وَمَعْنَى وَقُودُهَا الْحِجَارَةُ أَنَّ الْحَجَرَ جُعِلَ لَهَا مَكَانَ الْحَطَبِ لِأَنَّهُ إِذَا اشْتَعَلَ صَارَ أَشَدَّ إِحْرَاقًا وَأَبْطَأَ انْطِفَاءً وَمِنَ الْحِجَارَةِ أَصْنَامُهُمْ فَإِنَّهَا أَحْجَارٌ وَقَدْ جَاءَ ذَلِكَ صَرِيحًا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [الْأَنْبِيَاء: ٩٨].
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِتَهْدِيدِ الْمُخَاطَبِينَ وَالْمَعْنَى الْمُعَرَّضُ بِهِ فَاحْذَرُوا أَنْ تَكُونُوا أَنْتُمْ وَمَا عَبَدْتُمْ وَقُودَ النَّارِ وَقَرِينَةُ التَّعْرِيضِ قَوْلُهُ: فَاتَّقُوا وَقَوْلُهُ: وَالْحِجارَةُ لِأَنَّهُمْ لَمَّا أُمِرُوا بِاتِّقَائِهَا أَمْرَ تَحْذِيرٍ عَلِمُوا أَنَّهُمْ هُمُ النَّاسُ، وَلَمَّا ذُكِرَتِ الْحِجَارَةُ عَلِمُوا أَنَّهَا أَصْنَامُهُمْ، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ هُمْ عُبَّادَ تِلْكَ الْأَصْنَامِ فَالتَّعْرِيضُ هُنَا مُتَفَاوِتٌ فَالْأَوَّلُ مِنْهُ بِوَاسِطَةٍ وَاحِدَةٍ وَالثَّانِي بِوَاسِطَتَيْنِ.
وَحِكْمَةُ إِلْقَاءِ حِجَارَةِ الْأَصْنَامِ فِي النَّارِ مَعَ أَنَّهَا لَا تَظْهَرُ فِيهَا حِكْمَةُ الْجَزَاءِ أَنَّ ذَلِكَ تَحْقِيرٌ لَهَا وَزِيَادَةُ إِظْهَارِ خَطَأِ عَبَدَتِهَا فِيمَا عَبَدُوا، وَتَكَرَّرَ لِحَسْرَتِهِمْ عَلَى إِهَانَتِهَا، وَحَسْرَتِهِمْ أَيْضًا عَلَى أَنْ كَانَ مَا أَعَدُّوهُ سَبَبًا لِعِزِّهِمْ وَفَخْرِهِمْ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ، وَمَا أَعَدُّوهُ لِنَجَاتِهِمْ سَبَبًا لِعَذَابِهِمْ، قَالَ تَعَالَى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ الْآيَةَ.
وَتَعْرِيفُ (النَّارِ) لِلْعَهْدِ وَوَصْفُهَا بِالْمَوْصُولِ الْمُقْتَضِي عِلْمَ الْمُخَاطَبِينَ بِالصِّلَةِ كَمَا هُوَ
الْغَالِبُ فِي صِلَةِ الْمَوْصُولِ لِتَنْزِيلِ الْجَاهِلِ مَنْزِلَةَ الْعَالَمِ بِقَصْدِ تَحْقِيقِ وُجُودِ جَهَنَّمَ، أَوْ لِأَنَّ وَصْفَ جَهَنَّمَ بِذَلِكَ قَدْ تَقَرَّرَ فِيمَا نَزَلَ قَبْلُ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّحْرِيمِ [٦] :
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ وَإِنْ كَانَتْ سُورَةُ التَّحْرِيمِ مَعْدُودَةً فِي السُّوَرِ الَّتِي نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فَإِنَّ فِي صِحَّةِ ذَلِكَ الْعَدِّ نَظَرًا، أَوْ لِأَنَّهُ قَدْ عُلِمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ مِنْ أَخْبَارِ أَهْلِ الْكِتَابِ.
وَفِي جَعْلِ النَّاسِ وَالْحِجَارَةِ وَقُودًا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ مُشْتَعِلَةٌ مِنْ قَبْلِ زَجِّ النَّاسِ فِيهَا وَأَنَّ النَّاسَ وَالْحِجَارَةَ إِنَّمَا تَتَّقِدُ بِهَا لِأَنَّ نَارَ جَهَنَّمَ هِيَ عُنْصُرُ الْحَرَارَةِ كُلِّهَا كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ
حَدِيثُ «الْمُوَطَّأِ» :«إِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»
فَإِذَا اتَّصَلَ بِهَا الْآدَمِيُّ اشْتَعَلَ وَنَضِجَ جِلْدُهُ وَإِذَا اتَّصَلَتْ بِهَا الْحِجَارَةُ صُهِرَتْ، وَفِي الِاحْتِرَاقِ بِالسَّيَّالِ الْكَهْرَبَائِيِّ نَمُوذَجٌ يُقَرِّبُ ذَلِكَ لِلنَّاسِ الْيَوْمَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ جَهَنَّمَ تَتَّقِدُ بِحِجَارَةِ الْكِبْرِيتِ فَيَكُونُ نَمُوذَجَهَا الْبَرَاكِينُ الْمُلْتَهِبَةُ.
وَقَوْلُهُ: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ اسْتِئْنَافٌ لَمْ يُعْطَفْ لِقَصْدِ التَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُ مَقْصُودٌ بِالْخَبَرِيَّةِ لِأَنَّهُ لَوْ عُطِفَ لَأَوْهَمَ الْعَطْفُ أَنَّهُ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ أَوْ صِلَةٌ أُخْرَى وَجَعَلَهُ خَبَرًا أَهْوَلَ وَأَفْخَمَ وَأَدْخَلَ لِلرَّوْعِ فِي قُلُوبِ الْمُخَاطَبِينَ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِأَنَّهَا أُعِدَّتْ لَهُمُ ابْتِدَاءً لِأَنَّ الْمُحَاوَرَةَ مَعَهُمْ.

رَأَيْتُ الْخَمْرَ صَالِحَةً وَفِيهَا خِصَالٌ تُفْسِدُ الرَّجُلَ الْحَلِيمَا
فَلَا وَاللَّهِ أَشْرَبُهَا صَحِيحًا وَلَا أُشْفَى بِهَا أَبَدًا سَقِيمًا
وَلَا أُعْطِي بِهَا ثَمَنًا حَيَاتِي وَلَا أَدْعُو لَهَا أَبَدًا نَدِيمًا
فَإِنَّ الْخَمْرَ تَفْضَحُ شَارِبِيهَا وَتُجْنِيهِمْ بِهَا الْأَمْرَ الْعَظِيمَا
وَفِي «أَمَالِي الْقَالِي» نِسْبَةُ الْبَيْتَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لِصَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، وَمِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ الظَّرِبِ الْعُدْوَانِيُّ، وَمِنْهُمْ عفيف بن معد يكرب الْكِنْدِيُّ عَمُّ الْأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ الْكِنَانِيُّ، وَأَسْلُومُ الْبَالِي، وَسُوَيْدُ بْنُ عَدِيٍّ الطَّائِيُّ، (وَأَدْرَكَ الْإِسْلَامَ) وَأَسَدُ بْنُ كُرَزٍ الْقَسْرِيُّ الْبَجَلِيُّ الَّذِي كَانَ يُلَقَّبُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِرَبِّ بَجِيلَةَ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَعَبَّاسُ بْنُ مِرْدَاسٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ، وَأُمِّيَّةُ بْنُ أَبِي الصَّلْتِ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ.
