وَأَوْرَدَ الرَّازِيُّ فِي تَأْيِيدِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ شِعْرًا لِبَعْضِهِمْ فِي الشَّيْبِ:
يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي | عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُونِ |
فَلَعَمْرِي لَأُخْفِيَنَّكَ جَهْدِي | عَنْ عِيَانِي وَعَنْ عِيَانِ الْعُيُونِ |
بِسَوَادٍ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي | وَسَوَادٍ لِوَجْهِكِ الْمَلْعُونِ |
الْآخِرَةِ الْآيَاتُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا آنِفًا فِي بَحْثِ اسْتِعْمَالِ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ فِي الْمَعَانِي ; إِذْ فِيهَا التَّصْرِيحُ بِذِكْرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَأَمَّا مَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَقَدْ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ فِي بَيَانِهِ مَا مِثَالُهُ:
أَمَّا الْمُتَّفِقُونَ الَّذِينَ جَمَعُوا عَزَائِمَهُمْ وَإِرَادَتَهُمْ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مَصْلَحَةُ أُمَّتِهِمْ وَمِلَّتِهِمْ، وَاعْتَصَمُوا وَاتَّفَقُوا عَلَى الْأَعْمَالِ النَّافِعَةِ الَّتِي فِيهَا عِزَّتُهُمْ وَشَرَفُهُمْ، وَأَصْبَحَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَوْنًا لِلْآخَرِ وَوَلِيًّا لَهُ فَأُولَئِكَ تَبْيَضُّ وُجُوهُهُمْ - أَيْ تَنْبَسِطُ وَتَتَلَأْلَأُ بَهْجَةً وَسُرُورًا - عِنْدَ ظُهُورِ أَثَرِ الِاتِّفَاقِ وَالِاعْتِصَامِ وَنَتَائِجِهِمَا، وَهِيَ السُّلْطَةُ وَالْعِزَّةُ وَالشَّرَفُ وَارْتِفَاعُ الْمَكَانَةِ وَسِعَةُ السُّلْطَانِ. وَهَذَا الْأَثَرُ ظَاهِرٌ فِي الْأُمَمِ الْمُتَّفِقَةِ الْمُتَّحِدَةِ الَّتِي يَتَأَلَّمُ مَجْمُوعُهَا إِذَا أُهِينَ وَاحِدٌ مِنْهَا فِي قُطْرٍ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ بَعِيدٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَتُجَيَّشُ جَمِيعُهَا مُطَالِبَةً بِنَصْرِهِ وَالِانْتِقَامِ لَهُ ; لِأَنَّهُ ظُلِمَ وَأُهِينَ وَلَا يَصِحُّ عِنْدَهَا أَنْ يَكُونَ مِنْهَا ثُمَّ يُظْلَمُ أَوْ يُهَانُ وَتَكُونُ هِيَ رَاضِيَةً نَاعِمَةَ الْبَالِ، أُولَئِكَ الْأَقْوَامُ تَرَى عَلَى وُجُوهِهِمْ لَأْلَاءُ الْعِزَّةِ وَتَأَلُّقُ الْبِشْرِ بِالشَّرَفِ وَالرِّفْعَةِ وَهُوَ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِبَيَاضِ الْوَجْهِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفُونَ لِافْتِرَاقِهِمْ فِي الْمَقَاصِدِ، وَتَبَايُنِهِمْ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْمَشَارِبِ، الَّذِينَ لَا يَتَنَاصَرُونَ وَلَا يَتَعَاضَدُونَ وَلَا يَهْتَمُّ أَفْرَادُهُمْ بِالْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي فِيهَا شَرَفُ الْمِلَّةِ وَعِزَّةُ الْأُمَّةِ فَهُمُ الَّذِينَ تَسْوَدُّ وُجُوهُهُمْ بِالذِّلَّةِ وَالْكَآبَةِ يَوْمَ تَظْهَرُ عَاقِبَةُ تَفَرُّقِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ بِقَهْرِ الْأَجْنَبِيِّ لَهُمْ وَنَزْعِهِ السُّلْطَةَ مِنْ أَيْدِيهِمْ، وَالتَّارِيخُ شَاهِدٌ عَلَى صِدْقِ هَذَا الْجَزَاءِ فِي الْمَاضِينَ، وَالْمُشَاهَدَةُ أَصْدَقُ وَأَقْوَى حُجَّةً فِي الْحَاضِرِينَ.
فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا الْقَوْلُ فِي الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلَا بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي النَّاسِ مَنْ يَقُولُ لِلْأُمَّةِ الَّتِي وَقَعَ لَهَا ذَلِكَ مِثْلَ هَذَا الْقَوْلِ، تَغْلِيظًا عَلَيْهَا لِأَنَّ عَمَلَهَا لَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنَ الْكَافِرِينَ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيُوَبِّخُهُمُ اللهُ بِمِثْلِ هَذَا السُّؤَالِ.
وَأَقُولُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بَيَانَ الشَّأْنِ لَا الْحِكَايَةَ عَنْ قَوْلٍ لِسَانِيٍّ وَقَعَ بِالْفِعْلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ شَأْنَهُمْ حِينَئِذٍ أَنْ يُقَالَ فِيهِمْ أَوْ لَهُمْ ذَلِكَ الْقَوْلُ، بَلْ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ عِنْدِي، وَالْكَلَامُ