عنهما وعليه أكثر المفسرين، وإن قال البيضاوي: إنه تخصيص بغير دليل لأنّ مثل هذا التفسير الوارد عن الصحابي فيما يتعلق بأمر الآخرة له حكم المرفوع وأيضاً حجارة الكبريت أشدّ حرّاً وأكثر التهاباً وتزيد على غيرها من الأحجار سرعة الإيقاد ونتن الريح وكثرة الدخان وشدّة الالتصاق بالأبدان وقيل: جميع الحجارة.
تنبيه: تفعلوا مجزوم بلم لا بإن لأن لم واجبة الإعمال مختصة بالمضارع متصلة بالمعمول، ولأنها لما صيرته ماضياً صارت كالجزء منه، وحرف الشرط كالداخل على المجموع وكأنه قال: فإن تركتم الفعل ولذلك ساغ اجتماعهما وحاصله أن إن تقتضي الاستقبال ولم تقتضي المضيّ فرجحت لم لما ذكر فيكون المعنى على المضيّ دون الاستقبال وقيل: إنّ إن بمعنى إذ ولا إشكال حينئذٍ، وقيل: كل منهما على حقيقته، والمعنى إن تبيّن في المستقبل عدم فعلكم في الماضي ولن تفعلوا في المستقبل فاتقوا النار، ولن كلا في نفي المستقبل غير أنه أبلغ وهو حرف بسيط ثنائي الوضع، وقيل: أصله لا إن حذفت الهمزة منها لكثرتها في الكلام ثم ألف لا لالتقاء الساكنين. ولما كانت الآية مدنية نزلت بعدما نزل بمكة قوله تعالى في سورة التحريم: ﴿ناراً وقودها الناس والحجارة﴾ (التحريم، ٦) وسمعوه صح تعريف النار ووقوع الجملة صلة فإن الصلة يجب أن تكون معلومة وهي معلومة هنا من سورة التحريم حيث وقعت صفة.
فإن قيل: الصفة أيضاً يجب أن تكون معلومة الانتساب إلى الموصوف كالصلة وإلا لكانت خبراً ولهذا قالوا: إن الصفات قبل العلم بها أخبار كما أنّ الأخبار بعد العلم بها أوصاف فيأتي في الصفة في آية التحريم ما ذكر في الصلة أجيب: بأنّ الصلة والصفة يجب كونهما معلومين للمخاطب لا لكل سامع وما في التحريم خطاب للمؤمنين وقد علموا ذلك لسماعهم من النبيّ ﷺ ولما سمع الكفار ذلك الخطاب أدركوا منه ناراً موصوفة بتلك الجملة فجعلت فيما خوطبوا به ﴿أعدّت﴾ أي: هيئت ﴿للكافرين﴾ وجعلت عدّة لعذابهم، وفي ذلك دليل على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن، والجملة استئناف أو حال من النار بإضمار قد، والعامل في الحال اتقوا وهي حال لازمة فلا يشكل بأنّ النار أعدّت للكافرين اتقوها أم لا.
تنبيه: قال البيضاوي: في الآيتين أي: آية ﴿إن كنتم في ريب﴾ وآية ﴿فإن لم تفعلوا﴾ (البقرة، ٢٤) ما يدل على النبوّة من وجوه: الأوّل: ما فيهما أي: في مجموعهما من التحدي والتحريض على الجدّ وبذل الوسع في المعارضة بالتقريع والتهديد وتعليق الوعيد على عدم الإيتان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن العزيز ثم أنهم مع كثرتهم واشتهارهم بالفصاحة وتهالكهم على المضادّة لم يتصدّوا لمعارضته والتجؤوا إلى جلاء الوطن وبذل المهج لأنّ قوله من التحدي راجع للآية الأولى والباقي راجع إلى الثانية، والثاني: تضمنهما أي: مجموعهما الإخبار عن الغيب على ما هو به فإنهم لو عارضوه بشيء لامتنع خفاؤه عادة سيما والطاعنون فيه أكثر من الذابين عنه في كل عصر لأنّ ذلك راجع للآية الثانية، والثالث: أنه عليه الصلاة والسلام لو شك في أمره ـ أي: نفسه ـ لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتذهب حجته، وهذا راجع إلى الآية الأولى. ثم عطف سبحانه وتعالى حال من آمن بالقرآن ووصف ثوابه على حال من كفر به وكيفية عقابه على عادة ما جرت به العادة الإلهية من أن يشفع الترغيب
الله تعالى والاعتراف له بالربوبية، فلم ينفعه ما قال في ذلك الوقت، ومنها: أنّ فرعون كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع الخالق سبحانه وتعالى ولذلك قال: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل، فلم ينفعه ذلك لحصول الشك في إيمانه، ومثل هذا الاعتقاد الفاسد لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية والدلائل اليقينية.
