الشاعر:
*خذي العفو مني تستديمي مودّتي | ولا تنطقي في سورتي حين أغضب* |
وذلك سلام المتاركة، وقال جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «لم يكن رسول الله ﷺ فاحشاً ولا متفحشاً ولا سخاباً في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح»، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ «إن الله بعثني بمكارم الأخلاق وتمام محاسن الأفعال».
قال أبو زيد لما نزل قوله تعالى: ﴿وأعرض عن الجاهلين﴾ قال النبيّ ﷺ «كيف يا رب والغضب» فنزل ﴿وإما﴾ فيه إدغام نون إن الشرطية في ما الزائدة ﴿ينزغنك من الشيطان نزغ﴾ أي: وسوسة وقوله تعالى: ﴿فاستعذ﴾ أي: فاستنجد ﴿با﴾ جواب الشرط وجواب الأمر محذوف أي: يدفعه عنك.
تنبيه: احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء بهذه الآية، وقالوا: لولا أنه يجوز من النبي الإقدام على المعصية والذنب لم يحتج إلى الاستعاذة، وأجيب عن ذلك بأجوبة: الأول إنّ معنى هذا الكلام إن حصل في قلبك نزغ فاستعذ بالله كما أنه تعالى قال: ﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ (الزمر، ٦٥)
ولم يدل ذلك على أنه أشرك الثاني على تقدير أنه لو حصل وسوسة من الشيطان لكن الله تعالى قد عصم قلب نبيه ﷺ من قبولها وثباتها في قلبه وإنما القادح لو قبل ﷺ وسوسة والآية لا تدل على ذلك.
وروي أنه ﷺ قال: «ما من إنسان إلا ومعه شيطان» وفي رواية: «ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة» قالوا: وإياك يا رسول الله؟ قال: «وإياي إلا أنّ الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير» وفي رواية: «لكنه أسلم بعون الله فلقد أتاني فأخذت بحلقه ولولا دعوة سليمان لأصبح في المسجد طريحاً» قال النووي: يروى بفتح الميم وضمها فمن ضمها معناه فأسلم أنا من شره وفتنته ومن فتحها قال معناه: إنّ القرين أسلم أي: صار مسلماً فلا يأمرني إلا بخير الثالث: أنّ الخطاب للنبيّ ﷺ والمراد به غيره أي: وإما ينزغنك أيها الإنسان من الشيطان نزغ فاستعذ بالله كقوله تعالى: ﴿فإذا قرأت القرآن فاستعذ با﴾ (النحل، ٩٨)
﴿إنه سميع﴾ للقول ﴿عليم﴾ بالفعل، وفي الآية دليل على أنّ الاستعاذة باللسان لا تفيد إلا إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة فكأنه تعالى قال: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك فإني سميع واستحضر معنى الاستعاذة بعقلك وقلبك فإني عليم بما في ضميرك وفي الحقيقة القول اللساني بدون المعارف القلبية عديم الفائدة والأثر ﴿إنّ الذين اتقوا إذا مسهم﴾ أي: أصابهم ﴿طيف﴾ أي: شيء ألمّ بهم ﴿من الشيطان تذكروا﴾ عقاب الله وثوابه ﴿فإذا هم مبصرون﴾ الحق من غيره، فيرجعون.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بياء ساكنة بعد الطاء والباقون بألف بعد الطاء بعدها همزة
في الصحيحين عن بي ذر قال: «قلت يا رسول الله أي مسجد وضع أولاً؟ قال المسجد الحرام، قلت: ثم أيّ؟ قال: بيت المقدس قلت كم بينهما قال أربعون سنة» ثم فسر التبوئة بقوله تعالى: ﴿أن لا تشرك بي شيئاً﴾ فابتدأ بأُسِّ العبادة ورأسها وعطف على النهي قوله تعالى: ﴿وطهر بيتي﴾ أي: عن كل ما لا يليق به من الأوثان والأقذار وطواف عريان به كما كان العرب تفعل ﴿للطائفين﴾ أي: الذين يطوفون بالبيت فإن قيل كيف يكون النهي عن الشرك والأمر بتطهير البيت تفسير للتبوئة؟ (أجيب) بأنّ التبوئة لما كانت مقصودة من أجل العبادة فكأنه قيل تعبدنا إبراهيم قلنا له لا تشرك بي شيئاً وطهر بيتي للطائفتين، وقال ابن عباس للطائفين بالبيت من غير أهله ﴿والقائمين﴾ أي: المقيمين ﴿والركوع السجود﴾ أي: المصلين من الكل وقال غيره القائمين هم المصلون لأنّ المصلي لا بدّ أن يكون في صلاته جامعاً بين القيام والركوع والسجود، قال البيضاويّ: ولعله عبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على أنّ كل واحد منها مستقل باقتضاء ذلك كيف وقد اجتمعت ﴿وأذن في الناس﴾ أي: أعلمهم وناد
فيهم ﴿بالحج﴾ وهو قصد البيت على سبيل التكرار للعبادة المخصوصة بالمشاعر المنصوصة، وفي المأمور بذلك قولان أحدهما وعليه أكثر المفسرين أنه إبراهيم عليه السلام، قالوا: لما فرغ من بناء البيت قال الله تعالى له أذن في الناس بالحج. قال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: عليك الأذان وعليّ البلاغ فصعد إبراهيم الصفا وفي رواية أخرى أبا قبيس وفي أخرى على المقام قال إبراهيم: كيف أقول قال جبريل قل لبيك اللهمّ لبيك فهو أوّل من لبى وفي رواية أخرى صعد على الصفا فقال: يا أيها الناس إنّ الله كتب عليكم حج هذا البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض فما بقي شيء سمع صوته إلا أقبل يلبي يقول لبيك اللهمّ لبيك، وفي رواية أخرى: إنّ الله يدعوكم إلى حج بيته الحرام ليثيبكم به الجنة ويجيركم من الناس فأجابه يومئذ من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء وكل من وصل إليه صوته من حجر، أو شجر، أو آنية، أو تراب قال مجاهد فما حج إنسان ولا يحج أحد حتى تقوم الساعة إلا وقد أسمعه ذلك النداء فمن أجاب مرّة حج مرّة، ومن أجاب مرّتين أو أكثر فيحج مرّتين أو أكثر بذلك المقدار، وفي رواية فنادى على جبل أبي قبيس يا أيها الناس إنّ ربكم بنى بيتاً وأوجب الحج عليكم إليه فأجيبوا ربكم والتفت بوجهه يميناً وشمالاً وشرقاً وغرباً فأجابه كل من كتب له أن يحج من أصلاب الرجل وأرحام الأمّهات لبيك اللهمّ لبيك، وعن ابن عباس قال لما أمر الله إبراهيم بالأذان تواضعت له الجبال وخفضت وارتفعت له القرى، القول الثاني أنّ المأمور بذلك هو النبيّ محمد ﷺ وهو قول الحسن واختاره أكثر المعتزلة واحتجوا عليه بأنّ ما جاء في القرآن وأمكن حمله على أنّ محمد ﷺ هو المخاطب به فهو أولى لأنّ قوله تعالى: ﴿وإذ بوأنا﴾ تقديره واذكر يا محمد إذ بوّأنا فهو في حكم المذكور، فإذا قال تعالى: وأذن فإليه يرجع الخطاب أمر أن يفعل ذلك في حجة الوداع،
روي عن أبي
هريرة قال: «خطبنا رسول الله ﷺ فقال يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا» وجواب الأمر ﴿يأتوك﴾ أي يأتوا بيتك الذي بنيته لذلك مجيبين لصوتك بإذننا سامعين طائعين مجنبين خاشعين من أقطار الأرض كما
الذين كملت خسارتهم ﴿الذين خسروا أنفسهم﴾ بما استغرقها من العذاب ﴿وأهليهم﴾ بمفارقتهم لهم، أما في إطباق العذاب إن كانوا مثلهم في الخسران أو في دار الثواب إن كانوا من أهل الإيمان ﴿يوم القيامة﴾ أي: هو يوم فوت التدارك لأنه للجزاء لا للعمل لفوات شرطه بفوات الإيمان بالغيب لانكشاف الغطاء، وهذا القول يحتمل أن يكون واقعاً في الدنيا أو يوم القيامة إذا رأوهم على تلك الصفة وقوله تعالى: ﴿ألا إن الظالمين﴾ أي: الراسخين في هذا الوصف ﴿في عذاب مقيم﴾ أي: دائم يحتمل أن يكون من تمام كلام المؤمنين وأن يكون تصديقاً من الله تعالى لهم.
﴿وما كان﴾ أي: ما صح ووجد ﴿لهم﴾ وأغرق في النفي فقال تعالى: ﴿من أولياء﴾ أي: فما لهم من ولي لأن النصرة إذا انتفت من الجمع انتفت من الواحد من باب أولى ﴿ينصرونهم﴾ أي: يوجدون نصرهم في وقت من الأوقات ﴿من دون الله﴾ أي: الملك الأعظم، أي: لا في الدنيا بأن يقدروا على إنقاذهم من وصف الظلم ولا في الآخرة بإنقاذهم من العذاب ﴿ومن يضلل الله﴾ أي: يوجد إضلاله إيجاداً بليغاً بما أفاده الفك على سبيل الاستمرار بعدم البيان أو بعدم التوفيق بعد البيان ﴿فما له﴾ بسبب إضلال من له جميع صفات الكمال وأغرق تعالى في النفي بقوله سبحانه: ﴿من سبيل﴾ أي: طريق إلى الحق في الدنيا وإلى الجنة في الآخرة.
ولما ذكر تعالى الوعد والوعيد ذكر بعده ما هو المقصود فقال تعالى:
﴿استجيبوا لربكم﴾ أي: أجيبوه بالتوحيد والعبادة فإنه الذي لم تروا إحساناً إلا وهو منه ﴿من قبل أن يأتي يوم﴾ هو يوم القيامة ﴿لا مرد له من الله﴾ أي: الذي له جميع العظمة فإنه إذا أتى به لا يرده وإذا لم يكن له مرد منه لم يكن له مرد من غيره ومتى عدم ذلك أنتج قوله تعالى: ﴿ما لكم﴾ وأغرق في النفي بقوله تعالى: ﴿من ملجأ﴾ أي: تلجؤون إليه ﴿يومئذ﴾ أي: في ذلك اليوم وزاد في التأكيد بإعادة النافي وما في حيزه إبلاغاً في التحذير فقال تعالى: ﴿وما لكم من نكير﴾ أي: إنكار لما اقترفتموه لأنه مدون في صحائفكم تشهد عليه ألسنتكم وجوارحكم.
﴿فإن أعرضوا﴾ أي: عن الإجابة فيما دعوتهم إليه ﴿فما أرسلناك﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿عليهم حفيظاً﴾ أي: تقهرهم على امتثال ما أرسلناك به ﴿إن عليك إلا البلاغ﴾ لما أرسلناك به، وأما الهداية والإضلال فإلينا، وهذا كما قال الجلال المحلي: قبل الأمر بالجهاد ﴿وإنا إذا أذقنا﴾ أي: بالعظمة التي لا يمكن مخالفتها ﴿الإنسان﴾ أي: بما جبلناه عليه من النقص وعدم التمالك ﴿منا رحمة﴾ قال ابن عباس رضي الله عنهما: نوعاً من أنواع الإكرام من صحة أو غنى أو نحو ذلك ﴿فرح بها﴾ أي: بتلك الرحمة وأفرد ضمير فرح نظراً للفظ الإنسان إشارة إلى أنه مطبوع على أنه ليس عليه إلا من نفسه، ولو كان أهل الأرض كلهم على غير ذلك ونعمة الله تعالى عليهم، وإن كانت في الدنيا عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادات الآخرة القطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سميت ذوقاً، فبين تعالى أن الإنسان إذا حصل له هذا القدر الحقير في الدنيا فرح به وعظم غروره ووقع في العجب والكبر وظن أنه فاز بكل المنى ووصل إلى أقصى السعادات، وهذه طريقة من ضعف اعتقاده في سعادات الآخرة وجمع ضمير الإنسان في قوله تعالى: ﴿وإن تصبهم﴾ باعتبار معناه ﴿سيئة﴾ أي: شيء يسوءهم في الحال كالمرض والفقر والقحط ﴿بما قدمت أيديهم﴾ أي: قدموه وعبر بالأيدي
