ مُحْكَمَةٌ» أَيْ غَيْرُ مَنْسُوخٍ حُكْمُهَا فَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْعِبَارَةُ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ «وَهِيَ مُحْكَمَةٌ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَرَكَهَا النَّاسُ». وَسَيَأْتِي أَنَّ سَبَبَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً [النُّور: ٣] الْآيَةَ قَضِيَّةُ مَرْثَدِ بْنِ أَبِي مَرْثَدٍ مَعَ عَنَاقَ.
وَمَرْثَدُ بْنُ أَبِي مَرْثَدٍ اسْتُشْهِدَ فِي صَفَرٍ سَنَةَ ثَلَاثٍ لِلْهِجْرَةِ فِي غَزْوَةِ الرَّجِيعِ، فَيَكُونُ أَوَائِلُ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ سَنَةِ ثَلَاثٍ، وَالْأَقْرَبُ أَنْ يَكُونَ فِي أَوَاخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى أَوْ أَوَائِلِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ أَيَّامَ كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَتَلَاحَقُونَ لِلْهِجْرَةِ وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ جَعَلُوهُمْ كَالْأَسْرَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أَلْقَى عَلَيْهِمُ السُّؤَالَ حِينَ تَلَبُّسِهِمْ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ كَمَا هُوَ مُنَاسِبُ الْإِتْيَانِ بِالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: تَعْبُدُونَ وَمَا فَهِمَ قَوْمُهُ مِنْ كَلَامِهِ إِلَّا الِاسْتِفْسَارَ فَأَجَابُوا: بِأَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ أَصْنَامًا يَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا.
وَالتَّنْوِينُ فِي أَصْناماً لِلتَّعْظِيمِ، وَلذَا عَدَلَ عَنْ تَعْرِيفِهَا وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَعْرِفُهَا وَيَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَهَا. وَاسْمُ الْأَصْنَامِ عِنْدَهُمُ اسْمٌ عَظِيمٌ فَهُمْ يَفْتَخِرُونَ بِهِ عَلَى عَكْسِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ لَهُمْ فِي مَقَامٍ آخَرَ إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً [العنكبوت: ١٧] عَلَى وَجْهِ التَّحْقِيرِ لِمَعْبُودَاتِهِمْ وَالتَّحْمِيقِ لَهُمْ. وَأَتَوْا فِي جَوَابِهِمْ بِفِعْلِ نَعْبُدُ
مَعَ أَنَّ الشَّأْنَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنِ التَّصْرِيحِ إِذْ كَانَ جَوَابُهُمْ عَنْ سُؤَالٍ فِيهِ تَعْبُدُونَ. فَلَا حَاجَةَ إِلَى تَعْيِينِ جِنْسِ الْمَعْبُودَاتِ فَيَقُولُوا أَصْنَامًا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ [الْبَقَرَة: ٢١٩]، مَاذَا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ [سبأ: ٢٣] مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً [النَّحْل: ٣٠] فَعَدَلُوا عَنْ سُنَّةِ الْجَوَابِ إِلَى تَكْرِيرِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِي السُّؤَالِ ابْتِهَاجًا بِهَذَا الْفِعْلِ وَافْتِخَارًا بِهِ، وَلِذَلِكَ عَطَفُوا عَلَى قَوْلِهِمْ: نَعْبُدُ مَا يَزِيدُ فِعْلَ الْعِبَادَةِ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِمْ: فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ. وَفِي فِعْلِ «نَظَلُّ» دَلَالَةُ الِاسْتِمْرَارِ جَمِيعَ النَّهَارِ. وَأَيْضًا فَهُمْ كَانُوا صَابِئَةً يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ وَجَعَلُوا الْأَصْنَامَ رُمُوزًا عَلَى الْكَوَاكِبِ تَكُونُ خَلَفًا عَنْهَا فِي النَّهَارِ، فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ عَبَدُوا الْكَوَاكِبَ الطَّالِعَةَ.
وَضُمِّنَ عاكِفِينَ مَعْنَى (عَابِدِينَ) فَعُدِّيَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ بِاللَّامِ دُونَ (عَلَى). وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الرَّبِّ أَنْ يُلْجَأَ إِلَيْهِ فِي الْحَاجَةِ وَأَنْ يَنْفَعَ أَوْ يَضُرَّ أَلْقَى إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِمُ اسْتِفْهَامًا عَنْ حَالِ هَذِهِ الْأَصْنَامِ هَلْ تَسْمَعُ دُعَاءَ الدَّاعِينَ وَهَلْ تَنْفَعُ أَوْ تَضُرَّ تَنْبِيهًا عَلَى دَلِيلِ انْتِفَاءِ الْإِلَهِيَّةِ عَنْهَا.
وَكَانَتِ الْأُمَمُ الْوَثَنِيَّةُ تَعْبُدُ الْوَثَنَ لِرَجَاءِ نَفْعِهِ أَوْ لِدَفْعِ ضُرِّهِ وَلِذَلِكَ عَبَدَ بَعْضُهُمُ الشَّيَاطِينَ.
وَجُعِلَ مَفْعُولُ يَسْمَعُونَكُمْ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِينَ تَوَسُّعًا بِحَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ: هَلْ يسمعُونَ دعاءكم كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الظَّرْفُ فِي قَوْلِهِ: إِذْ تَدْعُونَ. وَأَرَادَ إِبْرَاهِيمُ فَتْحَ المجادلة ليعجزوا عَن إِثْبَاتِ أَنَّهَا تَسْمَعُ وَتَنْفَعُ.

[سُورَة الْقَصَص (٢٨) : الْآيَات ٤٩ إِلَى ٥٠]

قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠)
أَيْ أَجِبْ كَلَامَهُمُ الْمَحْكِيَّ مِنْ قَوْلهم ساحران [الْقَصَص: ٤٨] وَقَوْلهمْ إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ [الْقَصَص: ٤٨].
وَوَصْفُ (كِتَابٍ) بِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِدْمَاجٌ لِمَدْحِ الْقُرْآنِ وَالتَّوْرَاةِ بِأَنَّهُمَا كِتَابَانِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَالْمُرَادُ بِالتَّوْرَاةِ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْأَسْفَارُ الْأَرْبَعَةُ الْمَنْسُوبَةُ إِلَى مُوسَى مِنْ كَلَامِ اللَّهِ إِلَى مُوسَى أَوْ مِنْ إِسْنَادِ مُوسَى أَمْرًا إِلَى اللَّهِ لَا كُلُّ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَسْفَارُ فَإِنَّ فِيهَا قَصَصًا وَحَوَادِثَ مَا هِيَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ. فَيُقَالُ لِلْمُصْحَفِ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ بِالتَّحْقِيقِ وَلَا يُقَالُ لِأَسْفَارِ الْعَهْدَيْنِ كَلَامُ اللَّهِ إِلَّا عَلَى التَّغْلِيبِ إِذْ لَمْ يَدَّعِ ذَلِكَ الْمُرْسَلَانِ بِكِتَابَيِ الْعَهْد. وَقد تحداهم الْقُرْآنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ الْهُدَى بِبَلَاغَةِ نَظْمِهِ. وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْحَقَائِقِ هُوَ مِنْ طُرُقِ إِعْجَازِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْمُقَدِّمَةِ الْعَاشِرَةِ.
فَمَعْنَى فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ إِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِكَ، أَيْ إِلَى الدِّينِ بَعْدَ قِيَامِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِهَذَا التَّحَدِّي، فَاعْلَمْ أَنَّ اسْتِمْرَارَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا هُوَ إِلَّا إِتْبَاعٌ لِلْهَوَى وَلَا شُبْهَةَ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِعَدَمِ الِاسْتِجَابَةِ عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِكِتَابٍ أَهْدَى مِنَ الْقُرْآنِ لِأَنَّ فِعْلَ الِاسْتِجَابَةِ يَقْتَضِي دُعَاءً وَلَا دُعَاءَ فِي قَوْلِهِ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما بَلْ هُوَ تَعْجِيزٌ، فَالتَّقْدِيرُ: فَإِنْ عَجَزُوا وَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لِدَعْوَتِكَ بَعْدَ الْعَجْزِ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ، أَي لَا غير. وَاعْلَمْ أَنَّ فِعْلَ الِاسْتِجَابَةِ بِزِيَادَةِ السِّينِ وَالتَّاءِ يَتَعَدَّى إِلَى الدُّعَاءِ بِنَفْسِهِ وَيَتَعَدَّى إِلَى الدَّاعِي بِاللَّامِ، وَحِينَئِذٍ يُحْذَفُ لَفْظُ الدُّعَاءِ غَالِبًا فَقَلَّمَا قِيلَ: اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ دُعَاءَهُ، بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى: اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ، فَإِذَا قَالُوا: دَعَاهُ فَاسْتَجَابَهُ كَانَ الْمَعْنَى فَاسْتَجَابَ دُعَاءَهُ. وَهَذَا كَقَوْلِه فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ فِي سُورَةِ هُودٍ
يَشْتَمِلُ إِلَّا عَلَى مَا فِيهِ هُدًى وَإِرْشَادٌ لِلْخَيْرِ وَمِثْلَ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ، فَلَا الْتِفَاتَ فِيهِ إِلَى أَخْبَارِ الْجَبَابِرَةِ وَأَهْلِ الضَّلَالِ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّحْذِيرِ مِمَّا هُمْ فِيهِ وَمِنْ عَوَاقِبِهِ، فَكَانَ صَدْرُ هَذِهِ السُّورَةِ تَمْهِيدًا لِقِصَّةِ لُقْمَانَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْإِلْمَاعُ إِلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي أَوَّلِ سُورَةِ يُوسُفَ [٣] نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ، وَنَبَّهْتُ عَلَيْهِ فِي الْمُقدمَة السَّابِعَة لهَذَا التَّفْسِيرِ. وَانْتَقَلَ مِنْ ذَلِكَ إِلَى تَسْفِيهِ النَّضْرِ بْنِ الْحَارِثِ وَقِصَصِهِ الْبَاطِلَةِ.
وَابْتُدِئَ ذِكْرُ لُقْمَانَ بِالتَّنْوِيهِ بِأَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ وَأَمَرَهُ بِشُكْرِ النِّعْمَةِ. وَأُطِيلَ الْكَلَامُ فِي وَصَايَا لُقْمَانَ وَمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ: مِنَ التَّحْذِيرِ مِنَ الْإِشْرَاكِ، وَمِنَ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، وَمِنْ مُرَاقَبَةِ اللَّهِ لِأَنَّهُ عَلِيمٌ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ، وَإِقَامَةِ الصَّلَاةِ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَالصَّبْرِ، وَالتَّحْذِيرِ مِنَ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ، وَالْأَمْرِ بِالِاتِّسَامِ بِسِمَاتِ الْمُتَوَاضِعِينَ فِي الْمَشْيِ وَالْكَلَامِ.
وَسَلَكَتِ السُّورَةُ أَفَانِينَ ذَاتَ مُنَاسَبَاتٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ وَصِيَّةُ لُقْمَانَ لِابْنِهِ، وَأُدْمِجَ فِي ذَلِكَ تَذْكِيرُ الْمُشْرِكِينَ بِدَلَائِلِ وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى وَبِنِعَمِهِ عَلَيْهِمْ وَكَيْفَ أَعْرَضُوا عَنْ هَدْيِهِ وَتَمَسَّكُوا بِمَا أَلْفَوْا عَلَيْهِ آبَاءَهُمْ. وَذَكَرَتْ مَزِيَّةَ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَتَسْلِيَةَ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَمَسُّكِ الْمُسْلِمِينَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَأَنَّهُ لَا يُحْزِنُهُ كُفْرُ مَنْ كَفَرُوا.
وَانْتَظَمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الرَّدُّ عَلَى الْمُعَارِضِينَ لِلْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لُقْمَان: ٢٧] وَمَا بَعْدَهَا. وَخُتِمَتْ بِالتَّحْذِيرِ مِنْ دَعْوَةِ الشَّيْطَانِ، وَالتَّنْبِيهِ إِلَى بطلَان ادِّعَاء الْكُهَّان عِلْمِ الْغَيْب.
[١]
[سُورَة لُقْمَان (٣١) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١)
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظَائِرِهَا فِي أَوَّلِ سُورَة الْبَقَرَة.
وَتَعْرِيفُ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ بِالْمَوْصُولِيَّةِ لِأَنَّ هَذَا الْمَوْصُولَ صَارَ كَالْعَلَمِ بالغلبة عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ وَتَعَارُفِ الْمُسْلِمِينَ.
والسَّاعَةُ: عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ فِي الْقُرْآنِ عَلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَاعَةِ الْحَشْرِ.
وَعَبَّرَ عَنِ انْتِفَاءِ وُقُوعِهَا بِانْتِفَاءِ إِتْيَانِهَا عَلَى طَرِيقِ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ وَاقِعَةً لَأَتَتْ، لَأَنَّ وُقُوعَهَا هُوَ إِتْيَانُهَا.
وَضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ الْمُشَارِكِ مُرَادٌ بِهِ جَمِيعُ النَّاسِ.
وَلَقَدْ لَقَّنَ اللَّهُ نَبِيئَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَوَابَ عَنْ قَوْلِ الْكَافِرِينَ بِالْإِبْطَالِ الْمُؤَكَّدِ عَلَى عَادَةِ إِرْشَادِ
الْقُرْآنِ فِي انْتِهَازِ الْفُرَصِ لِتَبْلِيغِ الْعَقَائِدِ.
وبَلى حَرْفُ جَوَابٍ مُخْتَصٌّ بِإِبْطَالِ النَّفْيِ فَهُوَ حَرْفُ إِيجَابٍ لِمَا نَفَاهُ كَلَامٌ قَبْلَهُ وَهُوَ نَظِيرُ (بَلْ) أَوْ مُرَكَّبٌ مِنْ (بَلْ) وَأَلِفٍ زَائِدَةٍ، أَوْ هِيَ أَلِفُ تَأْنِيثٍ لِمُجَرَّدِ تَأْنِيثِ الْكَلِمَةِ مِثْلَ زِيَادَةِ تَاءِ التَّأْنِيثِ فِي ثَمَّةَ وَرُبَّةَ، لَكِنَّ بَلى حَرْفٌ يَخْتَصُّ بِإِيجَابِ النَّفْيِ فَلَا يَكُونُ عَاطِفًا وَ (بَلْ) يُجَابُ بِهِ الْإِثْبَاتُ وَالنَّفْيُ وَهُوَ عَاطِفٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَلى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٨١].
وَأَكَّدَ مَا اقْتَضَاهُ بَلى مِنْ إِثْبَاتِ إِتْيَانِ السَّاعَةِ بِالْقَسَمِ عَلَى ذَلِكَ لِلدَّلَالَةِ عَلَى ثِقَةِ الْمُتَكَلِّمِ بِأَنَّهَا آتِيَةٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِإِقْنَاعِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ يُرَوِّعُ السَّامِعِينَ الْمُكَذِّبِينَ.
وَعُدِّيَ إِتْيَانُهَا إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ مِنْ بَيْنِ جَمِيعِ النَّاسِ دُونَ: لَتَأْتِيَنَّا، وَدُونَ أَنْ يُجَرَّدَ عَنِ التَّعْدِيَةِ لِمَفْعُولٍ، لِأَنَّ الْمُرَادَ إِتْيَانُ السَّاعَةِ الَّذِي يَكُونُ عِنْدَهُ عِقَابُهُمْ كَمَا يُقَالُ:
أَتَاكُم الْعَدُوُّ، وَأَتَاكَ أَتَاكَ اللَّاحِقُونَ، فَتَعَلُّقُهُ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّهُ كِنَايَةٌ عَنْ إِتْيَانِ مَكْرُوهٍ فِيهِ عَذَابٌ.
وَفِعْلُ (أَتَى) يَرِدُ كَثِيرًا فِي مَعْنَى حُلُولِ الْمَكْرُوهِ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: ١] وفَأَتاهُمُ الْعَذابُ [الزمر: ٢٥] ويَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ [الْأَنْعَام: ١٥٨]، وَقَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَإِرَادَةُ الشَّيْءِ: ابْتِغَاؤُهُ وَالْعَزْمُ عَلَى حُصُولِهِ، وَحَقُّ فِعْلِهَا أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَعَانِي قَالَ ابْنُ الدُّمَيْنَةِ:
تُرِيدِينَ قَتْلِي قَدْ ظَفِرْتِ بِذَلِكَ
فَإِذَا عُدِّيَ إِلَى الذَّوَاتِ كَانَ عَلَى مَعْنَى يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الذَّوَاتِ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ شَاسٍ الْأَسَدِيِّ:
فلتأتينك قصائد وليدفعن جَيْشًا إِلَيْكَ قَوَادِمُ الْأَكْوَارِ
أَرَادَتْ عِرَارًا بِالْهَوَانِ وَمَنْ يُرِدْ عِرَارًا لَعَمْرِي بِالْهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمَ
فَلِذَلِكَ كَانَتْ تَعْدِيَةُ فِعْلِ تُرِيدُونَ إِلَى آلِهَةً عَلَى مَعْنَى: تُرِيدُونَهَا بِالْعِبَادَةِ أَوْ بِالتَّأْلِيهِ، فَكَانَ مَعْنَى آلِهَةً دَلِيلًا عَلَى جَانِبِ إِرَادَتِهَا.
فَانْتَصَبَ آلِهَةً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ وَقَدَّمَ الْمَفْعُولَ عَلَى الْفِعْلِ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَلِأَنَّ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى جِهَةِ تَجَاوُزِ مَعْنَى الْفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ.
وَانْتَصَبَ إِفْكاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُرِيدُونَ أَيْ آفِكِينَ. وَالْإِفْكُ: الْكَذِبُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ آلِهَةٍ، أَيْ آلِهَةٍ مَكْذُوبَةٍ، أَيْ مَكْذُوبٌ تَأْلِيهُهَا. وَالْوَصْفُ بِالْمَصْدَرِ صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ مَعْنَى الْفَاعِلِ أَوْ مَعْنَى الْمَفْعُولِ. وَقُدِّمَتِ الْحَالُ عَلَى صَاحِبِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِالتَّعْجِيلِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ كَذِبِهِمْ وَضَلَالِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: دُونَ اللَّهِ أَيْ خِلَافَ اللَّهِ وَغَيْرَهُ، وَهَذَا صَالِحٌ لِاعْتِبَارِ قَوْمِهِ عَبَدَةَ أَوْثَانٍ غَيْرَ مُعْتَرِفِينَ بِإِلَهٍ غَيْرِ أَصْنَامِهِمْ، وَلِاعْتِبَارِهِمْ مُشْرِكِينَ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى مِثْلَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ الْعَرَبَ بَقِيَتْ فِيهِمْ أَثَارَةٌ مِنَ الْحَنِيفِيَّةِ فَلَمْ يَنْسَوْا وَصْفَ اللَّهِ بِالْإِلَهِيَّةِ وَكَانَ قَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَهُمُ الْكِلْدَانُ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ نَظِيرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْيُونَانُ وَالْقِبْطُ.
وَفَرَّعَ عَلَى اسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِ اسْتِفْهَامٌ آخَرُ وَهُوَ قَوْلُهُ: فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْقِيفُ عَلَى الْخَطَأِ، وَأُرِيدَ بِالظَّنِّ الِاعْتِقَادُ الْخَطَأُ.
وَسُمِّيَ ظَنًّا لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ وَلَمْ يُسَمِّهِ عِلْمًا لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا عَلَى
الْمَادِّيِّ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَعْرِفَةَ الْوَحْدَانِيَّةِ وَاجِبَةٌ فِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ: إِمَّا بِالْعَقْلِ، أَوْ بِمَا تَوَاتَرَ بَيْنَ الْبَشَرِ مِنْ تَعَالِيمِ الرُّسُلِ السَّابِقِينَ عَلَى الْخِلَافِ بَيْنَ الْمُتَكَلِّمِينَ.
وَالْبَيِّنَاتُ: إِخْبَارُهُ بِمَا هُوَ مَغِيبٌ عَنْهُمْ مِنْ أَحْوَالِهِمْ بِطَرِيقِ الْوَحْيِ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤَى، وَكَذَلِكَ آيَةُ الْعِصْمَةِ الَّتِي انْفَرَدَ بِهَا مِنْ بَيْنِهِمْ وَشَهِدَتْ لَهُ بِهَا امْرَأَةُ الْعَزِيزِ وَشَاهِدُ أَهْلِهَا حَتَّى قَالَ الْمَلِكُ: ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي [يُوسُف: ٥٤]، فَكَانَتْ دَلَائِلُ نُبُوءَةِ يُوسُفَ وَاضِحَةً وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَسْتَخْلِصُوا مِنْهَا اسْتِدْلَالًا يَقْتَفُونَ بِهِ أَثَرَهُ فِي صَلَاحِ آخِرَتِهِمْ، وَحَرَصُوا عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ فِي تَدْبِيرِ أُمُورِ دُنْيَاهُمْ فَأَوْدَعُوهُ خَزَائِنَ أَمْوَالِهِمْ وَتَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِمْ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: ٥٤]. وَلَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ أَنْ يَسْتَرْشِدُوا بِهِ فِي سُلُوكِهِمُ الدِّينِيِّ. فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا لَمْ يَهْتَدُوا إِلَى الِاسْتِرْشَادِ بِيُوسُفَ فِي أُمُورِ دِينِهِمْ وَأَلْهَاهُمُ الِاعْتِنَاءُ بِتَدْبِيرِ الدُّنْيَا عَنْ تَدْبِير الدَّين فَلَمَّا ذَا لَمْ يَدْعُهُمْ يُوسُفُ إِلَى الِاعْتِقَادِ بِالْحَقِّ وَاقْتَصَرَ عَلَى أَنْ سَأَلَ مِنَ الْمَلِكِ: اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ [يُوسُف: ٥٥].
