تعالى عنه، وقد كان شوى لهم رأس بعير، فأكلوا منه وشربوا الخمر حتى اشتدّت فيهم، ثم افتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها هجاء للأنصار، وفخر لقومه فأخذ رجل من الأنصار لحى البعير فضرب به رأس سعد فشجه موضحة، فانطلق سعد إلى رسول الله ﷺ وشكا له الأنصاري فقال عمر: اللهمّ بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل: ﴿إنما الخمر والميسر﴾ إلى قوله: ﴿فهل أنتم منتهون﴾ (المائدة، ٩١) فقال عمر رضي الله تعالى عنه: انتهينا يا رب، قال القفال الحكمة في وقوع: التحريم على هذا الترتيب أنّ القوم كانوا ألفوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم به كثيراً، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق عليهم، فاستعمل في التحريم هذا التدريج والرفق،
وسمي عصير العنب والتمر إذا اشتدّ وغلا خمراً؛ لأنه يخمر العقل، كما سمي سكراً؛ لأنه يسكره أي: يحجزه وهو حرام مطلقاً. وكذا كل ما أسكر عند أكثر العلماء، وقال أبو حنيفة: نقيع الزبيب والتمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتدّ حل شربه ما دون السكر. وسمي القمار ميسراً؛ لأنه أخذ مال الغير بيسر والمعنى يسئلونك عن تعاطيهما؛ لقوله تعالى: ﴿قل﴾ لهم ﴿فيهما﴾ أي: في تعاطيهما ﴿إثم كبير﴾ أي: عظيم لما يحصل بسببهما من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش، وقرأ حمزة والكسائي بالثاء المثلثة والباقون بالباء الموحدة.
﴿ومنافع للناس﴾ باللذات والفرح، ومصادقة الفتيان، وتشجيع الجبان، وتوفر المروءة، وتقوية الطبيعة في الخمر، وإصابة المال بلا كدّ في الميسر ﴿وإثمهما﴾ أي: ما ينشأ عنهما من المفاسد ﴿أكبر﴾ أي: أعظم ﴿من نفعهما﴾ المتوقع منهما ولذا قيل: إن هذا هو المحرّم للخمر، فإن المفسدة إذا ترجحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل، والظاهر أن المحرم لها آية المائدة كما مرّ.
﴿ويسئلونك﴾ يا محمد ﴿ماذا ينفقون﴾ وذلك «أن رسول الله ﷺ حثهم على الصدقة فقالوا: ماذا ننفق؟ فقال الله تعالى ﴿قل﴾ لهم ﴿العفو﴾ »، قرأ أبو عمرو برفع الواو بتقدير هو والباقون بنصبها بتقدير أنفقوا، واختلفا في معنى العفو وهو نقيض الجهد فقيل: أن ينفق مالاً يبلغ إنفاقه منه الجهد واستفراغ الوسع، كما قال الشاعر:
*خذي العفو مني تستديمي مودّتي | ولا تنطقي في سورتي حين أغضب |
روي: «أن رجلاً أتى النبيّ ﷺ ببيضة من ذهب أصابها في بعض الغنائم فقال: خذها مني صدقة، فأعرض عنه ﷺ حتى كرّر مراراً، فقال: هاتها مغضباً فأخذها، فحذفه بها حذفاً لو أصابه لشجه ثم قال: «يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ويجلس يتكفف الناس، إنما الصدقة عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول» قال ابن الأثير: والظهر قد يزاد في مثل هذا إشباعاً للكلام وتمكيناً، كأن صدقته مستندة إلى ظهر قويّ من المال. وقال عمرو بن دينار: الوسط من غير إسراف ولا إقتار كما قال تعالى: ﴿والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً﴾ (الفرقان، ٦٧) ﴿كذلك﴾ كما بين لكم ما ذكر ﴿يبين الله لكم الآيات﴾ قال الزجاج: إنما قال كذلك على
إلى الله، وهذا دلّ على أن الدعاء إلى الله إنما يحسن ويجوز مع هذا الشرط وهو أن يكون على بصيرة مما يقول ويقين، فإن لم يكن كذلك وإلا فهو محض الغرور، وقال ﷺ «العلماء أمناء الرسل على عباد الله» من حيث يحفظون ما يدعون إليه.
فائدة: جميع القراء يثبتون الياء وقفاً ووصلاً لثباتها في الرسم ﴿وسبحان﴾، أي: وقل سبحان ﴿الله﴾ تنزيهاً له تعالى عما يشركون به ﴿وما أنا من المشركين﴾، أي: الذين اتخذوا مع الله ضدًّا وندًّا، ولما قال أهل مكة للنبيّ ﷺ هلا بعث الله ملكاً؟ قال تعالى:
﴿وما أرسلنا من قبلك﴾ إلى المكلفين ﴿إلا رجالاً﴾، أي: مثل ما أنك رجل لا ملائكة ولا إناثاً كما قاله ابن عباس، ولا من الجنّ كما قاله الحسن، ﴿يوحى إليهم﴾، أي: بواسطة الملائكة مثل ما يوحي إليك. وقرأ حفص قبل الواو بالنون وكسر الحاء، والباقون بالياء وفتح الحاء وضم الهاء من إليهم حمزة على أصله، وكسرها الباقون ﴿من أهل القرى﴾، أي: من أهل الأمصار والمدن المبنية بالمدر والحجر ونحوه لا من أهل البوادي؛ لأنّ أهل الأمصار أفضل وأعلم وأكمل وأعقل من أهل البوادي، ومكة أم القرى؛ لأنها مجمع لجميع الخلائق لما أمروا به من حج البيت وكان العرب كلهم يأتونها فكيف تعجبوا في حقك؟ قال الحسن: لم يبعث الله نبياً من البادية لغلظهم وجفائهم، ثم هدّدهم سبحانه وتعالى بقوله تعالى: ﴿أفلم يسيروا﴾، أي: هؤلاء المشركون المكذبون ﴿في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم﴾ من المكذبين للرسل والآيات فيحذروا تكذيبك ويعتبروا بهم وبما حلّ بهم من عذابنا. ولما أنّ الله تعالى نجى المؤمنين عند نزول العذاب بالأمم الماضية المكذبة وما في الآخرة خير لهم بين ذلك بقوله تعالى: ﴿ولدار الآخرة﴾، أي: ولدار الحال الآخرة أو الساعة الآخرة أو الحياة الآخرة ﴿خير﴾ وهي الجنة ﴿للذين اتقوا﴾ الله من حياة مآلها الموت، وإن فرحوا فيها بالمحال وإن امتدّت ألف عام وكان عيشها كله رغداً من غير آلام ﴿أفلا يعقلون﴾ فيستعملون عقولهم فيتبعون الداعي إلى هذا السبيل الأقوم. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم بالتاء على الخطاب لأهل مكة، والباقون بالياء على الغيبة لهم وللمشركين المكذبين وقوله تعالى:
﴿حتى إذا استيأس الرسل﴾ غاية لمحذوف دلّ عليه الكلام، أي: لا يغررهم تمادي أيامهم فإنّ من قبلهم أمهلوا حتى أيس الرسل من النصر عليهم في الدنيا ومن إيمانهم لانهماكهم في الكفر مترفين متمادين فيه من غير وازع ﴿وظنوا﴾، أي: أيقن الرسل ﴿أنهم قد كذبوا﴾ بالتشديد كما قرأه غير حمزة وعاصم والكسائي تكذيباً لا إيمان بعده، وأمّا بالتخفيف كما قرأه هؤلاء فالمعنى أنّ الأمم ظنوا أنّ الرسل قد أخلفوا ما وعدوا به من النصر عليهم ﴿جاءهم نصرنا﴾ لهم بخذلان أعدائهم ﴿فنجي من نشاء﴾، أي: النبيّ والمؤمنون، وقرأ ابن عامر وعاصم بنون مضمومة بعدها جيم مشدّدة وياء بعد الجيم مفتوحة، والباقون بنونين الأولى مضمومة والثانية ساكنة وتخفيف الجيم وسكون الياء ﴿ولا يرد بأسنا﴾، أي: عذابنا ﴿عن القوم المجرمين﴾، أي: المشركين ما نزل بهم.
