لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال تعالى: ﴿أولئك كالأنعام بل هم أضل﴾ (الأعراف، ١٧٩)
قال ابن عباس: هم نفر من بني عبد الدار بن قصي كانوا يقولون: نحن صم بكم عما جاء به محمد، فقتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحاب اللواء، ولم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويبط بن حرملة.
﴿ولو علم الله فيهم خيراً﴾ أي: سعادة كتبت لهم أو انتفاعاً بالآيات ﴿لأسمعهم﴾ سماع تفهم ﴿ولو أسمعهم﴾ على سبيل الفرض، وقد علم أن لا خير فيهم ﴿لتولوا﴾ عنه ولم ينتفعوا به وارتدّوا عن التصديق والقبول ﴿وهم معرضون﴾ لعنادهم وجحودهم الحق بعد ظهوره، وقيل: إنهم كانوا يقولون لرسول الله ﷺ أحي لنا قصياً فإنه كان شيخاً مباركاً يشهد لك بالنبوّة، فنؤمن بك، فقال الله تعالى: ولو أسمعهم كلام قصي لتولوا وهم معرضون.
﴿ياأيها الذين آمنوا استجيبوا وللرسول﴾ أي: أجيبوهما بالطاعة، ووحد الضمير في قوله تعالى: ﴿إذا دعاكم﴾ ؛ لأنّ دعوة الله تعالى تسمع من الرسول صلى الله عليه وسلم
روى الترمذي أنه ﷺ مرّ على أبيّ بن كعب وهو يصلي فدعاه، فعجل في صلاته ثم جاء، فقال له ﷺ «ما منعك عن إجابتي؟» قال: كنت أصلي، قال: «ألم تجد فيما أوحي إليّ ﴿استجيبوا وللرسول﴾ ؟ ويؤخذ من ذلك أنّ إجابته ﷺ بالقول: لا تقطع الصلاة، وهو كذلك، بل ولا بالفعل الكثير كما قاله بعض أصحابنا، وهو ظاهر الحديث أيضاً.
ولما كان اجتناء ثمرة الطاعة في غاية القرب منه نبه على ذلك باللام دون إلى فقال: ﴿لما يحييكم﴾ من العلوم الدينية فإنها حياة القلوب والجهل موتها، قال أبو الطيب:

*لا تعجبنّ الجهول حليته فذاك ميت وثوبه كفن*
أو مما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد، وقال السدي: هو الإيمان؛ لأن الكافر ميت فيحيا بالإيمان، وقال ابن إسحق: هو الجهاد أعزكم الله تعالى به بعد الذل، وقال العتبي: هو الشهادة لقوله تعالى: ﴿بل أحياء عند ربهم يرزقون﴾ (آل عمران، ١٦٩)
﴿واعلموا أنّ الله يحول بين المرء وقلبه﴾ أي: إنه يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليماً كما يردّه الله تعالى، فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لطاعة الله ورسوله.
وقال الضحاك: يحول بين المرء المؤمن والمعصية وبين الكافر والطاعة، وقال السدي: يحول بين المرء وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه، وقال مجاهد: يحول بين المرء وقلبه، فلا يعقل ولا يدري ما يعمل.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله ﷺ يكثر أن يقول: «يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك»
قالوا: يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال: «القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء» ﴿وإنه﴾ أي: واعلموا أنه تعالى: ﴿إليه تحشرون﴾ لا إلى غيره فلا تتركوا مهملين معطلين فيجازيكم بأعمالكم وفي هذا تشديد في العمل وتحذير عن الكسل والغفلة.
﴿واتقوا فتنة﴾ أي: ذنباً، قيل: هو إقرار المنكر بين أظهرهم، وقيل: افتراق الكلمة، وقيل: فتنة عذاباً، وقوله تعالى: ﴿لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ جواب الأمر، والمعنى إن إصابتكم لا تصب الظالمين منكم خاصة، ولكنها تعمكم، كما يحكى إنّ علماء بني إسرائيل لم ينهوا عن المنكر، فعمهم الله تعالى بالعذاب.
فإن قيل: كيف جاز أن تدخل
إخراج النبات بالماء ﴿خبير﴾ أي: بمصالح الخلق ومنافعهم، فإنه مطلع على السرائر، وإن دقت فلا يستبعد عليه إحياء من أراد بعد موته، وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط.