قُلْتُ: لِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالدَّعْوَةِ لِلْإِرْشَادِ إِلَّا إِذَا سُئِلَ مِنْهُ ذَلِكَ لِحِكْمَةٍ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا، فَأَقَامَهُ اللَّهُ مَقَامَ الْمُفْتِي وَالْمُرْشِدِ لِمَنِ اسْتَرْشَدَ لَا مَقَامَ الْمُحْتَسِبِ الْمُغَيِّرِ لِلْمُنْكَرِ، واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ
رسالاته [الْأَنْعَام: ١٢٤]، فَلَمَّا أَقَامَهُ اللَّهُ كَذَلِكَ وَعَلِمَ يُوسُفُ مِنْ قَوْلِ الْمَلِكِ: إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ [يُوسُف: ٥٤] أَنَّ الْمَلِكَ لَا يُرِيدُ إِلَّا تَدْبِيرَ مَمْلَكَتِهِ وَأَمْوَالِهِ، لَمْ يَسْأَلْهُ أَكْثَرَ مِمَّا يَفِي لَهُ بِذَلِكَ. وَأَمَّا وُجُوبُ طَلَبِهِمُ الْمَعْرِفَةَ وَالِاسْتِرْشَادَ مِنْهُ فَذَلِكَ حَقٌّ عَلَيْهِمْ، فَمَعْنَى: فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ الْإِنْحَاءُ عَلَى أَسْلَافِهِمْ فِي قِلَّةِ الِاهْتِمَامِ بِالْبَحْثِ عَنِ الْكَمَالِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْكَمَالُ النَّفْسَانِيُّ بِاتِّبَاعِ الدِّينِ الْقَوِيمِ، أَيْ فَمَا زَالَ أَسْلَافُكُمْ يَشْعُرُونَ بِأَنْ يُوسُفَ عَلَى أَمْرٍ عَظِيمٍ مِنَ الْهُدَى غَيْرِ مَأْلُوفٍ لَهُمْ وَيُهْرَعُونَ إِلَيْهِ فِي مُهِمَّاتِهِمْ ثُمَّ لَا تَعْزِمُ نُفُوسُهُمْ عَلَى أَنْ يَطْلُبُوا مِنْهُ الْإِرْشَادَ فِي أُمُورِ الدِّينِ. فَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ فِي حَالَةِ شَكٍّ، أَيْ كَانَ حَاصِلُ مَا بَلَغُوا إِلَيْهِ فِي شَأْنِهِ أَنَّهُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا يَكْشِفُ لَهُمْ
عَنْ وَاجِبِهِمْ نَحْوَهُ فَانْقَضَتْ مُدَّةُ حَيَاةِ يُوسُفَ بَيْنَهُمْ وَهُمْ فِي شَكٍّ مِنَ الْأَمْرِ.
وَالضَّمِيرُ فِي يُزَوِّجُهُمْ عَائِد إِلَى كلا مِنَ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ. وَانْتَصَبَ ذُكْراناً وَإِناثاً عَلَى الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الْجَمْعِ فِي يُزَوِّجُهُمْ.
وَالْعَقِيمُ: الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ مِنْ رَجُلٍ أَوِ امْرَأَةٍ، وَفِعْلُهُ عَقِمَ مِنْ بَابِ فَرِحَ وَعَقُمَ مِنْ بَابِ كَرُمَ. وَأَصْلُ فِعْلِهِ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَى الْمَفْعُولِ يُقَالُ عَقَمَهَا اللَّهُ مِنْ بَابِ ضَرَبَ، وَيُقَالُ عُقِمَتِ الْمَرْأَةُ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، أَيْ عَقَمَهَا عَاقِمٌ لِأَنَّ سَبَبَ الْعُقْمِ مَجْهُولٌ عِنْدَهُمْ. فَهُوَ مِمَّا جَاءَ مُتَعَدِّيًا وَقَاصِرًا، فَالْقَاصِرُ بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِهَا وَالْمُتَعَدِّي بِفَتْحِهَا، وَالْعَقِيمُ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَلِذَلِكَ اسْتَوَى فِيهِ الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ غَالِبًا، وَرُبَّمَا ظَهَرَتِ التَّاءُ نَادِرًا قَالُوا:
رَحِمٌ عَقِيمَةٌ.
إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ.
جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْعِلَّةِ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ وَهُوَ يَخْلُقُ مَا يَشاءُ فَمَوْقِعُ (إِنَّ) هُنَا مَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ خَلْقَهُ مَا يَشَاءُ لَيْسَ خَلْقًا مُهْمَلًا عَرِيًّا عَنِ الْحِكْمَةِ لِأَنَّهُ وَاسِعُ الْعِلْمِ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنَ الْمَعْلُومَاتِ فَخَلْقُهُ الْأَشْيَاءَ يَجْرِي عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ. وَهُوَ قَدِيرٌ نَافِذُ الْقُدْرَةِ، فَإِذَا عَلِمَ الْحِكْمَةَ فِي خَلْقِ شَيْءٍ أَرَادَهُ، فَجَرَى عَلَى قَدْرِهِ. وَلَمَّا جَمَعَ بَيْنَ وَصْفَيِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ تَعَيَّنَ أَنَّ هُنَالِكَ صِفَةً مَطْوِيَّةً وَهِيَ الْإِرَادَةُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا تَتَعَلَّقُ قُدْرَتُهُ بَعْدَ تَعَلُّقِ إِرَادَتِهِ بِالْكَائِنِ.
وَتَفْصِيلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِالْأَسْبَابِ وَالْقُوَى وَالْمُؤَثِّرَاتِ الَّتِي وَضَعَهَا فِي الْعَوَالِمِ، وَبِتَوَافُقِ آثَارِ بَعْضِهَا وَتَخَالُفِ بَعْضٍ، وَكَيْفَ تَتَكَوَّنُ الْكَائِنَاتُ عَلَى نَحْوِ مَا قَدَّرَ لَهَا مِنَ الْأَوْضَاعِ، وَكَيْفَ تَتَظَاهَرُ فَتَأْتِي الْآثَارُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ، وَتَتَمَانَعُ فَيَنْقُصُ تَأْثِيرُ بَعْضِهَا فِي آثَارِهِ بِسَبَبِ مُمَانَعَةِ مُؤَثِّرَاتٍ أُخْرَى، وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ مَظَاهِرِ عِلْمِهِ تَعَالَى فِي أَصْلِ التَّكْوِينِ الْعَالَمِيِّ وَمَظَاهِرِ قُدْرَتِهِ فِي الْجَرْيِ عَلَى وفَاق علمه.
تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦١]. وَإِنْ كَانَ كِلَا الْمُتَعَلِّقَيْنِ هُوَ فِي الْمَعْنَى مُعَوَّضٌ وَعِوَضٌ بِاخْتِلَافِ الِاعْتِبَارِ، وَلِذَلِكَ عُدِلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْ ذِكْرِ الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ مَعَ الْمَفْعُولِ لِلْإِيجَازِ. وَالْمَعْنَى: يَتَّخِذُ قَوْمًا غَيْرِكُمْ لِلْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّ اللَّهَ لَا يُوجِدُ قَوْمًا آخَرِينَ إِلَّا عِنْدَ ارْتِدَادِ الْمُخَاطَبِينَ، بَلِ الْمُرَادُ: أَنَّكُمْ إِنِ ارْتَدَدْتُمْ عَنِ الدِّينِ كَانَ لِلَّهِ قَوْمٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَا يَرْتَدُّونَ وَكَانَ لِلَّهِ قَوْمٌ يَدْخُلُونَ فِي الْإِيمَانِ وَلَا يَرْتَدُّونَ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: تَلَا رَسُولُ اللَّهِ هَذِهِ الْآيَةَ «وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ. قَالُوا: وَمَنْ يُسْتَبْدَلُ بِنَا؟ قَالَ: فَضَرَبَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَنْكِبِ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ ثُمَّ قَالَ: هَذَا وَقَوْمُهُ، هَذَا وَقَوْمُهُ»
قَالَ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ غَرِيبٌ.
وَفِي إِسْنَادِهِ مَقَالٌ. وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي «الْأَوْسَطِ» : هَذَا الْحَدِيثَ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَزَادَ
فِيهِ «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ مَنُوطًا بِالثُّرَيَّا لَتَنَاوَلَهُ رِجَالٌ مِنْ فَارِسَ»
. وَأَقُولُ هُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ فَارِسَ إِذَا آمَنُوا لَا يَرْتَدُّونَ وَهُوَ من دَلَائِل نبوءة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّ الْعَرَبَ ارْتَدَّ مِنْهُمْ بَعْضُ الْقَبَائِلِ بَعْدَ وَفَاة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَارْتَدَّ الْبَرْبَرُ بَعْدَ فَتْحِ بِلَادهمْ وَإِيمَانهمْ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ مَرَّةً فِيمَا حَكَاهُ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدِ ابْن أَبِي زَيْدٍ، وَلَمْ يَرْتَدَّ أَهْلُ فَارِسَ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ.
وثُمَّ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتَبِيِّ لِإِفَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِصِفَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَعُلَوِّهَا عَلَى مُجَرَّدِ الْإِيمَانِ، أَيْ وَلَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ فِي التَّوَلِّي. وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ بِ (ثُمَّ) عَلَى جُمْلَةِ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ فَهِيَ فِي حَيِّزِ جَوَابِ الشَّرْطِ وَالْمَعْطُوفُ عَلَى جَوَابِ الشَّرْطِ بِحَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ التَّشْرِيكِ يَجُوزُ جَزْمُهُ عَلَى الْعَطْفِ، وَيَجُوزُ رَفْعُهُ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ. وَقَدْ جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْجَزْمِ وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ [آل عمرَان: ١١١] عَلَى الرَّفْعِ. وَأَبْدَى الْفَخْرُ وَجْهًا لِإِيثَارِ الْجَزْمِ هُنَا وَإِيثَارِ الِاسْتِئْنَافِ هُنَالِكَ فَقَالَ: وَهُوَ مَعَ الْجَوَازِ فِيهِ تَدْقِيقٌ وَهُوَ أَنَّ هَاهُنَا لَا يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِالتَّوَلِّي لِأَنَّهُمْ إِنْ لَمْ يَتَوَلَّوْا
يَكُونُونَ مِمَّنْ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ عَلَى الطَّاعَةِ، وَإِنْ تَوَلَّوْا لَا يَكُونُونَ مِثْلَهُمْ لِكَوْنِهِمْ عَاصِينَ وَكَوْنِ مَنْ يَأْتِي اللَّهُ بِهِمْ
يُعْلَنُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (وَذَلِكَ مِنْ تَوَابِعِ أَن لَيْسَ بِهِ إِلَّا مَا سَعَى)، فَلَمَّا كَانَ لَفْظُ سَعْيَهُ صَالِحًا لِلْوُقُوعِ اسْمًا لِحَرْفِ أَنَّ زَالَ مُقْتَضَى اجْتِلَابِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ فَزَالَ مُقْتَضَى (أَنِ) الْمُخَفَّفَةِ. وَقَدْ يَكُونُ مَضْمُونُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ مَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ [الشُّعَرَاء: ٨٧].
وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ قَوْلِهِ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: وَأَنَّ سَعْيَهُ مَشْمُولًا لِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فَعَطْفُهُ عَلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ: بِما فِي صُحُفِ مُوسى وَإِبْراهِيمَ [النَّجْم:
٣٦، ٣٧]، عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ فَيَكُونُ مَعْمُولًا لِبَاءِ الْجَرِّ فِي قَوْلِهِ: فِي صُحُفِ مُوسى إِلَخْ، وَالتَّقْدِيرُ: لَمْ يُنَبَّأْ بِأَنَّ سَعْيَ الْإِنْسَانِ سَوْفَ يُرَى، أَيْ لَا بُدَّ أَنْ يُرَى، أَيْ يُجَازَى عَلَيْهِ، أَيْ لَمْ يُنَبَّأْ بِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ الدِّينِيَّةِ وَعَلَيْهِ فَلَا نَتَطَلَّبُ ثُبُوتَ مَضْمُونِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي شَرِيعَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وسَوْفَ حَرْفُ اسْتِقْبَالٍ وَالْأَكْثَرُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الْمُسْتَقْبَلُ الْبَعِيدُ.
وَمَعْنَى يُرى يُشَاهَدُ عِنْدَ الْحِسَابِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِراً [الْكَهْف: ٤٩]، فَيَجُوزُ أَنْ تُجَسَّمَ الْأَعْمَالُ فَتَصِيرَ مُشَاهَدَةً وَأُمُورُ الْآخِرَةِ مُخَالِفَةٌ لِمُعْتَادِ أُمُورِ الدُّنْيَا. وَيَجُوزُ أَنْ تُجْعَلَ عَلَامَاتٍ عَلَى الْأَعْمَالِ يُعْلَنُ بِهَا عَنْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [التَّحْرِيم: ٨]. وَمَا
فِي الْحَدِيثِ «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادَرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ»
فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَنَّ عُنْوَانَ سَعْيِهِ سَوْفَ يُرَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِإِشْهَارِ الْعَمَلِ وَالسَّعْيِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ [الْأَعْرَاف: ٤٩] الْآيَةَ، وَكَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمَّعَ بِأَخِيهِ فِيمَا يَكْرَهُ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ سَامِعَ خَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
، فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ مُسْتَعَارَةً لِلْعِلْمِ لِقَصْدِ تحقق الْعلم واشتهاره.
وَحِكْمَةُ ذَلِكَ تَشْرِيفُ الْمُحْسِنِينَ بِحُسْنِ السُّمْعَةِ وَانْكِسَارِ الْمُسِيئِينَ بِسُوءِ الْأُحْدُوثَةِ.
وَقَوْلُهُ: ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْجُمْلَةِ.
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ النَّهْيِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ، عُطِفَ عَلَى النَّهْيِ التَّوَعُّدُ عَلَى عَدَمِ الِانْتِهَاءِ بِأَنَّ مِنْ لَمْ يَنْتَهِ عَمَّا نُهِيَ عَنْهُ هُوَ ضَالٌّ عَنِ الْهُدَى.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ فِي يَفْعَلْهُ عَائِدٌ إِلَى الِاتِّخَاذِ الْمَفْهُومِ مِنْ فِعْلِ لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي أَيْ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَعْدَ هَذَا النَّهْيِ وَالتَّحْذِيرِ فَهُوَ قَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.
وسَواءَ السَّبِيلِ مُسْتَعَارٌ لِأَعْمَالِ الصَّلَاحِ وَالْهُدَى لِشَبَهِهَا بِالطَّرِيقِ الْمُسْتَوِي الَّذِي يَبْلُغُ مَنْ سَلَكَهُ إِلَى بُغْيَتِهِ وَيَقَع من انحرف عَنْهُ فِي هَلَكَةٍ. وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا ضَلَّ عَنِ الْإِسْلَامِ وَضَلَّ عَنِ الرُّشْدِ.
ومِنَ شُرْطِيَّةٌ الْفِعْلُ بَعْدَهَا مُسْتَقْبَلٌ وَهُوَ وَعِيدٌ لِلَّذِينَ يَفْعَلُونَ مِثْلَ مَا فَعَلَ حَاطِبٌ بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُمُ النَّهْيُ وَالتَّحْذِيرُ وَالتَّوْبِيخُ والتفظيع لعمله.
[٢]
[سُورَة الممتحنة (٦٠) : آيَة ٢]
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (٢)
تُفِيدُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ مَعْنَى التَّعْلِيلِ لِمُفَادِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ [الممتحنة:
١] بِاعْتِبَارِ بَعْضَ مَا أَفَادَتْهُ الْجُمْلَةُ، وَهُوَ الضَّلَالُ عَنِ الرُّشْدِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَخْفَى وَيُظَنُّ أَنَّ فِي تَطَلُّبِ مَوَدَّةِ الْعَدُوِّ فَائِدَةٌ، كَمَا هُوَ حَالُ الْمُنَافِقِينَ الْمَحْكِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النِّسَاء: ١٤١]، فَقَدْ يُظَنُّ أَنَّ مُوَالَاتَهُمْ مِنَ الدَّهَاءِ وَالْحَزْمِ رَجَاءَ نَفْعِهِمْ إِنْ دَالَتْ لَهُمُ الدَّوْلَةُ، فَبَيَّنَ اللَّهُ لَهُمْ خَطَأَ هَذَا الظَّنِّ، وَأَنَّهُمْ إِنِ اسْتَفَادُوا مِنْ مَوَدَّتِهِمْ إِيَّاهُمْ إِطِّلَاعًا عَلَى قُوَّتِهِمْ فَتَأَهَّبُوا لَهُمْ وَظَفِرُوا بِهِمْ لَمْ يَكُونُوا لِيَرْقَبُوا فِيهِمْ إِلَّا وَلَا ذِمَّةٍ، وَأَنَّهُمْ لَوْ أَخَذُوهُمْ وَتَمَكَّنُوا مِنْهُمْ لَكَانُوا أَعْدَاءً لَهُمْ لِأَنَّ الَّذِي أَضْمَرَ الْعَدَاوَةَ زَمَنًا يَعْسُرُ أَنْ يَنْقَلِبَ وَدُودًا، وَذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَنَقِ عَلَى مَا لَقَوْا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إِبْطَالِ دِينِ الشِّرْكِ وَتَحْقِيرِ أَهْلِهِ وَأَصْنَامِهِمْ.
وَفِعْلُ يَكُونُوا مُشْعِرٌ بِأَنَّ عَدَاوَتَهُمْ قَدِيمَةٌ وَأَنَّهَا تَسْتَمِرُّ.
وَالْحَضُّ عَلَى الشَّيْءِ: أَنْ يَطْلُبَ مِنْ أَحَدٍ فِعْلَ شَيْءٍ وَيُلِحَّ فِي ذَلِكَ الطَّلَبِ.
