الْمَجَازُ حَتَّى سَاوَى الْحَقِيقَةَ وَصَارَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ إِلَى الْقَرِينَةِ فَآلَ اللَّفْظُ إِلَى الدَّلَالَةِ عَلَى الْقَدْرِ الْمُشْتَرِكِ بِالِاسْتِعْمَالِ لَا بِأَصْلِ الْوَضْعِ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْعَطْفُ فِي قَوْلِهِ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً كَمَا سَيَأْتِي.
وَقَوْلُهُ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ تَشْبِيهُ فَرْعٍ بِالْفَاءِ لِإِرَادَةِ ظُهُورِ التَّشْبِيهِ بَعْدَ حِكَايَةِ الْحَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَسَتْ لِأَنَّ الْقَسْوَةَ هِيَ وَجْهُ الشَّبَهِ وَلِأَنَّ أَشْهَرَ الْأَشْيَاءِ فِي هَذَا الْوَصْف هُوَ الْحجر فَإِذَا ذُكِرَتِ الْقَسْوَةُ فَقَدْ تَهَيَّأَ التَّشْبِيهُ بِالْحَجَرِ وَلِذَا عَطَفَ بِالْفَاءِ أَيْ إِذَا عَلِمْتَ أَنَّهَا قَاسِيَةٌ فَشَبَّهَهَا بِالْحِجَارَةِ كَقَوْلِ النَّابِغَةِ يَصِفُ الْحَجِيجَ:

عَلَيْهِنَّ شَعَثٌ عَامِدُونَ لِرَبِّهِمْ فَهُنَّ كَأَطْرَافِ الْحَنِيِّ خَوَاشِعُ
وَقَدْ كَانَتْ صَلَابَةُ الْحَجَرِ أَعْرَفَ لِلنَّاسِ وَأَشْهَرَ لِأَنَّهَا مَحْسُوسَةٌ فَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهَا، وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يُسَمَّى عِنْدِي تَهْيِئَةَ التَّشْبِيهِ وَهُوَ مِنْ مَحَاسِنِهِ، وَإِذَا تَتَبَّعْتَ أَسَالِيبَ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِهِمْ تَجِدُهَا عَلَى ضَرْبَيْنِ ضَرْبٌ لَا يُهَيَّأُ فِيهِ التَّشْبِيهُ وَهُوَ الْغَالِبُ وَضَرْبٌ يُهَيَّأُ فِيهِ كَمَا هُنَا وَالْعَطْفُ بِالْفَاءِ فِي مِثْلِهِ حَسَنٌ جِدًّا وَأَمَّا أَنْ يَأْتِيَ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا لَا يُنَاسِبُ التَّشْبِيهَ فَذَلِك عِنْدِي بعد مَذْمُومًا. وَقَدْ رَأَيْتُ بَيْتًا جَمَعَ تَهْيِئَةَ التَّشْبِيهِ وَالْبُعْدَ عَنْهُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ نَبَاتَةَ:
فِي الرِّيقِ سُكْرٌ وَفِي الْأَصْدَاغِ تَجْعِيدُ هَذَا الْمُدَامُ وَهَاتِيكَ الْعَنَاقِيدُ
فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ السُّكْرَ تَهَيَّأَ التَّشْبِيهُ بِالْخَمْرِ وَلَكِنَّ قَوْلَهُ: تَجْعِيدٌ لَا يُنَاسِبُ الْعَنَاقِيدَ.
فَإِنْ قُلْتَ لِمَ عَدَدْتَهُ مَذْمُومًا وَمَا هُوَ إِلَّا كَتَجْرِيدِ الِاسْتِعَارَةِ؟
قُلْتُ: لَا لِأَنَّ التَّجْرِيدَ يَجِيءُ بَعْدَ تَكَرُّرِ الِاسْتِعَارَةِ وَعِلْمٍ بِهَا فَيَكُونُ تَفَنُّنًا لَطِيفًا بِخِلَافِ مَا يَجِيءُ قَبْلَ الْعِلْمِ بِالتَّشْبِيهِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً مَرْفُوعٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ وَ (أَوْ) بِمَعْنَى بَلِ الِانْتِقَالِيَّةِ لِتَوَفُّرِ شَرْطِهَا وَهُوَ كَوْنُ مَعْطُوفِهَا جُمْلَةً. وَهَذَا الْمَعْنَى مُتَوَلِّدٌ مِنْ مَعْنَى التَّخْيِيرِ الْمَوْضُوعَةِ لَهُ (أَوْ) لِأَنَّ الِانْتِقَالَ يَنْشَأُ عَنِ التَّخْيِيرِ فَإِنَّ الْقُلُوبَ بَعْدَ أَنْ شُبِّهَتْ بِالْحِجَارَةِ وَكَانَ الشَّأْنُ يَكُونَ الْمُشَبَّهُ أَضْعَفَ فِي الْوَصْفِ مِنَ الْمُشَبَّهِ بِهِ يُبْنَى عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءُ التَّشْبِيهِ بِمَا هُوَ أَشْهَرُ ثُمَّ عَقَّبَ التَّشْبِيهَ بِالتَّرَقِّي إِلَى التَّفْضِيلِ فِي وَجْهِ الشَّبَهِ عَلَى حَدِّ قَوْلِ ذِي الرُّمَّةِ (١) :
_________
(١) نسبه إِلَيْهِ ابْن جني وَقَالَ الْبَغْدَادِيّ لم أَجِدهُ فِي «ديوَان ذِي الرمة».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

١٠٧- سُورَةُ الْمَاعُونِ
سُمِّيَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَصَاحِفِ وَكُتُبِ التَّفْسِيرِ «سُورَةَ الْمَاعُونِ» لِوُرُودِ لَفْظِ الْمَاعُونِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا.
وَسُمِّيَتْ فِي بَعْضِ التَّفَاسِيرِ «سُورَةَ أَرَأَيْتَ» وَكَذَلِكَ فِي مُصْحَفٍ مِنْ مَصَاحِفِ الْقَيْرَوَانِ فِي الْقَرْنِ الْخَامِسِ، وَكَذَلِكَ عَنْوَنَهَا فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ».
وَعَنْوَنَهَا ابْنُ عَطِيَّةَ بِ «سُورَةِ أَرَأَيْتَ الَّذِي». وَقَالَ الْكَوَاشِيُّ فِي «التَّلْخِيصِ» «سُورَةُ الماعون وَالدّين وأ رَأَيْت» وَفِي «الْإِتْقَانِ» : وَتُسَمَّى «سُورَةَ الدِّينِ» وَفِي «حَاشِيَتَيِ الْخَفَاجِيِّ وَسَعْدِيٍّ» تُسَمَّى «سُورَةَ التَّكْذِيبِ» وَقَالَ الْبِقَاعِيُّ فِي «نَظْمِ الدُّرَرِ» تُسَمَّى «سُورَةَ الْيَتِيمِ».
وَهَذِهِ سِتَّةُ أَسْمَاءٍ.
وَهِيَ مَكِّيَّةٌ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ عَنْ قَتَادَةَ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا. وَفِي «الْإِتْقَانِ» : قِيلَ نَزَلَ ثَلَاثٌ أَوَّلُهَا بِمَكَّةَ إِلَى قَوْله:
الْمِسْكِينِ [الماعون: ٣] وَبَقِيَّتُهَا نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ، أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ [الماعون: ٤] إِلَى آخَرِ السُّورَة أُرِيد بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَالَهُ هِبَةُ اللَّهِ الضَّرِيرُ (١) وَهُوَ الْأَظْهَرُ.
وَعُدَّتِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ السُّوَرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ التَّكَاثُرِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْكَافِرُونَ.
وَعُدَّتْ آيَاتُهَا سِتًّا عِنْدَ مُعْظَمِ الْعَادِّينَ. وَحَكَى الْآلُوسِيُّ أَنَّ الَّذِينَ عَدُّوا آيَاتِهَا سِتًّا أَهْلُ
الْعِرَاقِ (أَيِ الْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ)، وَقَالَ الشَّيْخُ عَلِيٌّ النُّورِيُّ الصَّفَاقِسِيُّ
_________
(١) هبة الله بن سَلامَة بن نصر بن عَليّ أَبُو الْقَاسِم الضَّرِير الْبَغْدَادِيّ الْمُفَسّر لَهُ كتاب «النَّاسِخ والمنسوخ» كَانَت لَهُ حَلقَة فِي جَامع الْمَنْصُور توفّي سنة ٤١٠ «تَارِيخ بَغْدَاد» ونكت الْهِمْيَان».


الصفحة التالية
Icon