صلى الله عليه وسلم «رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة وأعتق بلالاً» والآية تشمل من فعل مثل فعله فيبعد عن النار ويثاب. وقرأ حمزة والكسائيّ يغشى، تجلى، والأنثى، لشتى، من أعطى، وأتقى، وصدّق بالحسنى واستغنى بالحسنى، تردّى، للهدى، والأولى، تلظى، الأشقى، وتولى، الأتقى، يتزكى، تجزى، الأعلى، يرضى بالإمالة محضة في جميع ذلك، وأمال ورش جميع ذلك بين بين والفتح عنه قليل، وله في من أعطى الفتح وبين اللفظين سواء، وأمال أبو عمرو بين بين إلا من أعطى لأنه ليس برأس آية، والباقون بالفتح، وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي لليسرى للعسرى بالإمالة محضة، وورش بين اللفظين والباقون بالفتح، وأمال حمزة والكسائي يصلاها محضة ولورش الفتح وبين اللفظين وإذا فتح اللام وإذا أمال رققها، وأمّا الأشقى والأتقى فلا يمالان إلا في الوقف دون الوصل. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: أنّ النبيّ ﷺ قال: «من قرأ سورة والليل أعطاه الله تعالى حتى يرضى وعافاه من العسر ويسر له اليسر» حديث موضوع.
سورة الضحى مكية
وهي إحدى عشرة آية وأربعون كلمة ومائة وسبعون حرفاً
ولما نزلت كبر النبيّ ﷺ فسنّ التكبير آخرها وروى الأمر به خاتمتها وخاتمة كل سورة بعدها وهو الله أكبر أو لا إله إلا الله والله أكبر.
﴿بسم الله﴾ الملك ذي الجلال والإكرام ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بنعمته الخاص والعام ﴿الرحيم﴾ الذي خص أهل ودّه بإتمام الإنعام.
وقوله تعالى: ﴿والضحى﴾ قسم، وقد مرّ الكلام على ذلك وخصه بالقسم لأنها الساعة التي كلم فيها موسى عليه السلام وألقى السحرة فيها سجداً، وهو صدر النهار كله بدليل أنه قابله بالليل في قوله تعالى:
﴿والليل﴾، أي: الذي به تمام الصلاح ﴿إذا سجى﴾، أي: سكن وركد ظلامه يقال ليلة ساجية ساكنة الريح وقيل: معناه سكون الناس والأصوات فيه، وسجى البحر: سكنت أمواجه، وطرف ساج فاتر.
وقال قتادة: أقسم بالضحى الذي كلم الله تعالى فيه موسى وبليلة المعراج التي عرج فيها النبيّ ﷺ فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى قدّم هنا الضحى وفي السورة التي قبلها الليل؟ أجيب: بأنّ لكل منهما أثراً عظيماً في صلاح العالم.
ولليل فضيلة السبق لقوله تعالى: ﴿وجعل الظلمات والنور﴾ (الأنعام: ١)
وللنهار فضيلة النور فقدّم سبحانه هذا تارة وهذا أخرى، كالركوع والسجود في قوله تعالى: ﴿اركعوا واسجدوا﴾ (الحج: ٧٧)
وقوله تعالى: ﴿واسجدي واركعي مع الراكعين﴾ (آل عمران: ٤٣)
أو أنه قدّم الليل في سورة أبي بكر لأنّ أبا بكر سبقه كفر، وقدّم الضحى في سورة محمد ﷺ لأنه نور محض ولم يتقدّمه ذنب، أو أنّ سورة الليل سورة أبي بكر وسورة الضحى سورة محمد ﷺ ولم يجعل بينهما واسطة بين محمد ﷺ وبين أبي بكر رضي الله تعالى عنه. { {
فإن قيل: ما الحكمة في كونه تعالى ذكر الضحى، وهو ساعة وذكر الليل بجملته؟ أجيب: بأنّ في ذلك