وَنَفْيُ حَضِّهِ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ يَقْتَضِي بِطَرِيقِ الْفَحْوَى أَنَّهُ لَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ مِنْ مَالِهِ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يَأْمُرُ غَيْرَهُ بِإِطْعَامِ الْمِسْكِينَ فَهُوَ لَا يُطْعِمُهُ مِنْ مَالِهِ، فَالْمَعْنَى لَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَلَا يَأْمُرُ بِإِطْعَامِهِ، وَقَدْ كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُطْعِمُونَ فِي الْوَلَائِمِ، وَالْمَيْسِرِ، وَالْأَضْيَافِ، وَالتَّحَابُبِ، رِيَاءً وَسُمْعَةً. وَلَا يُطْعِمُونَ الْفَقِيرَ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، وَقَدْ جُعِلَ عَدَمُ الْحَضِّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ مُبَالَغَةً فِي شُحِّ هَذَا الشَّخْصِ عَنِ الْمَسَاكِينِ بِمَالِ غَيْرِهِ وَكِنَايَةً عَنِ الشُّحِّ عَنْهُمْ بِمَالِهِ، كَمَا جُعِلَ الْحِرْصُ عَلَى إِطْعَامِ الضَّيْفِ كِنَايَةً عَنِ الْكَرَمِ فِي قَوْلِ زَيْنَبَ بِنْتِ الطَّثَرِيَّةِ تَرْثِي أَخَاهَا يَزِيدَ:
إِذَا نَزَلَ الْأَضْيَافُ كَانَ عَذَوَّرًا عَلَى الْحَيِّ حَتَّى تَسْتَقِلَّ مَرَاجِلُهُ
تُرِيدُ أَنَّهُ يَحْضُرُ الْحَيَّ وَيَسْتَعْجِلُهُمْ عَلَى نِصْفِ الْقُدُورِ لِلْأَضْيَافِ حَتَّى تُوضَعَ قُدُورُ الْحَيِّ عَلَى الْأَثَافِي وَيَشْرَعُوا فِي الطَّبْخِ، وَالْعَذَوَّرُ بِعَيْنٍ مُهْمِلَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ كَعَمَلَّسٍ:
الشَّكِسُ الْخُلُقِ.
إِلَّا أَنَّ كِنَايَةَ مَا فِي الْآيَةِ عَنِ الْبُخْلِ أَقْوَى مِنْ كِنَايَةِ مَا فِي الْبَيْتِ عَنِ الْكَرَمِ لِأَنَّ الْمُلَازِمَةَ فِي الْآيَةِ حَاصِلَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَوِيَّةِ بِخِلَافِ الْبَيْتِ.
وَإِذْ قَدْ جُعِلَ عَدَمُ حَضِّهِ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ جُزْءُ عِلَّةٍ لِشِدَّةِ عَذَابِهِ، عَلِمْنَا مِنْ ذَلِكَ مَوْعِظَةً لِلْمُؤْمِنِينَ زَاجِرَةً عَنْ مَنْعِ الْمَسَاكِينِ حَقَّهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَهُوَ الْحَقُّ الْمَعْرُوفُ فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ وَغَيْرِهَا.
وَقَوْلُهُ: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ مِنْ تَمَامِ الْكَلَامِ الَّذِي ابْتُدِئَ بِقَوْلِهِ خُذُوهُ، وَتَفْرِيعٌ عَلَيْهِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنْ يَسْمَعَهُ مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَيْأَسُ مِنْ أَنْ يَجِدَ مُدَافِعًا يَدْفَعُ عَنْهُ بِشَفَاعَةٍ، وَتَنْدِيمٌ لَهُ عَلَى مَا أَضَاعَهُ فِي حَيَاتِهِ مِنَ التَّزَلُّفِ إِلَى الْأَصْنَامِ وَسَدَنَتِهَا وَتَمْوِيهِهِمْ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُهُمْ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَإِلْمَامِ الْمَصَائِبِ. وَهَذَا وَجْهُ تَقْيِيدِ نَفِيِ الْحَمِيمِ بِ الْيَوْمَ تَعْرِيضًا بِأَنَّ أَحِمَّاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا لَا يَنْفَعُونَهُمُ الْيَوْمَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [الْأَنْعَام: ٢٢] وَقَوْلُهُ عَنْهُمْ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا [الْأَعْرَاف: ٥٣] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا تَفُوقُ فِي آيِ الْقُرْآنِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٨١- سُورَةُ التَّكْوِيرِ
لَمْ يَثْبُتْ عَنِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سَمَّاهَا تَسْمِيَةً صَرِيحَةً،
وَفِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ فَلْيَقْرَأْ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ، وَإِذا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ»
وَلَيْسَ هَذَا صَرِيحًا فِي التَّسْمِيَةِ لِأَنَّ صِفَةَ يَوْم الْقِيَامَة لَيست فِي جَمِيعِ هَذِهِ السُّورَةِ بَلْ هُوَ فِي الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْهَا، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى: فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَعُنْوِنَتْ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» وَفِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»، وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا الطَّبَرَيُّ.
وَأَكْثَرُ التَّفَاسِيرِ يُسَمُّونَهَا «سُورَةَ التَّكْوِيرِ» وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهَا فِي الْمَصَاحِفِ وَهُوَ اخْتِصَارٌ لِمَدْلُولِ «كُوِّرَتْ».
وَتُسَمَّى «سُورَةَ كُوِّرَتْ» تَسْمِيَةً بِحِكَايَةِ لَفْظٍ وَقَعَ فِيهَا. وَلَمْ يَعُدَّهَا فِي «الْإِتْقَانِ» مَعَ السُّوَرِ الَّتِي لَهَا أَكْثَرُ مِنَ اسْمٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَهِيَ مَعْدُودَةٌ السَّابِعَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْفَاتِحَةِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْأَعْلَى.
وَعَدَدُ آيِهَا تسع وَعِشْرُونَ.
أغراضها
اشْتَمَلَتْ عَلَى تَحْقِيقِ الْجَزَاءِ صَرِيحًا.


الصفحة التالية
Icon