أطراف بدنه، ثم جمعها الله في أوعية المَني، فأخرجها ماءً دافقاً إلى قرار الرحم، فإذا كان قادراً على جمع هذه الأجزاء المتفرقة، وتكوين الحيوان منها، فإذا افترقت بالموت مرة أُخرى؛ لم يمتنع عليها جمعها وتكوينها مرة أخرى. هـ. وذَكَرَ عند قوله تعالى: ﴿يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَرَآئِبِ﴾ [الطارق: ٧] أنَّ المني يتولد من فضلة الهضم الرابع، وينفصل من جميع أجزاء البدن، فيأخذ من كل عضو طبيعته وخاصيته، ومعظمُهُ يتولد من الدماغ، وهو أعظم الأعضاء معنويةً فيه. انظر بقيته في الحاشية.
﴿
نحن قدَّرنا بينكم الموتَ﴾
أي: قسمناه ووقّتنا موت كل أحد بوقت معين، حسبما تقتضيه قسمتنا، المبنية على الحِكَم البالغة. قال القشيري: فيكون في الوقت الذي نريده، منكم مَنْ يموت طفلاً، ومنكم مَن يموت شابّاً، وكهلاً وشيخاً، وبعللٍ مختلفة، وبأسباب متفاوتة، وأوقاتٍ مختلفة. هـ. ﴿وما نحن بمسبوقين﴾ بعاجزين ﴿على أن نُبَدَّلَ أمثالَكم﴾ بل نحن قادرون على ذلك، لا تسبقونني ولا تغلبونني على أن نُذهبكم، ونأتي مكانكم بأشباهكم من الخلق، والتبديل يكون بالذات أو بالصفات، ﴿ونُنشِئَكم فيما لا تعلمون﴾ ونخلقكم بعد التبديل في صورة لا تعهدونها. قال الحسن: نجعلكم قردةً وخنازير، يعني: إنَّا نقدر على الأمرين جميعاً، أي: خلق ما يماثلكم وما لا يماثلكم فكيف نعجز عن إعادتكم. و ﴿أمثال﴾ إمّا جمع " مِثْل " بالسكون - وهو التبديل بالذات، أو: " مَثَل " بالفتح، وهو التبديل في الصفات، أي: على أن نُبدّل ونُغيّر صفاتكم التي أنتم عليها، وننشِئَكم في صفات لا تعلمونها. ﴿ولقد علمتم النشأةَ الأولى﴾ أي: فطرة آدم عليه السلام: أو:

خلقتهم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة الخ، ﴿فلولا تَذَكَّرُون﴾ فهلاَّ تذكرون أنْ مَن قدر عليها قدر على النشأة الأخرى.
ولمّا ذكّرهم بنعمة الإيجاد، ذكّرهم بنعمة الإمداد، فقال: ﴿أفرأيتم ما تحرثون﴾ أي: ما تبذرون حبه وتقلِبون الأرض عليه، ﴿أأنتم تزرعونه﴾ أن: تُنبتونه وتُخرجونه من الأرض نباتاً ﴿أم نحن الزارعون﴾ المُنبِتون له؟ وفي الحديث: " لا يقل أحدكم، زرعت، وليقل: حرثت " ﴿لو نشاء لجعلناه حُطاماً﴾ هشيماً منكسِراً قبل إدراكه، ﴿فَظَلْتم﴾ بسبب ذلك ﴿تَفَكَّهُون﴾ تتعجَّبُون من سوء حاله إثر ما شهدتموه على أحسن ما يكون، أو: تندمون على تعبكم فيه وإنفاقكم عليه، أو: على ما اقترفتم من المعاصي التي أُصبتم لذلك من أجلها، و " تفكه " من أفعال الإزالة، كتخرّج، وتأثّم، أي: أزال الفُكَاهة، وهي المسرة، فتحصل الندامة، ﴿إِنَّا لمُغْرَمُونَ﴾ أي: قائلين: إنّا لملزمون غرامةَ ما أنفقنا فيها، أو: لمهلَكون لِهلاك قوتنا، من: الغرام، وهو الهلاك، ﴿بل نحن محرومون﴾ حُرمنا ما رزقنا بشؤم تفريطنا، فالمحروم هو الممنوع الرزق. قال ابن عباس: " هو المحارَف " الذي انحرف عنه رزقه.
سورة الفجر
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿والفجر﴾، إمّا وقته، أقسم به لشرفه، كما أقسم بالصُبح، لِمَا في ذلك من الاقتدار، أو: صلاته؛ لكونها مشهودة، ﴿وليالٍ عشر﴾ ؛ عشر ذي الحجة، أو العشر الأُول من المحرم، أو الأواخر من رمضان، ونُكِّرت للتفخيم، ﴿والشفع والوتر﴾ أي: شفع كل الأشياء ووترها، أو: شفع هذه الليالي ووترها، أو: شفع الصلوات ووترها، أو: يوم النحر، لأنه اليوم العاشر، ويوم عرفة لأنه التاسع، أو الخلق والخالق، او صلاة النافلة والوتر بعدها، أو الأعداد؛ لأنَّ منها شفعاً ومنها وتراً، والمختار العموم، كأنه تعالى أقسم بكل شيء؛ إذ لا يخلو شيء من أن يكون شفعاً وهو الزوج، أو وتراً وهو الفرد، والوتر بالفتح والكسر لغتان.
ولمَّا أقسم بالليالي المخصوصة، أقسم بالليالي على العموم، فقال: ﴿والليلِ إِذا يَسْرِ﴾ إذا ذهب، أو: يسري فيه السائر، وقيل: أُريد به ليلة القدر، وحُذفت الياء في الوصل؛ اكتفاءً بكسرتها، وسُئل الأخفش عن سقوطها، فقال للسائل: لا أجيبك حتى تخدمني سنة، فسأله بعد سنة، فقال: الليل لا يسري، وإنّما يُسرى فيه، فلمّا عدل عن معناه عدل عن لفظه موافقةً. هـ. ويرد عليه: أنها حُذفت في كلمات كثيرة، ليس فيها هذه العلة.
﴿هل في ذلك﴾ أي: فيما أقسمت به من هذه الأشياء ﴿قَسَمٌ﴾ أي: مٌقسم به، أو


الصفحة التالية
Icon