ولما ذكر سبحانه وتعالى هذه القصص وحث على الاعتبار بها بقوله: ﴿أفلم يسيروا﴾ أتبعه بأنّ في أحاديثهم أعظم عبرة فقال حثا على تأملها والاستبصار بها:
﴿لقد كان في قصصهم﴾، أي: يوسف وإخوته أو في قصص الرسل ﴿عبرة﴾، أي: عظة
أن يقول مثل المشرك الذي يعبد الوثن بالقياس إلى المؤمن الذي يعبد الله مثل عنكبوت تتخذ بيتاً بالإضافة إلى رجل يبني بيتاً بآجر وجص أو ينحته من صخر وكان أوهن البيوت إذا استقريتها بيتاً بيتاً بيت العنكبوت كذلك الأديان إذا استقريتها ديناً ديناً عبادة الأوثان، فإن قيل: لم مثل تعالى باتخاذ العنكبوت ولم يمثل بنسجها؟ أجيب: بأنّ نسجها فيه فائدة لولاه لما حصلت وهو اصطياد الذباب به من غير أن يفوتها ما هو أعظم منه واتخاذهم الأوثان يفيدهم ما هو أقل من الذباب من متاع الدنيا ولكن يفوتهم ما هو أعظم منها وهو الدار الآخرة التي هي خير وأبقى فليس اتخاذهم كنسج العنكبوت، تنبيه: نون العنكبوت أصلية والواو والتاء مزيدتان بدليل جمعة على عناكب وتصغيره عنيكب ويذكر ويؤنث فمن التأنيث قوله تعالى ﴿اتخذت﴾ ومن التذكير قول القائل:
*على هطالهم منهم بيوت | كأن العنكبوت هو ابتناها* |
﴿إن الله﴾ أي: الذي له صفات الكمال ﴿يعلم ما﴾ أي: الذي ﴿يدعون﴾ أي: يعبدون ﴿من دونه﴾ أي: غيره ﴿من شيء﴾ أي: سواء كان صنماً أم إنسياً أم جنياً ﴿وهو العزيز﴾ في ملكه ﴿الحكيم﴾ في صنعه، وقرأ أبو عمرو وعاصم يدعون بالياء التحتية، والباقون بالفوقية، ولما ذكر مثلهم وما تتوقف صحته عليه كان كأنه قيل: على وجه التعظيم: هذا المثل مثلهم فعطف عليه قوله تعالى إشارة إلى أمثال القرآن كلها تعظيماً لها وتنبيهاً على جليل قدرها وعلوّ شأنها.
﴿وتلك الأمثال﴾ أي: العالية عن أن تنال بنوع احتيال، ثم استأنف قوله تعالى ﴿نضربها﴾ أي: بمالنا من العظمة بياناً ﴿للناس﴾ أي: تصويراً للمعاني المعقولات بصور المحسوسات لعلها تقرب من عقولهم فينتفعوا بها، وهكذا حال التشبيهات كلها هي طرق إلى إفهام المعاني المحتجبة في الأستار تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها، روي أنّ الكفار قالوا كيف يضرب خالق الأرض والسموات الأمثال بالهوام والحشرات كالذباب والبعوض والعنكبوت؟ فقال الله تعالى مجهلاً لهم: ﴿وما يعقلها﴾ أي: حق تعقلها فينتفع بها ﴿إلا العالمون﴾ أي: الذين هيؤا للعلم وجعل طبعاً لهم بما بث في قلوبهم من أنواره وأشرق في صدورهم من أسراره، فهم يضعون الأشياء مواضعها، روى الحارث بن أبي أسامة عن جابر أنّ النبي ﷺ قال: «العالم: الذي عقل عن الله وعمل بطاعته واجتنب سخطه» قال البغويّ: والمثل كلام سائر يتضمن تشبيه الآخر بالأوّل يريد أمثال القرآن التي يشبه بها أحوال كفار هذه الأمّة بأحوال كفار الأمم المتقدّمة، ولما قدّم تعالى أنه لا معجز له سبحانه ولا ناصر لمن خذله استدل على ذلك بقوله تعالى:
﴿خلق الله﴾ أي: الذي لا يدانى في عظمته ﴿السموات والأرض بالحق﴾ أي: الأمر الذي يطابقه الواقع، أو بسبب إثبات الحق وإبطال الباطل، أو بسبب أنه محق غير قاصد به باطلاً فإنّ المقصود بالذات من خلقهما إفاضة الجود والدلالة على ذاته وصفاته كما أشار
تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ «من قرأ سورة والنجم
أعطاه الله عشر حسنات بعدد من صدق بمحمد ﷺ وجحد به» حديث موضوع.
سورة القمر
وتسمى اقتربت
مكية إلا ﴿سيهزم الجمع ويولون الدبر﴾ الآياتوهي خمس وخمسون آية وثلاثمائة واثنتان وأربعونكلمة وألف وأربعمائة وثلاثة وعشرون حرفاً
﴿بسم الله﴾ أي الذي أحاط علمه فتمت قدرته ﴿الرحمن﴾ الذي وسعت رحمته كل شيء فعمت الشقي والسعيد نعمته ﴿الرحيم﴾ الذي خص بإتمام نعمته من اصطفاه فأسعدتهم رحمته.
﴿اقتربت الساعة﴾ دنت القيامة وفي أول هذه السورة مناسبة لآخر ما قبلها، وهو قوله تعالى: ﴿أزفت الأزفة﴾ (النجم: ٥٧)
فكأنه أعاد ذلك مستدلاً عليه بقوله تعالى: ﴿أزفت الأزفة﴾ فهو حق إذ القمر انشق. وقوله تعالى: ﴿وانشق القمر﴾ ماض على حقيقته وهو قول عامّة المسلمين إلا من لا يلتفت إلى قوله وقد صح في الأخبار أنّ القمر انشق على عهد