قال عيسى: إن أحييته تتركني أنا وأمي نذهب حيث نشاء؟ قال: نعم فدعا الله تعالى فعاش الغلام، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تبادروا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمّه فمرّوا بالحواريين وهم يصطادون السمك فقال: ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك قالوا: ومن أنت؟ قال: عيسى بن مريم عبد الله ورسوله فقالوا: ﴿آمنا﴾ أي: صدقنا ﴿با واشهد﴾ يا عيسى ﴿بأنا مسلمون﴾ لتشهد لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم وعليهم.
﴿ربنا آمنا بما أنزلت﴾ من الإنجيل ﴿واتبعنا الرسول﴾ عيسى ﴿فاكتبنا مع الشاهدين﴾ لك بالوحدانية أو مع النبيين الذين يشهدون لأتباعهم أو مع أمّة محمد ﷺ فإنهم شهداء على الناس وقال الحسن: كانوا قصارين سموا بذلك؛ لأنهم كانوا يحورون الثياب أي: يبيضونها، وعلى الأوّل سموا حواريين لبياض ثيابهم. وقال عطاء: سلمت مريم عيسى إلى أعمال شتى فكان آخر ما دفعته إلى الحواريين وكانوا قصارين وصباغين فدعته إلى رئيسهم ليتعلم منه فاجتمع عنده ثياب وعرض له سفر فقال: يا عيسى إنك قد تعلمت هذه الحرفة وأنا خارج في سفر لا أرجع إلى عشرة أيام وهذه ثياب مختلفة الألوان وقد علمت على كل واحد منها بخيط على اللون الذي يصبغ به فيجب أن تكون فارغاً منها عند قدومي، وخرج فطبخ عيسى جباً واحداً على لون واحد وأدخل فيه جميع الثياب وقال: كوني بإذن الله تعالى على ما أريد منك فقدم الحواري والثياب كلها في الجب فقال: ما فعلت؟ قال: فرغت منها قال: أين هي؟ قال: في الجب قال: كلها؟ قال: نعم قال: لقد أفسدت تلك الثياب فقال: قم فانظر فأخرج عيسى ثوباً أصفر وثوباً أخضر وثوباً أحمر إلى أن أخرجها على الألوان التي أرادها، فجعل الحواري يتعجب وعلم أنّ ذلك من الله تعالى، فقال للناس: تعالوا فانظروا فآمن هو وأصحابه وهم الحواريون وقال الكلبي وعكرمة: الحواريون الأصفياء وهم كانوا أصفياء عيسى أوّل من آمن به وكانوا اثني عشر من الحور وهو البياض الخاص، وحواري الرجل صفوته وخالصته. وقيل للحضريات الحواريات لخلوص ألوانهنّ ونظافتهن قال القائل:
*فقل للحواريات يبكين غيرنا | ولا تبكنا إلا الكلاب النوابح* |
﴿ومكروا﴾ أي: كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر به، وذلك أن عيسى عليه الصلاة والسلام بعد إخراج قومه إياه وأمّه عاد إليهم مع الحواريين وصاح فيهم بالدعوة فهموا بقتله وتواطؤوا على الفتك به ووكلوا به من يقتله غيلة ـ وهي بالكسر ـ أن يخدع غيره فيذهب به إلى موضع فإذا صار إليه قتله فذلك مكرهم إذ المكر من المخلوق الخبث والخديعة والحيلة، وأمّا من الخالق وهو قوله تعالى: ﴿ومكر الله﴾ أي: بهم ﴿والله خير الماكرين﴾ أي: أعلمهم به، فقال الزجاج: مجازاتهم على مكرهم فسمي الجزاء باسم الإبتداء؛ لأنه في مقابلته كقوله تعالى: ﴿الله يستهزىء بهم﴾ (البقرة، ١٥) وهو خادعهم ومكر الله تعالى بهم في هذه الآية بأن ألقى شبهه على صاحبهم الذي أراد قتل عيسى حتى قتل.
