عن الشركة ومن مزيدة للاستغراق ﴿وإن لم ينتهوا﴾ أي: الكفرة بجميع أصنافهم ﴿عما يقولون﴾ أي: من هاتين المقالتين وما داناهما ﴿ليمسنّ﴾ أي: مباشرة من غير حائل ﴿الذين كفروا﴾ أي: داوموا على الكفر ﴿منهم عذاب أليم﴾ أي: مؤلم لم ينقطع عنهم لعدم توبتهم ولذلك عقبه بقوله تعالى:
﴿أفلا يتوبون﴾ أي: يرجعون بعد هذا الكفر الذي لا أوضح من بطلانه ولا أبين من فساده ﴿إلى الله ويستغفرونه﴾ أي: يطلبون منه غفران ما أقدموا عليه من تلك العقائد والأقوال الزائغة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول بعد هذا التقريع والتهديد ﴿وا غفور﴾ أي: بالغ المغفرة يمحو الذنوب فلا يعاقب عليها ولا يعاتب ﴿رحيم﴾ أي: بالغ الإكرام لمن أقبل عليه فيغفر لهم ويمنحهم من فضله إن تابوا وفي هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.
﴿ما المسيح بن مريم إلا رسول قد خلت﴾ أي: مضت ﴿من قبله الرسل﴾ أي: ليس هو بإله كالرسل الذين مضوا لم يكونوا آلهة وما من خارقة له إلا وقد كان مثلها أو أعجب منها لمن كان قبله فإن كان قد أحيا الموتى على يده فقد أحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى وهو أعجب وإن كان قد خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأمّ وهو أغرب ﴿وأمه صدّيقة﴾ أي: بليغة الصدق في نفسها كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو يصدّقن الأنبياء كما قال تعالى في وصفها ﴿وصدّقت بكلمات ربها﴾ (التحريم، ١٢) وهذه الآية من أدلة من قال إنّ مريم عليها السلام لم تكن نبية فإنه تعالى ذكر أشرف صفاتها في معرض الردّ على من قال بإلهيتها إشارة إلى ما هو الحق في اعتقاد ما لهما من أعلى الصفات فإنّ أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة وأكمل صفات أمه عليها السلام الصديقية.
فائدة: مريم من أزواج نبينا محمد ﷺ في الجنة. ولما بين سبحانه وتعالى أقصى ما لهما من الكمالات بين أنّ ذلك لا يوجب لهما الألوهية بقوله: ﴿كانا يأكلان الطعام﴾ لأنّ من احتاج إلى الاغتذاء بالطعام وما يتبعه من الهضم لم يكن إلا جسماً مركباً من عظم ولحم وعروق وأعصاب وأخلاط وغير ذلك، مما يدل على أنه مصنوع مؤلف مدبر كغيره من الأجسام فكيف يكون إلهاً، وخص الأكل بالذكر لأنه أصل الحاجات والإله لا يكون محتاجاً وقيل: هذا كناية عن الحدث لأنّ من أكل وشرب لا بد له من البول والغائط ومن كانت هذه صفته كيف يكون إلهاً؟ ثم لما أوضح الله تعالى لهم الأدلة في أمرهما حتى ظهر كالشمس بعدهما عما ادّعوا فيهما اتبعه التعجب بقوله: ﴿انظر﴾ متعجباً ﴿كيف نبين لهم الآيات﴾ على وحدانيتنا ﴿ثم انظر أنى﴾ أي: كيف ﴿يؤفكون﴾ أي: يصرفون عن الحق مع قيام البرهان.
فإن قيل: ما معنى التراخي في قوله تعالى: ﴿ثم انظر﴾ ؟ أجيب: بأنّ معناه التفاوت بين العجبين أي: أنّ بياننا للآيات عجب وإعراضهم عنها أعجب.
﴿قل أتعبدون من دون الله﴾ أي: غيره يعني عليه السلام ﴿ما لا يملك لكم ضراً ولا نفعاً﴾ أي: لا يستطيع أن يضرّكم بمثل ما يضرّ الله تعالى به من البلايا والمصائب في الأنفس والأموال ولا أن ينفعكم بمثل ما ينفعكم الله به من صحة الأبدان والسعة والخصب وكل ما يستطيعه البشر من المضار والمنافع فبإقدار الله تعالى وتمكينه وكأنه لا يملك شيئاً وهذا دليل قاطع على أن أمر عيسى منافٍ للربوبية حيث جعله لا يستطيع ضراً ولا نفعاً وصفة الرب تعالى أن يكون قادراً
والاستفادة وأجيب: بأنه لا يبعد أن يكون العالم الكامل في كثرة العلوم يجهل بعض العلوم فيحتاج في تعلمها إلى من هو دونه وهو أمر متعارف.
روى البخاري حديث أن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل أي: الناس أعلم قال: أنا فعتب الله تعالى عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله تعالى إليه أنّ لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك قال: يا رب فكيف لي به قال: تأخذ حوتاً فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثمّ فأخذ حوتاً فجعله في مكتل ثم قال: ﴿لا أبرح﴾ أي: لا أزال أسير في طلب العبد الذي أعلمني ربي بفضله ﴿حتى أبلغ مجمع البحرين﴾ أي: ملتقى بحر الروم وبحر فارس ممايلي الشرق قاله قتادة أي: المكان الجامع لذلك فألقاه هناك ﴿أو أمضي حقباً﴾ أي: دهراً طويلاً في بلوغه إن لم أظفر به بمجمع البحرين الذي جعله ربي موعد إليّ في لقائه والحقب، قال في «القاموس» ثمانون سنة أو أكثر والدهر والسنة والسنون انتهى فسارا وتزوّدا حوتاً مشوياً في مكتل كما أمر به فكانا يأكلان منه إلى أن بلغا المجمع كما قال تعالى:
﴿فلما بلغا مجمع بينهما﴾ أي: بين البحرين قال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني وناما واضطرب الحوت في المكتل وخرج وسقط في البحر فلما استيقظا ﴿نسيا حوتهما﴾ أي: نسي يوشع حمله عند الرحيل ونسي موسى عليه السلام تذكيره وقيل: الناسي يوشع فقط وهو على حذف مضاف أي: نسي أحدهما كقوله تعالى: ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن، ٢٢)
﴿فاتخذ﴾ الحوت ﴿سبيله في البحر﴾ أي: جعله بجعل الله ﴿سرباً﴾ أي: مثل السرب وهو الشق الطويل لا نفاذ له وذلك أنّ الله تعالى أمسك عن الحوت جري الماء فانجاب عنه فبقي كالكوة لم يلتئم وجمد ما تحته، وقد ورد في حديثه في الصحيح أنّ الله تعالى أحياه وأمسك عن موضع جريه في الماء فصار طاقاً لا يلتئم وكأنّ المجمع كان ممتداً فظن عليه السلام أنّ المطلوب أمامه أو ظنّ المراد مجمع البحرين آخراً فسارا
﴿فلما جاوزا﴾ ذلك المكان بالسير بقية يومهما وليلتهما واستمرّا إلى وقت الغداء من ثاني يوم ﴿قال﴾ موسى عليه السلام ﴿لفتاه آتنا﴾ أي: أحضر لنا ﴿غداءنا﴾ وهو ما يؤكل أوّل النهار لنقوى به على ما حصل لنا من الإعياء ولذلك وصل به قوله: ﴿لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا﴾ أي: تعباً ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله تعالى به فقوله هذا إشارة إلى السفر الذي وقع بعد مجاوزتهما الموعد أو مجمع البحرين ونصبا مفعول بلقينا
﴿قال﴾ له فتاه ﴿أرأيت﴾ أي: ما دهاني وقرأ نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ولورش وجه آخر وهو إبدالها حرف مدّ وأسقطها الكسائي والباقون بالتحقيق ﴿إذ أوينا إلى الصخرة﴾ التي بمجمع البحرين ﴿فإني نسيت الحوت﴾ أي: نسيت أن أذكر لك أمره ثم علل عدم ذكره بقوله: ﴿وما أنسانيه إلا الشيطان﴾ بوسواسه، وقرأ حفص بضم الهاء وأمال الألف الكسائي محضة وورش بين بين وبالفتح والباقون بالفتح وقوله: ﴿أن أذكره﴾ لك في محل نصب على البدل من هاء أنسانيه بدل اشتمال أي: أنساني ذكره ﴿واتخذ سبيله﴾ أي: طريقه الذي ذهب فيه ﴿في البحر عجباً﴾ وهو كونه كالسرب معجزة لموسى أو الخضر وذكره له الآن مانع من أن يكون للشيطان عليه سلطان على أن هذا النسيان ليس مفوتاً لطاعة بل فيه ترقية لهما في معراج المقامات العالية لوجدان التعب بعد
أي: أنعمنا عليهما بالنبوة وغيرها من المنافع الدينية والدنيوية.
﴿ونجيناهما وقومهما﴾ أي: بني إسرائيل ﴿من الكرب﴾ أي: الغم ﴿العظيم﴾ أي: الذي كانوا فيه من استعباد فرعون إياهم، وقيل: من الغرق، والضمير في قوله تعالى:
﴿ونصرناهم﴾ يعود على موسى وهارون وقومهما، وقيل: على الإثنين بلفظ الجمع تعظيماً كقوله تعالى ﴿يا أيها النبي إذا طلقتم النساء﴾ (الطلاق: ١)
وقول الشاعر:
فإن شئت حرمت النساء سواكم.
﴿فكانوا هم الغالبين﴾ أي: على فرعون وقومه في كل الأحوال، أما في أول الأمر فبظهور الحجة، وأما في آخر الأمر فبالدولة والرفعة.
تنبيه: يجوز في هم أن يكون تأكيداً، وأن يكون بدلاً، وأن يكون فصلاً وهو الأظهر.
﴿وآتيناهما الكتاب المستبين﴾ أي: المستنير البليغ البيان المشتمل على جميع العلوم المحتاج إليها في مصالح الدين والدنيا وهو التوراة كما قال تعالى: ﴿إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور﴾ (المائدة: ٤٤)
﴿وهديناهما الصراط المستقيم﴾ أي: دللناهما على الطريق الموصل إلى الحق والصواب عقلاً وسمعاً.
﴿وتركنا﴾ أي: أبقينا ﴿عليهما﴾ ثناء حسناً ﴿في الآخرين﴾ ﴿سلام﴾ أي: منا ﴿على موسى وهارون﴾ ﴿إنا كذلك﴾ أي: كما جزيناهما ﴿نجزي المحسنين﴾ وقوله تعالى:
﴿إنهما من عبادنا المؤمنين﴾ تعليل لإحسانهما بالإيمان وإظهار لجلالة قدره وأصالة أمره.
القصة الرابعة قصة الياس عليه السلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿وإن الياس لمن المرسلين﴾ روي عن ابن مسعود أنه قال: الياس هو إدريس، وهو قول عكرمة وقال أكثر المفسرين: إنه نبي من أنبياء بني إسرائيل، قال ابن عباس: وهو ابن عم اليسع عليهما السلام، وقال محمد بن إسحاق: هو إلياس بن بشير بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران عليهما السلام.
تنبيه: أذكر فيه شيئاً من قصته عليه السلام قال علماء السير والأخبار: لما قبض الله تعالى حزقيل النبي عليه السلام عظمت الأحداث في بني إسرائيل وظهر فيهم الفساد والشرك ونصبوا الأصنام وعبدوها من دون الله عز وجل، فبعث الله تعالى إليهم إلياس نبياً وكانت الأنبياء من بني إسرائيل يبعثون بعد موسى عليه السلام بتجديد ما نسوا من أحكام التوراة، وبنو إسرائيل كانوا متفرقين في أرض الشام وكان سبب ذلك أن يوشع بن نون عليه السلام لما فتح الشام قسمها على بني إسرائيل وأحل سبطاً منها ببعلبك ونواحيها وهم السبط الذين كان منهم الياس، فبعثه الله تعالى إليهم نبياً وعليهم يومئذ ملك اسمه لاجب وكان أضل قومه وجبرهم على عبادة الأصنام، وكان لهم صنم طوله عشرون ذراعاً وله أربعة وجوه وكان يسمى: ببعل وكانوا قد فتنوا به وعظموه وجعلوا له أربعمائة سادن أي: خادم، وكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلم بشريعة الضلالة والسدنة يحفظونها عنه ويبلغونها الناس وهم أهل بعلبك، وكان الياس يدعوهم إلى عبادة الله وهم لا يسمعون له ولا يؤمنون به إلا ما كان من أمر الملك فإنه آمن به وصدقه، فكان إلياس يقوم بأمره ويسدده ويرشده وكان للملك امرأة تسمى: بإزميل جبارة وكان يستخلفها على ملكه إذا غاب عنهم في غزاة أو غيرها، وكانت تبرز للناس فتقضي بينهم وكانت قتالة للأنبياء، ويقال: إنها هي التي قتلت يحيى بن زكريا عليهما السلام، وكان له كاتب رجل مؤمن حليم يكتم إيمانه وكان قد خلص من يدها ثلثمائة نبي كانت تريد قتلهم إذا بعث كل واحد
من تعزز في الدنيا على الحق ذل في الآخرة، ومن ذل للحق في الدنيا عز في الآخرة.
