الناس: ويحك أي شيء صنعت إنه قد أسلم فرجع عياش إلى رسول الله ﷺ وقال له: قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلنه فنزلت الآية.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿إلا خطأ﴾ إمّا منصوب على الحال أي: وليس من شأن المؤمن أن يقتل مؤمناً في حالة من الأحوال إلا حال الخطأ، وإما مفعول لأجله أي: لا يقتله لعلة إلا للخطأ، وقيل: إلا بمعنى ولا، أي: ليس له قتله في حال من الأحوال ولا خطأ نظير قوله تعالى: ﴿إني لا يخاف لديّ المرسلون إلا من ظلم﴾ (النمل، ١٠ ـ ١١)
وقوله: ﴿لئلا يكون للناس على الله حجة إلا الذين ظلموا منهم﴾ (النساء، ١٦٥)
﴿ومن قتل مؤمناً خطأً﴾ كأن قصد رمي غيره كصيد أو شجر فأصابه ﴿فتحرير رقبة﴾ أي: فعليه أي: فواجبه تحرير رقبة كاملة الرق فلا يجزىء مكاتب كتابة صحيحة ولا أم ولد والتحرير الإعتاق ويعبر عن النسمة بالرقبة كما يعبر عنها بالرأس ﴿مؤمنة﴾ أي: محكوم بإسلامها وإن كانت صغيرة ولو كان إسلامها بتبعية الدار أو السابي سليمة عما يخلّ بالعمل ﴿ودية مسلمة﴾ أي: مؤدّاة ﴿إلى أهله﴾ أي: ورثة المقتول يقتسمونها كسائر المواريث ﴿إلا أن يصدّقوا﴾ أي: يتصدّقوا بها عليه بأن يعفوا عنها، وسمي العفو عنها صدقة حثاً عليه وتنبيهاً على فضله، قال ﷺ «كل معروف صدقة».
وبينت السنة أنّ ديّة الخطأ مئة من الإبل عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن لبون وعشرون حقة وعشرون جذعة، وإن عاقلة القاتل تتحملها عنه وهم عصبيته لا أصله وفرعه موزعة عليهم على ثلاث سنين على الغني منهم نصف دينار والمتوسط ربع دينار كل سنة فإن لم يفوا فمن بيت المال، فإن تعذر فعلى الجاني ﴿فإن كان﴾ أي: المقتول: ﴿من قوم عدوّ لكم﴾ أي: محاربين ﴿وهو﴾ أي: والحال أنه ﴿مؤمن﴾ أي: ولم يعلم القاتل إيمانه ﴿فتحرير﴾ أي: فالواجب على القاتل تحرير ﴿رقبة مؤمنة﴾ ولا دية تسلم إلى أهله إذ لا وراثة بينه وبينهم؛ لأنهم محاربون ﴿وإن كان﴾ أي: المقتول ﴿من قوم﴾ أي: كفرة أيضاً عدوّ لكم ﴿بينكم وبينهم ميثاق﴾ أي: عهد كأهل الذمّة وهو كافر مثلهم ﴿فدية﴾ أي: فالواجب فيه دية ﴿مسلمة﴾ أي: مؤدّاة ﴿إلى أهله﴾ وهي ثلث دية المؤمن إن كان نصرانياً أو يهودياً تحل مناكحته، وثلثا عشرها إن كان مجوسياً أو كتابياً لا تحلّ مناكحته ﴿وتحرير رقبة مؤمنة﴾ على قاتله ﴿فمن لم يجد﴾ أي: الرقبة بأن فقدها وما يحصلها به ﴿فصيام﴾ أى: فالواجب عليه صيام ﴿شهرين متتابعين﴾ حتى لو أفطر يوماً واحداً لغير حيض أو نفاس وجب الاستئناف، ولم يذكر تعالى الانتقال إلى الطعام كالظهار، وبه قال الشافعيّ رضي الله تعالى عنه في أصح قوليه وقوله تعالى: ﴿توبة من الله﴾ نصب على المصدر أي: وتاب عليكم توبة، أو على المفعول له أي: وشرع لكم ذلك توبة مأخوذة من تاب الله عليه إذا قبل توبته ﴿وكان الله﴾ أي: ولم يزل ﴿عليماً﴾ أي: بأحوالكم وبما يصلحكم في الدنيا والآخرة ﴿حكيماً﴾ فيما دبره لكم من نصب الزواجر بالكفارات أو غيرها فالزموا أوامره وباعدوا زواجره لتفوزوا بالعلم والحكمة.
