عاصم وحمزة والكسائي بضم الياء والباقون بفتحها ﴿بغير علم﴾ يعتمدونه في ذلك، وقيل: المراد بذلك عمرو بن لحي فمن دونه من المشركين لأنه أوّل من بحر البحائر وسيب السوائب وأباح الميتة وغير دين إبراهيم ﷺ ﴿إن ربك هو أعلم بالمعتدين﴾ أي: الذين تجاوزوا الحق إلى الباطل والحرام إلى الحلال.
﴿وذروا﴾ أي: اتركوا ﴿ظاهر الإثم وباطنه﴾ أي: ما أعلنتم به وما أسررتم به من الذنوب كلها، وقيل: المراد بظاهر الإثم أفعال الجوارح وبباطنه أفعال القلوب فيدخل فيه الحسد والكبر والعجب وإرادة الشرّ للمسلمين ونحو ذلك، وقيل: ظاهر الإثم الزناة في الحوانيت وباطنه المرأة يتخذها الرجل صديقة فيأتيها سراً ﴿إنّ الذين يكسبون الإثم﴾ في الدنيا بارتكاب المعاصي ﴿سيجزون﴾ في الآخرة ﴿بما كانوا يقترفون﴾ أي: يكسبون وظاهر هذا النص يدل على عقاب المذنب ومذهب أهل السنة إنه إذا لم يتب فهو في خطر المشيئة إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه بفضله أمّا إذا تاب من الذنب توبة صحيحة لم يعاقب فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.
﴿ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه﴾ قال ابن عباس: الآية في تحريم الميتات وما في معناها من المنخنقة وغيرها، وقال عطاء: الآية في تحريم الذبائح التي كانوا يذبحونها على اسم الأصنام، واختلف أهل العلم في ذبيحة المسلم إذا لم يذكر اسم الله تعالى عليها فذهب قوم إلى تحريمها سواء أتركت التسمية عمداً أم نسياناً وهو قول ابن سيرين والشعبيّ واحتجوا بظاهر الآية وذهب قوم إلى حلها مطلقاً، ويروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الشافعي وأحمد وذهب قوم إلى أنه إن ترك التسمية عامداً لم تحل أو ناسياً حلت وهو مذهب مالك، ومن قال بالإباحة مطلقاً قال المراد من الآية الميتات وما ذبح على غير اسم الله بدليل قوله تعالى: ﴿وإنه لفسق﴾ أي: ما ذكر عليه اسم غير الله كما قال تعالى في آخر السورة: ﴿قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً﴾ إلى قوله: ﴿أو فسقاً أهل لغير الله به﴾ (الأنعام، ١٤٥)
والضمير لما ويجوز أن يكون للأكل الذي دل عليه لا تأكلوا واحتجوا أيضاً في إباحتها بما روى البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قالوا: يا رسول الله إنّ هنا أقواماً حديث عهدهم بشرك يأتوننا بلحمان فلا ندري أيذكرون اسم الله عليها أم لا؟ قال: «اذكروا أنتم اسم الله وكلوا» فلو كانت التسمية شرطاً للإباحة لكان الشك في وجودها مانعاً من أكلها كالشك في أصل الذبح ﴿وإنّ الشياطين ليوحون﴾ أي: يوسوسون ﴿إلى أوليائهم﴾ من الكفار ﴿ليجادلوكم﴾ في تحليل الميتة بقولهم: تأكلون ما قتلتم أنتم وجوارحكم وتدعون ما قتله الله وهذا يؤيد التأويل بالميتة ﴿وإن أطعتموهم﴾ أي: باستحلال ما حرم ﴿إنكم لمشركون﴾ أي: مثلهم في الشرك، قال الزجاج: فيه دليل على أنّ كل من أحل شيئاً مما حرّم الله أو حرّم شيئاً مما أحلّ الله فهو مشرك.
