الجمع الأكبر والكرب الأعظم فيحيل الكل عليه وما أحال بعض الأكابر على بعض إلا علما منهم بأن الختام يكون به ليكون أظهر للاعتراف بإمامته والانقياد لطاعته لأنّ المحيل على المحيل على الشيء محيل على ذلك والحاصل أنه ﷺ تظهر في ذلك الموقف رسالته بالفعل إلى كافة الخلق فيظهر سر هذه الآية ﴿الذين يتبعون الرسول﴾ قال البقاعيّ: ولما دل بالإضافة إلى اسم الذات ما يدل على جميع الصفات على عموم دعوته وشمول رسالته حتى للجنّ والملائكة أيد ذلك بقوله: ﴿الذي له ملك السموات والأرض﴾ فيكون محله جرّاً على الوصف وإن حيل بين الصفة والموصوف بقوله: ﴿إليكم جميعاً﴾ لأنه متعلق المضاف إليه فهو كالمتقدّم عليه قال الزمخشريّ: والأحسن أن يكون محله نصباً بإضمار أعني وهذا الذي يسمى النصب على المدح، قال البيضاوي: أو مبتدأ خبره ﴿لا إله إلا هو﴾ أي: فالكل منقادون لأمره خاضعون له ثم علل ذلك بقوله: ﴿يحيي ويميت﴾ أي: له هاتان الصفتان مختصاً بهما ومن كان كذلك كان منفرداً بما ذكر، قال البقاعيّ: وإذا راجعت ما يأتي إن شاء الله تعالى في أوّل الفرقان مع ما مضى في أوائل الأنعام لم يبق عندك شك في دخول الملائكة عليهم السلام في عموم الدعوة اه.
وقد مرّت الإشارة إلى ذلك ولما أمر الله تعالى رسوله محمداً ﷺ بأن يقول للناس: ﴿إني رسول الله إليكم جميعاً﴾ أمر الله تعالى جميع خلقه بالإيمان به وبرسوله بقوله: ﴿فآمنوا با ورسوله﴾ وذلك أن الإيمان بالله هو الأصل والإيمان برسوله فرع عليه فلهذا بدأ بالإيمان بالله ثم ثنى بالإيمان برسوله ثم وصفه تعالى بقوله: ﴿النبيّ الأميّ﴾ وتقدّم معناهما ﴿الذي يؤمن با وكلماته﴾ أي: بما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه وقال قتادة: المراد بكلماته القرآن، وقال مجاهد: عيسى بن مريم لأنه خلق بقوله: كن فكان ولم يكن من نطفة تمنى، ولهذا سمي كلمة الله وقيل: هو الكلمة التي تكون عنها عيسى وجميع خلقه وهي قوله: ﴿كن﴾ ﴿واتبعوه﴾ أي: واقتدوا به أيها الناس فيما يأمركم به وينهاكم عنه ﴿لعلكم تهتدون﴾ أي: لكي تهتدوا وترشدوا جعل تعالى رجاء الاهتداء أثر الإيمان والاتباع تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شريعته فهو بعد في خطيئة الضلالة.
﴿ومن قوم موسى﴾ أي: من بني إسرائيل ﴿أمة﴾ أي: جماعة ﴿يهدون بالحق﴾ أي: يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق ﴿وبه﴾ أي: بالحق ﴿يعدلون﴾ أي: يحكمون والمراد بتلك الأمّة الثابتون على الإيمان القائلون بالحق من أهل زمان موسى عليه السلام اتبع ذكر المرتابين الكافرين من بني إسرائيل بذكر أضدادهم كما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشرّ وتزاحم أهل الحق والباطل مستمر وقيل: هم الذين أسلموا من اليهود في زمن النبي ﷺ كعبد الله بن سلام وأصحابه ﴿واعترض﴾ بأنهم كانوا قليلين في العدد ولفظ الأمة يقتضي الكثرة، وأجيب: بأنهم لما كانوا مخلصين في الدين جاز إطلاق لفظ الأمة عليهم كما في قوله تعالى: ﴿إنّ إبراهيم كان أمّة﴾ (النحل، ١٢)
وقيل: إنّ بني إسرائيل لما قتلوا أنبياءهم وكفروا وكانوا اثني عشر سبطاً تبرأ سبط منهم مما صنعوا واعتذروا وسألوا الله أن يفرّق بينهم وبين إخوانهم ففتح الله تعالى لهم نفقاً في الأرض فساروا فيه سنة ونصفاً حتى خرجوا من وراء الصين وهم
من الإحسان ما يفعله الراحم بمن يرحمه على وجه عمهم من جميع جهاتهم، فكان ظرفاً لهم، ثم علل ذلك بقوله تعالى: ﴿إنهم من الصالحين﴾ أي: لكل ما يرضاه تعالى منهم يعني أنهم جبلوا جبلة خير، فعملوا على مقتضى ذلك فكانوا من الكاملين في الصلاح وهم الأنبياء لأنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.
القصة الثامنة: قصة يونس عليه الصلاة والسلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿وذا النون﴾ أي: واذكر صاحب الحوت وهو يونس بن متى ويبدل منه ﴿إذ ذهب مغاضباً﴾ واختلفوا في معنى ذلك، فقال الضحاك: مغاضباً لقومه، وهو رواية العوفي وغيره عن ابن عباس قال: كان قوم يونس يسكنون فلسطين، فغزاهم ملك فسبى منهم تسعة أسباط ونصفاً وبقي سبطان ونصف، فأوحى الله تعالى إلى شعيب النبيّ عليه السلام أن سر إلى حزقيل الملك وقل له يوجه نبياً قوياً إلى هؤلاء فإني ألقي في قلوبهم الرعب حتى يرسلوا معه بني إسرائيل فقال له الملك فمن ترى؟ وكان في مملكته خمسة أنبياء فقال يونس: فإنه قويّ أمين، فدعا الملك يونس وأمره أن يخرج فقال يونس: هل أمرك الله بإخراجي قال: لا قال: فهل سماني لك، قال: لا، قال: فههنا أنبياء غيري أقوياء فألحوا عليه، فخرج من بينهم مغاضباً للنبيّ والملك ولقومه، فأتى بحر الروم فركبه، وقال عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وجماعة ذهب عن قومه مغاضباً لربه إذا كشف عن قومه العذاب بعد ما وعدهم به وكره أن يكون بين قوم قد جربوا عليه الخلف فيما وعدهم واستحيا منهم، ولم يعلم السبب الذي رفع به العذاب عنهم، وكان غضبه أنفة من ظهور خلف وعده وأن يسمى كذاباً لا كراهية الحكم لله تعالى.
وفي بعض الأخبار أنه كان من عادة قومه أن يقتلوا من جرب عليه الكذب، فخشي أن يقتلوه لما لم يأتهم العذاب للميعاد، فغضب والمغاضبة ههنا من المفاعلة التي تكون من واحد كالمنافرة والمعاقبة، فمعنى قوله مغاضباً أي: غضباناً.
وقال الحسن: إنما غاضب ربه من أجل أنه أمره بالمسير إلى قوم لينذرهم بأسه ويدعوهم إليه، فسأل ربه أن ينظره ليذهب، فقيل له: إن الأمر أسرع من ذلك حتى سأله أن ينظره إلى أن يأخذ نعلاً يلبسها، فلم ينظره، وكان في خلقه ضيق، فذهب مغاضباً، وعن ابن عباس قال: أتى جبريل يونس فقال: انطلق إلى أهل نينوى فأنذرهم، قال التمس دابة قال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب فانطلق إلى السفينة وقال وهب: إنّ يونس كان عبداً صالحاً، وكان في خلقه ضيق، فلما حمل عليه أثقال النبوّة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها بين يديه وخرج هارباً، فلذلك أخرجه الله تعالى من أولي العزم، فقال تعالى لنبيه ﷺ ﴿فاصبر كما صبر أولو العزم من الرسل﴾ (الأحقاف، ٣٥)، وقال: ﴿ولا تكن كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم﴾ (القلم، ٤٨)
﴿فظن أن لن نقدر عليه﴾ أي: لن نقضي عليه بالعقوبة قاله مجاهد وقتادة والضحاك، وقال عطاء وكثير من العلماء معناه، فظن أن لن نضيق عليه الحبس من قوله تعالى: ﴿الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر﴾ (الرعد، ٢٦)