روي أنّ عيسى استقبل رهطاً من اليهود فلما رأوه قالوا: قد جاء الساحر ابن الساحرة والفاعل ابن الفاعلة فقذفوه وأمه، فلما سمع ذلك عيسى دعا عليهم ولعنهم فمسخهم الله خنازير، فلما رأى ذلك
ومقاتل والضحاك عن ابن عباس أنه قال: إنّ عن يمين العرش نهراً من نور مثل السموات السبع والأرضين السبع والبحار السبعة يدخل فيه جبريل كل يوم ويغتسل فيزداد نوراً إلى نوره وجمالاً إلى جماله ثم ينتفض فيخلق الله تعالى من كل نفضة تقع من ريشه تقع كذا وكذا ألف ملك يدخل كل يوم منهم سبعون ألفاً البيت المعمور وفي الكعبة أيضاً سبعون ألفاً لا يعودون إليه إلى أن تقوم الساعة سبحان من له هذا الملك العظيم، قال تعالى: ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾ (المدثر/ ٣١).
وفسر قتادة الآية بالسوس في النبات والدود في الفواكه وفسرها بعضهم بما أعدّ الله تعالى لأهل الجنة في الجنة بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ولما شرح الله تعالى دلائل التوحيد قال تعالى:
﴿وعلى الله﴾ أي: الذي له الإحاطة بكل شيء ﴿قصد السبيل﴾ أي: بيان الطريق المستقيم إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحها إزاحة للعذر وإزالة للعلة ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة والمراد بالسبيل الجنس ولذلك أضاف إليها القصد. وقال: ﴿ومنها﴾ أي: السبيل ﴿جائر﴾ أي: حائد عن الاستقامة. فإن قيل: هذه الآية تدلّ على أنّ الله تعالى يجب عليه الإرشاد والهداية إلى الدين وإزاحة العلل والأعذار كما قال به المعتزلة لأنه تعالى قال: ﴿وعلى الله قصد السبيل﴾. وكلمة على للوجوب. قال تعالى: ﴿ولله على الناس حج البيت﴾ (آل عمران، ٩٧)
أجيب: بأنّ المراد على الله تعالى بحسب الفضل والكرم أن يبين الدين الحق والمذهب الصحيح. فإن قيل: لم غير أسلوب الكلام حيث قال في الأوّل: ﴿وعلى الله قصد السبيل﴾. وفي الثاني: ﴿ومنها جائر﴾ دون وعليه جائر؟ أجيب: بأنّ المقصود بيان سبيله وتقسيم السبيل إلى القصد والجائر إنما جاء بالعرض. ثم قال تعالى: ﴿ولو شاء﴾ هدايتكم ﴿لهداكم﴾ إلى قصد السبيل ﴿أجمعين﴾ فتهتدون إليه باختيار منكم. قال الرازي: وهذا يدلّ على أنّ الله تعالى ما شاء هداية الكفار وما أراد منهم الإيمان لأنّ كلمة لو تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره. ولما ذكر تعالى نعمه على عباده بخلق الحيوانات لأجل الانتفاع والزينة عقبه بذكر إنزال المطر لأنه من أعظم النعم على عباده فقال:
﴿هو﴾ أي: لا غيره مما تدعى فيه الإلهية ﴿الذي أنزل﴾ أي: بقدرته الباهرة ﴿من السماء﴾ إمّا من نفسها أو من غيرها أو من جهتها أو من السحاب كما هو مشاهد ﴿ماء﴾ أي: واحداً تحسونه بالذوق والبصر ﴿لكم منه﴾ أي: من ذلك الماء ﴿شراب﴾ أي: تشربونه وقد بيّن تعالى في آية أخرى أنّ هذه النعمة جليلة فقال: ﴿وجعلنا من الماء كل شيء حيّ﴾ (الأنبياء، ٣٠)
. فإن قيل: ظاهر هذا أنّ شرابنا ليس إلا من المطر؟ أجيب: بأنه تعالى لم ينف أن يشرب من غيره وبتقدير الحصر لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ماء المطر سكن هناك بدليل قوله في سورة المؤمنون: ﴿وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض﴾ (المؤمنون، ١٨)
. ﴿ومنه﴾ أي: من الماء ﴿شجر﴾ أي: ينبت بسببه والشجر هنا كل نبات من الأرض حتى الكلأ وفي الحديث: «لا تأكلوا ثمن الشجر فإنه سحت» يعني الكلأ. فإن قيل: قال المفسرون: في قوله تعالى: ﴿والنجم والشجر يسجدان﴾ (الرحمن، ٦)
المراد من النجم ما ينجم من الأرض مما ليس له ساق ومن الشجر ما له ساق؟ أجيب: بأن عطف الجنس على النوع وبالضدّ مشهور وأيضاً فلفظ الشجر يشعر بالاختلاط يقال: تشاجر القوم إذا اختلط
واحد منهما إلى واحد كما قال تعالى:
﴿ما جعل الله﴾ أي: الذي له الحكمة البالغة والعظمة الباهرة ﴿لرجل﴾ أي: لأحد من بني آدم ولا غيره، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب أولى، وأشار إلى التأكيد بقوله تعالى: ﴿من قلبين﴾ وأكد الحقيقة وقررها وجلاها وصورها بقوله تعالى: ﴿في جوفه﴾ أي: ما جمع الله تعالى قلبين في جوف؛ لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني أولاً، ومنبع القوى بأسرها ومدبر البدن بإذن الله تعالى وذلك يمنع التعدد ﴿وما جعل أزواجكم اللائي﴾ أباح لكم التمتع بهن ﴿تظاهرون منهن﴾ كما يقول الإنسان للواحدة منهن: أنت عليّ كظهر أمي ﴿أمهاتكم﴾ بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها ﴿وما جعل أدعياءكم﴾ جمع دعيّ وهو من يدعي لغير أبيه ﴿أبناءكم﴾ حقيقة ليجعل لهم إرثكم ويحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة، وهما حالتان متنافيتان ولم ير أيضاً أن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابناً له؛ لأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها النبي ﷺ وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار النبي ﷺ فقال له أبوه وعمه:
