يا محمد لهؤلاء الكفار من قومك ﴿أغير الله أبغي﴾ أي: أطلب ﴿رباً﴾ أي: إلهاً فأشركه في عبادتي وهذا جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم والهمزة للإنكار أي: منكر أن أبغي رباً غيره ﴿وهو رب كل شيء﴾ فكل من دونه مربوب ليس في الوجود من له الربوبية غيره كما قال تعالى: ﴿قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون﴾ (الزمر، ٦٤)
﴿ولا تكسب كل نفس﴾ ذنباً ﴿إلا عليها﴾ أي: إثم الجاني عليه لا على غيره وقوله تعالى: ﴿ولا تزر﴾ أي: ولا تحمل نفس ﴿وازرة﴾ أي: آثمة ﴿وزر﴾ نفس ﴿أخرى﴾ جواب عن قولهم: اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ﴿ثم إلى ربكم مرجعكم﴾ يوم القيامة ﴿فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون﴾ في الدنيا فيتبين الرشد من الغي والمحق من المبطل.
﴿وهو الذي جعلكم خلائف الأرض﴾ جمع خليفة لأنّ محمداً ﷺ خاتم النبيين فخلفت أمّته سائر الأمم أو يخلف بعضهم بعضاً فيها أو هم خلفاء الله تعالى في أرضه يملكونها ويتصرفون فيها ﴿ورفع بعضكم فوق بعض درجات﴾ أي: في الشرف والرزق ﴿ليبلوكم﴾ أي: ليختبركم ﴿في ما آتاكم﴾ أي: أعطاكم ليظهر المطيع منكم والعاصي.
فائدة: في تكتب مقطوعة عن ما ﴿إنّ ربك سريع العقاب﴾ لمن عصاه لأنّ ما هو آت قريب أو لأنه يسرع إذا أراده ﴿وإنه لغفور﴾ للمؤمنين ﴿رحيم﴾ بهم وصف الله تعالى العقاب ولم يضفه إلى نفسه ووصف تعالى ذاته بالمغفرة وضم إليه الوصف بالرحمة وأتى ببناء المبالغة واللام المؤكدة تنبيهاً على إنه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض كثير الرحمة مبالغ فيها قليل العقوبة مسامح فيها فنسأل الله العظيم أن يسامحنا وأن يغفر زلاتنا ولا يؤاخذنا بسوء أفعالنا وأن يفعل ذلك بوالدينا وأقاربنا وأحبابنا وأصحابنا وجميع المسلمين ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
سورة الأعراف
مكية
إلا ثمان آيات من قوله تعالى ﴿واسئلهم عن القرية﴾ إلى قوله تعالى: ﴿وإذ نتقنا الجبل﴾ محكمة كلها وقيل: إلا قوله تعالى: ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ وعدد آياتها مائتان وخمس آيات وكلماتها ثلاثة آلاف وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة وحروفها أربعة عشر ألفاً وثلاثمائة وعشرة أحرف.
﴿بسم الله﴾ الواحد الذي لا يقدر أحد قدره ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بنعمة البيان من أوجب عليهم شكره ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ودّه فاجتنبوا نهيه وامتثلوا أمره.
﴿المص﴾ سبق الكلام على معاني الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وقوله تعالى:
﴿كتاب﴾ خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو أو هذا أو خبر المص والمراد بالكتاب السورة أو القرآن وقوله تعالى: ﴿أنزل إليك﴾ صفة والخطاب للنبيّ ﷺ ﴿فلا يكن في صدرك حرج﴾ أي: ضيق ﴿منه﴾ أي: لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به مخافة أن تكذب لأنه كان يخاف قومه وتكذيبهم له وإعراضهم عنه وأذاهم كان يضيق صدره من الأذى ولا ينبسط له فأمنه الله ونهاه عن المبالاة بهم، وقيل: الحرج الشك والخطاب للنبيّ ﷺ والمراد أمته وسمي الشك حرجاً لأنّ الشاك ضيق الصدر كما أنّ المتيقن منشرح الصدر وقوله تعالى: ﴿لتنذر﴾ متعلق بأنزل
لأن الماء يسحله أي: يحسره إذا علاه وقوله تعالى: ﴿يأخذه عدوّ لي وعدوّ له﴾ أي: فرعون جواب فليلقه وتكرير عدوّ للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع والثاني باعتبار المتوقع أي: سيصير عدوّاً له بعد ذلك فإنه لم يكن في ذلك الوقت بحيث يعادى، روي أنها اتخذت تابوتاً قال مقاتل: إنّ الذي صنع التابوت حزقيل مؤمن آل فرعون وجعلت في التابوت قطناً محلوجاً فوضعته فيه وجصصته وقيرته ثم ألقته في اليمّ وكان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير فبينما هو جالس على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم إذا بتابوت يجري به الماء فأمر فرعون الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ أصبح الناس وجهاً فأحبه عدوّ الله حباً شديداً لا يتمالك أن يصبر عنه كما قال تعالى: ﴿وألقيت عليك محبة مني﴾ وهذه هي المنة الثانية قال الزمخشري: مني لا يخلو إمّا أن يتعلق بألقيت فيكون المعنى على أني أحببتك ومن أحبه الله أحبته القلوب، وإمّا أن يتعلق بمحذوف وهو صفة لمحبة أي محبة خالصة أو واقعة مني قد ركزتها أنا في القلوب وزرعتها فيها فلذلك أحبك فرعون وآسية حتى قالت قرّة عين لي ولك لا تقتلوه. روي أنه كان على وجهه مسحة جمال وفي عينه ملاحة لا يكاد يصبر عنه من يراه وهو كقوله تعالى: ﴿سيجعل لهم الرحمن ودّاً﴾ (مريم، ٩٦)
المنة الثالثة قوله تعالى ﴿ولتصنع على عيني﴾ أي: تربى على رعايتي وحفظي لك فأنا مراعيك ومراقبك كما يراعي الرجل الشيء بعينه إذا اعتنى به ويقول للصانع اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلا تخالف به عن مرادي وبغيتي.
تنبيه: ولتصنع معطوف على علة مضمرة مثل ليتلطف بك ولتصنع أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلل مثل فعلت ذلك، وقرأ بفتح الياء نافع وابن كثير وأبو عمرو وسكنها الباقون. المنة الرابعة قوله تعالى:
﴿إذ تمشي أختك﴾ والعامل في إذ ألقيت أو تصنع ويجوز أن يكون بدلاً من إذ أوحينا واستشكل بأنّ الوقتين مختلفان متباعدان وأجيب: بأنه يصح مع اتساع الوقت كما يصح أن يقول لك الرجل لقيت فلاناً سنة كذا فتقول وأنا لقيته إذ ذاك وربما لقيه هو في أوّلها وأنت في آخرها ﴿فتقول هل أدلكم على من يكفله﴾ يروى أنّ أخته واسمها مريم جاءت متعرفة خبره فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها وذلك أنه كان لا يقبل ثدي امرأة فقالت لهم ذلك فقالوا نعم فجاءت بالأمّ فقبل ثديها فذلك قوله تعالى: ﴿فرجعناك إلى أمّك كي تقرّ عينها﴾ بلقائك ورؤيتك ﴿ولا تحزن﴾ أي: هي بفراقك أو أنت بفراقها وفقد إشفاقها ويروى أن آسية استوهبته من فرعون وتبنته وهي التي أشفقت عليه وطلبت له المراضع.
المنة الخامسة: قوله تعالى: ﴿وقتلت نفساً﴾ قال ابن عباس: هو الرجل القبطي الذي قتله خطأً بأن وكزه حين استغاثه الإسرائيلي إليه قال الكسائي: كان عمره إذ ذاك اثنتي عشرة سنة ﴿فنجيناك من الغمّ﴾ أي: من غم قتله خوفاً من اقتصاص فرعون كما قال تعالى في آية: ﴿فأصبح في المدينة خائفاً يترقب﴾ (القصص، ١٨)
بالمهاجرة إلى مدين.
المنة السادسة: قوله تعالى: ﴿وفتناك فتوناً﴾ قال ابن عباس: اختبرناك اختباراً وقيل: ابتليناك ابتلاءً، قال ابن عباس: الفتون وقوعه في محنة بعد محنة وخلصه الله تعالى منها أوّلها أنّ أمّه حملته في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال ثم إلقاؤه في البحر في التابوت ثم منعه الرضاع
في الأرض} واختلف فيمن استثنى الله تعالى بقوله سبحانه: ﴿إلا من شاء الله﴾ فقال الحسن: هو الله وحده وقال ابن عباس: جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت عليهم السلام، ثم يميت الله تعالى ميكائيل وإسرافيل وجبريل وملك الموت، وقيل: حملة العرش، وقيل: الحور والولدان، وقيل: الشهداء لقوله تعالى: ﴿بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ (آل عمران: ١٦٩)
وروى أبو هريرة عن النبي ﷺ أنه قال: «هم الشهداء متقلدون أسيافهم حول العرش». وقال جابر: هو موسى عليه السلام لأنه صعق فلا يصعق ثانياً وقال قتادة: الله أعلم بهم وليس في القرآن والأخبار ما يدل على أنهم من هم وهذا أسلم، ﴿ثم نفخ فيه﴾ أي: في الصور نفخة ﴿أخرى﴾ أي: نفخة ثانية ﴿فإذا هم﴾ أي: جميع الخلائق الموتى ﴿قيام﴾ أي: قائمون ﴿ينظرون﴾ أي: يقبلون أبصارهم في الجهات نظر المبهوت إذا فاجأه خطب جسيم، وقيل: ينتظرون أمر الله تعالى فيهم وهذا يدل على أن هذه النفخة متأخرة عن النفخة الأولى لأن لفظة ثم للتراخي، وروى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه: أن رسول الله ﷺ قال: «ما بين النفختين أربعون قالوا: أربعون يوماً، قال أبو هريرة: أبيت، قالوا: أربعون شهراً، قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة، قال: أبيت، قال: ثم ينزل الله تعالى من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظم واحد وهو عجب الذنب ومنه يركب الخلق يوم القيامة» وقوله تعالى: ﴿فإذا هم﴾ يدل على أن قيامهم يحصل عقب هذه النفخة الأخيرة في الحال من غير تراخ لأن الفاء تدل على التعقيب.
ولما ذكر تعالى إقامتهم بالحياة التي هي نور البدن أتبعه بنور أرض القيامة فقال:
﴿وأشرقت﴾ أي: أضاءت إضاءة عظيمة مالت بها إلى الحمرة ﴿الأرض﴾ أي: التي أوجدت لحشرهم وليست بأرضنا الآن لقوله تعالى: ﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض﴾ (إبراهيم: ٨)
. ﴿بنور ربها﴾ أي: خالقها وذلك حين يتجلى الرب لفصل القضاء بين خلقه قال ﷺ «سترون ربكم» وقال: «كما لا تضارون في الشمس في يوم الصحو» وقال الحسن والسدي: بعدل ربها. ﴿ووضع الكتاب﴾ أي: كتاب الأعمال للحساب لقوله تعالى: ﴿وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً﴾ (الإسراء: ١٣)
وقوله تعالى: ﴿ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها﴾ (الكهف: ٤٩)
وقيل: الكتاب اللوح المحفوظ تقابل به الصحف، وقيل: الكتاب الذي أنزل إلى كل أمة تعمل به، واقتصر على هذا البقاعي. ﴿وجيء بالنبيين﴾ أي: للشهادة على أممهم واختلف في قوله تعالى: ﴿والشهداء﴾ فقال ابن عباس: يعني الذين يشهدون للرسل بتبليغ الرسالة وهم: محمد ﷺ وأصحابه لقوله تعالى: ﴿جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس﴾ (البقرة: ١٤٣)
وقال عطاء ومقاتل: يعني الحفظة لقوله تعالى: ﴿وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد﴾ (ق: ٢١)
وقيل: هم المستشهدون في سبيل الله.
ولما بين تعالى أنه يوصل إلى كل واحد حقه عبر عن هذا المعنى بأربع عبارات أولها قوله تعالى: ﴿وقضى بينهم﴾ أي: العباد ﴿بالحق﴾ أي: العدل، ثانيها: قوله تعالى: ﴿وهم لا يظلمون﴾ أي: لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم، ثالثها: قوله تعالى:
﴿ووفيت كل نفس ما عملت﴾ أي: جزاء ما عملته، رابعها: قوله تعالى: ﴿وهو أعلم بما يفعلون﴾ أي: فلا يفوته شيء من أفعالهم ثم فصل التوفية بقوله تعالى مقدماً أهل الغضب:
﴿وسيق الذين كفروا﴾ أي: بالعنف
يخلقه الله تعالى لها في ذلك الفعل، كمن قال: إنّ السكين قطعت بالتحامل عليها بهذا أجرى الله سبحانه وتعالى عادته في الناس ولو شاء غير ذلك فعل، ولا يخفى أنّ هذا هو الحق الذي لا مرية فيه.
ثم علل ذلك بإحاطته بمشيئتهم بقوله تعالى ﴿إنّ الله﴾ أي: المحيط علماً وقدرة ﴿كان﴾ أي: أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي: بما يستأهل كل أحد ﴿حكيماً﴾ أي: بالغ الحكمة فهو يمنع منعاً محكماً من أن يشاء غيره ما لم يأذن فيه فمن علم في جبلته خيراً أعانه عليه، ومن علم منه الشرّ ساقه إليه وحمله عليه وهو معنى قوله تعالى: ﴿يدخل من يشاء﴾ أي: ممن علمه من أهل السعادة ﴿في رحمته﴾ أي: جنته وهم المؤمنون. وقوله تعالى ﴿والظالمين﴾ أي: الكافرين منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: ﴿أعدّ لهم﴾ مثل أوعد وكافأ ليطابق الجمل المعطوف عليها ﴿عذاباً أليماً﴾ أي: مؤلماً فهم فيه خالدون أبد الآبدين.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إنه ﷺ قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على الله جنة وحريراً» حديث موضوع.
سورة المرسلات عرفاً
مكية
في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: ﴿وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون﴾ فمدنية.
وقال ابن مسعود: «نزلت والمرسلات عرفاً على النبيّ ﷺ ليلة الجنّ ونحن معه نسير حتى أوينا إلى غار منى فنزلت، فبينما نحن نتلقاها منه وإن فاه رطب بها إذ وثبت حية فوثبنا عليها لنقتلها فذهبت، فقال النبيّ ﷺ وقيتم شرّها كما وقيت شرّكم» ا. هـ. والغار المذكور مشهور في منى وقد زرته ولله الحمد، وعن كريب مولى ابن عباس قال: قرأت سورة والمرسلات عرفاً فسمعتني أمّ الفضل امرأة العباس فبكت. وقالت: والله يا بني لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة إنها لآخر ما سمعته من رسول الله ﷺ يقرأ بها في صلاة المغرب.
وهي خمسون آية وإحدى وثمانون كلمة وثمانمائة وستة عشر حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الملك الحق المبين ﴿الرحمن﴾ المنعم على الخلق أجمعين ﴿الرحيم﴾ الذي خص بكرامته عباده المؤمنين.
﴿والمرسلات عرفاً﴾ أي: الرياح متتابعة كعرف الفرس يتلو بعضها بعضاً ونصبها على الحال، هذا ما عليه الجمهور من أنها الرياح قال تعالى: ﴿وأرسلنا الرياح﴾ (الحجر: ٢٢)
وقال تعالى: ﴿ويرسل الرياح﴾ (الأعراف: ٥٧)
. وروى مسروق عن عبد الله قال: هي الملائكة أرسلت بالعرف من أمر الله تعالى ونهيه والخير والوحي، وهو قول أبي هريرة ومقاتل والكلبي، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الأنبياء عليهم السلام أرسلوا بلا إله إلا الله. وقال أبو صالح: هم الرسل ترسل بما يعرفون به من المعجزات. وقيل: المراد السحاب لما فيها من نعمة ونقمة عارفة بما أرسلت إليه ومن أرسلت إليه.
﴿فالعاصفات﴾ أي: الرياح الشديدة ﴿عصفاً﴾ أي: عظيماً بما لها من النتائج الصالحة، وقيل: الملائكة شبهت لسرعة جريها في أمر الله تعالى بالرياح، وقيل: الملائكة تعصف بروح الكافر يقال: عصف بالشيء إذا أباده وأهلكه، وناقة عصوف أي: تعصف بركابها فتمضي كأنها ريح في السرعة،