﴿ومن يقتل مؤمناً متعمداً﴾ بأن يقصد قتله بما يقتل غالباً عالماً بإيمانه ﴿فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه﴾ أي: أبعده من رحمته ﴿وأعدّ له عذاباً عظيماً﴾ في النار وهذا مخصوص بالمستحلّ له كما قاله عكرمة وغيره، ويؤيده أنّ الآية نزلت في نفيس بن ضبابة وجد أخاه هشاماً قتيلاً في بني
عنه قال: المؤمن أكرم على الله من الملائكة عنده. رواه البغوي ورواه الواحدي في بسيطه. فإن قيل: قال تعالى في أوّل الآية: ﴿ولقد كرّمنا بني آدم﴾ وقال في آخرها: ﴿وفضلناهم﴾ فلا بدّ من الفرق بين التكريم والتفضيل وإلا لزم التكرار؟ أجيب: بأنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية كالعقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم أنه سبحانه وتعالى عرّضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة. ولما ذكر تعالى أنواع كرامات الإنسان في الدنيا شرح أحوال درجاته في الآخرة بقوله تعالى:
﴿يوم﴾ أي: اذكر يوم ﴿ندعو﴾ أي: بتلك العظمة ﴿كل أناس﴾ أي: منكم ﴿بإمامهم﴾ الإمام في اللغة كل من ائتمّ به قوم كانوا على هدى أو ضلالة فالنبيّ إمام أمّته والخليفة إمام رعيته والقرآن إمام المسلمين، وإمام القوم هو الذي يقتدون به في الصلاة. وذكروا في تفسير الإمام هنا أقوالاً أحدها إمامهم نبيهم. روي ذلك مرفوعاً عن أبي هريرة عن النبيّ ﷺ «فينادى يوم القيامة يا أمّة إبراهيم يا أمّة موسى يا أمّة عيسى يا أمّة محمد ﷺ فيقوم أهل الحق الذين اتبعوا الأنبياء فيأخذون كتبهم بأيمانهم ثم ينادى الأتباع يا أتباع ثمود يا أتباع فرعون يا أتباع فلان وفلان من رؤوساء الضلال وأكابر الكفر». الثاني: أنّ إمامهم كتابهم الذي أنزل عليهم فينادى في القيامة يا أهل القرآن، يا أهل التوراة، يا أهل الإنجيل. الثالث: إمامهم كتاب أعمالهم قال تعالى: ﴿وكل شيء أحصيناه في إمام مبين﴾ (يس ١٢)
فسمى الله تعالى هذا الكتاب إماماً. قال الزمخشري: ومن بدع التفاسير أنّ الإمام جمع أمّ وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمّهاتهم دون آبائهم وان الحكمة فيه رعاية حق عيسى وإظهار شرف الحسن والحسين وأن لا تفتضح أولاد الزنا. قال: وليت شعري أيهما أبدع البدع؟ أصحة لفظه أم بهاء حكمته. قال ابن عادل: وهو معذور لأن أمّا لا يجمع على إمام هذا قول من لا يعرف الصناعة ولا لغة العرب. ﴿فمن أوتي﴾ أي: من المدعوّين ﴿كتابه﴾ أي: كتاب عمله ﴿بيمينه﴾ وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا ﴿فأولئك يقرؤون كتابهم﴾ ابتهاجاً وتبجحاً بما يرون فيه من الحسنات ﴿ولا يظلمون﴾ بنقص حسنة ما من ظالم ما ﴿فتيلاً﴾ أي: شيئاً في غاية القلة والحقارة بل يزدادون بحسب إخلاص النيات وطهارة الأخلاق وزكاة الأعمال.