وَأَمَّا الْمَنَافِعُ فَمِنْهَا مَنَافِعُ بَدَنِيَّةٌ وَهِيَ مَا تُكْسِبُهُ مِنْ قُوَّةِ بَدَنِ الضَّعِيفِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمَا فِيهَا مِنْ مَنَافِعِ التِّجَارَةِ فَقَدْ كَانَتْ تِجَارَةُ الطَّائِفِ وَالْيَمَنِ مِنَ الْخَمْرِ، وَفِيهَا مَنَافِعُ مِنَ اللَّذَّةِ وَالطَّرَبِ، قَالَ طَرَفَةُ:
وَلَوْلَا ثَلَاثٌ هُنَّ مِنْ عِيشَةِ الْفَتَى وَجِدِّكَ لَمْ أَحْفِلْ مَتَى قَامَ عُوَّدِي
فَمِنْهُنَّ سَبْقِي الْعَاذِلَاتِ بِشَرْبَةٍ كُمَيْتٍ مَتَى مَا تُعْلَ بِالْمَاءِ تُزْبَدِ
وَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا إِلَى أَنَّ الْمَنَافِعَ مَالِيَّةٌ فَقَطْ فِرَارًا مِنَ الِاعْتِرَافِ بِمَنَافِعَ بَدَنِيَّةٍ لِلْخَمْرِ وَهُوَ جُحُودٌ لِلْمَوْجُودِ وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنَّ بَعْضَهُمْ زَعَمَ أَنَّ فِي الْخَمْرِ مَنَافِعَ بَدَنِيَّةً وَلَكِنَّهَا بِالتَّحْرِيمِ زَالَتْ.
وَذُكِرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْمَيْسِرُ عَطْفًا عَلَى الْخَمْرِ وَمُخْبِرًا عَنْهُمَا بِأَخْبَارٍ مُتَّحِدَةٍ فَمَا قِيلَ فِي مُقْتَضَى هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ أَوْ مِنَ التَّنْزِيهِ عَنْ شُرْبِهَا يُقَالُ مِثْلُهُ فِي الْمَيْسِرِ، وَقَدْ بَانَ أَنَّ الْمَيْسِرَ قَرِينُ الْخَمْرِ فِي التَّمَكُّنِ مِنْ نُفُوسِ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ وَهُوَ أَكْبَرُ لَهْوٍ يَلْهُونَ بِهِ، وَكَثِيرًا
مَا يَأْتُونَهُ وَقْتَ الشَّرَابِ إِذَا أَعْوَزَهُمُ اللَّحْمُ لِلشِّوَاءِ عِنْدَ شُرْبِ الْخَمْرِ، فَهُمْ يَتَوَسَّلُونَ لِنَحْرِ الْجَزُورِ سَاعَتَئِذٍ بِوَسَائِلَ قَدْ تَبْلُغُ بِهِمْ إِلَى الِاعْتِدَاءِ عَلَى جُزُرِ النَّاسِ بِالنَّحْرِ كَمَا فِي قِصَّةِ حَمْزَةَ، إِذْ نَحَرَ شَارِفًا لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ حِينَ كَانَ حَمْزَةُ مَعَ شَرْبٍ فَغَنَّتْهُ قَيْنَتُهُ مُغْرِيَةً إِيَّاهُ بِهَذَا الشَّارِفِ:
أَلَا يَا حَمَزُ لِلشُّرُفِ النِّوَاءِ وَهُنَّ مُعَقَّلَاتٌ بِالْفِنَاءِ
فَقَامَ إِلَيْهَا فَشَقَّ بَطْنَهَا وَأَخْرَجَ الْكَبِدَ فَشَوَاهُ فِي قِصَّةٍ شَهِيرَةٍ، وَقَالَ طَرَفَةُ يَذْكُرُ
وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّتِنَا وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِنَبِيءٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ كَافَّةً. قَالَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ: «ثُمَّ خَتَمَ- أَيِ اللَّهُ- الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالنُّبُوءَةَ بِمُحَمَّدٍ نَبِيئِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَخْ»، لِأَنَّ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي
رَوَاهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ مِنْ سُؤَالِ جِبْرِيلَ النَّبِيءَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: «أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ»
إِلَخْ. فَلَمْ يُعَيِّنْ رُسُلًا مَخْصُوصِينَ.
وَقَالَ فِي جَوَابِ سُؤَالِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إِلَهَ
إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ»
.
فَمَنْ عَلِمَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَفَهِمَ مَعْنَاهَا وَجَبَ عَلَيْهِ الِاعْتِقَادُ بِنُبُوءَةِ الْمَذْكُورِينَ فِيهَا. وَلَعَلَّ كثيرا لَا يقرأونها وَكَثِيرًا ممّن يقرأونها لَا يَفْهَمُونَ مَدْلُولَاتِهَا حَقَّ الْفَهْمِ فَلَا يُطَالَبُونَ بِتَطَلُّبِ فَهْمِهَا وَاعْتِقَادِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ أُصُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَلَكِنَّهُ مِنَ التَّفَقُّهِ فِي الدِّينِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي فَصْلٍ (سَابِعٍ) مِنْ فُصُولِ الْبَابِ الثَّالِثِ مِنَ الْقِسْمِ الرَّابِعِ مِنْ كِتَابِ «الشِّفَاءِ» «وَهَذَا كُلُّهُ (أَيْ مَا ذَكَرَهُ مِنْ إِلْزَامِ الْكُفْرِ أَوِ الْجُرْمِ الْمُوجِبِ لِلْعُقُوبَةِ لِمَنْ جَاءَ فِي حَقِّهِمْ بِمَا يُنَافِي مَا يَجِبُ لَهُمْ) فِيمَنْ تُكُلِّمَ فِيهِمْ (أَيِ الْأَنْبِيَاءِ أَوِ الْمَلَائِكَةِ) بِمَا قُلْنَاهُ عَلَى جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيئِينَ (أَيْ عَلَى مَجْمُوعِهِمْ لَا عَلَى جَمِيعِهِمْ- قَالَهُ الْخَفَاجِيُّ- يُرِيدُ بِالْجَمِيعِ كُلَّ فَرْدٍ فَرْدٍ) مِمَّنْ حَقَّقْنَا كَوْنَهُ مِنْهُمْ ممّن نصّ الله عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ أَوْ حَقَّقْنَا عِلْمَهُ بِالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ وَالْإِجْمَاعِ الْقَاطِعِ وَالْخَبَرِ الْمُشْتَهِرِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ (الْوَاوُ فِي هَذَا التَّقْسِيمِ بِمَعْنَى أَوْ). فَأَمَّا مَنْ لَمْ يَثْبُتِ الْإِخْبَارُ بِتَعْيِينِهِ وَلَا وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ كَالْخَضِرِ، وَلُقْمَانَ، وَذِي الْقَرْنَيْنِ، وَمَرْيَمَ، وَآسِيَةَ (امْرَأَةِ فِرْعَوْنَ) وَخَالِدِ بْنِ سِنَانٍ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ نَبِيءُ أَهْلِ الرَّسِّ، فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِي سَابِّهِمْ وَالْكَافِرِ بِهِمْ كَالْحُكْمِ فِيمَا قَدَّمْنَاهُ» اهـ.
فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا عَلِمْتَ أَنَّ مَا وَقَعَ فِي أَبْيَاتٍ ثَلَاثَةٍ نَظَمَهَا الْبَعْضُ
حَالِ كَفْرِهِ فَإِذَا هُوَ أَسْلَمَ قَبْلَ أَنْ يُؤَاخَذَ بِهَا هَلْ يُسْقِطُ عَنْهُ إِسْلَامُهُ التَّبِعَاتِ بِهَا.
وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مَا اسْتَقْرَيْتُهُ وَأَصَّلْتُهُ فِي دَلَالَةِ آيِ الْقُرْآنِ عَلَى مَا يَصِحُّ أَنَّ تَدُلَّ عَلَيْهِ أَلْفَاظُهَا وَتَرَاكِيبُهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَرَوَى ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» أَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَأَشْهَبَ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَوْا عَنْ مَالِكٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: أَنَّ مَنْ طَلَّقَ فِي الشِّرْكِ ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا طَلَاقَ عَلَيْهِ، وَمَنْ حَلَفَ يَمِينًا ثُمَّ أَسْلَمَ فَلَا حِنْثَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: إِنَّمَا يَعْنِي عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ مَضَى قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ أَوْ شَيْءٍ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَهُوَ الصَّوَابُ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ، وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ، وَابْنَ وَهْبٍ، رَوَيَا عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الْكَافِرَ إِذَا افْتَرَى عَلَى مُسْلِمٍ أَوْ سَرَقَ ثُمَّ أَسْلَمَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، وَلَوْ زَنَى ثُمَّ أَسْلَمَ أَوِ اغْتَصَبَ مُسْلِمَةً ثُمَّ أَسْلَمَ لَسَقَطَ عَنْهُ الْحَدُّ تَفْرِقَةً بَيْنَ مَا كَانَ حَقًّا لِلَّهِ مَحْضًا وَمَا كَانَ فِيهِ حَقٌّ لِلنَّاسِ.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ الْمُنْذِرِ: أَنَّهُ حَكَى مِثْلَ ذَلِكَ عَنِ الشَّافِعِيِّ، وَأَنَّهُ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي «الْمُدَوَّنَةِ» تَسْقُطُ عَنْهُ الْحُدُودُ كُلُّهَا.
وَذَكَرَ فِي «الْكَشَّافِ» عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إِذَا أَسْلَمَ لَمْ تَبْقَ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ حُقُوقِ اللَّهِ وَتَبْقَى عَلَيْهِ حُقُوقُ الْآدَمِيِّينَ، وَاحْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِي كُتُبِ الْفَتْوَى لِعُلَمَاءِ الْحَنَفِيَّةِ بَعْضُ مُخَالَفَةٍ لِهَذَا، وَحَكَوْا فِي الْمُرْتَدِّ إِذَا تَابَ وَعَادَ إِلَى الْإِسْلَامِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ وَلَا غُرْمُ مَا أَصَابَ مِنْ جِنَايَاتٍ وَمَتْلَفَاتٍ.
وَعَنِ الشَّافِعِيِّ يَلْزَمُ ذَلِكَ كُلُّهُ وَهُوَ مَا نَسَبَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ إِلَى الشَّافِعِيِّ بِخِلَافِ مَا نَسَبَهُ إِلَيْهِ ابْنُ الْمُنْذِرِ كَمَا تَقَدَّمَ وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ يَسْقُطُ عَنْهُ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لِلَّهِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ حَقُّ النَّاسِ وَحُجَّةُ الْجَمِيعِ هَذِهِ الْآيَةُ تَعْمِيمًا وَتَخْصِيصًا بِمُخَصَّصَاتٍ أُخْرَى.
وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ مُحَسِّنٌ بَدِيعِيٌّ وَهُوَ الِاتِّزَانُ لِأَنَّهُ فِي مِيزَانِ الرَّجَزِ.
وَالْمُرَادُ بِالْعَوْدِ الرُّجُوعُ إِلَى مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مُنَاوَأَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَالتَّجَهُّزِ لِحَرْبِهِمْ، مِثْلِ صُنْعِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ عَوْدَهُمْ إِلَى الْكُفْرِ بَعْدَ الِانْتِهَاءِ لِأَنَّ مُقَابَلَتَهُ بِقَوْلِهِ: إِنْ يَنْتَهُوا تَقْتَضِي أَنَّهُ تَرْدِيدٌ بَيْنَ حَالَتَيْنِ لِبَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا وَهَذَا كَقَوْلِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: «أَسِلْمٌ أَنْتَ أَمْ حَرْبٌ» وَلِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ يَقُولُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ- وَضَمِيرُ الْغَائِبِ عَائِدٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ نَقُولُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ.
وَالْيَوْمُ الَّذِي يَقع فِيهِ هَذَا القَوْل هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ. وَالْمَعْنَى: يَقُولُ لِلْمُشْرِكِينَ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: الَّذِينَ زَعَمْتُمْ، أَيْ زَعَمْتُمُوهُمْ شُرَكَائِي. وَقَدَّمَ وَصْفَهُمْ بِوَصْفِ الشُّرَكَاءِ قَبْلَ فِعْلِ الزَّعْمِ تَهَكُّمًا بِالْمُخَاطَبِينَ وَتَوْبِيخًا لَهُمْ، ثُمَّ أَرْدَفَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيمَا ادَّعَوْا بِفِعْلِ الزَّعْمِ الدَّالِّ عَلَى اعْتِقَادٍ بَاطِلٍ.
وَالنِّدَاءُ: طَلَبُ الْإِقْبَالِ لِلنُّصْرَةِ وَالشَّفَاعَةِ.
وَالِاسْتِجَابَةُ: الْكَلَامُ الدَّالُّ عَلَى سَمَاعِ النِّدَاءِ وَالْأَخْذِ فِي الْإِقْبَالِ عَلَى الْمُنَادِي بِنَحْوِ قَوْلِ: لَبَّيْكُمْ.
