لِتَفَاوُتِ الْبَشَرِ فِي الْمَرَاتِبِ وَاطِّلَاعًا عَلَى نُمُوذَجٍ مِنْ غَايَاتِ عِلْمِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ بِمَا يُظْهِرُهُ الْبَشَرُ مِنْ مَبَالِغِ نَتَائِجِ الْعُقُولِ وَالْعُلُومِ وَالصَّنَائِعِ وَالْفَضَائِلِ وَالشَّرَائِعِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَيْفَ وَمِنْ أَبْدَعِ ذَلِكَ أَنَّ تَرَكُّبَ الصِّفَتَيْنِ الذَّمِيمَتَيْنِ يَأْتِي بِصِفَاتِ الْفَضَائِلِ كَحُدُوثِ الشَّجَاعَةِ مِنْ بَيْنِ طَرَفَيِ التَّهَوُّرِ وَالْجُبْنِ. وَهَذَا إِجْمَالٌ فِي التَّذْكِيرِ بِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى أَوْسَعُ مِمَّا عَلِمُوهُ فَهُمْ يُوقِنُونَ إِجْمَالًا أَنَّ لِذَلِكَ حِكْمَةً وَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنْ لَا حَاجَةَ هُنَا لِتَقْدِيرِ وَمَا تَعْلَمُونَ بَعْدَ مَا لَا تَعْلَمُونَ لِأَنَّهُ مَعْرُوفٌ لِكُلِّ سَامِعٍ وَلِأَنَّ الْغَرَضَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِذِكْرِهِ وَإِنَّمَا تَعَلَّقَ بِذِكْرِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِمَا شَذَّ عَنْهُمْ. وَقَدْ كَانَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى هَذَا تَنْهِيَةً لِلْمُحَاوَرَةِ وَإِجْمَالًا لِلْحُجَّةِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِأَنَّ سِعَةَ عِلْمِ اللَّهِ تُحِيطُ بِمَا لَمْ يُحِطْ بِهِ عِلْمُهُمْ وَأَنَّهُ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَ آدَمَ خَلِيفَةً كَانَتْ إِرَادَتُهُ عَنْ عِلْمٍ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِلْخِلَافَةِ، وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِأَنَّ لِتَنْزِيلِ الْمَلَائِكَةِ فِي مُرَاجَعَتِهِمْ وَغَفْلَتِهِمْ عَنِ الْحِكْمَةِ منزلَة المترددين.
[٣١]
[سُورَة الْبَقَرَة (٢) : آيَة ٣١]
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها.
مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: ٣٠] عَطَفَ حِكَايَةَ الدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ عَلَى حِكَايَةِ الِاسْتِدْلَالِ الْإِجْمَالِيِّ الَّذِي اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ: إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ فَإِنَّ تَعْلِيمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ وَإِظْهَارَ فَضِيلَتِهِ بِقَبُولِهِ لِهَذَا التَّعْلِيمِ دُونَ الْمَلَائِكَةِ جَعَلَهُ اللَّهُ حُجَّةً عَلَى قَوْلِهِ لَهُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ أَيْ مَا لَا تَعْلَمُونَ مِنْ جَدَارَةِ هَذَا الْمَخْلُوقِ بِالْخِلَافَةِ فِي الْأَرْضِ، وَعَطْفُ ذِكْرِ آدَمَ بَعْدَ ذِكْرِ مَقَالَةِ اللَّهِ لِلْمَلَائِكَةِ وَذِكْرِ مُحَاوَرَتِهِمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْخَلِيفَةَ هُوَ آدَمُ وَأَنَّ آدَمَ اسْمٌ لِذَلِكَ الْخَلِيفَةِ وَهَذَا الْأُسْلُوبُ من بديع الإجمالي وَالتَّفْصِيلِ وَالْإِيجَازِ كَمَا قَالَ النَّابِغَةُ:

فَقُلْتُ لَهُمْ لَا أَعَرِفَنَّ عَقَائِلًا رَعَابِيبَ مِنْ جَنْبَيْ أَرِيكٍ وَعَاقِلِ
الْأَبْيَاتِ. ثُمَّ قَالَ بَعْدَهَا:
وَقَدْ خِفْتُ حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي الْمَطَارَةِ عَاقِلِ
مَخَافَةَ عَمْرٍو أَنْ تَكُونَ جِيَادُهُ يُقَدْنَ إِلَيْنَا بَيْنَ حَافٍ وَنَاعِلِ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّ مَا ذَكَرَهُ سَالِفًا مِنَ الْعَقَائِلِ الَّتِي بَيْنَ أُرِيكِ وَعَاقِلٍ وَمِنَ الْأَنْعَامِ الْمُغْتَنَمَةِ هُوَ مَا يتَوَقَّع من عزو عَمْرِو بْنِ الْحَرْثِ الْغَسَّانِيِّ دِيَارَ بَنِي عَوْفٍ مِنْ قَوْمِهِ.