تنبيه: الفتيل القشرة التي في شق النواة تسمى بذلك لأنه إذا رام الإنسان إخراجه انفتل وهذا مثل يضرب للشيء الحقير التافه ومثله القطمير وهو الغلالة التي في ظهر النواة، والنقير وهي النقرة التي في ظهر النواة. وروى مجاهد عن ابن عباس قال: الفتيل هو الوسخ الذي يفتله الإنسان بين سبابته وإبهامه. فإن قيل: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم مع أن أهل الشمال يقرؤونه؟ أجيب: بأن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على المهلكات العظيمة والقبائح الكاملة فيستولي الخوف على قلوبهم ويثقل لسانهم فيعجزون عن القراءة الكاملة وأمّا اصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنهم يقرؤون كتابهم على أحسن الوجوه ثم لا يقنعون بقراءتهم وحدهم بل يقول القارئ لأهل المحشر: ﴿هاؤم اقرؤوا كتابيه﴾ (الحاقة، ١٩)
جعلنا الله تعالى وجميع أحبابنا منهم. ثم قال الله تعالى:
﴿ومن كان﴾ منهم ﴿في هذه﴾
﴿إن الله﴾ أي: القادر على المفاوتة بين هذه الأشياء وعلى كل شيء بما له من الإحاطة من صفات الكمال ﴿يسمع من يشاء﴾ على أن الخشية والقسوة إنما هما بيده تعالى، وإن الإنذار إنما هو لمن قضى بانتفاعه فيتعظ ويجيب ﴿وما أنت﴾ أي: بنفسك من غير إقدار الله تعالى لك ﴿بمسمع﴾ أي: بوجه من الوجوه ﴿من في القبور﴾ أي: الحسية أو المعنوية إسماعاً ينفعهم بل الله يسمعهم إن شاء ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾ (فاطر: ٨)
﴿إن﴾ أي: ما ﴿أنت إلا نذير﴾ أي: تنبه القلوب الميتة بقوارع الإنذار ولست بوكيل تقهرهم على الإيمان.
ثم بين تعالى أنه ليس نذيراً من تلقاء نفسه إنما هو بإذن الله تعالى وإرساله بقوله تعالى:
﴿إنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿أرسلناك﴾ أي: إلى هذه الأمة ﴿بالحق﴾ أي: الأمر الكامل في الثبات الذي يطابقه الواقع، فإن من نظر إلى كثرة ما أوتيه من الدلائل علم مطابقة الواقع لما يأمر به.
تنبيه: يجوز في قوله تعالى: ﴿بالحق﴾ أوجه: أحدها: أنه حال من الفاعل أي: أرسلناك محقين، أو من المفعول أي: محقاً، أو نعت لمصدر محذوف أي: إرسالاً متلبساً بالحق ويجوز أن يكون صلة لقوله تعالى ﴿بشيراً﴾ أي: لمن أطاع ﴿ونذيراً﴾ أي: لمن عصى ﴿وإن﴾ أي: وما ﴿من أمة إلا خلا﴾ أي: سلف ﴿فيها نذير﴾ أي: نبي ينذرها.
تنبيه: الأمة: الجماعة الكثيرة قال تعالى ﴿وجد عليه أمة من الناس يسقون﴾ (القصص: ٢٣)
ويقال لكل أهل عصر أمة، والمراد ههنا أهل العصر، فإن قيل: كم من أمة في الفترة بين عيسى ومحمد ﷺ لم يخل فيها نذير، أجيب: بأن آثار النذارة إذا كانت باقية لم تخل من نذير إلى أن تندرس وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث الله تعالى محمداً ﷺ فإن قيل: كيف اكتفى بذكر النذير عن البشير في آخر الآية بعد ذكرهما؟ أجيب: بأنه لما كانت النذارة مشفوعة من البشارة لا محالة دلّ ذكرها على ذكرها، لا سيما وقد اشتملت الآية على ذكرهما، أو لأن الإنذار هو المقصود والأهم من البعثة.
﴿وإن يكذبوك﴾ أي: أهل مكة ﴿فقد كذب الذين من قبلهم﴾ أي: ما أتتهم به رسلهم عن الله تعالى ﴿جاءتهم﴾ أي: الأمم الخالية ﴿رسلهم بالبينات﴾ أي: الآيات الواضحات والدلالة على صحة الرسالة من المعجزات وغيرها ﴿وبالزبر﴾ أي: الأمور المكتوبة كصحف إبراهيم عليه السلام ﴿وبالكتاب﴾ أي: جنس الكتاب كالتوراة والإنجيل ﴿المنير﴾ أي: الواضح في نفسه الموضح لطريق الخير والشر، كما أنك أتيت قومك بمثل ذلك وإن كانت طريقتك أوضح وأظهر، وكتابك أنور وأبهر وأظهر وأشهر، وفي هذا تسلية للنبي ﷺ حيث علم أن غيره كان مثله في تكذيبه وكان محتملاً لأذى القوم.
