تَعَالَى: (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ) (٤: ١٨) وَمِنَ الْبَدِيهِيِّ أَنَّ التَّوْبَةَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعْصِيَةِ إِنَّمَا تَنْفَعُ بِالرُّجُوعِ إِلَى الطَّاعَةِ. عَلَى أَنَّ الْيَائِسَ مِنَ الشَّيْءِ بِالْفِعْلِ، لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا فِي ادِّعَائِهِ إِيَّاهُ أَوْ طَلَبِهِ لَهُ بِالْقَوْلِ، وَلَعَلَّ فِرْعَوْنَ أَرَادَ بِقَوْلِهِ حِينَئِذٍ أَنَّهُ مِنْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ أَنَّهُ مُوَطِّنٌ نَفْسَهُ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ إِنْ نَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى، وَأَنَّهُ كَانَ يَرْجُو بِهَذَا أَنْ يُنَجِّيَهُ اللهُ تَعَالَى كَمَا نَجَّاهُ وَقَوْمَهُ مِنْ كُلِّ نَازِلَةٍ مِنْ عَذَابِ اللهِ حَلَّتْ بِهِ وَبِقَوْمِهِ، إِذْ كَانَ يَقُولُ لِمُوسَى: (ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) (٧: ١٣٤) وَلَكِنَّ تِلْكَ النَّوَازِلَ إِنَّمَا كَانَتْ لِأَجْلِ إِرْسَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مَعَ مُوسَى فَهِيَ غَايَتُهَا، وَلَمْ تَكُنْ عِقَابًا عَلَى الْإِصْرَارِ عَلَى كُفْرِ الْجُحُودِ وَالْعِنَادِ، الَّذِي هُوَ شَرُّ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ وَأَدَلُّهَا عَلَى خُبْثِ طَوِيَّةِ صَاحِبِهِ، كَهَذَا الْعِقَابِ الْأَخِيرِ بَعْدَ نَجَاةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْهُ رَغْمَ أَنْفِهِ.
(فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) قَالَ أَبُو جَعْفَرِ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ: يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِفِرْعَوْنَ: فَالْيَوْمَ نَجْعَلُكَ عَلَى نَجْوَةٍ مِنَ الْأَرْضِ بِبَدَنِكَ، يَنْظُرُ إِلَيْكَ مَنْ كَذَّبَ بِهَلَاكِكَ) لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً) يَقُولُ: لِتَكُونَ لِمَنْ بَعْدَكَ مِنَ النَّاسِ عِبْرَةً يَعْتَبِرُونَ بِكَ فَيَنْزَجِرُونَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، وَالسَّعْيِ فِي أَرْضِهِ بِالْفَسَادِ. وَالنَّجْوَةُ: الْمَوْضِعُ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ وَمِنْهُ قَوْلُ أَوْسِ بْنِ حَجَرٍ:
فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنَ بِنَجْوَتِهِ | وَالْمَسَّتِكُنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ |