اليهود كثيراً عددهم شديدة شوكتهم وإني أبرأ إلى الله وإلى رسوله من موالاتهم ولا مولى لي إلا الله ورسوله فقال عبد الله: لكني لا أبرأ من ولاية اليهود لأني أخاف الدوائر ولا بد لي منهم فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال السدي: لما كانت وقعة أحد اشتدّت على طائفة من الناس وتخوّفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي آخذ منه أماناً إني أخاف أن تدال علينا اليهود وقال الآخر: أمّا أنا فألحق بفلان النصراني من أهل الشأم وآخذ منه أماناً فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النبيّ ﷺ إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا فجعل إصبعه على حلقه يعني أنه الذبح أي: يقتلكم فنزلت
﴿فترى الذين في قلوبهم مرض﴾ أي: ضعف اعتقاد كعبد الله بن أبيّ ﴿يسارعون فيهم﴾ أي: في مولاتهم ﴿يقولون﴾ معتذرين عنها ﴿نخشى﴾ أي: نخاف خوفاً بالغاً ﴿أن تصيبنا دائرة﴾ أي: مصيبة تحيط بنا ويدور بها الدهر علينا من جدب أو غلبة ولا يتم أمر محمد فلا يميرونا ﴿فعسى الله أن يأتي بالفتح﴾ أي: بإظهار الدّين على الأعداء ﴿أو أمر من عنده﴾ أي: بهتك ستر المنافقين وافتضاحهم ﴿فيصبحوا﴾ أي: هؤلاء المنافقون ﴿على ما أسرّوا في أنفسهم﴾ أي: على ما استبطنوه من الكفر والشك في أمر الرسول فضلاً عما أظهروه مما أشعر به نفاقهم ﴿نادمين﴾ أي: ثابت لهم غاية الندم في الصباح وغيره وقوله تعالى:
﴿ويقول الذين آمنوا﴾ قرأه عاصم وحمزة والكسائي بالرفع على أنه كلام مبتدأ ويؤيده قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر مرفوعاً بغير واو على أنه جواب قائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذٍ وقرأ بالنصب أبو عمرو عطفاً على يأتي باعتبار المعنى وكأنه قال: عسى الله أن يأتي بالفتح، ويقول الذين آمنوا ﴿أهؤلاء الذين أقسموا با جهد أيمانهم﴾ أي: غاية اجتهادهم فيها ﴿إنهم لمعكم﴾ في الدين أي: يقوله المؤمنون بعضهم لبعض تعجباً من حال المنافقين وتبجعاً بما منّ الله تعالى عليهم من الإخلاص، أو يقولون لليهود: فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله: ﴿وإن قوتلتم لننصرنكم﴾ (الحشر آية: ١١) ﴿حبطت﴾ أي: بطلت ﴿أعمالهم﴾ أي: الصالحة ﴿فأصبحوا﴾ أي: فصاروا ﴿خاسرين﴾ الدنيا بالفضيحة والآخرة بالعقاب.
﴿يأيها الذين آمنوا﴾ أي: أقروا بالإيمان ﴿من يرتدد﴾ أي: يرجع ﴿منكم عن دينه﴾ إلى الكفر وهذا من الكائنات التي أخبر الله تعالى عنها في القرآن قبل وقوعها وكان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة ثلاثة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأولى: بنو مدلج وكان رئيسهم ذو الحمار بالحاء المهملة، قال التفتازاني: كان له حمار يقول له: قف فيقف وسر فيسير وكانت النساء أي: نساء أصحابه يتعطرون بروث حماره، وقيل: يعقدون روثه بخمرهنّ فسمي ذو الخمار أيضاً بالخاء المعجمة، وذو هنا وفيما قبله بالواو وعلى الحكاية وهو العنسي بفتح العين وسكون النون منسوب إلى عنس وهو يزيد بن مذحج بن أدد بن كعب العنسي ويلقب بالأسود كان كاهناً تنبأ باليمن واستولى على بلادها وأخرج عمال رسول الله ﷺ فكتب رسول الله ﷺ إلى معاذ بن جبل رضي الله تعالى عنه وإلى سادات اليمن وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم والنهوض إلى حرب الأسود، فقتله
خالط بعضه بعضاً من كثرته وتكاثفه كما قال تعالى: ﴿فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت﴾ (الحج، ٥)
. وقيل: اختلط ذلك الماء بالنبات حتى روى واهتز ونما وكان حق اللفظ على هذا التفسير فاختلط بنبات الأرض لكن لما كان كل من المختلطين موصوفاً بصفة صاحبه عكس للمبالغة في كثرته ثم إذا انقطع ذلك بالمطر مدّة جف ذلك النبات ﴿فأصبح هشيماً﴾ أي يابساً متفرّقة أجزاؤه ﴿تذروه﴾، أي: تنثره وتفرّقه ﴿الرياح﴾ فتذهب به والمعنى أنه تعالى شبه الدنيا بنبات حسن فيبس فتكسر ففرّقته الرياح حتى يصير عما قليل كأنه بقدرة الله تعالى لم يكن وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد والباقون بالجمع ﴿وكان الله﴾، أي: المختص بصفات الكمال ﴿على كل شيء﴾ من دون ذلك وغيره إنشاءً وإفناءً وإعادةً. ﴿مقتدراً﴾ أزلاً وأبداً بتكوينه اوّلا وتنميته وسطاً وإبطاله آخراً فأحوال الدنيا أيضاً كذلك تظهر أوّلاً في غاية الحسن والنضارة ثم تتزايد قليلاً قليلاً ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن ينتهي إلى الهلاك والفناء ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به.
تنبيه: قوله تعالى: ﴿فأصبح﴾ يجوز أن يكون على بابه فإنّ أكثر ما يطرق من الآفات صباحاً كقوله تعالى: ﴿فأصبح يقلب كفيه﴾ ويجوز أن يكون بمعنى صار من غير تقييد كقول القائل:
*أصبحت لا أحمل السلاح ولا
... أملك رأس البعير إن نفرا
ولما بيّن سبحانه وتعالى أنّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزوال والبوار والفناء بيّن بقوله تعالى:
﴿س١٨ش٤٦/ش٤٨ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحياةِ الدُّنْيَا؟ وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَ؟ * وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى ا؟رْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا * وَعُرِضُوا؟ عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّة؟؟ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا﴾
﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا﴾ إدخال هذا الجزئيّ تحت هذا الكلي فينعقد به قياس بين الإنتاج وهو أن المال والبنون زينة الحياة الدنيا ولما كانت زينة الحياة الدنيا سريعة الانقضاء والانقراض أنتج إنتاجاً بديهياً أنّ المال والبنون سريع الانقضاء والانقراض وما كان كذلك فإنه ينتج بالعقل أن لا يفتخر به أو يفرح بسببه أو يقيم له في نظره وزناً وهذا برهان ظاهر باهر على فساد قول أولئك المشركين الذين افتخروا على فقراء المؤمنين بكثرة الأموال. ثم ذكر تعالى ما يدل على رجحان أولئك الفقراء على أولئك الكفار من الأغنياء فقال: ﴿والباقيات الصالحات خير﴾، أي: من الزينة الفانية لأنّ خيرات الدنيا منقرضة منقضية وخيرات الآخرة دائمة باقية والدائم الباقي خير من المنقرض المنقضي وهذا معلوم بالضرورة لا سيما وقد ثبت أنّ خيرات الدنيا حقيرة خسيسة وأنّ خيرات الآخرة رفيعة شريفة.
والمفسرون ذكروا في الباقيات الصالحات أقوالاً أحدها أنها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وزاد بعضهم ولا حول ولا قوّة إلا بالله. وللغزالي في تفسير وجه لطيف فقال: روي أنّ من قال: سبحان الله حصل له من الثواب عشر حسنات فإذا قال: الحمد لله صارت عشرين فإذا قال: ولا إله إلا الله صارت ثلاثين فإذا قال: والله أكبر صارت أربعين وتحقيق القول فيه أنّ مراتب الثواب أعظمها هو الاستغراق في معرفة الله تعالى وفي محبته فإذا قال: سبحان الله فقد عرف كونه تعالى منزهاً عن كل ما لا يليق به وكل ما لا ينبغي فحصول هذا العرفان سعادة عظيمة وبهجة كاملة فإذا قال مع ذلك الحمد لله فقد أقرّ بأنّ الحق سبحانه وتعالى مع كونه منزهاً عن كل ما لا ينبغي فهو المبتدئ لكل ما ينبغي ولإفاضة كل
الجحيم} قال الحسن: أصلها في قعر جهنم وأغصانها ترتفع إلى دركاتها.
الصفة الثانية قوله تعالى:
﴿طلعها﴾ أي: ثمرها قال الزمخشري: الطلع للنخلة فاستعير لما طلع من شجرة الزقوم من حملها إما استعارة لفظية أو معنوية قال ابن قتيبة: سمي طلعاً لطلوعه كل سنة فكذلك قيل: طلع النخل لأول ما يخرج من ثمره ثم وصف ذلك الطلع بقوله تعالى: ﴿كأنه رؤوس الشياطين﴾ وفيه وجهان: أحدهما: أنه حقيقة وأن رؤوس الشياطين شجرة معينة بناحية اليمن وتسمى: الأستن قال النابغة:
*تحيد عن أستن سود أسافله | مثل الإماء الغوادي تحمل الحزما* |
*عنجرد تحلف حين أحلف | كمثل شيطان الحماط أعرف* |
*موكل بسروف الصوم يرقبها | من المعارف محفوظ الحشا ورم* |
والثاني: أنه من باب النخيل والتمثيل، وذلك أن كل ما يستنكر ويستقبح في الطباع والصورة يشبه بما يتخيله الوهم وإن لم يكن يراه، والشياطين وإن كانوا موجودين غير مرئيين للعرب إلا أنه خاطبهم بما ألفوه من الاستعارات التخيلية وذلك كقول امرئ القيس:
*أيقتلني والمشرفي مضاجعي | ومسنونة زرق كأنياب أغوال* |
فكذلك حسن التشبيه برؤوس الشياطين في القبح وتشويه الخلقة، ويؤكد هذا أن العقلاء إذا رأوا شيئاً شديد الاضطراب منكر الصورة قبيح الخلقة قالوا: إنه شيطان وإذا رأوا شيئاً حسناً قالوا: إنه ملك من الملائكة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم الشياطين بأعيانهم.
﴿فإنهم﴾ أي: الكفار ﴿لآكلون منها﴾ أي: من الشجرة أو من طلعها ﴿فمالئون منها البطون﴾ والملء حشو الوعاء بما لا يحتمل الزيادة عليه، فإن قيل: كيف يأكلونها مع نهاية خشونتها ونتنها ومرارة طعمها؟ أجيب: بأن المضطر ربما استروح من الضرر بما يقاربه في الضرر فإذا جوعهم الله تعالى الجوع الشديد فزعوا إلى إزالة ذلك الجوع بتناول هذا الشيء، أو يقال: إن الزبانية يكرهونهم على الأكل من تلك الشجرة لعذابهم.
