﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ تقرير لجملتي ﴿تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك﴾ باعتبار منطوق ﴿إنك أنت علام الغيوب﴾ ومفهومه لأنه يدل بمنطوقه على أنه تعالى لا يعلم الغيب غيره فيكون تقريراً لقوله تعالى: ﴿ولا أعلم ما في نفسك﴾ وقرأ حمزة وشعبة بكسر الغين والباقون بالضم.
﴿ما قلت لهم إلا ما أمرتني به﴾ وهو ﴿أن اعبدوا الله ربي وربكم﴾ أي: فأنا وإياهم في العبودية سواء ﴿وكنت عليهم شهيداً﴾ أي: رقيباً أمنعهم مما يقولون ﴿ما دمت فيهم فلما توفيتني﴾ بالرفع إلى السماء لقوله تعالى: ﴿إني متوفيك ورافعك إليّ﴾ (آل عمران، ٥٥) والتوفّي أخذ الشيء وافياً والموت نوع منه قال الله تعالى: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها﴾ (الزمر، ٤٢) ﴿كنت أنت الرقيب﴾ أي: الحفيظ ﴿عليهم﴾ أي: لأعمالهم ﴿وأنت على كل شيء﴾ من قولي وقولهم وغير ذلك ﴿شهيد﴾ أي: مطلع عالم به.
﴿إن تعذبهم﴾ أي: من أقام على الكفر منهم ﴿فإنهم عبادك﴾ وأنت مالكهم تتصرف فيهم كيف شئت لا اعتراض عليك ﴿وإن تغفر لهم﴾ أي: لمن آمن منهم ﴿فإنك أنت العزيز﴾ أي: الغالب على أمره ﴿الحكيم﴾ في صنعه فإن عذبت فعدل، وإن عفوت ففضل.
﴿قال الله﴾ تعالى ﴿هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾ أي: في الدنيا كعيسى فإنّ النافع ما كان حال التكليف لا صدقهم في الآخرة، وقرأ نافع بنصب الميم على أنه ظرف لقال وخبر هذا محذوف، والمعنى: هذا الذي من كلام عيسى عليه السلام واقع يوم ينفع، والباقون بالرفع على الخبر، وقيل: أراد بالصادقين النبيين، وقال الكلبي: ينفع المؤمنين إيمانهم، وقال قتادة: متكلّمان يخطبان يوم القيامة عيسى عليه الصلاة والسلام وهو ما قصّ الله تعالى وعدوّ الله إبليس، وهو قوله تعالى: وقال الشيطان لما قضي الأمر فصدق عدوّ الله يومئذٍ، وكان كاذباً فلم ينفعه صدقه.
قال: ولما كان عيسى صادقاً في الدنيا والآخرة نفعه صدقه. ثم بيّن تعالى ثوابهم فقال: ﴿لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ وأكد معنى ذلك بقوله تعالى: ﴿أبداً﴾ ولما كان ذلك لا يتمّ إلا برضا الله تعالى قال: ﴿رضي الله عنهم﴾ بطاعته ﴿ورضوا عنه﴾ بثوابه ﴿ذلك﴾ أي: هذا الأمر العليّ لا غيره ﴿الفوز العظيم﴾ وأمّا الكاذبون في الدنيا فلا ينفعهم صدقهم في ذلك اليوم كالكفار لما يؤمنون عند رؤية العذاب.
﴿ملك السموات والأرض﴾ أي: خزائن المطر والنبات والرزق وغيرها ﴿وما فيهنّ﴾ من إنس وجنّ وملك وغيرهم ملكاً وخلقاً، وأتى بما دون من تغليباً لغير العاقل ﴿وهو على كل شيء قدير﴾ ومنه إثابة الصادق وتعذيب الكاذب، قال السيوطي: وخصّ العقل ذاته فليس عليها بقادر، وقوله البيضاوي عن النبيّ ﷺ «من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر عشر حسنات ومحي عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات بعدد كل يهودي ونصراني يتنفس في الدنيا» حديث موضوع.
سورة الأنعام
مكية
روي أنها نزلت بمكة جملة واحدة ليلاً ونزل معها سبعون ألف ملك قد سدّوا ما بين الخافقين لهم زجل بالتسبيح والتحميد والتمجيد فقال رسول الله ﷺ «سبحان ربي العظيم» وخرّ
ويتهلل وجهه يضحك فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم فينزل عند المنارة البيضاء في دمشق بين مهرودتين أي: حلتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين إذا طأطأ رأسه قطر، وإذا رفعه تحدر منه مثل جمان كاللؤلؤ فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه حتى يدركه بباب لد قرية بالشام قريبة من الرملة فيقتله ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ويخبرهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله تعالى إلى عيسى عليه السلام إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فجوّز عبادي إلى الطور ويبعث يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فيمرّ أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ويمرّ آخرهم فيقول: لقد كان بهذه مرّة ماء ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله تعالى فيرسل الله تعالى عليهم النغف في رقابهم وهو بالتحريك دود يكون في أنوف الإبل والغنم كما مرّ واحدتها نغفة فيصبحون فرساً أي: قتلى الواحد فريس، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه رممهم ونتنهم فيرغب نبيّ الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله تعالى عليهم طيراً كأعناق البخت فتحملهم حيث شاء الله تعالى، ثم يرسل
الله تعالى
مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة وهي بالتحريك جمعها زلف مصانع الماء، ويجمع على المزالف أيضاً أي: فتصير الأرض كأنها مصنعة من مصانع الماء، وقيل كالمرآة، وقيل الزلفة الروضة، وقيل بالقاف أيضاً ثم يقال للأرض انبتي ثمرتك وردي بركتك فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ويبارك في الرسل وهو بتحريك الراء والسين من الإبل والغنم من عشرة إلى خمسة وعشرين حتى أن اللقحة من الأبل لتكفي الفئام من الناس وهو مهموز الجماعة الكثيرة واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ من الناس، فبينما هم كذلك إذ بعث الله تعالى عليهم ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم ويبقى شرار الناس يتهارجون فيهاتهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة ﴿وكان وعد ربي﴾ الذي وعد به في خروج يأجوج ومأجوج وإحراقهم الأرض وإفسادهم لها قرب قيام الساعة ﴿حقاً﴾ كائناً لا محالة فلذلك أعان تعالى على هدمه هذا آخر حكاية ذي القرنين. وفي القصة أن ذا القرنين دخل الظلمة فلما رجع توفي بشيرزور وذكر بعضهم أنّ عمره كان نيفاً وثلاثين سنة، سبحان من يدوم عزه وبقاؤه، ثم إنه تعالى قال عاطفاً على ما تقديره فقد بان أمر ذي القرنين أيّ بيان وصدق في قوله فإذا جاء وعد ربي فإنه إذا جاء وعدنا جعلناه بقدرتنا التي نؤتيها ليأجوج ومأجوج دكاً فأخرجناهم على الناس بعد خروج الدجال
﴿
وتركنا بعضهم﴾ أي: يأجوج ومأجوج ﴿يومئذٍ﴾ أي: حين يخرجون ﴿يموج﴾ أي: يضطرب ﴿في بعض﴾ كموج البحر أو يموج بعض الخلق في بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى ويؤيده ﴿ونفخ في الصور﴾ أي: القرن النفخة الثانية لقوله تعالى: ﴿فجمعناهم﴾ أي: الخلائق في مكان واحد يوم
فجوراً لانتفى منها والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إلى داود عليه السلام.
ثانيها: أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته، أما الأول: فأمر منكر قال ﷺ «من سعى في ذم مسلم ولو بشطر كلمة جاء مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله»، وأما الثاني: فمنكر أيضاً قال ﷺ «المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه» فإن أوريا لم يسلم من داود عليه السلام لا في روحه ولا في منكوحه.
ثالثها: إن الله تعالى وصف داود عليه السلام بصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر.
الصفة الأولى: أنه تعالى أمر محمداً ﷺ أن يقتدي بداود عليه السلام في المصابرة على المكاره فلو قلنا: إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم عبد مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل ﷺ بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله تعالى.
الصفة الثانية: أنه وصفه بكونه عبداً له وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في وصف العبودية في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات، فلو قلنا: إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلا في طاعة الهوى والشهوة.
الصفة الثالثة: وهي قوله تعالى ﴿ذا الأيد﴾ أي: ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم.
الصفة الرابعة: كونه أواباً كثير الرجوع إلى الله فكيف يليق هذا الوصف بمن قلبه مشغول بالفسق والفجور.
الصفة الخامسة: قوله تعالى: ﴿إنا سخرنا الجبال معه يسبحن﴾ أَفَتَرى أنه سخرت له الجبال ليتخذ سبيل القتل والفجور؟.
الصفة السادسة: قوله تعالى: ﴿والطير محشورة﴾ قيل: إنه كان محرماً عليه صيد شيء من الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على روحه ومنكوحه.
الصفة السابعة: قوله تعالى: ﴿وشددنا ملكه﴾ ومحال أن يكون المراد أنه تعالى شد ملكه بأسباب الدنيا بل المراد إنا ملكناه بقوى الدين وأسباب سعادة الآخرة، والمراد تشديد ملكه في الدين والدنيا ومن لم يملك نفسه عن القتل والفجور كيف يليق به ذلك.
الصفة الثامنة: قوله تعالى: ﴿وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب﴾ والحكمة اسم جامع لكل ما ينبغي علماً وعملاً فكيف يجوز أن يقال: إنا آتيناه الحكمة وفصل الخطاب مع إصراره على ما يستنكف من مزاحمة أخص أصحابه في الروح والمنكوح، فهذه الصفات التي وصف بها قبل شرح القصة وأما الصفات المذكورة بعد ذكر القصة.
فأولها: قوله تعالى: ﴿وإن له عندنا لزلفى وحسن مآب﴾ وقوله تعالى:
﴿يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض﴾ فكيف أن الله تعالى يجعله خليفة ويقع منه ذلك، وقد روي عن سعيد بن المسيب أن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: من حدثكم بحديث داود على ما ترويه القصاص فاجلدوه مائة جلدة وستين وهو حد الفرية أي: الكذب على الأنبياء، ومما يقوي هذا أنهم قالوا: إن المغيرة بن شعبة زنا وشهد ثلاثة من الصحابة بذلك وأما الرابع فلم يقل إني رأيت ذلك بعيني، فإن عمر رضي الله عنه كذب أولئك الثلاثة وجلد كل واحد
ختم به النبوّة والرسالة، فجعل رسالته محيطة بجميع الملل في التوحيد وغيره على سبيل الحجر ﴿فإن له﴾ أي: خاصة ﴿نار جهنم﴾ أي: التي تلقاه بالعبوسة والغيظ، وقوله تعالى: ﴿خالدين فيها أبداً﴾ حال مقدّرة من الهاء في له. والمعنى: مقدّر خلودهم والعامل الاستقرار الذي تعلق به هذا الجار وحمل على معنى من فعل ذلك، فوحد أوّلاً للفظ وجمع للمعنى. وأكد بقوله تعالى: ﴿فيها﴾ ردًّا على من يدعي الانقطاع. قال البقاعي: وأمّا من يدعي أنها لا تحرق وأنّ عذابها عذوبة فليس أحد أجنّ منه إلا من تابعه على ضلاله وغيه ومحاله، وليس لهم دواء إلا السيف في الدنيا والعذاب في الآخرة بما سموه عذوبة وهم صائرون إليه وموقوفون عليه.
وحتى في قوله تعالى: ﴿حتى إذا رأوا﴾ ابتدائية فيها معنى الغاية لمقدر قبلها أي لا يزالون على كفرهم إلى أن يروا ﴿ما يوعدون﴾ من العذاب في الآخرة أو في الدنيا كوقعة بدر ﴿فسيعلمون﴾ أي: في ذلك اليوم بوعد لا خلف فيه ﴿من أضعف ناصراً﴾ أي: من جهة الناصر أنا وإن كنت في هذا الوقت وحيداً مستضعفاً أو هم ﴿وأقل عدداً﴾ وإن كانوا الآن بحيث لا يحصيهم عدداً إلا الله تعالى، فيالله ما أعظم كلام الرسل حيث يستضعفون أنفسهم ويذكرون قوّتهم من جهة مولاهم الذي بيده الملك، وله جنود السموات والأرض بخلاف الجبابرة، فإنهم لا كلام لهم إلا في تعظيم أنفسهم وازدراء غيرهم.
قال مقاتل: لما سمعوا قوله تعالى: ﴿حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصراً وأقل عدداً﴾ قال النضر بن الحارث: متى يكون هذا الذي توّعدنا به، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم
﴿قل﴾ أي: لهؤلاء في جوابهم بإتيانهم العذاب وسألوا استهزاء عن وقت وقوعه ﴿إن﴾ أي: ما ﴿أدري﴾ بوجه من الوجوه ﴿أقريب ما توعدون﴾ أي: فيكون الآن أو قريباً من هذا الأوان بحيث يتوقع عن قرب، وقوله ﴿أم يجعل﴾ أي: أم بعيد يجعل ﴿له﴾ أي: لهذا الوعد ﴿ربي﴾ أي: المحسن إليّ إن قدمه أو أخره ﴿أمداً﴾ أي: أجلاً مضروباً فلا يتوقع دون ذلك الأمد فهو في كل حال متوقع، فكونوا على غاية الحذر لأنه لا بدّ من وقوعه لا كلام فيه، وإنما الكلام في تعيين وقته وليس إليّ.
فإن قيل: أليس إنه ﷺ قال: «بعثت أنا والساعة كهاتين» فكان عالماً بقرب وقوع القيامة فكيف قال ههنا لا أدري أقريب أم بعيد؟ أجيب: بأنّ المراد بقرب وقوعه هو أنّ ما بقي من الدنيا أقل مما انقضى، فهذا القدر من القرب معلوم، فأمّا معرفة مقدار القرب المرتب وعدم ذلك فغير معلوم.
تنبيه: أقريب خبر مقدّم وما توعدون مبتدأ مؤخر، ويجوز أن يكون قريب مبتدأ لاعتماده على الاستفهام، وما توعدون فاعل به، أي: أقريب الذي توعدون نحو: أقائم أبواك، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء والباقون بسكونها. وقوله تعالى: ﴿عالم الغيب﴾ بدل من ربي أو بيان أو خبر مبتدأ مضمر، أي: هو عالم الغيب كله وهو ما لم يبرز إلى عالم الشهادة فهو مختص بعلمه سبحانه فلذلك سبب عنه قوله تعالى: ﴿فلا يظهر﴾ أي: بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات. ﴿على غيبه﴾ الذي غيبه عن غيره فهو مختص به ﴿أحداً﴾ لعزة علم الغيب ولأنه خاصة الملك. ﴿إلا من ارتضى﴾ وقوله تعالى: ﴿من رسول﴾ تبيين لمن ارتضى، أي: إلا من يصطفيه لرسالته ونبوّته فيظهره على ما يشاء من الغيب، وتارة يكون ذلك الرسول ملكاً، وتارة يكون بشراً، وتارة يظهره على ذلك بواسطة ملك، وتارة بغير واسطة