وَأَمْرُهُ إِيَّاهُمْ بِمُنَادَاةِ شُرَكَائِهِمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ مَعَ إِرَادَةٍ لَازِمِهِ وَهُوَ إِظْهَارُ باطلهم بِقَرِينَة فعل الزَّعْمِ. وَلِذَلِكَ لَمْ يَسَعْهُمْ إِلَّا أَنْ يُنَادُوهُمْ حَيْثُ قَالَ فَدَعَوْهُمْ لِطَمَعِهِمْ، فَإِذَا نَادَوْهُمْ تَبَيَّنَ لَهُمْ خَيْبَةُ طَمَعِهِمْ. وَلِذَلِكَ عَطَفَ فِعْلَ الدُّعَاءِ بِالْفَاءِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْقِيبِ. وَأَتَى بِهِ فِي صِيغَةِ الْمُضِيِّ لِلدَّلَالَةِ عَلَى تَعْجِيلِ وُقُوعِهِ حِينَئِذٍ حَتَّى كَأَنَّهُ قَدِ انْقَضَى.
وَالْمَوْبِقُ: مَكَانُ الْوُبُوقِ، أَيِ الْهَلَاكِ. يُقَالُ: وَبَقَ مِثْلُ وَعَدَ وَوَجِلَ وَوَرِثَ. وَالْمَوْبِقُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ جَهَنَّمُ، أَيْ حِينَ دَعَوْا أَصْنَامَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ كَوَّنَ اللَّهُ فِيمَا بَيْنَ مَكَانِهِمْ وَمَكَانِ أَصْنَامِهِمْ فُوَّهَاتِ جَهَنَّمَ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً جُمْلَةَ حَالٍ أَيْ وَقَدْ جَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا تَمْهِيدًا لِمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ [الْكَهْف: ٥٣].
[٥٣]
[سُورَة الْكَهْف (١٨) : آيَة ٥٣]
وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (٥٣)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً [الْكَهْف: ٥٢]، أَيْ جَعَلْنَا الْمَوْبِقَ وَرَآهُ الْمُجْرِمُونَ، فَذِكْرُ الْمُجْرِمِينَ إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ الْمُجْرِمُونَ مِنْ تَلَبُّسِهِمْ
وَالصُّحُفُ: جَمْعُ صَحِيفَةٍ. وَهِيَ قِطْعَةٌ مِنْ وَرَقٍ أَوْ كَاغَدٍ أَوْ خِرْقَةٍ يُكْتَبُ فِيهَا. وَلَمَّا كَانَ الْكِتَابُ مَجْمُوعَ صُحُفٍ أُطْلِقَ الصُّحُفُ عَلَى الْكُتُبِ.
وَوَجْهُ اخْتِيَارِ الصُّحُفِ هُنَا عَلَى الْكُتُبِ أَنَّ فِي كُلِّ صَحِيفَةٍ مِنَ الْكُتُبِ عِلْمًا، وَأَنَّ جَمِيعَهُ حَوَاهُ الْقُرْآنُ، فَكَانَ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةً وَدَلِيلًا.
وَهَذِهِ الْبَيِّنَةُ هِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكِتَابُهُ الْقُرْآنُ، لِأَنَّ الرَّسُولَ مَوْعُودٌ بِهِ فِي الْكُتُبِ السَّالِفَةِ، وَلِأَنَّ فِي الْقُرْآنِ تَصْدِيقًا لِمَا فِي تِلْكَ الْكُتُبِ مِنْ أَخْبَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَمِنَ الْمَوَاعِظِ وَأُصُولِ التَّشْرِيعِ. وَقَدْ جَاءَ بِهِ رَسُولٌ أُمِّيٌّ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا نَشَأْ فِي قَوْمٍ أَهْلِ عِلْمٍ وَمُزَاوَلَةٍ لِلتَّارِيخِ مَعَ مَجِيئِهِ بِمَا هُوَ أَوْضَحُ مِنْ فَلَقِ الصُّبْحِ مِنْ أَخْبَارِهِمُ الَّتِي لَمْ يَسْتَطِعْ أَهْلُ الْكِتَابِ إِنْكَارَهَا، قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ١٤٦]، وَكَانُوا لَا يُحَقِّقُونَ كَثِيرًا مِنْهَا بِمَا طَرَأَ عَلَيْهِمْ مِنَ التَّفَرُّقِ وَتَلَاشِي أُصُولِ كُتُبِهِمْ وَإِعَادَةِ كِتَابَةِ كَثِيرٍ مِنْهَا بِالْمَعْنَى عَلَى حَسَبِ تَأْوِيلَاتٍ سَقِيمَةٍ.
وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَمَا حَوَاهُ مِنْ دَلَائِلِ الصِّدْقِ وَالرَّشَادِ، وَمَا امْتَازَ بِهِ عَنْ سَائِرِ الْكُتُبِ مِنَ الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ الْبَالِغَتَيْنِ حَدَّ الْإِعْجَازِ، وَهُوَ مَا قَامَتْ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَرَبِ مُبَاشَرَةً وَعَلَى غَيْرِهِمُ اسْتِدْلَالًا. وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً [الْبَيِّنَة: ١- ٢].
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَحَفَصٌ، وَابْنُ جَمَّازٍ عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ تَأْتِهِمْ- بِتَاءِ الْمُضَارِعِ لِلْمُؤَنَّثِ-.
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِتَحْتِيَّةِ الْمُذَكَّرِ لِأَنَّ تَأْنِيثَ بَيِّنَةُ غَيْرُ حَقِيقِيٍّ، وَأَصْلُ الْإِسْنَادِ التَّذْكِيرُ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ لَيْسَ عَلَامَةً وَلَكِنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْكَلَام.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ مُسْتَعَارًا لِمَا سَيَكُونُ مِنْ أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ الشَّيْءَ الَّذِي هُوَ تُجَاهَ الشَّخْصِ وَهُوَ يَمْشِي إِلَيْهِ، وَما خَلْفَهُمْ مستعارا لما مضى وَعبر مِنْ أَحْوَالِهِمْ لِأَنَّهَا تُشْبِهُ مَا تَرَكَهُ السَّائِرُ وَرَاءَهُ وَتَجَاوَزَهُ.
وَضَمِيرُ أَيْدِيهِمْ وخَلْفَهُمْ عَائِدَانِ: إِمَّا إِلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ عَادَ إِلَيْهِمْ ضَمِيرُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ [الْحَج: ٦٧]، وَإِمَّا إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ. وَإِرْجَاعُ الْأُمُورِ إِرْجَاعُ الْقَضَاءِ فِي جَزَائِهَا مِنْ ثَوَابٍ وَعِقَابٍ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَبُنِيَ فِعْلُ تُرْجَعُ إِلَى النَّائِبِ لِظُهُورِ مَنْ هُوَ فَاعِلُ الْإِرْجَاعِ فَإِنَّهُ لَا يَلِيقُ إِلَّا بِاللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ يُمْهِلُ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ يَرْجِعُ الْأُمُورَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ الْحَقِيقِيِّ، أَيْ إِلَى اللَّهِ لَا إِلَى غَيْرِهِ يَرْجِعُ الْجَزَاءُ لِأَنَّهُ مَلِكُ يَوْمِ الدِّينِ. وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأُمُورُ لِلِاسْتِغْرَاقِ، أَيْ كُلِّ أَمْرٍ. وَذَلِكَ جَمْعٌ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ تَبَعًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.
