من نعمه الجليلة في الدنيا والآخرة ﴿وأعدّ لهم جنات تجري تحتها الأنهار﴾ أي: هي كثيرة المياه فكل موضع أردته نبع منه ماء يجري منه نهر. وقرأ ابن كثير بزيادة من تحتها وبجرّ التاء بعد الحاء والباقون بغير من وفتح التاء، ثم نفى سبحانه الانقطاع بقوله تعالى: ﴿خالدين فيها﴾ وأكد المراد من الخلود بقوله تعالى: ﴿أبداً﴾ ثم استأنف مدح هذا الذي أعدّه لهم بقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ أي: الأمر العالي الرتبة ﴿الفوز العظيم﴾ ولما شرح تعالى أحوال منافقي المدينة ثم ذكر بعده أحوال منافقي الأعراب ثم بين أن في الأعراب من هو مؤمن صالح مخلص ثم بين أن رؤساء المؤمنين من هم وهم السابقون والمهاجرون والأنصار، ذكر أنّ جماعة من حول المدينة موصوفون بالنفاق بقوله تعالى:
﴿وممن حولكم﴾ أي: أهل بلدتكم وهي المدينة ﴿من الأعراب منافقون﴾ وهم جهينة وأسلم وأشجع وغفار كانوا نازلين حولها وقوله تعالى: ﴿ومن أهل المدينة﴾ عطف على خبر المبتدأ الذي هو ممن حولكم ويجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ والخبر إذا قدرت: ومن أهل المدينة قوم ﴿مردوا على النفاق﴾ على أن مردوا صفة موصوف محذوف كقول الشاعر:
*أنا ابن جلا وطلاع الثنايا*
أي: أنا ابن رجل جلا فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه.
وقال الزجاج: في الآية تقديم وتأخير والتقدير وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق أي: ثبتوا واستمروا فيه ولم يتوبوا عنه وأصل المرود الملاسة ومنه صرّح ممرّد وغلام أمرد ﴿لا تعلمهم﴾ بأعيانهم أي: يخفون عليك مع فطنتك وشهامتك وصدق فراستك لفرط توقيهم ما يشكك في أمرهم ثم هددهم وبين خسارتهم بقوله تعالى: ﴿نحن نعلمهم﴾ أي: لا يعلمهم إلا الله تعالى ولا يطلع على سرهم غيره لأنهم يبطنون الكفر في سويداوات قلوبهم إبطاناً ويبرزون لك ظاهراً كظاهر المخلصين من المؤمنين لا تشك معه في إيمانهم وذلك أنهم مردوا على النفاق وضروا به فلهم فيه اليد الطولى واختلفوا في تفسير قوله تعالى: ﴿سنعذبهم مرّتين﴾ فقال الكلبي والسدي: قام النبي ﷺ خطيباً يوم الجمعة فقال: «اخرج يا فلان فإنك منافق اخرج يا فلان فإنك منافق» فأخرج من المسجد جماعة من المنافقين وفضحهم فهذا هو العذاب الأوّل والثاني عذاب القبر.
فإن قيل: كيف هذا مع قوله تعالى ﴿لا تعلمهم نحن نعلمهم﴾ ؟ أجيب: بأنه تعالى أعلمه بهم بعد ذلك. وقال مجاهد: الأوّل: القتل والسبي، والثاني: عذاب القبر، وقال ابن زيد: الأوّل: المصائب في الأولاد، والثاني: عذاب الآخرة، وقال ابن عباس: الأوّل: إقامة الحدود عليهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: عذبوا بالجوع مرّتين، وقيل: الأول: ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند قبض أرواحهم، والثاني: عذاب القبر، وقيل: الأوّل: إحراق مسجدهم مسجد الضرار، والثاني: إحراقهم بنار جهنم كما قال تعالى: ﴿ثم يردون﴾ أي: في الآخرة ﴿إلى عذاب عظيم﴾ هو النار وقوله تعالى:
﴿وآخرون﴾ أي: وقوم آخرون مبتدأ وقوله تعالى: ﴿اعترفوا بذنوبهم﴾ ولم يعتذروا من تخلفهم بالمعاذير الكاذبة نعته، والخبر ﴿خلطوا عملاً صالحاً﴾ أي: وهو جهادهم قبل ذلك أو اعترافهم بذنوبهم أو غير ذلك ﴿وآخر سيئاً﴾ أي: وهو تخلفهم ﴿عسى الله أن يتوب عليهم إنّ الله عفور رحيم﴾ يتجاوز عن التائب ويتفضل عليه نزلت في طائفة من المتخلفين عن غزوة
سورة الفرقان
مكية
إلا قوله تعالى: ﴿والذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر﴾ إلى ﴿رحيماً﴾ فمدني، وآياتها سبع وسبعون آية، وثمانمائة واثنان وسبعون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وسبعمائة وثمانون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي له الحجة البالغة ﴿الرحمن﴾ الذي عم الخلق بنعمه ﴿الرحيم﴾ الذي وسعت رحمته كل شيء.