ومنها: ما روي في بعض الكتب أنّ بعض أقوام بني اسرائيل لما جاوزوا البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلما قال فرعون: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو اسرائيل انصرف ذلك إلى العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت فكانت هذه الكلمة في حقه سبباً لزيادة الكفر، ومنها: أنّ الإيمان إنما كان يتم بالإقرار بوحدانية الله تعالى وبالإقرار بنبوّة موسى عليه السلام، وفرعون لم يقرّ بالنبوّة فلم يصح إيمانه، ونظيره أن الواحد من الكفار لو قال ألف مرّة أشهد أن لا إله إلا الله فإنه لا يصح إيمانه إلا إذا قال معه: وأشهد أنّ محمداً رسول الله فكذا هنا. ومنها: أنّ جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتوى، ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه يقول: أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج عن سيده الكافر بنعمته أن يغرّق في البحر، ثم أنّ فرعون لما غرق رفع جبريل عليه السلام إليه خطه. فإن قيل: فما فائدة دس جبريل في فم فرعون ذلك؛ لأنه في تلك الحالة إمّا أن يكون التكليف ثابتاً أم لا؟ فإنّ كان فكيف يمنعه من التوبة، وإن كان غير مكلف فلا فائدة في ذلك؟ أجيب: بأنَّ التكليف كان ثابتاً وجبريل عليه السلام لم يفعل ذلك من قبل نفسه فإنه عبد مأمور، والله تعالى يفعل ما يشاء كما قال تعالى: ﴿فإنّ الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء﴾ (فاطر، ٨). وقال تعالى: ﴿ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أوّل مرّة﴾ (الأنعام، ١١٠) وهكذا فعل بفرعون، منعه من الإيمان عند الموت جزاء على تركه الإيمان أوّلاً، فدس الحما في فم فرعون من جنس الختم والطبع على القلب، ومن الناس من قال: قائل هذا القول هو الله تعالى؛ لأنه ذكر بعده.
﴿فاليوم ننجيك﴾ أي: نخرجك من البحر ﴿ببدنك﴾ أي: جسمك الذي لا روح فيه كاملاً سوياً لم يتغير، أو نخرجك من البحر عرياناً من غير لباس، أو أنّ المراد بالبدن الدرع. قال الليث: البدن هو الدرع الذي يكون قصير الكمين، وهذا منقول عن ابن عباس قال: كان عليه درع من ذهب يعرف، به فأخرجه الله تعالى من الماء مع ذلك الدرع ليعرف ﴿لتكون لمن خلفك﴾ أي: بعدك ﴿آية﴾ أي: عبرة فيعرفوا عبوديتك ولا يقدموا على مثل فعلك. وعن ابن عباس: أنّ بعض بني اسرائيل شكوا في موته، فأخرج لهم ليروه ويشاهده الخلق على ذلك الذلّ والمهانة بعدما سمعوا منه قوله: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ ليعلموا أنّ دعواه كانت باطلة، وأن ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما يرون لعصيانه ربه ﴿وإنّ كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون﴾ أي: لا يعتبرون بها، وهذا الكلام ليس إلا كلام الله تعالى، ولكن القول الأوّل أشهر.
﴿ولقد بوّأنا﴾ أي: أنزلنا ﴿بني اسرائيل مبوّأ صدق﴾ أي: منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام، وإنما وصف المكان بالصدق؛ لأنّ عادة العرب إذا مدحت شيئاً أضافته إلى الصدق، تقول العرب: هذا رجل صدق وقدم صدق، والسبب فيه أنّ الشيء إذا كان كاملاً صالحاً لا بدّ أن يصدق الظنّ فيه. وقيل: أرض
ومن تبعه من أمّته ومن سمعوا من الرسل بأخبارهم مع أممهم من قبلهم، ثم علل الإنذار بقوله تعالى:
﴿ذكرى﴾ أي: تنبيهاً عظيماً على ما فيه النجاة، أو جعل المنذرين نفس الذكرى، كما قال تعالى ﴿قد أنزلنا إليكم ذكراً رسولاً﴾ (الطلاق: ١٠ ـ ١١)
وذلك إشارة إلى إمعانهم في التذكير حتى صاروا إياه ﴿وما كنا ظالمين﴾ أي: في إهلاك شيء منها لأنهم كفروا نعمتنا وعبدوا غيرنا بعد الإعذار إليهم ومتابعة الحجج ومواصلة الوعيد.
تنبيه: الواو في قوله: ﴿وما كنا﴾ واو الحال من نون أهلكنا فإن قيل: كيف عزلت الواو عن الجملة بعد إلا ولم تعزل عنها في قوله تعالى: ﴿وما أهلكنا من قرية إلا ولها كتاب معلوم﴾ ؟ (الحجر: ٤)
أجيب: بأنّ الأصل عزل الواو لأنّ الجملة صفة لقرية وإذا زيدت فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف كما في قوله تعالى: ﴿سبعة وثامنهم كلبهم﴾ (الكهف: ٢٢)
ولما كان الكفرة يقولون إنّ محمداً كاهن وما يتنزل عليه من جنس ما تتنزل به الشياطين، أكذبهم الله سبحانه وتعالى بقوله.
﴿وما تنزلت به الشياطين﴾ أي: ليكون سحراً أو كهانةً أو شعراً أو أضغاث أحلام كما يقولون.
﴿وما ينبغي﴾ أي: وما يصح ﴿لهم﴾ أن يتنزلوا به ﴿وما يستطيعون﴾ أي: التنزل به وإن اشتدّت معاجلتهم على تقدير: أن يكون لهم قابلية لذلك، ثم علل هذا بقوله تعالى:
﴿إنهم عن السمع﴾ أي: لكلام الملائكة ﴿لمعزولون﴾ أي: محجوبون بالشهب، ولما كان القرآن داعياً إلى الله تعالى ناهياً عن عبادة غيره تسبب عن ذلك قوله تعالى:
﴿فلا تدع مع الله﴾ أي: الحائز لكمال الصفات ﴿إلهاً آخر فتكون﴾ أي: فيتسبب عن ذلك أن تكون ﴿من المعذبين﴾ من القادر على ما يريد بأيسر أمر وأسهله، وهذا خطاب لنبيه ﷺ والمراد غيره لأنه معصوم من ذلك، قال ابن عباس: يحذر به غيره يقول أنت أكرم الخلق لديّ وأعزهم عليّ ولئن اتخذت إلهاً غيري لعذبتك فيكون الوعيد أزجر له ويكون هو أقبل، روى محمد بن إسحاق بسنده عن عليّ رضى الله عنه أنه قال لما نزلت على النبيّ صلى الله عليه وسلم
﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ دعاني رسول الله ﷺ فقال يا عليّ إنّ الله أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، وضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أني متى أناديهم بهذا الأمر أرى منهم ما أكره، فصمت عليها حتى جاءني جبريل فقال يا محمد إلا تفعل ما تؤمر يعذبك ربك فاصنع لي صاعاً من طعام واجعل عليه رجل شاة واملأ لنا عساً من لبن، ثم اجمع بني عبد المطلب حتى أبلغهم ما أمرت به ففعلت ما أمرني به، ثم دعوتهم إليه وهم يومئذ أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون رجلاً فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب، فلما اجتمعوا دعاني بالطعام الذي صنعته فجئت به فلما وضعته تناول ﷺ جذبة من اللحم فشقها بأسنانه ثم ألقاها في نواحي الصفحة، ثم قال كلوا بسم الله فأكل القوم حتى ما لهم بشيء من حاجة، وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما قدّمت لجميعهم، ثم قدّمت لجميعهم ثم قال اسق القوم فجئتهم بذلك العس فشربوا حتى رووا جميعاً وايم الله إن كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله، فلما أراد رسول الله ﷺ أن يكلمهم بادره أبو لهب فقال سحركم محمد صاحبكم فتفرّق القوم ولم يكلمهم رسول الله ﷺ فقال يا عليّ إنّ هذا الرجل قد سبقني إلى ما سمعت من القول فتفرّق القوم قبل أن أكملهم فأعد لنا الطعام مثل ما صنعت ثم اجمعهم، ففعلت ثم جمعتهم