﴿ذلك﴾ أي: الأمر الذي هو في غاية ما يكون من علوّ الرتبة في العظمة ﴿اليوم الذي كانوا يوعدون﴾ أي: يوعدون في الدنيا أنّ لهم فيه العذاب، وأخرج الخبر بلفظ الماضي؛ لأنّ ما وعد الله تعالى به فهو حق كائن لا محالة، وهذا هو العذاب الذي سألوا عنه أوّل السورة، فقد رجع آخرها على أوّلها.
وما قاله البيضاويّ تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال: «من قرأ سورة سأل سائل أعطاه الله تعالى ثواب الذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون». حديث موضوع.
سورة نوح
عليه السلام مكية
وهي سبع وعشرون آية، ومائتان وأربعوعشرون كلمة، وتسعمائة وتسعة وعشرون حرفاً
﴿بسم الله﴾ ذي الجلال والإكرام ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بما أفاضه من ظاهر الإنعام ﴿الرحيم﴾ الذي حفظ أولياءه من الابتداء إلى الختام.
ولما ختمت سأل بالإنذار للكفار وكانوا عباد أوثان بعذاب الدنيا والآخرة أتبعها أعظم عذاب كان في الدنيا على تكذيب الرسل بقصة نوح عليه السلام فقال تعالى:
﴿إنا﴾ أي: بما لنا من العظمة البالغة ﴿أرسلنا نوحاً إلى قومه﴾ أي: الذين كانوا في غاية القوّة على القيام بما يحاولونه وهم بصدد أن يجيبوه ويكرموه لما بينهم من القرب بالنسب واللسان، وكانوا جميع أهل الأرض من الآدميين، روى قتادة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي ﷺ قال: «أول نبي أرسل نوح عليه السلام» وأرسل إلى جميع أهل الأرض ولذلك لما كفروا أغرق الله تعالى أهل الأرض جميعاً، وهو نوح بن لمك بن متوشلح بن أخنوخ، وهو إدريس بن يرد بن مهلاييل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: وكل مؤمنون أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: وهو ابن أربعين سنة. وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة.
ويجوز في قوله تعالى: ﴿أن أنذر﴾ أي: حذر تحذيراً عظيماً ﴿قومك﴾ أي: الاستمرار على الكفر أن تكون أن مفسرة فلا يكون لها من الإعراب لأن في الإرسال معنى الأمر فلا حاجة إلى إضمار، ويجوز أن تكون المصدرية أي: أرسلناه بالإنذار. قال الزمخشري: والمعنى أرسلناه بأن قلنا له أنذر قومك أي: أرسلناه بالأمر بالإنذار ا. هـ. وهذا الذي قدره جواب عن سؤال وهو أنّ قولهم إنّ أن المصدرية يجوز أن توصل بالأمر مشكل؛ لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر وحينئذ فتفوت الدلالة على الأمر ألا ترى أنك إذا قدرت كتبت إليه بأن قم: كتبت إليه القيام تفوت الدلالة على الأمر حال التصريح بالمصدر فينبغي أن يقدر كما قاله الزمخشري أي: كتبت إليه بأن قلت له: قم، أي: كتبت إليه بالأمر بالقيام.
وقال القرطبي: أي بأن أنذر قومك ﴿من قبل أن يأتيهم﴾ أي: على ما هم عليه من الأعمال الخبيثة ﴿عذاب أليم﴾ أي: عذاب الآخرة أو الطوفان ﴿قال﴾ أي: نوح عليه السلام ﴿يا قوم﴾ فاستعطفهم بتذكيرهم أنه أحدهم يهمه ما يهمهم ﴿إني لكم نذير﴾ أي: مبالغ في إنذاركم ﴿مبين﴾ أي: أمري بين في نفسه بحيث إنه صار في شدة وضوحه كأنه مظهر لما يتضمنه