﴿أو من كان ميتاً﴾ أي: بالكفر ﴿فأحييناه﴾ أي: بالإيمان وإنما جعل الكفر موتاً لأنه جعل الإيمان حياة لأنّ الحي صاحب بصر يهتدي به إلى رشده، ولما كان الإيمان يهدي إلى الفوز العظيم والحياة الأبدية شبه بالحياة، وقرأ نافع بتشديد الياء والباقون بالتخفيف ﴿وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس﴾ أي: يتبصر به الحق من غيره وهو الإيمان، وقال قتادة: هو كتاب الله القرآن بينة من الله مع المؤمن بها يعمل وبها يأخذ وإليها ينتهي ﴿كمن مثله﴾ أي: كمن هو
الكفرة فوعدهم الله تعالى ذلك إذا قوي الإسلام والمعنى سيحدث لهم في القلوب مودة وإمّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم الله إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم، وروي عن كعب قال مكتوب في التوراة لا محبة لأحدٍ في الأرض حتى يكون ابتداؤها من السماء من الله عز وجل ينزلها على أهل السماء ثم على أهل الأرض ومصداق ذلك في القرآن قوله سيجعل لهم الرحمن ودّاً وقال أبو مسلم معناه يهب لهم ما يحبون والودّ والمحبة سواء، ولما ذكر سبحانه وتعالى في هذه السورة التوحيد والنبوّة والحشر والردّ على فرق المبطلين بيّن تعالى أنه يسر ذلك بلسان نبيه ﷺ بقوله:
﴿فإنما يسرناه﴾ أي: القرآن ﴿بلسانك﴾ أي: العربي أي: لولا أنه تعالى نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسر ذلك لك ﴿لتبشر به المتقين﴾ أي: المؤمنين ﴿وتنذر﴾ أي: تخوّف ﴿به قوماً لدّاً﴾ جمع ألد أي: جدل بالباطل وهم كفار مكة ثم إنه تعالى ختم السورة بموعظة عظيمة بليغة فقال تعالى:
﴿وكم﴾ أي: كثيراً ﴿أهكلنا قبلهم من قرن﴾ أي: أمّة من الأمم الماضية بتكذيب الرسل لأنهم إذا تأمّلوا وعلموا أنه لا بدّ من زوال الدنيا وأنه لا بدّ فيها من الموت وخافوا سوء العاقبة في الآخرة كانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب. ثم أكد ذلك بقوله تعالى ﴿هل تحس﴾ أي: ترى وقيل: تجد ﴿منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً﴾ أي: صوتاً خفياً لا قال الحسن بادوا جميعاً فلم يبق منهم عين ولا أثر أي: فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
تنبيه: الركز الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم ومنه ركز الرمح أي: غيبه في الأرض وأخفاه ومنه الركاز وهو المال المدفون لخفائه واستتاره، والحديث الذي ذكره البيضاوي تبعاً للزمخشري وهو «من قرأ سورة مريم أعطى عشر حسنات بعدد من كذب زكريا وصدّق به ويحيى ومريم وعيسى وسائر الأنبياء المذكورين فيها وبعدد من دعا الله في الدنيا ومن لم يدع الله تعالى» حديث موضوع.
سورة طه
مكية
وهي مائة وخمس وثلاثون آية وعدد كلماتها ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة وعدد حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفاً وعن ابن عباس أنّ رسول الله ﷺ قال: أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأوّل وأعطيت طه ويس والطواسين من ألواح موسى وأعطيت فواتيح القرآن وخواتيم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش وأعطيت المفصل نافلة».
﴿بسم الله﴾ الملك الحق المبين ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ نعمه على خلقه أجمعين ﴿الرحيم﴾ الذي خص بجنته عباده المؤمنين وقرأ
﴿طه﴾ شعبة وحمزة والكسائي بإمالة الطاء والهاء ووافقهم ورش وأبو عمرو على إمالة الهاء محضة ولم يمل ورش محضة إلا هذه الهاء وقد تقدّم الكلام في الحروف المقطعة في أوّل سورة البقرة وفي هذه ههنا قولان: الصحيح أنها من تلك وقيل: إنها كلمة مفيدة أما على القول الأوّل فقد تقدّم الكلام فيه في أوّل سورة البقرة والذي زادوه هنا أمور:
أحدها: قال الثعالبي: الطاء شجرة طوبى والهاء الهاوية فكأنه أقسم بالجنة والنار.
ثانيها: يحكى
واحد وديننا واحد وكتابنا واحد فما هذه الخصومة؟ فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا: هو هذا. وعن إبراهيم النخعي قال: لما نزلت قالت الصحابة كيف نختصم ونحن إخوان فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا. وعن أبي العالية: نزلت في أهل القبلة.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ «من كانت لأخيه عنده مظلمة من عرض أو مال فليستحله اليوم قبل أن يؤخذ منه يوم لا دينار ولا درهم فإن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته، وإن لم يكن له أخذ من سيئاته فجعلت عليه». وعن أبي هريرة أيضاً قال: قال رسول الله ﷺ «أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع، قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة وقد كان شتم هذا وقذف هذا وأكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا، فيقضي هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرح في النار».
ثم إنه تعالى بين نوعاً آخر من قبائح أفعالهم بقوله تعالى:
﴿فمن﴾ أي: لا أحد ﴿أظلم﴾ أي: منهم هكذا كان الأصل، ولكن قال تعالى: ﴿ممن كذب﴾ تعميماً ﴿على الله﴾ أي: الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره بنسبة الولد والشريك إليه ﴿وكذب﴾ أي: أوقع التكذيب لكل من أخبره ﴿بالصدق﴾ أي: بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد ﷺ ﴿إذ جاءه﴾ أي: فاجأه بالتكذيب لما سمع من غير وقفة ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يستمعون، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم والباقون بالإدغام، ثم أردف ذلك بالوعيد فقال: ﴿أليس في جهنم﴾ أي: النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله ﴿مثوى﴾ أي: مأوى ﴿للكافرين﴾ أي: لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في للكافرين إشارة إليهم والاستفهام بمعنى التقرير.