يا زيد أتختار العبودية على الربوبية قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله ﷺ حرصه عليه أعتقه وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون: تزوج امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيه، وكذا قوله تعالى: ﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم﴾ (الأحزاب: ٤٠)
وروي أن رجلاً كان يسمى أبا معمر جميل بن معمر الفهري وكان رجلاً لبيباً حافظاً لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له: ما فعل الناس فقال له: بين مقتول وهارب فقال له: فما بالك إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله»، وقولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني.
وعن ابن عباس: «كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان فأكذبهم
عن النبي ﷺ قال «مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا إلى نصف النهار فقالوا: لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل، فقال لهم: لا تفعلوا أكملوا بقية عملكم وخذوا أجركم كاملاً فأبوا وتركوا واستأجر آخرين من بعدهم فقال: أكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطت لهم من الأجر فعملوا حتى
إذا كان حين صلاة العصر قالوا ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه فقال: أكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا فاستأجر آخرين على أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكلموا أجر الفريقين كلاهما فذلك مثلهم ومثل ما بقوا من هذا النور». وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله» حديث موضوع.
سورة المجادلة
مدنية
في قول الجميع الأرواية عن عطاء إلا العشر الأول منها مدني وباقيها مكي، وقال الكلبي: نزل جميعها بالمدينة غير قوله تعالى: ﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾ نزلت بمكة وهي اثنتان وعشرون آية وأربعمائة وثلاث وسبعون كلمة وألف وسبعمائة واثنان وسبعون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي تمت قدرته وكملت جميع صفاته ﴿الرحمن﴾ الذي شمل الخلائق جوداً بالإيجاد وإرسال الهداة ﴿الرحيم﴾ الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته
ونزل في خولة بنت ثعلبة وكانت تحت أوس بن الصامت وكان قد ظاهر منها.
﴿قد سمع الله﴾ أي: أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات ﴿قول التي تجادلك﴾ أي: تراجعك أيها النبيّ ﴿في زوجها﴾ المظاهر منها روي «أنّ عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مرّ بها في خلافته وهو على حمار والناس معه، فاستوقفته طويلاً ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عميراً ثم قيل لك: عمر ثم قيل لك: أمير المؤمنين فاتق الله يا عمر فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت ومن أيقن بالحساب خاف العذاب وهو واقف يسمع كلامها فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الموقف فقال: والله لو حبستني من أول النهار إلى آخره لا زلت إلا للصلاة المكتوبة أتدرون من هذه العجوز هي: خولة بنت ثعلبة سمع الله تعالى قولها من فوق سبع سموات أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر» وعن عائشة: «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله ﷺ وهي تقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهمّ إني أشكو إليك، فما برحت حتى نزل بهذه الآية ﴿قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها﴾ الآية. وروي «أنها كانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها، قال عروة: وكان امرأ به لمم فأصابه بعض لممه فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبي ﷺ فقالت: