والحرام قال الرازي: ولقائل أن يقول: ليس في القرآن إلا أنه ألقى الألواح فإمّا أنه ألقاها بحيث تكسرت فهذا ليس في القرآن وأنه جراءة عظيمة على كتاب الله ومثله لا يليق بالأنبياء ﴿وأخذ برأس أخيه﴾ أي: بشعر رأسه بيمينه وشعر لحيته بشماله ﴿يجره﴾ أي: أخاه ﴿إليه﴾ غضباً وكان هارون عليه السلام أكبر من موسى بثلاث سنوات وأحب إلى بني إسرائيل من موسى لأنه كان ألين منه جانباً ف ﴿قال﴾ هارون عند ذلك ﴿ابن أمّ﴾ قراءة ابن عامر وشعبة والكسائي بكسر الميم وأصله يا ابن أمي فحذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء والباقون بالنصب زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيهاً بخمسة عشر.
فإن قيل: هارون وموسى من أب وأمّ فلماذا ناداه بالأمّ فقط؟ أجيب: بأنه إنما ذكرها لأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها ليرققه عليه والطاعنون في عصمة الأنبياء يقولون: أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستحقاق والمثبتون لعمة الأنبياء يقولون: أخذ برأس أخيه يجره على سبيل الإهانة والاستخفاف والمثبتون لعصمة الأنبياء قالوا: جر رأس أخيه ليساره ويستكشف منه كيفية تلك الواقعة.
فإن قيل: فلماذا قال يا ابن أمّ ﴿إنّ القوم﴾ الذين عبدوا العجل ﴿استضعفوني﴾ أي: إني قد بذلت وسعي في كفهم فاستذلوني وقهروني ﴿وكادوا﴾ أي: قاربوا ﴿يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء﴾ أي: فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله وأصل الشماتة الفرح ببلية من تعاديه ويعاديك يقال: شمت فلان بفلان إذا سرّ بمكروه نزل به أي: لا تسرّ الأعداء بما تنال مني من مكروه فكيف فعل بأخيه ذلك؟ أجيب: بأنّ هارون إنما قال ذلك خوفاً من أن يتوهم جهال بني إسرائيل أنّ موسى غضبان عليه كما هو غضبان على عبدة العجل أي: فلا تفعل بي ما تشمت به أعدائي فهم أعداؤك فإنّ القوم يحملون هذا الفعل الذي تفعله بي على الإهانة لا على الإكرام ﴿ولا تجعلني مع القوم الظالمين﴾ أي: الذين عبدوا العجل مع براءتي منهم بالمؤاخذة أو بنسبة التقصير ولما اعتذر له أخوه وذكر شماتة الأعداء.
﴿قال رب اغفر لي﴾ أي: ما حملني عليه مما صنعت بأخي ﴿ولأخي﴾ أي: اغفر له ما فرط في كفهم عن عبادة العجل إن كان وقع منه تفريط وضمه إلى نفسه في الاستغفار ترضية له ودفعاً للشماتة عنه ﴿وأدخلنا في رحمتك﴾ أي: بمزيد الإنعام علينا ﴿وأنت أرحم الراحمين﴾ فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا قال الله تعالى:
﴿إنّ الذين اتخذوا العجل﴾ أي: إلهاً يعبدونه من دون الله تعالى فهذا هو المفعول الثاني من مفعولي اتخذوا ﴿سينالهم غضب﴾ أي: عقوبة ﴿من ربهم وذلة في الحياة الدنيا﴾ وهي خروجهم من دارهم، وللمفسرين في هذه الآية طريقان الأوّل أنّ المراد بالذين اتخذوا العجل الذين باشروا عبادة العجل.
فإن قيل: أولئك تاب الله عليهم بسبب أن قتلوا أنفسهم في معرض التوبة على ذلك الذنب وإذا تاب الله عليهم فكيف ينالهم الغضب والذلة؟ أجيب: بأنّ ذلك الغضب إنما حصل لهم في الدنيا وهو نفس القتل فكان ذلك القتل غضباً عليهم والمراد بالذلة هو استسلامهم أنفسهم للقتل واعترافهم على أنفسهم بالضلال والخطأ، وقيل: خروجهم من ديارهم لأنّ ذل الغربة مثل مضروب.
فإن قيل: السين في قوله: سينالهم للاستقبال فكيف تكون للماضي؟ أجيب: بأنّ هذا إنما هو خبر عما أخبر الله تعالى به موسى عليه السلام حين
الجنّ ومردة الشياطين وقال لهم: ماذا عندكم من القوّة، فإني قد سلطت على مال أيوب وهي المصيبة الفادحة، والفتنة التي لا تصبر عليها الرجال، فقال عفريت من الشياطين: أعطيت من القوة ما إذا شئت تحولت إعصاراً من نار، وأحرقت كل شيء آتى عليه؛ قال إبليس: فأت الإبل ورعاتها، فأتى الإبل، وقد وضعت رؤوسها ورعت في مراعيها، فلم يشعر الناس حتى ثار من تحت الأرض إعصار من نار لا يدنو منها أحد إلا احترق، فأحرق الإبل ورعاتها حتى أتى على آخرها.
ثم جاء عدو الله إبليس في صورة قبيحة على قعود إلى أيوب، فوجده قائماً يصلي فقال: يا أيوب أقبلت نار حتى غشيت إبلك، فأحرقتها ومن فيها غيري، فقال أيوب: الحمد لله الذي أعطانيها، وهو أخذها وإنها مال الله أعارنيها، وهو أولى بها إذا شاء تركها، وإذا شاء نزعها، وقديماً كنت وطنت نفسي ومالي على الفناء؛ قال إبليس: فإن الله ربك أرسل عليها ناراً من السماء، فاحترقت، فتركت الناس مبهوتين يتعجبون منها؛ منهم من يقول: ما كان أيوب يعبد شيئاً وما كان أيوب إلا في غرور، ومنهم من يقول: لو كان إله أيوب يقدر على أن يصنع شيئاً لمنع وليه، ومنهم من يقول: بل هو الذي فعل ليشمت به عدوّه ويفجع صديقه، فقال أيوب: الحمد لله حين أعطاني، وحين نزع مني عرياناً خرجت من بطن أمي، وعرياناً أعود في التراب، وعرياناً أحشر إلى الله عز وجل ليس ينبغي لك أن تفرح حين أعطاك الله وتجزع حين قبض الله على عاريته الله أولى بك وبما أعطاك، ولو علم الله تعالى فيك أيها العبد خيراً لنقل روحك مع تلك الأرواح، وصرت شهيداً، ولكنه علم منك شرّاً، فأخرجك فرجع إبليس إلى أصحابه خاسئاً ذليلاً، فقال لهم: ماذا عندكم من القوّة فإني لم أكلم قلبه؟ قال عفريت: عندي من القوّة ما إذا شئت صحت صيحة لا يسمعها ذو روح إلا خرجت روحه؛ قال إبليس: فأت الغنم ورعاتها، فانطلق حتى توسطها، ثم صاح صيحة فتجثمت أمواتاً من عند آخرها، وماتت رعاتها.
ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الرعاة إلى أيوب وهو يصلي فقال له مثل القول الأول، فردّ عليه أيوب مثل الردّ الأوّل، ثم رجع إبليس إلى أصحابه فقال: ماذا عندكم من القوّة، فإني لم أكلم قلب أيوب، فقال عفريت: عندي من القوّة ما إذا شئت تحولت ريحاً عاصفاً تنسف كل شيء تأتي عليه، قال: فأتِ الفدادين والحرث، فانطلق حين شرع الفدادون في الحرث والزرع، فلم يشعروا حتى هبت ريح عاصف فنسفت كل شيء من ذلك حتى كأنه لم يكن.
ثم جاء إبليس متمثلاً بقهرمان الحرث إلى أيوب وهو قائم يصلي، فقال له مثل قوله الأوّل، فردّ عليه أيوب مثل ردّه الأوّل، وجعل إبليس يهلك أمواله مالاً مالاً حتى مرّ على آخره كلما انتهى إليه هلاك مال من أمواله حمد الله تعالى، وأحسن الثناء عليه ورضي عنه بالقضاء، ووطن نفسه بالصبر على البلاء حتى لم يبق له مال، فلما رأى إبليس أنه قد أفنى ماله ولم ينجح منه بشيء صعد سريعاً حتى وقف في الموقف الذي يقف فيه وقال: إلهي إنّ أيوب يرى أنك ما متعته بولده، فأنت تعطيه المال، فهل أنت مسلطي على ولده، فإنها المصيبة التي لا تقوم لها قلوب الرجال.
قال الله تعالى: انطلق فقد سلطتك على ولده، فانقض عدوّ الله إبليس حتى جاء بني أيوب وهم في قصرهم، فلم يزل يزلزله بهم حتى تداعى من قواعده وجعل جدره يضرب بعضها بعضاً، ويرميهم بالخشب والحجارة حتى مثل بهم كل مثلة
على الله تعالى ﴿إنه هو﴾ أي: وحده ﴿السميع﴾ أي: لكل مسموع من استعاذتك وغيرها ﴿العليم﴾ أي: بكل معلوم من نزغه وغيره فهو القادر على رد كيده وتوهين أمره ثم استدل على ذلك بقوله تعالى:
﴿ومن آياته﴾ الدالة على وحدانيته وأنه سميع عليم ﴿الليل والنهار﴾ باختلاف هيئتهما على قدرته على البعث وكل مقدور، وقدم الليل على ذكر النهار تنبيهاً على أن الظلمة عدم، والنور وجود والعدم سابق على الوجود، ﴿والشمس والقمر﴾ اللذان هما الليل والنهار، وقدم الشمس على ذكر القمر لكثرة نفعها.
ولما ثبت أنه تعالى المنفرد بالخلق قال سبحانه: ﴿لا تسجدوا للشمس﴾ التي هي من أعظم أوثانكم وأعاد النافي تأكيداً فقال: ﴿ولا للقمر﴾ فإنهما دالان على وجود الإله مخلوقان مسخران فلا ينبغي السجود لهما لأن السجود عبارة عن نهاية التعظيم وهو لا يليق إلا بالذي أوجدهما من العدم كما قال تعالى: ﴿واسجدوا لله﴾ (فصلت: ٣٧)
أي: الذي له كل كمال من غير شائبة نقص.
واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: ﴿الذي خلقهن﴾ على أوجه؛ أولاها: عوده للآيات الأربع كما جرى عليه الجلال المحلي، وقيل: يرجع لليل والنهار والشمس والقمر، قال الزمخشري: لأن حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى والإناث، يقال: الأقلام بريتها وبريتهن، وناقشه أبو حيان من حيث أنه لم يفرق بين جمع القلة والكثرة في ذلك لأن الأفصح في جمع القلة أن يعامل معاملة الإناث وفي جمع الكثرة أن يعامل معاملة الأنثى، والأفصح أن يقال: الأجذاع كسرتهن والجذوع كسرتها، وأجاب بعضهم: بأن الزمخشري ليس في مقام بيان الفصيح من الأفصح بل في مقام كيف يجيء الضمير ضمير إناث بعد تقدم ثلاثة أشياء مذكرات وواحد مؤنث والقاعدة تغليب المذكر على المؤنت، وقال البغوي: إنما قال خلقهن بالتأنيث لأنه أجراها على طريق جمع التكسير ولم يجر على طريق التغليب للمذكر على المؤنت.
ولما ظهر أن الكل عبيده وكان السيد لا يرضى بإشراك عبده عبداً آخر في عبادة سيده قال تعالى: ﴿إن كنتم إياه﴾ أي: خاصة بغاية الرسوخ ﴿تعبدون﴾ كما هو صريح قولكم في الدعاء في وقت الشدائد لا سيما في البحر، وفي الآية إشارة إلى الحث على صيانة الآدميين على أن يقع منهم سجود لغيره رفعاً لمقامهم عن أن يكونوا ساجدين لمخلوق بعد أن كانوا مسجوداً لهم، فإنه تعالى أمر الملائكة عليهم السلام الذين هم من أشرف خلقه بالسجود لآدم عليه السلام وهم في ظهره فتكبر إبليس فأبَّد لعنته إلى يوم القيامة.
﴿فإن استكبروا﴾ أي: أوجدوا التكبر عن اتباعك فيما أمرتهم به من التوحيد فلم ينزهوا الله تعالى عن الشريك ﴿فالذين عند ربك﴾ أي: من الملائكة، قال الرازي: ليس المراد بهذه العندية: قرب المكان بل كما يقال عن الملك من الجند كذا وكذا، ويدل عليه قوله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي»، ﴿وأنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي﴾ ﴿يسبحون له بالليل والنهار﴾ أي: دائماً لقوله تعالى: ﴿وهم لا يسأمون﴾ أي: لا يملون ولقوله سبحانه وتعالى: ﴿يسبحون الليل والنهار لا يفترون﴾ (الأنبياء: ٢٠)، فإن قيل: اشتغالهم بهذا العمل على الدوام يمنعهم من الاشتغال بسائر الأعمال مع أنهم ينزلون إلى الأرض كما قال تعالى ﴿نزل به الروح الأمين على قلبك﴾ (الشعراء: ١٩٣ ـ ١٩٤)
وقال تعالى عن الذين قاتلوا يوم بدر ﴿يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين﴾ (آل عمران: ١٢٥)
أجيب: بأن الذين ذكرهم الله تعالى ههنا
الآية. وأما قوله تعالى:
﴿وأكيد﴾ أي: أنا بإتمام اقتداري ﴿كيداً﴾ فاختلف فيه أيضاً، فقيل: معناه أجازيهم جزاء كيدهم، وقيل: هو ما أوقع الله تعالى بهم يوم بدر من القتل والأسر، وقيل: استدراجهم من حيث لا يعلمون، وقيل: كيد الله تعالى لهم بنصره وإعلاء درجته تسمية لأحد المتقابلين باسم الآخر لقوله تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى: ٤٠)
. وقول الشاعر:
*ألا لا يجهلن أحد علينا... فنجهل فوق جهل الجاهلينا*
وكقوله تعالى: ﴿نسوا الله فنسيهم﴾ (التوبة: ٦٧)
﴿يخادعون الله وهو خادعهم﴾ (النساء: ١٤٢)
ولما كان هذا معلماً بأنهم عدم لا اعتبار بهم، قال تعالى مسبباً عنه تهديداً لهم ﴿فمهل الكافرين﴾ أي: فمهل يا أشرف الخلق هؤلاء البعداء، ولا تستعجل بالانتقام ولا بالدعاء عليهم بإهلاكهم فإنا لا نعجل لأنّ العجلة وهي إيقاع الشيء في غير وقته الأليق به نقص. وقوله تعالى: ﴿أمهلهم﴾ تأكيد حسنه مخالفة اللفظ، أي: أنظرهم ﴿رويداً﴾ أي: قليلاً، وهو مصدر مؤكد لمعنى العامل مصغر، روداً وأرواداً على الترخيم، وقد أخذهم الله تعالى ببدر ونسخ الإمهال بالأمر بالجهاد والقتال.
وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ سورة الطارق أعطاه الله تعالى بعدد كل نجم في السماء عشر حسنات» حديث موضوع.
سورة الأعلى مكية
في قول الجمهور وقال الضحاك مدنية، قال النووي: وكان النبيّ ﷺ يحيها لكثرة مااشتملت عليه من العلوم والخبرات، وهي تسع عشرة آية واثنتان وسبعون كلمة ومائتان وأربعة وثمانون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ عالم الغيب فلا تخفى عليه خافية ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ جوده كل أنس وجنّ وملك ودابة ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بمعرفتهم إحسانه.
واختلف في قوله سبحانه وتعالى: ﴿سبح اسم ربك﴾ فالأكثرون على أن المعنى: نزه ربك المحسن إليك بعد إيجادك على صفة الكمال عما لا يليق به، فاسم زائد، كقول لبيد:
*... إلى الحول ثم اسم السلام عليكما*
وقيل: عَظِّمْ ربك ﴿الأعلى﴾ والاسم زائد كما مرّ، قصد به تعظيم المسمى، وذكر الطبري أن المعنى: نزه اسم ربك الأعلى عن أن تسمي به أحداً سواه. وقيل: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم لذكره وقال الرازي: معنى ﴿سبح اسم ربك الأعلى﴾ أي: نزِّهْهُ عن كل ما لا يليق به في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه. أما في ذاته فأن تعتقد أنها ليست من الجواهر والأعراض، وأما في صفاته فأن تعتقد أنها ليست محدثة ولا متناهيةٌ ولا ناقصة، وأما في أفعاله فأن تعتقد أنه سبحانه مالك مطلق لا اعتراض لأحد عليه في أمر من الأمور، وأما في أسمائه فأن لا تذكره سبحانه إلا بالأسماء التي لا توهم نقصاً بوجهٍ من الوجوه، سواءٌ ورد الإذن فيها أم لم يرد، وأما في أحكامه سبحانه فأن تعلم أنه ما كلفنا لنفع يعود إليه بل لمحض المالكية. قال البغوي: ويحتج بهذا من يجعل الاسم والمسمى واحد، لأنّ أحداً لا يقول سبحان الله. وسبحان اسم ربنا إنما يقول: سبحان الله وسبحان ربنا. فكان معنى: {سبح اسم


الصفحة التالية
Icon