الإشارة: الذين يباعدون من أنفسهم، فيُحرِّمون عليها التمتُّع بما أحلّ الله من الطيبات، تضييقاً وتشديداً عليها، مفْرطين في ذلك، محتجين لذلك بأنهم كانوا في بطن الشهوات، فقد ملكتهم ملك الأم لولدها، قال تعالى: " ما هن أمهاتِهم إنْ أُمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم، وإنهم ليقولون مُنكراً من القول وزوراً " حيث حرّموا ما أحلّ الله، والمراد بذلك الإفراط المؤدي إلى التلف. قال القشيري: لأنّ النفس مطية الروح، فلا تسلك طريق السير إلاّ بها، وهي مددها ومعونتها، كما قال عليه السلام: " إنَّ لنفْسك عَلَيْكَ حَقّاً " فلا بد للروح من مسامحة النفس ومداراتها في بضع الأوقات، لتميل النفس إلى تصرفها وحكمها فيها، وإلاّ ضعفت وكَلَّت عن موافقتها، فتنقطع الروح عن السلوك إلى الله. هـ. قلت: وإليه الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يكن أحدكم كالمنبت، لا أرضا قطع، ولا ظهراً أبقى " ﴿وإن الله لعفو غفور﴾ لمَن وقع له شيء من هذا ورجع.
والذين يُظاهرون من نسائهم، يُباعدون من أنفسهم، ثم يعودون إلى الترفُّق بها والاستمتاع بما أحلّ الله لها، فكفارته تحرير رقبةً مِن ملك الشهوة، فلا يتناول شيئاً من المباحات الطيبة، إلاّ بنية التقرُّب إلى الله والشكر، لا بنية مجرد الاستمتاع، ولا يتناول من الشهوات التي شرهت إليها النفس، وحرصت على تحصيلها قبل حصولها، شيئاً قط، فإن لم يقدر عليها على هذا النمط، فعليه صيام شهرين أو أكثر، مجاهدةً ورياضةً، حتى تقف على حد الضرورة، فإن لم يتسطع فإطعام ستين مسكيناً أو أكثر، بكل ما يدخل عليه من الحظوظ. وقال القشيري: وإن لم يقدر على تحرير رقبته على هذا الارتباط؛ فيجب على الروح أن تصوم شهرين متتابين، يعني يمسك نفسَه عن الالتفات إلى الكونين على الدوام والاستمرار، من غير تخلُّل التفات، وإن لم يتمكن مِن قطع هذا الالتفات، لبقية من بقايا أنانيته، فيجب عليه إطعام ستين مسكيناً من مساكين القوى الروحانية، المستهلك لسلطنة النفس وصفاتها، ليقيمهم على التخلُّق بالأخلاق الإلهية، والتحقق بالصفات الروحانية، هـ. ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله الإيمان الكامل، وتلك حدود الله لا يجوز تعدِّيها بالأهوية والبدع، وللكافرين لهذه الحِكم عذاب البُعد ونار القطيعة، المؤلم للروح والقلب، بغم الحجاب وسوء الحساب.
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِنَّ الذين يُحادون اللهَ ورسولَه﴾ أي: يُعادونهما ويُشاقونهما؛ فإنَّ كُلاَّ من المتعادين في عدوةٍ وشِقٍّ غير الآخر، وكذلك يكون كُلُّ واحدٍ منهما في حدّ غير حدّ الآخر، غير أنَّ لذكر المُحادَّة هنا لمّا ذكر حدود الله مِن حسن الموقع ما لا غاية وراءه. ثم أخبر عنهم فقال: ﴿كُبِتُوا﴾ أي: أُخذوا وأُهلكوا، أو: لُعنوا ﴿كما كُبِتَ الذين من قبلهم﴾ من كُفار الأمم الماضية المعادين للرسل عليهم السلام. وقال القشيري: يُحادّون: يُخالفون أمر الله، ويتركون طاعة رسول الله، أذِلُّوا وأُخْزوا كما أُذِلَّ مَنْ قبلهم من الكفار والعصاة. نزلت في المستهزئين يوم الخندق، إذ الله أجرى سُنته بالانتقام من أهل الإجرام، ومَن ضيَّعَ لرسول الله سُنةً واحدة في دينه ببدعة انخرط في سلك هذا الخزي، ووقع في هذا الذُّل. هـ. وقال ابن عطية: الآية نزلت في المنافقين واليهود، وكانوا يتربصون بالرسول والمؤمنين الدوائر، ويتمنون فيهم المكروه، ويتناجون بذلك. هـ.
﴿وقد أنزلنا آياتٍ بيناتٍ﴾ : حال من ضمير " كُبتوا " أي: كُبتوا بمحادتهم، والحال أنَّا قد أنزلنا آيات واضحات فيمن حاد الله ورسولَه، ممن قبلهم من الأمم وفيما فعلنا بهم، أو: آيات على صدق الرسول وصحة ما جاء به، ﴿وللكافرين﴾ بهذه الآيات، أو: بكل ما يجب الإيمان به، فيدخل فيه تلك الآيات دخولاً أوليّاً، ﴿عذابٌ مهين﴾ يذهب بعزِّهم وكِبْرهم.
واذكر ﴿يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا﴾ أو: لهم ذلك العذاب ﴿يومَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ جَمِيعًا﴾ أي: لا يترك أحداً منهم، أو مجتمعين في حال واحد وصعيدٍ واحد، ﴿فيُنَبئهم بما عمِلوا﴾ من القبائح، تخجيلاً لهم، وتشهيراً لحالهم، وتشديداً لعذابهم، فيتمنون حينئذ المسارعة إلى النار، لِما يلحقهم من الخزي على رؤوس الأشهاد، ﴿أحصاه اللهُ﴾ أحاط به عدداً، لم يفته منه شيء، والجملة استئناف بياني، كأنه قيل: كيف ينبئهم بما عملوا، وهي أعراض مُنقضية متلاشية، فقيل: ﴿أحصاه اللهُ ونَسًوه﴾ أي: قد نسوه لأنهم تهاونوا به حين ارتكبوه وإنما تحفظ معظّمات الأمور. وهو حال أيضاً. ﴿واللهُ على كل شيءٍ شهيدٌ﴾ لا يغيب عنه شيء. والجملة اعتراض تذييلي، مقرِّرة لإحصائه تعالى.
ثم استشهد على شمول شهادته تعالى، فقال: ﴿ألم تَرَ أن الله يعلمُ ما في السماوات وما في الأرض﴾ فهو كقوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِى رَبِّهِ﴾ [البقرة: ٢٥٨]، ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِى كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ﴾ [الشعراء: ٢٢٥] أي: ألم تعلم علماً مزاحماً
سورة الزلزلة
سورة الزلزلة
يقول الحق جلّ جلاله: ﴿إِذا زُلزلت الأرضُ﴾ أي: حُركت تحريكاً عنيفاً مكرراً متداركاً، ﴿زِلزالها﴾ أي: الزلزلة المخصوصة بها على مقتضى المشيئة الإلهية، وهو الزلزال الشديد الذي لا غاية وراءه، أو: زلزالها العجيب الذي لا يُقادر قدره. قال ابن عرفة: المراد: الأرض الأولى؛ لأنّ الثانية ليس فيها أموات. ولكن السموات عند المنجِّمين متلاصقة بعضها مع بعض، وكذلك الأرضون، وعندنا يجوز أن يكون بينهما تخلُّل، وهو ظاهر حديث الإسراء. هـ.
وذلك عند النفخة الثانية لقوله تعالى: ﴿وأخرجت الأرضُ أثقالها﴾ أي: ما في جوفها من الأموات والدفائن، جمع: ثِقُل، وهو: متاع البيت، جعل ما في جوفها من الدفائن أثقالاً لها. وإظهار الأرض في موضع الإضمار لزيادة التقرير، أو: للإيماء إلى تبدُّل الأرض غير الأرض. ﴿وقال الإنسانُ﴾ أي: كل فرد مِن أفراده، لِما يدهمهم من الطامة التامة، ويبهرهم من الداهية العامة: ﴿ما لها﴾ زُلزلت هذه الزلزلة الشديدة، وأخرجت ما فيها من الأثقال، استعظاماً لِما شهدوه من الأمر الهائل، وقد سُيرت الجبال وفي الجو فصارت هباءً. وهذا قول عام يقوله المؤمن بطريق الاستعظام، والكافر بطريق التعجًّب.


الصفحة التالية
Icon