مَا سَيَظْهَرُ مِنْهَا
فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي الْأَرْوَاحِ الَّتِي لَا دَلِيلَ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهَا تُدْرِكُ وَتُرِيدُ، فَلِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَأْثِيرُ الْأَرْوَاحِ الْعَاقِلَةِ الْمُرِيدَةِ أَعْظَمَ! !
إِذَا تَمَهَّدَ هَذَا فَنَقُولُ: إِنَّ اللهَ الْمُسَخِّرَ لِلْأَرْوَاحِ الْمُنْبَثَّةِ فِي الْكَائِنَاتِ قَدْ أَرْسَلَ رُوحًا مِنْ عِنْدِهِ إِلَى مَرْيَمَ فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا وَنَفَخَ فِيهَا، فَأَحْدَثَتْ نَفْخَتُهُ التَّلْقِيحَ فِي رَحِمِهَا، فَحَمَلَتْ بِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَهَلْ حَمَلَتْ إِلَيْهَا تِلْكَ النَّفْخَةُ مَادَّةً أَمْ لَا؟ اللهُ أَعْلَمُ. أَمَّا الْبَحْثُ فِي تَمَثُّلِ هَذِهِ الْأَرْوَاحِ الَّتِي تُسَمَّى بِلِسَانِ الشَّرْعِ الْمَلَائِكَةً فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ - تَعَالَى -: فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا [١٩: ١٧] إِذَا أَنْسَأَ اللهُ لَنَا فِي الْأَجَلِ وَوُفِّقْنَا لِلْمُضِيِّ فِي هَذَا الْعَمَلِ (التَّفْسِيرِ) وَالْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ لَمْ يَتَعَرَّضْ لِهَذَا الْبَحْثِ.
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ قَرَأَ نَافِعٌ وَعَاصِمٌ وَيُعَلِّمُهُ بِالْيَاءِ وَالْبَاقُونَ (وَنُعَلِّمُهُ) بِالنُّونِ. وَالْكِتَابُ هُنَا: الْكِتَابَةُ بِالْخَطِّ، وَالْحِكْمَةُ: الْعِلْمُ الصَّحِيحُ الَّذِي يَبْعَثُ الْإِرَادَةَ إِلَى الْعَمَلِ النَّافِعِ، وَيَقِفُ بِالْعَامِلِ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْبَصِيرَةِ وَفِقْهِ الْأَحْكَامِ وَأَسْرَارِ الْمَسَائِلِ. (وَالتَّوْرَاةَ) : كِتَابُ مُوسَى فَقَدْ كَانَ الْمَسِيحُ عَالِمًا بِهِ يُبَيِّنُ أَسْرَارَهُ لِقَوْمِهِ، وَيُقِيمُ عَلَيْهِمُ الْحُجَجَ بِنُصُوصِهِ، (وَالْإِنْجِيلَ) : هُوَ مَا أُوحِيَ إِلَيْهِ نَفْسِهِ - وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ أَوَّلِ السُّورَةِ الْكَلَامُ فِيهِمَا - وَالْكَلَامُ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ وَآيَةُ قَالَتْ رَبِّ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُمَا وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ وَيُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ - بِالْيَاءِ أَوِ النُّونِ - رَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَحَذَفَ لَفْظَ يُرْسِلُهُ أَوْ يَجْعَلُهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَرَأَيْتُ رُوحَكَ فِي الْوَغَى | مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا |
لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ | بِسِرٍّ وَلَا أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ |
بِقَوْلِهِ: أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللهِ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: الْخَلْقُ: التَّقْدِيرُ وَالتَّرْتِيبُ لَا الْإِنْشَاءُ وَالِاخْتِرَاعُ، وَيَقْرُبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا إِجْمَاعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَفَسَّرَهُ الْجَلَالُ هُنَا بِالتَّصْوِيرِ لِأَنَّهُ مِنَ التَّقْدِيرِ.
أَقُولُ: وَذَكَرَ الْجَلَالُ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ كَانَ يَتَّخِذُ مِنَ الطِّينِ صُورَةَ خُفَّاشٍ فَيَنْفُخُ فِيهَا فَتَحِلُّهَا الْحَيَاةُ وَتَتَحَرَّكُ فِي يَدِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ تَطِيرُ قَلِيلًا ثُمَّ تَسْقُطُ. قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: