وسلم لقوله ﷺ «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» رواه الشيخان، وعن معاوية رضي الله تعالى عنه قال وهو يخطب: سمعت رسول الله ﷺ يقول: لا تزال من أمّتي أمّة قائمة بأمر الله لا يضرّهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة فإنه معلوم، وعن الكلبيّ هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، وقيل: هم العلماء والدعاة إلى الدين.
﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ أي: القرآن أو غيره من أهل مكة أو غيرهم ﴿سنستدرجهم﴾ أي: سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستبعاد والاستنزال درجة بعد درجة ﴿من حيث لا يعلمون﴾ أي: سنأخذهم قليلاً قليلاً من حيث لا يحتسبون، وذلك أنّ الله تعالى يفتح عليهم من النعم ما يغبطون به ويركنون إليه، ثم يأخذهم على غرّة أغفل ما يكونون.
وقيل: سنقرّبهم إلى ما يهلكهم ونضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم؛ لأنهم كانوا إذا أتوا بذنب فتح الله تعالى عليهم من أبواب الخير والنعمة في الدنيا، فيزدادوا بذلك تمادياً في الغيّ والضلالة ويتدرجوا في الذنوب والمعاصي بسبب ترادف النعم يظنون أن تواتر النعم يقرب من الله تعالى، وإنما هي خذلان منه وتبعيد، فهو استدراج الله تعالى فيأخذهم الله تعالى أخذة واحدة أغفل ما يكونون عليه، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما حمل إليه كنوز كسرى قال: اللهمّ إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فإني سمعتك تقول: ﴿سنستدرجهم من حيث لا يعلمون﴾.
﴿وأملي لهم﴾ أي: أمهلهم وأطيل مدّة أعمارهم ليتمادوا في الكفر والمعاصي ولا أعاجلهم بالعقوبة ولا أفتح لهم باب التوبة ﴿إنّ كيدي﴾ أي: أخذي ﴿متين﴾ أي: شديد وإنما سماه كيداً؛ لأنّ ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
﴿أو لم يتفكروا﴾ فيعلموا ﴿ما بصاحبهم﴾ محمد ﷺ ﴿من جنة﴾ أي: جنون.
روي أنه ﷺ صعد على الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يا بني فلان يا بني فلان يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم: إنّ صاحبكم لمجنون بات يهوّت إلى الصباح، فنزلت، ومعنى: يهوّت: يصوّت، يقال: هيت به وهوت به أي: صاح قاله الجوهريّ، وإنما نسبوه إلى الجنون وهو بريء منه؛ لأنه ﷺ خالفهم في الأقوال والأفعال؛ لأنه كان معرضاً عن الدنيا ولذاتها مقبلاً على الآخرة ونعيمها مشتغلاً بالدعاء إلى الله تعالى وإنذارهم بأسه ونقمته ليلاً ونهاراً من غير ملال ولا ضجر، فعند ذلك نسبوه إلى الجنون، فبرّأه الله تعالى من الجنون بقوله تعالى: ﴿إن﴾ أي: ما ﴿هو إلا نذير مبين﴾ أي: بين الإنذار بحيث لا يخفى على ناظر ﴿أولم ينظروا﴾ أي: نظر اعتبار واستدلال ﴿في ملكوت السموات والأرض﴾ أي: ملكهما البالغ ﴿وما﴾ أي: وفيما ﴿خلق الله من شيء﴾ أي: غيرهما مما يقع عليه الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدل لهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها؛ ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه، وقوله تعالى: ﴿وأن عسى أن يكون قد اقترب﴾ أي: دنا ﴿أجلهم﴾ عطف على ملكوت، وأن مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون ولا يصح أن تكون أن مصدرية خلافاً للبيضاوي قال التفتازانيّ: لأنّ المصدرية لا تدخل الأفعال غير المتصرّفة التي لا مصادر لها، والمعنى أولم
من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وروي إنّ الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيب}.
﴿والآخرة﴾ بالكفر، ثم عظم مصيبته بقوله تعالى: ﴿ذلك﴾ أي: الأمر العظيم ﴿هو﴾ أي: لا غيره. ﴿الخسران المبين﴾ أي: البين إذ لا خسران مثله ثم بين هذا الخسران الذي ردّه إلى ما كان فيه قبل الإيمان الحرفيّ بقوله تعالى:
﴿يدعو﴾ أي: يعبد حقيقة أو مجازاً ﴿من دون اللَّه﴾ أي: غير من الصنم ﴿ما لا يضرّه﴾ إن لم يعبده ﴿وما لا ينفعه﴾ إن عبده ﴿ذلك﴾ أي: الدعاء ﴿هو الضلال البعيد﴾ عن الحق والرشاد استعير الضلال البعيد من ضلال من أبعد في التيه ضالاً فطالت وبعدت مسافة ضلاله.
ولما كان الإحسان جالباً للإنسان لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها بَيَّن أن ما قيل في جلب النفع إنما هو على سبيل الفرض، فقال تعالى: ﴿يدعو لمن﴾ أي: من ﴿ضرّه﴾ بكونه معبوداً، لأنه يوجب القتل والخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿أقر من نفعه﴾ الذي يتوقع منه بعبادته، وهو الشفاعة والتوسل بها إلى الله تعالى.
تنبيه: علم مما تقرّر أنّ اللام في لمن مزيدة كما قال الجلال المحلي، ﴿فإن قيل﴾ : الضرر والنفع منفيان عن الأصنام مثبتان لها في الآيتين وهذا متناقض.
(أجيب) بأنّ المعنى إذا حصل ذهب هذا الوهم وذلك أنّ الله تعالى سفه الكافر بأنه يعبد جماداً لا يملك ضرّاً ولا نفعاً فيه بجهله وضلاله أنه ينتفع به حين يستشفع به ثم يوم القيامة يقوم هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ودخوله الرؤساء وهم الذين كانوا يفزعون إليهم بدليل قوله تعالى: ﴿لبئس المولى﴾ أي: الناصر هو ﴿ولبئس العشير﴾ أي: الصاحب هو قال الرازيّ وهذا الوصف بالرؤساء أليق لأنّ ذلك لا يكاد يستعمل في الأوثان فبين تعالى أنهم يعدلون عن عبادة الله إلى عبادة الأصنام وإلى طاعة الرؤساء.
ولما بين سبحانه وتعالى حال الكفار عقبه بحال المؤمنين بقوله تعالى: ﴿إنّ الله﴾ أي: الجامع لجميع صفات الكمال المنزه عن جميع شوائب النقص ﴿يُدخل الذين آمنوا﴾ بالله ورسله ﴿وعملوا﴾ تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ من الفروض والنوافل الخالصة الشاهدة بثباتهم في الإيمان ﴿جنات تجري من تحتها﴾ أي: في أيّ مكان من أرضها ﴿الأنهار﴾.
ولما بين سبحانه وتعالى حال الفريقين قال تعالى ﴿إن الله﴾ أي: المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿يفعل ما يريد﴾ من إكرام من يطيعه وإهانة من بعصيه لا دافع له ولا مانع وقوله تعالى: ﴿من كان يظنّ أن لن بنصره الله في الدنيا والآخرة﴾ فيه اختصار والمعنى أنّ الله ناصر رسوله في الدنيا والآخر فمن كان يظنّ خلاف ذلك ويتوقعه من غيظه فالضمير راجع إلى النبي ﷺ فإن قيل لم يجرل هـ ذكر في هذه الآية ﴿أجيب﴾ بأنّ فيها ما يدل عليه وهو ذكر الإيمان في قوله تعالى: ﴿إن الله يُدخل الذين آمنوا﴾ والإيمان لا يتم إلا بالله ورسوله، وقيل: الضمير راجع إلى من في أوّل الآية لأنه المذكور ومن حق الكناية أن ترجع إلى المذكور إذا أمكن ذلك، وعلى هذا المراد بالنصر الرزق. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله؟ أي: من يعطني أعطاه الله فكأنه قال من كان يظنّ أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة ﴿فليمدد بسبب﴾ أي:
ويزيدهم من فضله سوى ثواب أعمالهم تفضلاً منه، وروى أبو صالح عنه: «يشفعهم ويزيدهم من فضله» قال في إخوان: إخوانهم ثم أتبع المؤمنين بذكر ضدهم فقال تعالى ﴿والكافرون﴾ أي: العريقون في هذا الوصف القاطع الذين منعتهم عراقتهم من التوبة والإيمان ﴿لهم عذاب شديد﴾ بدل ما للمؤمنين من الثواب والتفضيل ولا يجيب دعاءهم وما دعاء الكافرين إلا في ضلال، فالآية من الاحتباك ذكر الاستجابة أولاً دليلاً على ضدها ثانياً والعذاب ثانياً دليلاً على ضده أولاً.
ولما قال تعالى أنه يجيب دعاء المؤمنين ورد سؤال وهو أن المؤمن قد يكون في شدة وبلية وفقر ثم يدعو فلا يظهر أثر الإجابة فكيف الجمع بينه وبين قوله تعالى ﴿ويستجيب الذين آمنوا﴾ فأجاب تعالى عنه بقوله تعالى:
﴿ولو﴾ أي: وهو يقبل ويستجيب والحال أنه لو ﴿بسط الرزق﴾ لهم هكذا كان الأصل لكن قال: ﴿لعباده﴾ لئلا يظن خصوصية ذلك بالتائبين إذ لا فرق بين التائب وغيره ﴿لبغوا﴾ أي: طغوا ﴿في الأرض﴾ أي: لصاروا يريدون كل ما يشتهون فيكثر القتل والسلب والنهب ونحو ذلك من أنواع الفساد، قال خباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية وذلك إنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع وتمنيناها فنزلت، وذكر في كون بسط الرزق موجباً للطغيان وجوه: الأول: أن الله تعالى لو سوى في الرزق بين الكل امتنع كون البعض محتاجاً إلى البعض وذلك موجب خراب العالم وتعطيل المصالح، ثانيها: أن هذه الآية مختصة بالعرب فإنه كلما اتسع رزقهم ووجدوا من ماء المطر ما يرويهم ومن الكلأ ومن العشب ما يشبعهم قدموا على النهب والغارة، ثالثها: أن الإنسان متكبر بالطبع فإن وجد الغنى والقدرة عاد إلى مقتضى خلقته الأصلية وهو التكبر وإذا وقع في شدة وبلية ومكروه انكسر وعاد إلى التواضع والطاعة، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: «بغيهم طلبهم منزلة بعد منزلة ومركباً بعد مركب وملبساً بعد ملبس» ﴿ولكن ينزل﴾ أي: لعباده من الرزق، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: بسكون النون وتخفيف الزاي والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿بقدر﴾ أي: بتقدير لهم ﴿ما يشاء﴾ أي: ما اقتضته مشيأته ﴿أنه﴾ وقال تعالى: ﴿بعباده﴾ ولم يقل بهم لئلا يظن أن الأمر خاص بمن وسع عليهم أو ضيق عليهم ﴿خبير بصير﴾ يعلم جميع ظواهر أمورهم وبواطنها فيقيم كل أحد فيما يصلح له من صلاح وفساد وعدل وبغي.
روى أنس بن مالك عن النبي ﷺ عن جبريل عليه السلام عن الله عز وجل في حديث طويل وفيه يقول الله عز وجل: «ما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض روح عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه»، و «أن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا الصحة ولو أسقمته لأفسده ذلك، وإن من عبادي المؤمنين من لا يصلح إيمانه إلا السقم ولو أصححته لأفسده ذلك، وذلك أني أدبر أمر عبادي بعلمي بقلوبهم إني عليم خبير». وقرأ ما يشاء أنه نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية كالياء ولهم أيضاً إبدالها واو أو الباقون بتحقيقهما وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المد والقصر والروم والإشمام.
﴿وهو﴾
همزة، أي: بواو ساكنة، وهما لغتان. يقال: أصدت الباب وأوصدته إذا أغلقته وأطبقته، وقيل: معنى المهموز المطبقة، وغير المهموز المغلقة. وإذا وقف حمزة أبدل على أصله. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري أن النبيّ ﷺ قال: «من قرأ سورة لا أقسم بهذا البلد أعطاه الله الأمان من غضبه يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة الشمس مكية
وهي خمس عشرة آية وأربع وخمسون كلمةومائتان وسبعة وأربعون حرفاً
﴿بسم الله﴾ الذي له الأسماء الحسنى ﴿الرحمن﴾ الذي يعلم السرّ وأخفى ﴿الرحيم﴾ الذي خص خواصه بالفردوس الأعلى.
وقوله تعالى: ﴿والشمس﴾، أي: الجامعة بين النفع والضرّ، بالنور والحرّ ﴿وضحاها﴾ قسم وقد تقدّم الكلام على أن الله تعالى يقسم بما شاء من مخلوقاته وقيل: التقدير ورب الشمس إلى تمام القسم. واختلف في قوله تعالى: ﴿وضحاها﴾ فقال مجاهد والكلبي: ضوءها وقال قتادة: هو النهار كله. وقال مقاتل: هو حرّها، وقال لقوله تعالى في طه: ﴿ولا تضحى﴾ (طه: ١١٩)، أي: لا يؤذيك الحرّ. وقال البريدي: انبساطها. قال الرازي: إنما أقسم بالشمس لكثرة ما يتعلق بها من المصالح، فإن أهل العالم كانوا كالأموات في الليل، فلما ظهر الصبح في المشرق صار ذلك الضوء كالروح الذي تنفخ فيه الحياة فصارت الأموات أحياء، ولا تزال تلك الحياة في القوّة والزيادة إلى غاية كمالها وقت الضحوة، وذلك يشبه استقرار أهل الجنة.
﴿والقمر﴾، أي: المكتسب من نورها كما أن أنوار النفوس من أنوار العقول ﴿إذا تلاها﴾، أي: تبعها، وذلك إذا سقطت رؤى الهلال. قال الليث: يقال تلوت فلاناً إذا اتبعته. وقال ابن زيد: إذا غربت الشمس في النصف الأول من الشهر تلاها القمر بالطلوع وفي آخر الشهر يتلوها بالغروب. وقال الفرّاء: تلاها، أي: أخذ منها يعني أن القمر يأخذ من ضوء الشمس. وقال الزجاج: تلاها، أي: حين استوى ودار وكان مثلها في الضياء والنور وذلك في الليالي البيض.
﴿والنهار﴾، أي: الذي هو محل الانتشار فيما جرت به الأقدار ﴿إذا جلاها﴾، أي: الشمس بارتفاعه لأن الشمس تنجلي في ذلك الوقت تمام الانجلاء وقيل: الضمير للظلمة أو للدنيا أو للأرض وإن لم يجر لها ذكر، كقولهم: أصبحت باردة يريدون الغداة، وأرسلت يريدون السماء.
﴿والليل﴾، أي: الذي هو ضدّ النهار فهو محل السكون والانقباض ﴿إذا يغشاها﴾، أي: يغطيها بظلمته فتغيب وتظلم الآفاق وقيل: الكتابة للأرض، أي: يغشى الدنيا بالظلمة فتظلم الآفاق فالكناية ترجع إلى غير مذكور، وجيء يغشاها مضارعاً دون ما قبله وما بعده مراعاة للفواصل؛ إذ لو أتى به ماضياً لكان التركيب إذا غشيها فتفوت المناسبة اللفظية بين الفواصل والمقاطع.
تنبيه: إذا في الثلاثة لمجرّد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.
﴿والسماء وما﴾، أي: ومن ﴿بناها﴾، أي: خلقها على هذا السقف المحكم. أقسم تعالى بنفسه وبأعظم مخلوقاته.
وقوله تعالى: ﴿والأرض﴾، أي: التي هي فراشكم ﴿وما﴾، أي: ومن ﴿طحاها﴾، أي: بسطها وسطحها على الماء كذلك.
وكذا قوله تعالى: ﴿ونفس﴾، أي: أي نفس جمع فيها سبحانه العالم بأسره ﴿وما﴾، أي: ومن ﴿سوّاها﴾، أي: عدلها على هذا القانون الأحكم في أعضائها، وما فيها من


الصفحة التالية
Icon