وعن ابن عباس أنه دخل على معاوية فقال: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصاً إلا بك، قال: وما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه الآية فقال: أويظن نبيّ الله أن لن يقدر عليه، قال هذا من القدر الذي معناه الضيق لا من القدرة، وقال ابن زيد: هو استفهام معناه أفظن أنه يعجز ربه فلا يقدر عليه ﴿فنادى﴾ أي: فاقتضت
﴿ألا إنهم﴾ أي: هؤلاء الكفرة ﴿في مرية﴾ أي: جحد وجدال وشك وضلال عن البعث ﴿من لقاء ربهم﴾ أي: المحسن إليهم بأن خلقهم ورزقهم لإنكارهم البعث، ثم كرر كونه قادراً على البعث وغيره بقوله تعالى: ﴿ألا إنه﴾ أي: هذا المحسن إليهم ﴿بكل شيء﴾ أي: من الأشياء جملتها وتفصيلها كلياتها وجزئياتها أصولها وفروعها غيبتها وشهادتها ملكها وملكوتها ﴿محيط﴾ قدرة وعلماً بكثير الأشياء وقليلها كلياتها وجزئياتها فيجازيهم بكفرهم، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي ﷺ «من قرأ السجدة أعطاه الله بكل حرف عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الشورى
مكية وهي ثلاث وخمسون آية وثمانمائة وست وستون كلمةوثلاثة آلاف وخمسمائة وثمانية وثمانون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي أحاط بصفات الكمال ﴿الرحمن﴾ الذي عمت رحمته سائر عباده ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بما ترضاه إلهيته من رحمته وقوله تعالى:
﴿حم﴾ ﴿عسق﴾ تقدم الكلام في أمثال هذه الفواتح وسئل الحسن بن الفضل: لم قطع حم عسق ولم يقطع كهيعص؟ فقال: لأنها سورة أولها حم فجرت مجرى نظائرها فكان حم مبتدأ وعسق خبره، ولأنهما عدا آيتين وأخواتها مثل كهيعص والمص والمر عدت آية واحدة. وقيل: لأن أهل التأويل لم يختلفوا في كهيعص وأخواتها أنها حروف تهج لا غير. واختلفوا في حم فأخرجها بعضهم من حيز الحروف وجعلها فعلاً، وقيل: معناها حم أي: قضى ما هو كائن، روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ح حلمه م مجده ع علمه س سناؤه ق قدرته أقسم الله تعالى بها. وقال شهر بن حوشب وعطاء بن أبي رباح: ح: حرب قريش يعز فيها الذليل ويذل فيها العزيز في قريش، م: ملك يتحول من قوم إلى قوم، ع: عداوة لقريش يقصدهم سن سنين كسني يوسف تكون فيهم، ق: قدرة الله تعالى النافذة في خلقه. وروي عن ابن عباس أنه قال ليس من نبي صاحب كتاب إلا وأوحيت إليه حم عسق فلذلك قال تعالى:
﴿كذلك﴾ أي: مثل هذا الإيحاء العظيم الشأن ﴿يوحى إليك﴾ أي: ما دمت حياً لا يقطع ذلك عنك ﴿وإلى﴾ أي: وأوحى إلى ﴿الذين من قبلك﴾ أي: من الرسل الكرام والأنبياء الأعلام ومن جملة ما أوحى إليهم أن أمتك أكثر الأمم وأنك أشرف الأنبياء وأخذ على كل منهم العهد باتباعك وأن يكونوا من أنصارك وأتباعك وقوله تعالى: ﴿الله﴾ أي: الذي له الإحاطة بأوصاف الكمال فاعل الإيحاء.
ولما كان نفوذ الأمر دائراً على العزة والحكمة قال تعالى: ﴿العزيز﴾ أي: الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ الذي يصنع ما يصنعه في أتقن محاله فلذلك لا يقدر أحد على نقض ما أبرمه ولا نقص ما أحكمه.
