(ك)

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله واهب ما يشاء لمن يشاء، بيده وحده المنع وبيده العطاء؛ وبيده مفاتيح الخير ومغاليق الشر: يفتح الخير لمن يطلبه ويسعى إليه، ويغلق الشر عمن ينبذه ويبتعد عنه ﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم﴾.
والصلاة والسلام على رسوله الكريم، ونبيه العظيم: المؤيد بالآيات البينات، والمعجزات الظاهرات؛ جاءنا بأفضل كتاب على الإطلاق، وهدانا إلى مكارم الأخلاق؛ وحثنا على اتباع المعروف والأمر به، واجتناب المنكر والنهي عنه ﴿كنتم خير أمة أخرجت للناس: تأمرون بالمعروف، وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله﴾.
صلى الله تعالى وسلم عليه: صلاة وسلاماً دائمين بدوام ملك الله! نكون بهما أهلاً لمحبته ورضاه؛ وموطناً لشفاعته يوم نلقاه!
وعلى آله الطاهرين، وأصحابه الطيبين، ومن أحبهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين!
أما بعد: فهذا كتابي [أوضح التفاسير] في طبعته السادسة؛ وقد تناولته الأمة -منذ طبعته الأولى- بالرضا والقبول؛ فضلاً من الله ونعمة!
وهذا وقد نفدت طبعاته السابقة فور صدورها؛ وعاقني عن موالاة إصداره عوائق، وحالت دون إبرازه حوائل. فلما آذن فجره الطلوع، وأذن المولى الكريم بصدوره: جعل الصعب سهلاً، والعسر يسراً؛ وأبدل سبحانه من ضعفى قوة، ومن شيخوختي فتوة؛ فإذا بي أستحف المتاعب؛ وكنت أنوء بحملها. وأستهين بالعقبات؛ وكنت أئن من ثقلها!
﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ وهي بيت المقدس، أو أريحاً؛ وهي بلد بالشام ﴿رَغَداً﴾ الرغد: سعة العيش ﴿وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً﴾ أي حينما تدخلون باب هذه القرية: اسجدو الله تعالى؛ شاكرين فضله وأنعمه ﴿وَقُولُواْ حِطَّةٌ﴾ مسألتنا حطة؛ أي نطلب حط الذنوب عنا. وهو كناية عن التوبة وطلب المغفرة
﴿رِجْزاً﴾ عذاباً ﴿بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ﴾ الفسق: الترك لأمر الله تعالى، والعصيان، والخروج عن طريق الحق، وجادة الصواب
﴿وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ﴾ طلب لهم السقيا من الله تعالى ﴿فَقُلْنَا﴾ له ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ فضربه ﴿فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ وذلك أنه لما اشتد العطش ببهي إسرائيل: طلبوا من موسى عليه السلام أن يدعو ربه ليرسل لهم الماء؛ فدعا الله تعالى؛ فقيل له: ﴿اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ﴾ فضربه ﴿فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً﴾ تفيض بالماء؛ وذلك بعدد رؤساء الجند ﴿قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ﴾ أي قد علم كل فرقة من الجند عينهم التي يشربون منها ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ﴾ العثو: أشد الفساد
﴿لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ﴾ وهو ﴿الْمَنَّ وَالسَّلْوَى﴾ ﴿بَقْلِهَا﴾ البقل: ما تنبته الأرض من الخضر؛ كالفول والفاصوليا واللوبيا، والحمص وأمثالها؛ وهو ما ينبت في بزره لا في أصل ثابت ﴿وَفُومِهَا﴾ الفوم: الثوم. وقيل: الحنطة ﴿الَّذِي هُوَ أَدْنَى﴾ أقل وأحقر ﴿اهْبِطُواْ مِصْراً﴾ المصر: العاصمة. أي اهبطوا مصراً من الأمصار، أو هي مصر نفسها ﴿فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ﴾ من البقل، والقثاء، والفوم، والعدس والبصل.
-[١٢]- ﴿وَضُرِبَتْ﴾ جعلت ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وصارت لزاماً لهم ﴿الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ﴾ أعطاهم الله تعالى جميع ما سألوا، ووهبهم فوق الذي طلبوا؛ فما زادهم ذلك إلا طغياناً وكفراناً؛ فسلبهم العزة، وألبسهم الذلة. وليس المراد بالمسكنة: الفقر نفسه؛ بل المراد لازمه؛ وهو الحقارة، وقلة الشأن، والصَّغار. ومصداق هذه الآية: اضطهاد العالم أجمع لليهود، وتشتيتهم في سائر الممالك؛ حيث لا وحدة تجمعهم، ولا رابطة تضمهم؛ اللهم سوى ما اغتصبه بعض الأفاقين من أرض فلسطين؛ وهو عائد إلى أربابه بإذن رب العالمين ﴿وَبَآءُوا﴾ رجعوا


الصفحة التالية
Icon