تنبيه: لما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب.
ولما سلاه الله تعالى هدد من خالفه وعصاه بما فعل في تلك الأمم الماضية بقوله تعالى:
﴿ثم أخذت﴾ أي: بأنواع الأخذ ﴿الذين كفروا﴾ أي: ستروا تلك الآيات المنيرة بعد طول صبر الرسل عليهم الصلاة والسلام عليهم ودعائهم لهم ﴿فكيف كان نكير﴾ أي: إنكاري عليهم بالعقوبة والإهلاك أي: هو واقع موقعه.
تنبيه: أثبت ورش الياء بعد الراء في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.
ولما ذكر تعالى الدلائل
أخذه أكفر المارقين ابن عربي وأودعه في فصوصه، وغير ذلك من كتبه، وأسند في بعضها للغزالي والغزالي بريء منه بشهادة ما وجد من عقائده في الإحياء وغيره انتهى. والبقاعي ممن يقول بكفر ابن عربي، وابن المقري يقول بكفره وكفر طائفته، وقد تقدم الكلام على كلامهم ﴿وأن الله﴾ أي: الذي له جميع صفات الكمال.
﴿قد أحاط﴾ لتمام قدرته ﴿بكل شيء﴾ مطلقاً ﴿علماً﴾ فله الخبرة التامة بما يأمر به من الأحكام في العالم بمصالحة ومفاسده، فلا يخرج شيء عن علمه وقدرته فعاملوه معاملة من يعلم أنه رقيب عليه تسلموا في الدنيا وتسعدوا في الآخرة.
تنبيه: علماً منصوب على المصدر المؤكد، لأن أحاط بمعنى علم، وقيل: بمعنى والله أحاط إحاطة علماً. وما قاله البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنة رسول الله ﷺ حديث موضوع.
سورة التحريم
مكية
وهي اثنتا عشرة آية، ومائتان وأربعون كلمة وألف وستون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي له الكمال كله على الدوام ﴿الرحمن﴾ الذي عم عباده بعظيم الإنعام ﴿الرحيم﴾ الذي أتم على خواصه نعمة الإسلام.
واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
﴿يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله﴾ أي الذي لا أمر لأحد معه ﴿لك﴾ فقالت عائشة: «أن النبي ﷺ كان عند زينب بنت جحش، فشرب عندها عسلاً، قالت: فتواطيت أنا وحفصة أنّ آيتنا دخل عليها النبي ﷺ فلتقل: إني أجد منك ريح مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له: ذلك، فقال بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش ولن أعود له فنزل ﴿لم تحرم ما أحل الله لك﴾ إلى قوله تعالى: ﴿إن تتوبا إلى الله﴾ لعائشة وحفصة»
وعنها أيضاً قالت: كان رسول الله ﷺ يحب الحلوى والعسل، فكان إذا صلى العصر دار على نسائه فدخل على حفصة فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس، فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل فسقت رسول الله ﷺ منه شربة، فقلت: أما والله لنحتالن له فذكرت ذلك لسودة، وقلت لها: إذا دخل عليك فإنه سيدنو منك فقولي له: يا رسول الله أكلت مغافير، فإنه سيقول لك: لا، فقولي: ما هذه الريح، وكان رسول الله ﷺ يشتد عليه أن يوجد منه الريح فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: جرست نحله العرفط، وسأقول ذلك له وقولي أنت يا صفية ذلك. فلما دخل على سودة قالت سودة: والله الذي لا إله غيره لقد كدت أن أبادئه بالذي قلت وإنه لعلى الباب فرقاً منك، فلما دنا رسول الله ﷺ قلت له: يا رسول الله أكلت مغافير، قال: لا، قلت: فما هذه الريح؟ قال: سقتني حفصة شربة عسل، قالت: جرست نحله العرفط. فلما دخل علي قلت له: مثل ذلك، ثم دخل على صفية فقالت مثل ذلك، فلما دخل على حفصة قالت: يا رسول الله ألا أسقيك منه، قال: لا حاجة لي به، قالت: تقول سودة سبحان الله لقد حرمناه منه، قالت: فقلت لها: اسكتي.
ففي هذه الرواية أن التي شرب عندها النبي ﷺ حفصة، وفي الأولى زينب. وروى ابن أبي مليكة عن ابن عباس رضي


الصفحة التالية
Icon