فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ... وَباؤُ إِلَخْ عَائِدَةٌ إِلَى جَمِيعِ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا إِلَى خُصُوصِ الَّذِينَ أَبَوْا دُخُولَ الْقَرْيَةِ وَالَّذِينَ قَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ فَإِنَّ الَّذِينَ قَتَلُوا النَّبِيئِينَ هُمْ أَبْنَاءُ الَّذِينَ أَبَوْا دُخُولَ الْقَرْيَةِ وَقَالُوا: لَنْ نَصْبِرَ فَالْإِتْيَانُ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ هُنَا جَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِأَنَّهُمْ غَيْرُ الْمُخَاطَبِينَ فَلَيْسَ هُوَ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِذْ لَيْسَ قَوْلُهُ:
وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ إِلَخْ مِنْ بَقِيَّةِ جَوَابِ مُوسَى إِيَّاهُمْ لِمَا عَلِمْتَ مِنْ شُمُولِهِ لِلْمُتَحَدَّثِ عَنْهُمُ الْآبِينَ دُخُولَ الْقَرْيَةِ وَلِغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَتَى بَعْدَهُمْ فَقَدْ جَاءَ ضَمِيرُ الْغَيْبَةِ عَلَى أَصْلِهِ، أَمَّا شُمُولُهُ لِلْمُخَاطَبِينَ فَإِنَّمَا هُوَ بِطَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ وَهُوَ لُزُومُ تَوَارُثِ الْأَبْنَاءِ أَخْلَاقَ الْآبَاءِ وَشَمَائِلَهُمْ كَمَا قَرَّرْنَاهُ فِي وَجْهِ الْخِطَابَاتِ الْمَاضِيَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [الْبَقَرَة:
٥٠] الْآيَاتِ وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْلِيلُ الْآتِي بِقَوْلِهِ: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ الْمُشْعِرِ بِأَنَّ كُلَّ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ فَهُوَ جَدِيرٌ بِأَنْ يَثْبُتَ لَهُ مِنَ الْحُكْمِ مِثْلُ مَا ثَبَتَ لِلْآخَرِ.
وَالضَّرْبُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ يَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْتِقَاءِ ظَاهِرِ جِسْمٍ بِظَاهِرِ جِسْمٍ آخَرَ بِشِدَّةٍ، يُقَالُ ضَرَبَ بِعَصًا وَبِيَدِهِ وَبِالسَّيْفِ وَضَرَبَ بِيَدِهِ الْأَرْضَ إِذَا أَلْصَقَهَا بِهَا، وَتَفَرَّعَتْ عَنْ هَذَا مَعَانٍ مَجَازِيَّةٌ تَرْجِعُ إِلَى شِدَّةِ اللُّصُوقِ. فَمِنْهُ ضَرَبَ فِي الْأَرْضِ: سَارَ طَوِيلًا، وَضَرَبَ قُبَّةً وَبَيْتًا فِي مَوْضِعِ كَذَا بِمَعْنَى شَدَّهَا وَوَثَّقَهَا مِنَ الْأَرْضِ. قَالَ عَبْدَةُ بْنُ الطَّبِيبِ:
إِنَّ الَّتِي ضَرَبَتْ بَيْتًا مُهَاجِرَةٌ وَقَالَ زِيَادٌ الْأَعْجَمُ:
فِي قُبَّةٍ ضُرِبَتْ عَلَى ابْنِ الْحَشْرَجِ وَضَرَبَ الطِّينَ عَلَى الْحَائِطِ أَلْصَقَهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا لِجَمِيعِ هَذِهِ الْمَعَانِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَما فَوْقَها [الْبَقَرَة: ٢٦].
فَقَوْلُهُ: وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ إِذْ شُبِّهَتِ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ
فِي الْإِحَاطَةِ بِهِمْ وَاللُّزُومِ بِالْبَيْتِ أَوِ الْقُبَّةِ يَضْرِبُهَا السَّاكِنُ لِيَلْزَمَهَا وَذِكْرُ الضَّرْبِ تَخْيِيلٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَبِيهٌ فِي عَلَائِقِ الْمُشَبَّهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضُرِبَتِ اسْتِعَارَةً تَبَعِيَّةً وَلَيْسَ ثَمَّةَ مَكْنِيَّةً بِأَنْ شَبَّهَ لُزُومَ الذِّلَّةِ لَهُمْ وَلُصُوقَهَا بِلُصُوقِ الطِّينِ بِالْحَائِطِ، وَمَعْنَى التَّبَعِيَّةِ أَنَّ الْمَنْظُورَ إِلَيْهِ فِي التَّشْبِيهِ هُوَ الْحَدَثُ وَالْوَصْفُ لَا الذَّاتُ بِمَعْنَى أَنَّ جَرَيَانَ الِاسْتِعَارَةِ فِي الْفِعْلِ لَيْسَ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ تَابِعًا لِفَاعِلٍ كَمَا فِي التَّخْيِيلِيَّةِ بَلْ بِعُنْوَانِ كَوْنِهِ حَدَثًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ أُجْرِيَتْ فِي الْفِعْلِ تَبَعًا لِجَرَيَانِهَاُُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٠٣- سُورَةُ الْعَصْرِ
ذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ أَنَّ الطَّبَرَانِيَّ رَوَى بِسَنَدِهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَ الرَّجُلَانِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ إِذَا الْتَقَيَا لَمْ يَفْتَرِقَا إِلَّا عَلَى أَنْ يَقْرَأَ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ سُورَةَ الْعَصْرِ» إِلَخْ مَا سَيَأْتِي.
وَكَذَلِكَ تَسْمِيَتُهَا فِي مَصَاحِفَ كَثِيرَةٍ وَفِي مُعْظَمِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَكَذَلِكَ هِيَ فِي مُصْحَفٍ عَتِيقٍ بِالْخَطِّ الْكُوفِيِّ مِنَ الْمَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِيَّةِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ.
وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «سُورَةَ وَالْعَصْرِ» بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ عَلَى حِكَايَةِ أَوَّلِ كَلِمَةٍ فِيهَا، أَيْ سُورَةُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَإِطْلَاقِ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ. وَعَنْ قَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلَمْ يَذْكُرْهَا صَاحِبُ «الْإِتْقَانِ» فِي عِدَادِ السُّوَرِ الْمُخْتَلِفِ فِيهَا.
وَقَدْ عُدَّتِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الِانْشِرَاحِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْعَادِيَاتِ.
وَآيُهَا ثَلَاثُ آيَاتٍ.
وَهِيَ إِحْدَى سُوَرٍ ثَلَاثٍ هُنَّ أَقْصَرُ السُّوَرِ عَدَدَ آيَاتٍ: هِيَ، وَالْكَوْثَرُ وَسورَة النَّصْر.
أغراضها
وَاشْتَمَلَتْ عَلَى إِثْبَاتِ الْخُسْرَانِ الشَّدِيدِ لِأَهْلِ الشِّرْكِ وَمَنْ كَانَ مِثْلَهُمْ مِنْ أَهْلِ


الصفحة التالية
Icon