وَقَدَّمَ الْإِمْسَاكَ عَلَى التَّسْرِيحِ إِيمَاءً إِلَى أَنَّهُ الْأَهَمُّ، الْمُرَغَّبُ فِيهِ فِي نَظَرِ الشَّرْعِ.
وَالْإِمْسَاكُ حَقِيقَتُهُ قَبْضُ الْيَدِ عَلَى شَيْءٍ مَخَافَةَ أَنْ يَسْقُطَ أَوْ يَتَفَلَّتَ، وَهُوَ هُنَا اسْتِعَارَةٌ لِدَوَامِ الْمُعَاشَرَةِ.
وَالتَّسْرِيحُ ضِدُّ الْإِمْسَاكِ فِي مَعْنَيَيْهِ الْحَقِيقِيِّ وَالْمَجَازِيِّ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِإِبْطَالِ سَبَبِ الْمُعَاشَرَةِ بَعْدَ الطَّلَاقِ، وَهُوَ سَبَبُ الرَّجْعَةِ ثُمَّ اسْتِعَارَةُ ذَلِكَ الْإِبْطَالِ لِلْمُفَارَقَةِ فَهُوَ مُجَازٌ بِمَرْتَبَتَيْنِ.
وَالْمَعْرُوفُ هُنَا هُوَ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ مِنَ الْحُقُوقِ الَّتِي قَرَّرَهَا الْإِسْلَامُ أَوْ قَرَّرَتْهَا الْعَادَاتُ الَّتِي لَا تُنَافِي أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ يُنَاسِبُ الْإِمْسَاكَ لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى أَحْكَامِ الْعِصْمَةِ كُلِّهَا مِنْ إِحْسَانِ مُعَاشَرَةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهُوَ أَعَمُّ مِنَ الْإِحْسَانِ. وَأَمَّا التَّسْرِيحُ فَهُوَ فِرَاقٌ وَمَعْرُوفُهُ مُنْحَصِرٌ فِي الْإِحْسَانِ إِلَى الْمُفَارَقَةِ بِالْقَوْلِ الْحَسَنِ وَالْبَذْلِ بِالْمُتْعَةِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلًا [الْأَحْزَاب: ٤٩] وَقَدْ كَانَ الْأَزْوَاجُ يَظْلِمُونَ الْمُطَلَّقَاتِ وَيَمْنَعُونَهُنَّ مِنْ حُلِيِّهِنَّ وَرِيَاشِهِنَّ، وَيُكْثِرُونَ الطَّعْنَ فِيهِنَّ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي «تَفْسِيرِهِ» :«فَإِنْ قُلْتَ هَلَّا قِيلَ فَإِمْسَاكٌ بِإِحْسَانٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِمَعْرُوفٍ قُلْتُ عَادَتُهُمْ يُجِيبُونَ بِأَنَّ الْمَعْرُوفَ أَخَفُّ مِنَ الْإِحْسَانِ إِذِ الْمَعْرُوفُ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَإِعْطَاءُ حُقُوقِ الزَّوْجِيَّةِ، وَالْإِحْسَانُ أَلَّا يَظْلِمَهَا مِنْ حَقِّهَا فَيَقْتَضِي الْإِعْطَاءَ وَبَذْلُ الْمَالِ أَشَقُّ عَلَى النُّفُوسِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ فَجُعِلَ الْمَعْرُوفُ مَعَ الْإِمْسَاكِ الْمُقْتَضِي دَوَامَ الْعِصْمَةِ، إِذْ لَا يَضُرُّ تَكَرُّرُهُ وَجُعِلَ الْإِحْسَانُ
الشَّاقُّ مَعَ التَّسْرِيحِ الَّذِي لَا يَتَكَرَّرُ»
.
وَقَدْ أَخَذَ قَوْمٌ مِنَ الْآيَةِ مَنْعُ الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّلَاقِ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ قَوْلِهِ مَرَّتانِ التَّفْرِيقُ وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ [الْبَقَرَة: ٢٣٠] الْآيَةَ.
وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ.
يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةً، فَهُوَ اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ، وَهُمَا قَوْلُهُ:
فَإِمْساكٌ
جَعَلُوا، أَيْ وَخَلَقَ الْمُشْرِكِينَ، وَمَوْقِعُ هَذِهِ الْحَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ أَنْ يَجْعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ وَهُوَ خَالِقُهُمْ، مِنْ قَبِيلِ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: ٨٢]، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ ضَمَائِرُ الْجَمْعِ مُتَنَاسِقَةً وَالتَّعْجِيبُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ جَعْلِهِمْ ذَلِكَ مَعَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَكَيْفَ لَا يَنْظُرُونَ فِي أَنَّ مُقْتَضَى الْخَلْقِ أَنْ يُفْرَدَ بِالْإِلَهِيَّةِ إِذْ لَا وَجْهَ لِدَعْوَاهَا لِمَنْ لَا يَخْلُقُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النَّحْل: ١٧] فَالتَّعْجِيبُ عَلَى هَذَا مِنْ جَهْلِهِمْ وَسُوءِ نَظَرِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرُ وَخَلَقَهُمْ عَائِدًا إِلَى الْجِنِّ لِصِحَّةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لَهُمْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ لَهُمْ عَقْلًا، وَمَوْقِعُ الْحَالِ التَّعْجِيبُ مِنْ ضَلَالِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُشْرِكُوا اللَّهَ فِي الْعِبَادَةِ بَعْضَ مَخْلُوقَاتِهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ لِلَّهِ تَعَالَى، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّ اللَّهَ خَالِقُ الْجِنِّ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَنَّهُ لَا خَالِقَ إِلَّا هُوَ، فَالتَّعْجِيبُ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِمُقْتَضَى عِلْمِهِمْ. فَالتَّقْدِيرُ: وَخَلَقَهُمْ كَمَا فِي عِلْمِهِمْ، أَيْ وَخَلَقَهُمْ بِلَا نِزَاعٍ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَظْهَرَ.
وَجُمْلَةُ: وَخَرَقُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: وَجَعَلُوا وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَخَرَقُوا- بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ-، وَقَرَأَهُ نَافِعٌ، وَأَبُو جَعْفَرٍ- بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ-.
وَالْخَرْقُ: أَصْلُهُ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ. وَقَالَ الرَّاغِبُ: هُوَ الْقَطْعُ وَالشَّقُّ عَلَى سَبِيلِ الْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ تَدَبُّرٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها [الْكَهْف: ٧١]. وَهُوَ ضِدُّ الْخَلْقِ، فَإِنَّهُ فَعْلُ الشَّيْءِ بِتَقْدِيرٍ وَرِفْقٍ، وَالْخَرْقُ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ. وَلَمْ يُقَيِّدْهُ غَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ اللُّغَةِ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَقَدِ اسْتُعْمِلَ الْخَرْقُ مَجَازًا فِي الْكَذِبِ كَمَا اسْتُعْمِلَ فِيهِ افْتَرَى وَاخْتَلَقَ مِنَ الْفَرْيِ وَالْخَلْقِ. وَفِي «الْكَشَّافِ» : سُئِلَ الْحَسَنُ عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَخَرَقُوا فَقَالَ: كَلِمَةٌ عَرَبِيَّةٌ كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُهَا، كَانَ الرَّجُلُ إِذَا كَذَبَ كِذْبَةً فِي نَادِي الْقَوْمِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ: «قَدْ خَرَقَهَا وَاللَّهِ». وَقِرَاءَةُ نَافِعٍ تُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي الْفِعْل لأنّ التّفعل يَدُلُّ عَلَى قُوَّةِ حُصُولِ الْفِعْلِ. فَمَعْنَى خَرَقُوا كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ عَلَى سَبِيلِ الْخَرْقِ، أَيْ نَسَبُوا إِلَيْهِ بَنِينَ وَبَنَاتٍ كَذِبًا،
وَعَطَفَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ عَلَى وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لِلْمُقَابَلَةِ بَيْنَ الْحَالَيْنِ زِيَادَةً فِي التَّرْغِيبِ وَالتَّنْفِيرِ.
وَالْكَلَامُ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَمَا أَحْوَال الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ.
وَالْحَصْرُ ادِّعَائِيٌّ بِاعْتِبَارِ غَالِبِ أَحْوَالِ الدُّنْيَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالِبِ طَالِبِيهَا، فَكَوْنُهَا مَتَاعًا أَمْرٌ مُطَّرِدٌ وَكَوْنُ الْمَتَاعِ مُضَافًا إِلَى الْغُرُورِ أَمْرٌ غَالِبٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَا عَدَا الْأَعْمَالِ الْعَائِدَةِ عَلَى الْمَرْءِ بِالْفَوْزِ فِي الْآخِرَةِ.
وَالْغُرُورُ: الْخَدِيعَةُ، أَيْ إِظْهَارُ الْأَمْرِ الضَّارِّ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَحْتَرِزَ الْعَاقِلُ مِنْهُ فِي صُورَةِ النَّافِعِ الَّذِي يَرْغَبُ فِيهِ.
وَإِضَافَةُ مَتاعُ إِلَى الْغُرُورِ عَلَى مَعْنَى لَامِ الْعَاقِبَةِ، أَيْ مَتَاعٌ صَائِرٌ لِأَجْلِ الْغُرُورِ بِهِ، أَيْ آيِلٌ إِلَى أَنَّهُ يَغُرُّ النَّاظِرِينَ إِلَيْهِ فَيُسْرِعُونَ فِي التَّعَلُّق بِهِ.
[٢١]
[سُورَة الْحَدِيد (٥٧) : آيَة ٢١]
سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢١)
فَذْلَكَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ [الْحَدِيد: ١٢] إِلَى هُنَا فَذَلِكَ مَسُوقُ مَسَاقَ التَّرْغِيبِ فِيمَا بِهِ تَحْصِيلُ نَعِيمِ الْآخِرَةِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ فَوَاتِهِ وَمَا يَصْرِفُ عَنْهُ مِنْ إِيثَارِ زِينَةِ الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ فُصِلَتِ الْجُمْلَةُ وَلَمْ تُعْطُفْ، وَاقْتَصَرَ فِي الْفَذْلَكَةِ عَلَى الْجَانِبِ الْمَقْصُودِ تَرْغِيبُهُ دُونَ التَّعَرُّضِ إِلَى الْمُحَذَّرِ مِنْهُ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ.
وَعَبَّرَ عَنِ الْعِنَايَةِ والاهتمام بِفعل السَّابِقَة لِإِلْهِابِ النُّفُوسِ بِصَرْفِ الْعِنَايَةِ بِأَقْصَى مَا يُمْكِنُ مِنَ الْفَضَائِلِ كَفِعْلِ مَنْ يُسَابِقُ غَيْرَهُ إِلَى غَايَةٍ فَهُوَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يَكُونَ الْمُجَلِّي، وَلِأَنَّ الْمُسَابَقَةَ كِنَايَةٌ عَنِ الْمُنَافَسَةِ، أَيْ وَاتْرُكُوا الْمُقْتَصِرِينَ عَلَى مَتَاعِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْأُخْرَيَاتِ وَالْخَوَالِفِ.

[سُورَة الْإِنْسَان (٧٦) : آيَة ٢٧]

إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧)
تَعْلِيلٌ لِلنَّهْيِ عَنْ إِطَاعَتِهِمْ فِي قَوْلِهِ: وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً [الْإِنْسَان: ٢٤]، أَيْ لِأَنَّ خُلُقَهُمُ الِانْصِبَابُ عَلَى الدُّنْيَا مَعَ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْآخِرَةِ إِذْ هُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ فَلَوْ أَعْطَاهُمْ لَتَخَلَّقَ بِخُلُقِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ الْآيَة [النِّسَاء: ٨٩]. فَمَوْقِعُ إِنَّ مَوْقِعُ التَّعْلِيلِ وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ.
وهؤُلاءِ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرِينَ فِي ذِهْنِ الْمُخَاطَبِ لِكَثْرَةِ الْحَدِيثِ عَنْهُمْ، وَقَدِ اسْتَقْرَيْتُ مِنَ الْقُرْآنِ أَنَّهُ إِذَا أَطْلَقَ هؤُلاءِ دُونَ سَبْقِ مَا يَكُونُ مُشَارًا إِلَيْهِ فَالْمَقْصُودُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَقَدْ ذَكَرْتُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [٨٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ فِي سُورَةِ هُودٍ [١٠٩].
وَقَدْ تَنَزَّهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَحَبَّةِ الدُّنْيَا
فَقَالَ: «مَا لِي وَلِلدُّنْيَا»
فَلَيْسَ لَهُ مَحَبَّةٌ لِأُمُورِهَا عَدَا النِّسَاءَ وَالطِّيبَ كَمَا
قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ دُنْيَاكُمُ النِّسَاءُ وَالطِّيبُ»
. فَأَمَّا النِّسَاءُ فَالْمَيْلُ إِلَيْهِنَّ مَرْكُوزٌ فِي طَبْعِ الذُّكُورِ، وَمَا بِالطَّبْعِ لَا يَتَخَلَّفُ، وَفِي الْأُنْسِ بِهِنَّ انْتِعَاشٌ لِلرُّوحِ فَتَنَاوُلُهُ مَحْمُودٌ إِذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُبَرَّأِ مِنَ الْإِيقَاعِ فِي فَسَادٍ وَمَا هُوَ الْأَمْثَلُ تَنَاوُلُ الطَّعَامِ وَشُرْبُ الْمَاءِ قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً [الرَّعْد: ٣٨].
وَأَمَّا الطِّيبُ فَلِأَنَّهُ مُنَاسِبٌ لِلتَّزْكِيَةِ النَّفْسِيَّةِ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يُحِبُّونَ تَدُلُّ عَلَى تَكَرُّرِ ذَلِكَ، أَيْ أَنَّ ذَلِكَ دَأْبُهُمْ وَدَيْدَنُهُمْ لَا يُشَارِكُونَ مَعَ حُبِّ الْعَاجِلَةِ حُبَّ الْآخِرَةِ.
والْعاجِلَةَ: صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ تَقْدِيرُهُ: الْحَيَاةُ الْعَاجِلَةُ، أَوِ الدَّارُ الْعَاجِلَةُ. وَالْمُرَادُ بِهَا مُدَّةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا.
وَكَثُرَ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْعَاجِلَةِ عَلَى الدُّنْيَا كَقَوْلِهِ: كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ [الْقِيَامَة: ٢٠، ٢١] فَشَاعَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَسْمِيَةُ الدُّنْيَا بِالْعَاجِلَةِ.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرّحيم

٩٤- سُورَة الشَّرْح
سُمِّيَتْ فِي مُعْظَمِ التَّفَاسِيرِ وَفِي «صَحِيح البُخَارِيّ» و «جَامع التِّرْمِذِيِّ» «سُورَةَ أَلَمْ نَشْرَحْ»، وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ الشَّرْحِ» وَمِثْلُهُ فِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ الْمَشْرِقِيَّةِ تَسْمِيَةً بِمَصْدَرِ الْفِعْلِ الْوَاقِعِ فِيهَا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١] وَفِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ تَسْمِيَتُهَا «سُورَةُ الِانْشِرَاحِ».
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ.
وَقَدْ عُدَّتِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الضُّحَى بِالِاتِّفَاقِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْعَصْرِ.
وَعَنْ طَاوُسٍ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: «أَلَمْ نَشْرَحْ مِنْ سُورَةِ الضُّحَى». وَكَانَا يقرءانهما بِالرَّكْعَةِ الْوَاحِدَةِ لَا يَفْصِلَانِ بَيْنَهُمَا يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَهَذَا شُذُوذٌ مُخَالِفٌ لِمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ تَسْوِيرِ الْمُصْحَفِ الْإِمَامِ.
وَعَدَدُ آيها ثَمَان.
أغراضها
احْتَوَتْ عَلَى ذِكْرِ عِنَايَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلُطْفِ اللَّهِ لَهُ وَإِزَالَةِ الْغَمِّ وَالْحَرَجِ عَنْهُ، وَتَفْسِيرِ مَا عَسُرَ عَلَيْهِ، وَتَشْرِيفِ قَدْرِهِ لِيُنَفِّسَ عَنْهُ، فَمَضْمُونُهَا شَبِيهٌ بِأَنَّهُ حُجَّةٌ عَلَى مَضْمُونِ سُورَةِ الضُّحَى تَثْبِيتًا لَهُ بِتَذْكِيرِهِ سَالِفَ عِنَايَتِهِ بِهِ وَإِنَارَةِ سَبِيلِ الْحَقِّ وَتَرْفِيعِ الدَّرَجَةِ لِيَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَدَأَهُ بِنِعْمَتِهِ مَا كَانَ لِيَقْطَعَ عَنْهُ فَضْلَهُ، وَكَانَ ذَلِكَ بِطَرِيقَةِ التَّقْرِير بماض يعمله النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


الصفحة التالية
Icon