ولما ذكر من افترى وكذب ذكر مقابله وهو الذي جاء بالصدق وصدق به بقوله تعالى:
﴿والذي جاء بالصدق﴾ قال قتادة ومقاتل: هو النبي ﷺ ﴿وصدق به﴾ هم المؤمنون فالذي بمعنى الذين ولذلك روعي معناه فجمع في قوله تعالى: ﴿أولئك﴾ أي: العالو الرتبة ﴿هم المتقون﴾ أي: الشرك كما روعي معنى من في قوله تعالى: ﴿للكافرين﴾ فإن الكافرين ظاهر واقع موقع الضمير، إذ الأصل مثوى لهم وكما في قوله تعالى: ﴿مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً﴾ (البقرة: ١٧)
ثم قال ﴿ذهب الله بنورهم﴾ (البقرة: ١٧)
قال الزمخشري: ويجوز أن يريد الفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته رضي الله تعالى عنهم الذين صدقوا به ا. هـ قال أبو حيان: وفيه توزيع للصلة والفوج هو الموصول فهو كقولك: جاء الفريق الذي شرف وشرف، والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى، وقيل: بل الأصل والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله تعالى: ﴿كالذي خاضوا﴾ (التوبة: ٦٩)
قال ابن عادل: وهذا وهم إذ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال: والذي جاؤوا كقوله تعالى: ﴿كالذي خاضوا﴾ ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنى كقوله:
الموتى} قال: سبحانك اللهم بلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري إنّ رسول الله ﷺ قال: «من قرأ سورة القيامة شهدت له أنا وجبريل يوم القيامة أن كان مؤمناً» حديث موضوع.
سورة الإنسان
وتسمى هل أتى والأمشاج والدهر مكية أو مدينة وهي إحدى وثلاثون آية، ومائتان وأربعون كلمة، وألف وأربعة وخمسون حرفاً
واختلف فيها هل هي مكية أو مدينة فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومقاتل والكلبي: مكية وجرى عليه البيضاوي والزمخشري. وقال الجمهور: مدنية، وقال الجلال المحلي: مكية أومدنية ولم يجزم بشيء. وقال الحسن وعكرمة: هي مدنية إلا آية وهي قوله تعالى: ﴿فاصبر لحكم ربك ولاتطع منهم آثماً أو كفوراً﴾ (الإنسان: ٢٤)
وقيل: فيها مكّي من قوله تعالى: ﴿إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلاً﴾ (الإنسان: ٢٣)
إلى آخر السورة وما تقدمه مدنيّ.
﴿بسم الله﴾ الذي له الأسماء الحسنى ﴿الرحمن﴾ الذي عم بنعمه الذكر والأنثى. ﴿الرحيم﴾ الذي خص منهم من شاء لمقام الأسنى.
ولما تم الاستدلال على البعث والقدرة عليه تلاه بهذا الاستفهام وهو قوله تعالى:
﴿هل أتى﴾ قال الزمخشري: بمعنى قد في الاستفهام خاصة والأصل أهل بدليل قول الشاعر:

*سائل فوارس يربوع بسدتنا أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم*
فالمعنى: أقد أتى على التقرير والتقريب جميعاً أي: أتى ﴿على الإنسان﴾ قبل زمان قريب ﴿حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً﴾ أي: كان شيئاً منسياً غير مذكور نطفة في الأصلاب اه. فقوله على التقرير يعني المفهوم من الاستفهام، وقوله: والتقريب يعني المفهوم من قد التي وقع موقعها هل، ومعنى قوله في الاستفهام خاصة أن هل لا تكون بمعنى قد إلا ومعها استفهام لفظاً كالبيت المتقدم أو تقديراً كالآية الكريمة، ولو قلت: هل جاء زيد بمعنى قد جاء من غير استفهام لم يجز. وغيره جعلها بمعنى قد من غير هذا القيد، وجرى عليه الجلال المحلي. واعترض على الزمخشري بأنه لم يذكر غير كونها بمعنى قد. وبقي قيد آخر وهو أن يقول في الجمل الفعلية لأنها متى دخلت على جملة اسمية استحال كونها بمعنى قد؛ لأن قد مختصة بالأفعال وأجيب عنه بأن هذا لا يحتاج إليه؛ لأنه تقرّر أن قد لا تباشر الأسماء.
واختلف في المراد من الإنسان، فقال قتادة وعكرمة والشعبيّ: هو آدم عليه السلام مرّت عليه أربعون سنة قبل أن تنفخ فيه الروح وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية الضحاك أنه خلق من طين فأقام أربعين سنة ثم من حمأ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة ثم خلقه بعد مائة وعشرين سنة ثم نفخ فيه الروح. وحكى الماوردي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنّ الحين المذكور هنا هو الزمن الطويل الممتد الذي لا يعرف مقداره. وقال الحسن: خلق الله


الصفحة التالية
Icon