ولما ذكر الله تعالى طعامهم بتلك الشناعة والكراهية وصف شرابهم بما هو أشنع منه بقوله تعالى:
﴿ثم إن لهم عليها﴾ أي: بعد ما شبعوا منها وغلبهم العطش ﴿لشوباً من حميم﴾ أي: ماء حار يشربونه فيختلط بالمأكول منها فيصير شوباً، وعطف بثم لأحد معنيين: إما لأنه يؤخر ما يظنونه يرويهم من عطشهم زيادة في عذابهم فلذلك أتى بثم المقتضية للتراخي، وإما لأن العادة تقتضي
الجمع وضمير عنه للقتل أو النبي كما مرّ ﴿وإنه﴾ أي: القرآن ﴿لتذكرة للمتقين﴾ أي: لأنهم المنتفعون به لإقبالهم عليه إقبال مستفيد ﴿وإنا﴾ أي: بمالنا من العظمة ﴿لنعلم﴾ أي: علماً عظيماً محيطاً ﴿أن منكم﴾ أي: أيها الناس ﴿مكذبين﴾ بالقرآن ومصدقين، فأنزلنا الكتب وأرسلنا الرسل لنظهر منكم إلى عالم الشهادة ما كنا نعلم في الأزل غيباً من تكذيب وتصديق فتستحقون بذلك الثواب والعقاب، فلذلك وجب في الحكمة أن نعيد الخلق إلى ما كانوا عليه من أجسامهم قبل الموت لنحكم بينهم فنجازي كلاً بما يليق به إظهاراً للعدل.
﴿وإنه﴾ أي: القرآن ﴿لحسرة﴾ أي: ندامة ﴿على الكافرين﴾ أي: إذا رأوا ثواب المصدقين وعقاب المكذبين به ﴿وإنه﴾ أي: القرآن أو الجزاء يوم الجزاء ﴿لحق اليقين﴾ أي: الأمر الثابت الذي لا يقبل الشك فهو يقين مؤكد بالحق من إضافة الصفة إلى الموصوف وهو فوق علم اليقين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إنما هو كقولك عين اليقين ومحض اليقين.
﴿فسبح﴾ أي: أوقع التنزيه الكامل عن كل شائبة نقص ﴿باسم﴾ أي: بسبب عملك بصفات ﴿ربك﴾ أي: الموجد والمربي لك والمحسن إليك بأنواع الإحسان ﴿العظيم﴾ أي: الذي ملأت الأقطار كلها عظمته وزادت على ذلك بما شاءه سبحانه مما لا تسعه العقول، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: أي: فصلّ لربك العظيم. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: إن رسول الله ﷺ قال: «من قرأ سورة الحاقة حاسبه الله حساباً يسيراً» حديث موضوع.
سورة المعارج
مكية
وهي أربع وأربعون آية، ومائتانوست عشرة كلمة، وألف وأحد وستون حرفاً
﴿بسم الله﴾، أي: الذي تنقطع الأعناق والآمال دون عليائه ﴿الرحمن﴾ الذي لا مطمع لأحد في حصر أوصافه ﴿الرحيم﴾ الذي اصطفى من عباده من وفقه فكان من أوليائه.
﴿سأل سائل﴾ أي: دعا داع ﴿بعذاب واقع﴾ فضمن سأل معنى دعا، فلذلك عدى تعديته، وقيل: الباء بمعنى عن كقوله تعالى: ﴿فاسأل به خبيراً﴾ (الفرقان: ٥٩)، أي: عنه، أي: سأل سائل عن عذاب واقع، والأول أولى لأن التجوز في الفعل أولى منه في الحرف لقوتّه.
واختلف في هذا الداعي فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو النضر بن الحارث حيث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم فنزل سؤاله وقتل يوم بدر صبراً هو وعتبة بن أبي معيط لم يقتل صبراً غيرهما، وقيل: هو الحارث بن النعمان، وذلك «أنه لما بلغه قول النبي ﷺ في عليّ: من كنت مولاه فعليّ مولاه ركب ناقته فجاء حتى أناخ راحلته بالإبطح، ثم قال: يا محمد أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقبلناه وأن نصلي خمساً ونزكي أموالنا فقبلناه منك، وأن نصوم شهر رمضان في عام فقبلناه منك وأن نحج فقبلناه منك ثم لم ترض حتى فضلت ابن عمك علينا، أفهذا شيء منك أم من الله تعالى؟ فقال النبي ﷺ «والذي لا إله إلا هو ما هو إلا من الله» فولى الحارث وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقاً فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم، فوالله ما وصل إلى ناقته حتى رماه الله تعالى بحجر فوقع على دماغه فخرج من دبره