[٧٧]
[سُورَة الْحَج (٢٢) : آيَة ٧٧]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧)
لَمَّا كَانَ خِطَابُ الْمُشْرِكِينَ فَاتِحًا لِهَذِهِ السُّورَةِ وَشَاغِلًا لِمُعْظَمِهَا عَدَا مَا وَقَعَ اعْتِرَاضًا فِي خِلَالِ ذَلِكَ، فَقَدْ خُوطِبَ الْمُشْرِكُونَ بِ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، فَعِنْدَ اسْتِيفَاءِ مَا سِيقَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ مِنَ الْحُجَجِ وَالْقَوَارِعِ وَالنِّدَاءِ عَلَى مَسَاوِي أَعْمَالِهِمْ، خُتِمَتِ السُّورَةُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى خِطَابِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا يُصْلِحُ أَعْمَالَهُمْ وَيُنَوِّهُ بِشَأْنِهِمْ.
وَالْكَلَامُ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إِعْرَاضِ بَعْضِ قَوْمِهِ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِذَلِكَ عَقَّبَ بِقَوْلِهِ:
أَتَصْبِرُونَ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْحَثِّ وَالْأَمْرِ كَقَوْلِهِ: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [الْمَائِدَة:
٩١].
وَمَوْقِعُ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً مَوْقِعُ الْحَثِّ عَلَى الصَّبْرِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَيْ هُوَ عَلِيمٌ بِالصَّابِرِينَ، وَإِيذَانٌ بِأَنَّ اللَّهَ لَا يُضَيِّعُ جَزَاءَ الرَّسُولِ عَلَى مَا يُلَاقِيهِ مِنْ قَوْمِهِ وَأَنَّهُ نَاصِرُهُ عَلَيْهِمْ.
وَفِي الْإِسْنَادِ إِلَى وَصْفِ الرَّبِّ مُضَافًا إِلَى ضَمِيرِ النَّبِيءِ إِلْمَاعٌ إِلَى هَذَا الْوَعْدِ فَإِنَّ
الرَّبَّ لَا يُضَيِّعُ أَوْلِيَاءَهُ كَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الْحجر: ٩٧- ٩٩] أَيِ النَّصْر الْمُحَقق.
التَّعَالِيقِ الْقَيِّمَةِ فَإِنَّمَا يَكْتُبُ اسْمَهُ بِحَسَبِ مَا يَنْطِقُ بِهِ لَا بِحُرُوفِ التَّهَجِّي وَإِنْ كَانَ النَّاسُ يَغْفُلُونَ فَيَكْتُبُونَهُ بِحَرْفَيْنِ كَمَا يُكْتَبُ أَوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ قَالَ أَشْهَبُ: سَأَلْتُ مَالِكًا هَلْ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يُسَمِّيَ يس؟ قَالَ: مَا أَرَاهُ يَنْبَغِي لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ [يس: ١، ٢] يَقُولُ هَذَا: اسْمِي يس.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَهُوَ كَلَامٌ بَدِيعٌ لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى بَاسِمٍ اللَّهِ إِذَا كَانَ فِيهِ مَعْنًى مِنْهُ كَقَوْلِهِ: عَالِمٌ وَقَادِرٌ، وَإِنَّمَا مَنَعَ مَالِكٌ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِهَذَا لِأَنَّهُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ لَا يَدْرِي مَعْنَاهُ فَرُبَّمَا كَانَ مَعْنَاهُ يَنْفَرِدُ بِهِ الرَّبُّ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ عَلَيْهِ الْعَبْدُ فَيُقْدِمَ عَلَى خَطَرٍ فَاقْتَضَى النَّظَرُ رَفْعَهُ عَنْهُ اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ.
وَالنُّطْقُ بِاسْمِ (يَا) بِدُونِ مَدٍّ تَخْفِيفٌ كَمَا فِي كهيعص.
[٢- ٤]
[سُورَة يس (٣٦) : الْآيَات ٢ إِلَى ٤]
وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٣) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤)
الْقَسَمُ بِالْقُرْآنِ كِنَايَةٌ عَنْ شَرَفِ قَدْرِهِ وَتَعْظِيمِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَاتِ الْأُوَلِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْقَسَمِ تَأْكِيدُ الْخَبَرِ مَعَ ذَلِكَ التَّنْوِيهِ.
والْقُرْآنِ عَلَمٌ بِالْغَلَبَةِ عَلَى الْكِتَابِ الْمُوحَى بِهِ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ مَبْعَثِهِ إِلَى وَفَاتِهِ لِلْإِعْجَازِ وَالتَّشْرِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ فِي سُورَةِ يُونُسَ [٦١].
والْحَكِيمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُحْكَمُ بِفَتْحِ الْكَافِ، أَيِ الْمَجْعُولِ ذَا إِحْكَامٍ، وَالْإِحْكَامُ: الْإِتْقَانُ بِمَاهِيَّةِ الشَّيْءِ فِيمَا يُرَادُ مِنْهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى صَاحِبَ الْحِكْمَةِ، وَوَصْفُهُ بِذَلِكَ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ لِأَنَّهُ مُحْتَوٍ عَلَيْهَا.
وَجُمْلَةُ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ جَوَابُ الْقَسَمِ، وَتَأْكِيدُ هَذَا الْخَبَرِ بِالْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّأْكِيدِ وَلَامِ الِابْتِدَاءِ بِاعْتِبَارِ كَوْنِهِ مُرَادًا بِهِ التَّعْرِيضَ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ كَذَّبُوا
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعْضُ الْأُمَمِ
وَالطَّوَائِفِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهَا بِالْخُلُودِ فِي النَّارِ.
وَأَصْحَابُ النَّارِ: هُمُ الَّذِينَ لَا يُفَارِقُونَهَا فَإِنَّ الصُّحْبَةَ تُشْعِرُ بِالْمُلَازَمَةِ، فَأَصْحَابُ النَّارِ: الْمُخَلَّدُونَ فِيهَا.
[٩]
[سُورَة الزمر (٣٩) : آيَة ٩]
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩)
أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ.
قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَحْدَهُمْ أَمَّنْ بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى أَنَّ الْهَمْزَةَ دَخَلَتْ عَلَى (مَنِ) الْمَوْصُولَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْهَمْزَةُ هَمْزَةَ اسْتِفْهَامٍ وَ (مَنْ) مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ قَبْلَهُ مِنْ ذِكْرِ الْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً إِلَى قَوْلِهِ: مِنْ أَصْحابِ النَّارِ [الزمر: ٨]. وَالِاسْتِفْهَامُ إِنْكَارِيٌّ وَالْقَرِينَةُ عَلَى إِرَادَةِ الْإِنْكَارِ تَعْقِيبُهُ بِقَولِهِ:
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِظُهُورِ أَنَّ هَلْ فِيهِ لِلِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَبِقَرِينَةِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ. تَقْدِيرُهُ: أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ أَفْضَلُ أَمْ مَنْ هُوَ كَافِرٌ؟
وَالِاسْتِفْهَامُ حِينَئِذٍ تَقْرِيرِيٌّ وَيُقَدَّرُ لَهُ مُعَادِلٌ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَقِبَهُ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ.