والحال أنه من ﴿يبحل﴾ بذلك ﴿فإنما يبخل﴾ بماله بخلا ضارّاً ﴿عن نفسه﴾ فإن نفع الإنفاق وضر البخل عائدان إليه والبخل يعدى بعن وعلى لتضمنه معنى الإمساك والتعدّي فإنه إمساك عمن يستحق ﴿والله﴾ أي: الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ﴿الغني﴾ وحده عن نفقتكم ﴿وأنتم﴾ أيها المكلفون خاصة ﴿الفقراء﴾ لاحتياجكم في جميع أحوالكم إليه ﴿وإن تتولوا﴾ عطف على ﴿وإن تؤمنوا وتتقوا﴾ ﴿يستبدل قوماً غيركم﴾ أي: يخلق قوماً سواكم على خلاف صفتكم راغبين في الإيمان والتقوى ﴿ثم لا يكونوا أمثالكم﴾ في التولي عنه والزهد في الإيمان كقوله تعالى ﴿ويأت بخلق جديد﴾ قيل: هم الملائكة. وقيل الأنصار وعن ابن عباس: كندة والنخع وعن الحسن: العجم وعن عكرمة: فارس والروم «وسئل رسول الله ﷺ عن القوم وكان سلمان إلى جنبه فضرب على فخذه وقال: هذا وقومه والذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطاً بالثريا لتناوله رجال من فارس» رواه الترمذي والحاكم وصححاه وما رواه البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة محمد كان حقاً على الله تعالى أن يسقيه من أنهار الجنة» حديث موضوع.
سورة الفتح
مكية وهي تسع وعشرون آية وخمسمائة وستون كلمةوألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا
﴿بسم الله﴾ أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلما ﴿الرحمن﴾ الذي عم خلقه بنعمه ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل وداده بمزيد فضله روى زيد بن أسلم عن أبيه أنّ عمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان يسير مع رسول الله ﷺ في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه. ثم سأله فلم يجبه قال عمر فحركت بعيري حتى تقدّمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل فيّ قرآن فما نشبت أن سمعت صارخاً يصرخ بي فجئت رسول الله ﷺ فسلمت عليه فقال: «لقد أنزلت عليّ الليلة سورة هي أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ».
﴿إنا فتحنا لك﴾ أي: بما لنا من العظمة التي لا تثبت لها الجبال ﴿فتحناً مبينا﴾ أي: لا لبس فيه على أحد. واختلفوا في هذا الفتح فروى عن أنس أنه فتح مكة. وقال مجاهد: فتح خيبر. والأكثرون على أنه صلح الحديبية. قال أنس: نزلت على النبيّ ﷺ إنا فتحنا لك إلى آخر الآية عند مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطوا الحزن والكآبة فقال: «نزلت علي آية هي أحب إليّ من الدنيا جميعها» فلما تلاها نبيّ الله ﷺ قال رجل من القوم هنيأً مريئاً قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا فأنزل الله تعالى: ﴿ليدخل المؤمنين والمؤمنان جنّات تجري من تحتها الأنهار﴾ حتى ختم الآية. وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الإسلام بالحجة والبرهان والسيف واللسان. وقيل: الفتح الحكم لقوله تعالى ﴿فافتح بيننا وبين قومنا بالحق﴾ (سورة الأعراف، آية: ٨٩)
وقوله تعالى ﴿ثم يفتح بيننا بالحق﴾ (سورة سبأ، آية: ٢٦)
فمن قال هو فتح مكة قال لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه أحدها أنه تعالى لما قال ﴿ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله﴾ إلى أن قال ﴿ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه﴾ بين تعالى أنه فتح لهم مكة وغنموا ديارهم وحصل


الصفحة التالية
Icon