﴿تبارك﴾ قال الزجاج: تفاعل من البركة وهي كثرة الخير وزيادته، ومنه تبارك الله، وفيه معنيان: تزايد خيره وتكاثر، أو تزايد عن كل شيء وتعالى عنه في صفاته وأفعاله، وعن ابن عباس كأن معناه جاءنا بكل بركةوخير، وقال الضحاك: تبارك تعاظم، ولا يستعمل إلا لله تعالى ولا يتصرف فيه، ثم وصف ذاته الشريفة بما يدل على ذلك بقوله تعالى: ﴿الذي نزل الفرقان﴾ أي: القرآن، والفرقان مصدر فرق بين الشيئين إذا فصل بينهما، وسمي به القرآن لفصله بين الحق والباطل ولأنه لم ينزل جملة واحدة، ولكن مفروقاً مفصولاً بين بعضه وبعض في الإنزال؛ ألا ترى قوله تعالى: ﴿وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث﴾ (الإسراء، ١٠٦)
﴿على عبده﴾ أي: محمد ﷺ وأضافه إلى نفسه إضافة تشريف، وفي عود ضمير ﴿ليكون﴾ ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه يعود على الذي نزل أي: ليكون الذي نزل الفرقان نذيراً.
الثاني: أنه يعود على الفرقان أي: ليكون الفرقان نذيراً، وأضاف الإنذار إليه كما أضاف الهداية إليه في قوله تعالى: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم﴾ (الإسراء، ٩)
؛ قال ابن عادل: وهو بعيد؛ لأن المنذر والنذير في صفات الفاعل المخوف ووصف القرآن به مجاز وحمل الكلام على الحقيقة أولى.
الثالث: أنه يعود على عبده أي: ليكون عبده محمد ﷺ ﴿للعالمين نذيراً﴾ أي: وبشيراً، وهذا أحسن الوجوه معنىً وصناعة لقربه مما يعود عليه والضمير يعود على أقرب مذكور، وللعالمين متعلق بنذيراً، وإنما قدّم لأجل الفواصل، ونذيراً بمعنى منذر أي: مخوف ويجوز أن يكون مصدراً بمعى الإنذار كالنكير بمعنى الإنكار ومنه قوله تعالى: ﴿فكيف كان عذابي ونذر﴾ (القمر، ١٦)
تنبيه: المراد بالعالمين قال البقاعي: أي: المكلفين كلهم من الجن والإنس والملائكة اه. ولكن في إرساله للملائكة خلاف بين العلماء، فقد نقل الجلال المحلي في شرحه على «جمع الجوامع» الإجماع على أنه لم يرسل إليهم، وغيره صرح بأنه أرسل إليهم، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.
فإن قيل: قوله تعالى: تبارك يدل على كثرة الخير والبركة، فالمذكور عقبه لا بد وأن يكون مبيناً لكثرة الخير والمنافع، والإنذار يوجب الغم والخوف فكيف يليق ذكره بهذا الموضع؟ أجيب: بأن الإنذار يجري مجرى تأديب الوالد كما أنه كلما كانت المبالغة في تأديب الوالد أكثر كان رجوع الخلق إلى الله تعالى أكثر، وكانت السعادة الأخروية أتم وأكثر، وهذا كالتنبيه على أنه لا التفات إلى المنافع العاجلة؛ لأنه تعالى لما وصف نفسه يعطي الخيرات الكثيرة لم يذكر إلا منافع الدين، ولم يذكر منافع الدنيا البتة، وقوله تعالى:
﴿الذي له ملك السموات والأرض﴾ إشارة إلى احتياج هذه المخلوقات إليه سبحانه وتعالى حال حدوثها، وأنه تعالى هو المتصرف فيها كيف يشاء، فلا إنكار أن يرسل رسولاً إلى كل من فيها.
تنبيه: يجوز في