وَجَعَلَ الْفَرَّاءُ الْهمزَة للنداء وأَمَّنْ هُوَ قانِتٌ: النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نَادَاهُ اللَّهُ بِالْأَوْصَافِ الْعَظِيمَةِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّهَا أَوْصَافٌ لَهُ وَنِدَاءٌ لِمَنْ هُمْ مِنْ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ، وَعَلَيْهِ فَإِفْرَادُ (قُلْ) مُرَاعَاةً لِلَّفْظِ (مِنَ) الْمُنَادَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ بِتَشْدِيدِ مِيمِ (مَنْ) عَلَى أَنَّهُ لَفْظٌ مُرَكَّبٌ مِنْ كَلِمَتَيْنِ (أَمْ) وَ (مَنْ) فَأُدْغِمَتْ مِيمُ (أَمْ) فِي مِيمِ (مَنْ). وَفِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ (أَمْ) مُعَادِلَةً لِهَمْزَةِ اسْتِفْهَامٍ مَحْذُوفَةٍ مَعَ جُمْلَتِهَا دَلَّتْ عَلَيْهَا (أَمْ) لِاقْتِضَائِهَا مُعَادِلًا. وَدَلَّ عَلَيْهَا تَعْقِيبُهُ بِ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لِأَنَّ التَّسْوِيَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا بَيْنَ شَيْئَيْنِ. فَالتَّقْدِيرُ: أَهَذَا الْجَاعِلُ لِلَّهِ أَنْدَادًا
والْكِتابَ: التَّوْرَاةُ.
والْحُكْمَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْحِكْمَةِ، أَيِ الْفَهْمِ فِي الدِّينِ وَعِلْمِ مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا [مَرْيَم: ١٢]، يَعْنِي يَحْيَى، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى السِّيَادَةِ، أَيْ أَنَّهُمْ يَحْكُمُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ وَلَا تَحْكُمُهُمْ أُمَّةٌ أُخْرَى كَقَوْلِهِ تَعَالَى وجَعَلَكُمْ مُلُوكاً [الْمَائِدَة: ٢٠]، والنبوءة أَنْ يَقُومَ فِيهِمْ أَنْبِيَاءٌ. وَمَعْنَى إِيتَائِهِمْ هَذِهِ الْأُمُورَ الثَّلَاثَةَ: إِيجَادُهَا فِي الْأُمَّةِ وَإِيجَادُ الْقَائِمِينَ بِهَا لِأَنَّ نَفْعَ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَى الْأُمَّةِ جَمْعَاءَ فَكَانَ كُلُّ فَرْدٍ مِنَ الْأُمَّةِ كَمَنْ أُوتِيَ تِلْكَ الْأُمُورَ.
وَأَمَّا رَزَقَهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَبِأَنْ يَسَّرَ لَهُمُ امْتِلَاكَ بِلَادِ الشَّامِ الَّتِي تُفِيضُ لَبَنًا وَعَسَلًا كَمَا فِي التَّوْرَاةِ فِي وَعْدِ إِبْرَاهِيمَ وَالَّتِي تُجْبَى إِلَيْهَا ثَمَرَاتُ الْأَرْضِينَ الْمُجَاوِرَةِ لَهَا وَتَرِدُ عَلَيْهَا سِلَعُ الْأُمَمِ الْمُقَابِلَةِ لَهَا عَلَى سَوَاحِلِ الْبَحْرِ فَتَزْخَرُ مَرَاسِيهَا بِمُخْتَلَفِ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ وَالْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ وَالزَّخَارِفِ، وَذَلِكَ بِحُسْنِ مَوْقِعِ الْبِلَادِ مِنْ بَيْنِ الْمَشْرِقِ بَرًّا وَالْمَغْرِبِ بَحْرًا. والطَّيِّباتِ: هِيَ الَّتِي تَطِيبُ عِنْدَ النَّاسِ وَتَحْسُنُ طَعْمًا وَمَنْظَرًا وَنَفْعًا وَزِينَةً. وَأَمَّا تَفْضِيلُهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ فَبِأَنْ جَمَعَ اللَّهُ لَهُمْ بَيْنَ اسْتِقَامَةِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَبَيْنَ حُكْمِ أَنْفُسِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَبَثِّ أُصُولِ الْعَدْلِ فِيهِمْ، وَبَيْنَ حُسْنِ الْعَيْشِ وَالْأَمْنِ وَالرَّخَاءِ، فَإِنَّ أُمَمًا أُخْرَى كَانُوا فِي بُحْبُوحَةٍ مِنَ الْعَيْشِ وَلَكِنْ يَنْقُصُ بَعْضَهَا اسْتِقَامَةُ الدِّينِ وَالْخُلُقِ، وَبَعْضَهَا عِزَّةُ حُكْمِ النَّفْسِ وَبَعْضَهَا الْأَمْنُ بِسَبَبِ كَثْرَةِ الْفِتَنِ.
وَالْمُرَادُ بِ الْعالَمِينَ: أُمَمُ زَمَانِهِمْ وَكُلُّ ذَلِكَ إِخْبَارٌ عَمَّا مَضَى مِنْ شَأْنِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي عُنْفُوَانِ أَمْرِهِمْ لَا عَمَّا آلَ إِلَيْهِ أَمْرُهُمْ بَعْدَ أَنِ اخْتَلَفُوا وَاضْمَحَلَّ مُلْكُهُمْ وَنُسِخَتْ شَرِيعَتُهُمْ.
وبَيِّناتٍ صِفَةٌ نُزِّلَتْ مَنْزِلَةَ الْجَامِدِ، فَالْبَيِّنَةُ: الْحُجَّةُ الظَّاهِرَةُ، أَيْ آتَيْنَاهُمْ حُجَجًا، أَيْ عَلَّمْنَاهُمْ بِوَاسِطَةِ كُتُبِهِمْ وَبِوَاسِطَةِ عُلَمَائِهِمْ حُجَجَ الْحَقِّ وَالْهُدَى الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا أَنْ لَا تَتْرُكَ لِلشَّكِّ وَالْخَطَأِ إِلَى نُفُوسِهِمْ سُبُلًا إِلَّا سَدَّتْهَا.
والْأَمْرِ: الشَّأْنُ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ [هود: ٩٧] وَالتَّعْرِيفُ فِي الْأَمْرِ
وَ (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دلّ عَلَيْهِ يَسْئَلُونَ لِأَنَّ فِي فِعْلِ السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يَقُولُونَ: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ بَدَلًا من جملَة يَسْئَلُونَ لِتَفْصِيلِ إِجْمَالِهِ وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ زَمَانِ فِعْلٍ وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْفَتْحِ، أَيْ مَتَى يَوْمُ الدِّينِ، وَيَوْمُ الدِّينِ زَمَانٌ فَالسُّؤَالُ عَنْ زَمَانِهِ آيِلٌ إِلَى السُّؤَالِ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَيَّانَ وُقُوعُ يَوْمِ الدِّينِ، أَوْ حُلُولُهُ، كَمَا تَقُولُ: مَتَى يَوْمُ رَمَضَانَ أَيْ مَتَى ثُبُوتُهُ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الزَّمَانِ حَقُّهَا أَنْ تَقَعَ ظُرُوفًا لِلْأَحْدَاثِ لَا لِلْأَزْمِنَةِ.