تنبيه: ما تقرر من أن الله تعالى فاعل الإيحاء هو على قراءة كسر الحاء من يوحي وهي قراءة غير ابن كثير، وأما على قراءة ابن كثير بفتح الحاء فيجوز أن يرتفع بفعل مضمر كأنه قيل: من يوحيه فقيل الله ك ﴿يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال﴾ (النور: ٣٦ ـ ٣٧)
ويجوز أن يرتفع بالابتداء وما بعده خبر
الآية قال المشركون: إنّ إبلنا لتسمن على الضريع، وكذبوا في ذلك فإنّ الإبل إنما ترعاه ما دام رطباً ويسمى شبرقاً فإذا يبس لا يأكله شيء. قال أبو ذؤيب يصف حماراً:
*رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى | وصار ضريعاً بان عنه النحائص* |
ولما قالوا ذلك أنزل الله تعالى تكذيباً لهم: ﴿لا يسمن ولا يغني﴾، أي: يكفي كفاية مبتدأة ﴿من جوع﴾ فلا يحفظ الصحة ولا يمنع الهزال فنفى السمن والشبع عنه، وعلى تقدير أن يصدقوا فيكون المعنى: أنّ طعامكم من ضريع ليس من جنس ضريعكم إنما هو ضريع غير مسمن ولا مغن من جوع. فإن قيل: كيف قيل: ﴿ليس لهم طعام إلا من ضريع﴾ وفي الحاقة: ﴿ولا طعام إلا من غسلين﴾ (الحاقة: ٣٦)
أجيب: بأنّ العذاب ألوان والمعذبون طبقات، فمنهم أكلة الزقوم، ومنهم أكلة الغسلين، ومنهم أكلة الضريع لكل باب منهم جزء مقسوم.
ولما ذكر تعالى وعيد الكفار أتبعه بشرح أحوال المؤمنين فقال تعالى: ﴿وجوه يومئذٍ﴾، أي: يوم تغشى الناس ووصفها بصفات الأولى قوله تعالى: ﴿ناعمة﴾، أي: ذات بهجة وحسن كقوله تعالى: ﴿تعرف في وجوههم نضرة النعيم﴾ (المطففين: ٢٤)
أو متنعمة. قال مقاتل: في نعمة وكرامة. الصفة الثانية: قوله تعالى:
﴿لسعيها﴾، أي: في الدنيا بالأعمال الصالحة ﴿راضيةٌ﴾، أي: في الآخرة بثواب سعيها حين رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة الصفة الثالثة قوله تعالى:
﴿في جنة﴾ ثم توصف الجنة بصفات الأولى قوله تعالى: ﴿عالية﴾، أي: علية المحل والقدر، والصفة الثانية: قوله تعالى:
﴿لا يسمع فيها لاغية﴾ قرأ بالتاء الفوقية نافع مضمومة لاغية بالرفع، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالياء التحتية مضمومة لاغية بالرفع لقيامها مقام الفاعل، والباقون بالتاء الفوقية مفتوحة لاغية بالنصب فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي: لا تسمع أنت وأن تكون للتأنيث، أي: لا تسمع الوجوه واللغو. وقال ابن عباس: الكذب والبهتان والكفر بالله تعالى. وقال قتادة: لا با طل ولا إثم. وقال الحسن: هو الشتم. وقال الفراء: الحلف الكاذب، والأولى كما قيل: لا يسمع في كلامهم كلمة ذات لغو، وإنما يتكلمون بالحكمة وحمد الله تعالى على ما رزقهم من النعيم الدائم وهذا أحسن الأقوال قاله القفال. وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين لا برّة ولا فاجرة.
الصفة الثالثة: قوله تعالى: ﴿فيها﴾، أي: الجنة ﴿عين جارية﴾ قال الزمخشري: يريد عيوناً في غاية الكثرة كقوله تعالى: ﴿علمت نفس﴾ (التكوير: ١٤)
وقال القفال: فيها عين شراب جارية على وجه الأرض في غير أخدود، وتجري لهم كما أرادوا.
الصفة الرابعة: قوله تعالى: ﴿فيها سرر مرفوعة﴾، أي: عالية في الهواء. قال ابن عباس: ألواحها من ذهب مكللة بالزبرجد والدر والياقوت مرتفعة في السماء ما لم يجيء أهلها، فإذا أرادوا أن يجلسوا عليها تواضعت ثم ترتفع على مواضعها.
الصفة الخامسة قوله تعالى: ﴿وأكواب موضوعة﴾ جمع كوب، وهي الكيزان التي لا عرى لها. قال قتادة: فهي دون الإبريق.
وفي قوله تعالى: ﴿موضوعة﴾ وجوه أحدها: أنها معدّة لأهلها كالرجل يلتمس من الرجل شيئاً فيقول هو ههنا موضوع بمعنى معدّ. ثانيها: موضوعة على حافات العين الجارية كلما أرادوا الشرب وجدوها مملوءة من الشراب. ثالثها: موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها بسبب كونها من ذهب أو فضة أو من جواهر