وَجُمْلَةُ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمْ جَرَى عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ مِنْ تَلَقِّي السَّائِلِ بِغَيْرِ مَا يَتَطَلَّبُ إِذْ هُمْ حِينَ قَالُوا: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أَرَادُوا التَّهَكُّمَ وَالْإِحَالَةَ فَتَلَقِّي كَلَامِهِمْ بِغَيْرِ مُرَادِهِمْ لِأَنَّ فِي الْجَوَابِ مَا يَشْفِي وَقْعَ تَهَكُّمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: ١٨٩]. وَالْمَعْنَى: يَوْمُ الدِّينِ يَقَعُ يَوْمَ تَصْلَوْنَ النَّارَ وَيُقَالُ لَكُمْ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ.
وَانْتَصَبَ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السُّؤَال عَنهُ بقَوْلهمْ: أَيَّام يَوْمُ الدِّينِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ.
وَالْفَتْنُ: التَّعْذِيبُ وَالتَّحْرِيقُ، أَيْ يَوْمَ هُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ وَأَصْلُ الْفَتْنِ الِاخْتِيَارُ. وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا إِذَابَةُ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ فِي الْبَوْتَقَةِ لِاخْتِيَارِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْدِنٍ غَيْرِ ذَهَبٍ، وَلَا يُذَابُ إِلَّا بِحَرَارَةِ نَارٍ شَدِيدَةٍ فَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْرَاقِ الشَّدِيدِ.
وَجُمْلَةُ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ، أَوْ مَقُولًا لَهُمْ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ، أَيْ عَذَابَكُمْ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: ذُوقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْكِيلِ.
وَجُمْلَةُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بَيَانٌ لِجُمْلَةِ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ وَعَلَى التَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ لِمَعْنَى مَدِينِينَ يَكُونُ وَجْهُ إِعَادَةِ هَذَا الشَّرْطِ مَعَ أَنَّهُ مِمَّا اسْتُفِيدَ بقوله: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ هُوَ الْإِيمَاءُ إِلَى فَرْضِ الشَّرْطِ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَأَنَّ الشَّرْطَ فِي قَوْلِهِ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ هُوَ فَرْضٌ وَتَقْدِيرٌ لَا وُقُوعَ لَهُ نَفْيُ الْبَعْثِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَرْجِعُ قَوْلُهُ: إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إِلَى مَا أَفَادَهُ التَّحْضِيضُ، وَمَوْقِعُ فَاءِ التَّفْرِيعِ مِنْ إِرَادَةِ أَنَّ قَبْضَ الْأَرْوَاحِ لِتَأْخِيرِهِا إِلَى يَوْمِ الْجَزَاءِ، أَيْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ فِي نَفْيِ الْبَعْثِ وَالْجَزَاءِ.
وَضَمِيرُ التَّأْنِيثِ فِي قَوْلِهِ: تَرْجِعُونَها عَائِدٌ إِلَى الرُّوحِ الدَّالِّ عَلَيْهِ التَّاءُ فِي قَوْلِهِ:
إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ.
وَمَعْنَى الِاسْتِدْرَاكِ فِي وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ لِرَفْعِ تَوَهُّمٍ قَائِلٍ: كَيْفَ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى الْمُحْتَضِرِ مِنَ الْعُوَّادِ الْحَافِّينَ حَوْلَهُ وَهُمْ يَرَوْنَ شَيْئًا غَيْرَهُمْ يَدْفَعُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَحْجُوبُونَ عَنْ رُؤْيَةِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَجُمْلَةُ وَلكِنْ لَا تُبْصِرُونَ مُعْتَرِضَةٌ، وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ. وَمَفْعُولُ تُبْصِرُونَ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ.
وَمَعْنَى مَدِينِينَ مُجَازِينَ عَلَى أَعْمَالِكُمْ. وَعَلَى هَذَا الْمَعْنَى حَمَلَهُ جُمْهُورُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ عَلَى الْإِجْمَالِ، وَفَسَّرَهُ الْفَرَّاءُ وَالزَّمَخْشَرِيُّ مَدِينِينَ بِمَعْنَى: عَبِيدٌ لِلَّهِ، مِنْ
قَوْلِهِمْ: دَانَ السُّلْطَانُ الرَّعِيَّةُ، إِذَا سَاسَهُمْ، أَيْ غَيْرُ مَرْبُوبِينَ وَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ السِّيَاقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ: إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ فَرْضٌ وَتَقْدِيرٌ فَ إِنْ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ (لَوْ)، أَيْ لَوْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ، أَيْ غَيْرَ مَجْزِيِّينَ عَلَى الْأَعْمَالِ.
وَأَسْنَدَ فِعْلَ إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ بِضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ، دُونَ أَنْ يَقُولَ: إِنْ كَانَ النَّاسُ غَيْرَ مَدِينِينَ لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ هُمُ الَّذِينَ لِأَجْلِ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ سِيقَ هَذَا الْكَلَامُ. وَالْمَعْنَى: لَوْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَكَانَ النَّاسُ غَيْرَ مَدِينِينَ لَمَا أُخْرِجَتِ
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ
. وَهُوَ حَدِيثٌ ضَعِيفٌ.
أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ
مَا تَضَمَّنُهُ سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ أَحَدًا لَا يُحَرِّمُ عَلَى نَفْسِهِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ لِإِرْضَاءِ أَحَدٍ إِذْ لَيْسَ ذَلِكَ بِمَصْلَحَةٍ لَهُ وَلَا لِلَّذِي يَسْتَرْضِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ كَالنَّذْرِ إِذْ لَا قُرْبَةَ فِيهِ وَمَا هُوَ بِطَلَاقٍ لِأَنَّ الَّتِي حَرَّمَهَا جَارِيَةً لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ، فَإِنَّمَا صَلَاحُ كُلِّ جَانِبٍ فِيمَا يَعُودُ بِنَفْعٍ عَلَى
نَفسه أَو بنفع بِهِ غَيْرَهُ نَفْعًا مُرْضِيًا عِنْدَ اللَّهِ وَتَنْبِيهُ نسَاء النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أَنَّ غَيْرَةَ الله على نبيّه أَعْظَمُ مِنْ غَيْرَتِهِنَّ عَلَيْهِ وَأَسْمَى مَقْصِدًا.
وَأَنَّ اللَّهَ يُطْلِعُهُ عَلَى مَا يَخُصُّهُ مِنَ الْحَادِثَاتِ.
وَأَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى حِنْثَهَا خَيْرًا مِنْ بِرِّهَا أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا وَيَفْعَلَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ. وَقَدْ وَرَدَ التَّصْرِيحُ بِذَلِكَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ عَنْ رِوَايَةِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ.
وَتَعْلِيمُ الْأَزْوَاجِ أَنْ لَا يُكْثِرْنَ مِنْ مُضَايَقَةِ أَزْوَاجِهِنَّ فَإِنَّهَا رُبَّمَا أَدَّتْ إِلَى الْمَلَالِ فَالْكَرَاهِيَةِ فَالْفِرَاقِ.
وَمَوْعِظَةُ النَّاسِ بِتَرْبِيةِ بَعْضِ الْأَهْلِ بَعْضًا وَوَعْظِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا.
وَأُتْبِعَ ذَلِكَ بِوَصْفِ عَذَابِ الْآخِرَةِ وَنَعِيمِهَا وَمَا يُفْضِي إِلَى كِلَيْهِمَا مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ صَالِحَاتِهَا وَسَيِّئَاتِهَا.
وَذُيِّلَ ذَلِكَ بِضَرْبِ مَثَلَيْنِ مِنْ صَالِحَاتِ النِّسَاءِ وَضِدِّهِنَّ لِمَا فِي ذَلِك من العظة لِنِسَاءِ الْمُؤمنِينَ ولأمهاتهم.
[١]
[سُورَة التَّحْرِيم (٦٦) : آيَة ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
وَخُسُوفُ الْقَمَرِ أُرِيدَ بِهِ انْطِمَاسُ نُورِهِ انْطِمَاسًا مُسْتَمِرًّا بِسَبَبِ تَزَلْزُلِهِ مِنْ مَدَارِهِ حَوْلَ الْأَرْضِ الدَّائِرَةِ حَوْلَ الشَّمْسِ بِحَيْثُ لَا يَنْعَكِسُ عَلَيْهِ نُورُهَا وَلَا يَلُوحُ لِلنَّاسِ نَيِّرًا، وَهُوَ مَا
دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَهَذَا خُسُوف لَيْسَ هُوَ خسوفه الْمُعْتَاد عِنْد مَا تَحُولُ الْأَرْضُ بَيْنَ الْقَمَرِ وَبَيْنَ مُسَامَتَتِهِ الشَّمْسَ.
وَمَعْنَى جَمْعِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: الْتِصَاقُ الْقَمَرِ بِالشَّمْسِ فَتَلْتَهِمُهُ الشَّمْسُ لِأَنَّ الْقَمَرَ مُنْفَصِلٌ مِنَ الْأَرْضِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْأَجْرَامِ الدَّائِرَةِ حَوْلَ الشَّمْسِ كَالْكَوَاكِبِ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِسَبَبِ اخْتِلَالِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي وَضَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا النظام الشمسي.
وفَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَقُولُ الْإِنْسانُ، وَإِنَّمَا قُدِمَ عَلَى عَامِلِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِالظَّرْفِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْ سِيَاقِ مجاوبة قَوْله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: ٦].
وَطُوِيَ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ ذَلِكَ حُلُولُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ اكْتِفَاءً بِذِكْرِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُمْ أَيْنَ الْمَفَرُّ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: حَلَّ يَوْمُ الْقِيَامَةِ وَحَضَرَتْ أَهْوَالُهُ يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ تَأَكَّدَ بِقَوْلِهِ إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ.
ويَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ يَقُولُ أَيْضًا، أَيْ يَوْمَ إِذْ يَبْرُقُ الْبَصَرُ وَيَخْسِفُ الْقَمَرُ وَيُجْمَعُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَتَنْوِينُ (إِذْ) تَنْوِينُ عِوَضٍ عَنِ الْجُمْلَةِ الْمَحْذُوفَةِ الَّتِي دَلَّتْ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ الَّتِي أُضِيفَ إِلَيْهَا (إِذْ).
وَذُكِرَ يَوْمَئِذٍ مَعَ أَن قَوْله: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ إِلَخْ مُغْنٍ عَنْهُ لِلِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي كَانُوا يُنْكِرُونَ وُقُوعَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ فَيَسْأَلُونَ عَنْ وَقْتِهِ، وَلِلتَّصْرِيحِ بِأَنَّ حُصُولَ هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ.
والْإِنْسانُ: هُوَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: ٣]، أَيْ يَقُولُ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ يَوْمئِذٍ: أَي الْمَفَرُّ.
والْمَفَرُّ: بِفَتْحِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ مَصْدَرٌ، وَالِاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَنِّي، أَيْ لَيْتَ لِي فِرَارًا فِي مَكَانِ نَجَاةٍ، وَلَكِنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُهُ.
وأَيْنَ ظَرْفُ مَكَانٍ.
وكَلَّا رَدْعٌ وَإِبْطَالٌ لِمَا تَضَمَّنَهُ أَيْنَ الْمَفَرُّ مِنَ الطَّمَعِ فِي أَنْ يَجِدَ لِلْفِرَارِ سَبِيلًا.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

٩٠- سُورَةُ الْبَلَدِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي تَرْجَمَتِهَا عَنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» :«سُورَةَ لَا أُقْسِمُ» وَسُمِّيَتْ فِي الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْبَلَدِ». وَهُوَ إِمَّا عَلَى حِكَايَةِ اللَّفْظِ الْوَاقِعِ فِي أَولهَا، وَإِمَّا لِإِرَادَةِ الْبَلَدِ الْمَعْرُوفِ وَهُوَ مَكَّةُ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْقُرْطُبِيُّ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ مُعْظَمُ الْمُفَسِّرِينَ وَحَكَى ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ قَوْمٍ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَلَعَلَّ هَذَا قَوْلُ مَنْ فَسَّرَ قَوْلَهُ: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ [الْبَلَدِ: ٢] أَنَّ الْحِلَّ الْإِذْنُ لَهُ فِي الْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ وَحَمَلَ وَأَنْتَ حِلٌّ عَلَى مَعْنَى:
وَأَنْتَ الْآنُ حِلٌّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَا رَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ السُّدِّيِّ وَأَبِي صَالِحٍ وَعُزِيَ لِابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَدْ أَشَارَ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَى إِبْطَالِهِ بِأَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ بِالِاتِّفَاقِ، وَفِي رَدِّهِ بِذَلِكَ مُصَادَرَةٌ، فَالْوَجْهُ أَنْ يُرَّدَ بِأَنَّ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إِلَى قَوْلِهِ:
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: ٥- ١١] ضَمَائِرَ غَيْبَةٍ يَتَعَيَّنُ عَوْدُهَا إِلَى الْإِنْسَانَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ [الْبَلَد: ٤] وَإِلَّا لَخَلَتِ الضَّمَائِرُ عَنْ مَعَادٍ. وَحَكَى فِي «الْإِتْقَانِ» قَوْلًا أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ إِلَّا الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ مِنْ أَوَّلِهَا.
وَقَدْ عُدَّتِ الْخَامِسَةَ وَالثَّلَاثِينَ فِي عَدَدِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ ق وَقَبْلَ سُورَةِ الطَّارِقِ.
وَعَدَدُ آيِهَا عشرُون آيَة.
أغراضها
حَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ التَّنْوِيهَ بِمَكَّةَ. وَبِمُقَامِ النَّبِيءِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا. وَبَرَكَتِهِ فِيهَا وَعَلَى أَهْلِهَا.


الصفحة التالية
Icon