الأمر الثاني: قوله تعالى:
﴿له ما في السموات﴾ أي: التي أنزل منها الماء ﴿وما في الأرض﴾ أي: التي استقر فيها ملكاً وخلقاً ﴿وإنّ الله﴾ أي: الذي له الإحاطة التامة ﴿لهو﴾ أي: وحده ﴿الغني﴾ في ذاته عن كل شيء ﴿الحميد﴾ أي: المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله.
الأمر الثالث: قوله تعالى:
﴿ألم ترَ﴾ أي: أيها المخاطب ﴿أنّ الله﴾ ذا الجلال والإكرام ﴿سخر لكم﴾ فضلاً منه ﴿ما في الأرض﴾ كله من مسالكها وفجاجها، وما فيها من حيوان وجماد وزرع وثمار، فلولا تسخيره تعالى الإبل والبقر مع قوتهما حتى ذللهما للضعيف من الناس لما انتفع بهما أحد منهم.
الأمر الرابع: قوله تعالى: ﴿والفلك﴾ أي: وسخر لكم الفلك أي: السفن، ثم بيّن تسخيرها بقوله: ﴿تجري في البحر﴾ العجاج المتلاطم بالأمواج بريح طيبة للركوب والحمل ﴿بأمره﴾ أي: بإذنه.
الأمر الخامس: قوله تعالى: ﴿ويمسك السماء﴾ أي: كراهة ﴿أنّ تقع على الأرض﴾ التي تحتها مع علوها وعظمها وكونها بغير عمد فتهلكوا ﴿إلا بإذنه﴾ أي: بمشيئته، فيقع ذلك يوم القيامة حين يريد طي هذا العالم وإيجاد عالم البقاء ﴿إن الله﴾ أي: الذي له الخلق والأمر ﴿بالناس﴾ أي: على ظلمهم ﴿لرؤوف﴾ أي: بما يحفظ من سرائرهم ﴿رحيم﴾ أي: حيث هيأ لهم أسباب الاستدلال وفتح لهم أبواب المنافع، ودفع عنهم أبواب المضار.
﴿وهو﴾ أي: وحده ﴿الذي أحياكم﴾ أي: عن الجمادية بعد أنّ أوجدكم من العدم ﴿ثم يميتكم﴾ أي: عند انقضاء آجالكم ليكون الموت واعظاً لأولي البصائر منكم ﴿ثم يحييكم﴾ أي: يوم البعث للثواب والعقاب وإظهار العدل في الجزاء ﴿إن الإنسان﴾ أي: المشرك ﴿لكفور﴾ أي: لبليغ الكفر حيث لم يشكر على هذه النعم المحيطة به فيوحد الله تعالى، وقال ابن عباس: هو الأسود بن عبد الأسد، وأبو جهل، والعاص بن وائل، وأبيّ بن خلف، قال الرازي: والأولى تعميمه في كل المنكرين.
﴿لكل أمة﴾ أي: في كل زمان ﴿جعلنا منسكاً﴾ قال ابن عباس: شريعة يتعبدن بها ﴿هم ناسكوه﴾ أي: عاملون بها، وروي عنه أنه قال: عيداً، وقال مجاهد وقتادة: موضع قربان يذبحون فيه، وقيل: موضع عبادة، وقرأ حمزة والكسائي: منسكاً، بكسر السين، والباقون بفتحها ﴿فلا ينازعنك في الأمر﴾ أي: أمر الذبائح، نزلت في بديل بن ورقاء، وبشر بن سفيان، ويزيد بن خنيس قالوا لأصحاب النبيّ: ﷺ ما لكم تأكلون مما تقتلون، ولا تأكلون مما قتله الله تعالى؟ يعنون الميتة، وقال الزجاج: هو نهي له ﷺ عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربنك فلان أي: فلا تضاربه، وهذا جائز في الفعل الذي لا يكون إلا بين اثنين معناه لا تنازعهم أنت ﴿وادع﴾ أي: أوقع الدعوة لجميع الخلق ﴿إلى ربك﴾ المحسن إليك أي: إلى دينه، ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنك﴾ مؤكداً له بحسب ما عندهم من الإنكار ﴿لعلى هدى﴾ أي: دين واضح ﴿مستقيم﴾ هو دين الإسلام.
﴿وإن جادلوك﴾ أي: في أمر الدين بعد أنّ ظهر الحق ولزمت الحجة ﴿فقل الله﴾ أي: الملك المحيط بالعز والعلم ﴿أعلم بما تعملون﴾ من المجادلة الباطلة وغيرها، فيجازيكم عليه وهذا وعيد فيه رفق، وكان ذلك قبل الأمر بالقتال، ولما أمر الله تعالى بالإعراض عنهم، وكان
والباقون بغير مد إفراد أي: جاء العاشي ﴿قال﴾ أي: العاشي تندماً وتحسراً لا انتفاع له به لفوات محله وهو دار العمل ﴿يا ليت بيني وبينك﴾ أي: أيها القرين ﴿بعد المشرقين﴾ أي: ما بين المشرق والمغرب على التغليب قاله ابن جرير وغيره، أو مشرق الشتاء والصيف أي بعد أحدهما عن الآخر ثم سبب عن هذا التمني قوله جامعاً له أنواع المذام ﴿فبئس القرين﴾ والمخصوص بالذم محذوف أي: أنت لأنك الذي قد أضللتني وأوصلتني إلى هذا العيش الضنك والمحل الدحض قال أبو سعيد الخدري: «إذا بعث الكافر زوج بقرينه من الشياطين فلا يفارقه حتى يصيرا إلى النار» وفي فاعل قوله تعالى:
﴿ولن ينفعكم اليوم﴾ قولان أحدهما: أنه ملفوظ به وهو أنكم وما في حيزها والتقدير: ولن ينفعكم اشتراككم في العذاب بالتأسي كما ينفعكم الاشتراك في مصائب الدنيا فيتأسى المصاب بمثله ومنه قول الخنساء:
*ولولا كثرة الباكين حولي على موتاهم لقتلت نفسي*
*وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي*
والثاني: أنه مضمر فقدره بعضهم ضمير التمني المدلول عليه بقوله: ﴿يا ليت بيني﴾ أي: لن ينفعكم تمنيكم البعد وبعضهم اجتماعكم وبعضهم ظلمكم وجحدكم، وعبارة من عبر بأن الفاعل محذوف مقصوده الإضمار المذكور لا الحذف إذ الفاعل لا يحذف إلا في مواضع ليس هذا منها والمعنى: ولن ينفعكم اليوم في الآخرة ﴿إذ ظلمتم﴾ أي: أشركتم في الدنيا ﴿أنكم في العذاب مشتركون﴾ أي: لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ولا يخفف الاشتراك عنكم لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب كما كنتم تشتركون في الدنيا.
تنبيه: استشكل المعربون هذه الآية ووجهه أن قوله تعالى: ﴿اليوم﴾ ظرف حالي وإذ ظرف ماضي وينفعكم مستقبل لاقترانه بلن التي لنفي المستقبل، والظاهر أنه عامل في الظرفين وكيف يعمل الحدث المستقبل الذي لم يقع إلا بعد في ظرف حالي وماض هذا مما لا يجوز؟ أجيب: عن أعماله في الظرف الحالي على سبيل قربه منه لأن الحال قريب من الاستقبال فيجوز في ذلك قال تعالى: ﴿فمن يستمع الآن يجد له شهاباً رصداً﴾ (الجن: ٩)
وقال الشاعر:
*سأسعى الآن إذ بلغت أباها وهو إقناعي وإلا فالمستقبل*
يستحيل وقوعه في الحال عقلاً وأما قوله تعالى: ﴿إذ﴾ ففيها للناس أوجه كثيرة قال ابن جني: راجعت أبا علي فيها مراراً كثيرة فآخر ما حصلت منه أن الدنيا والآخرة متصلتان وهما سواء في حكم الله تعالى وعلمه، فإذ بدل من اليوم حتى كأنها مستقبلة أو كان اليوم ماض وإلى هذا نحا الزمخشري قال: وإذ بدل من اليوم، وحمل الزمخشري على معنى إذ تبين وصح ظلمكم ولم يبق لأحد ولا لكم شبهة في أنكم كنتم ظالمين ونظيره:
*إذا ما انتسبنا لم تلدني لئيمة*
أي: تبين أني ولد كريمة.
ولما وصفهم في الآية المتقدمة بالعشي وصفهم بالصمم والعمى بقوله تعالى:
﴿أفأنت﴾ أي: وحدك من غير إرادة الله تعالى ﴿تسمع الصم﴾ وقد أصممناهم بما صببنا في مسامع أفهامهم من رصاص الشقاء
يريد زبانية جهنم سموا بها لأنهم يدفعون أهل النار إليها بشدّة، جمع زبني مأخوذ من الزبن وهو الدفع. وقال الزمخشري: الزبانية في كلام العرب الشُّرط الواحد زبنية. وقال الزجاج: هم الملائكة الغلاظ الشداد. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تعالى. وروي «أنّ النبيّ ﷺ لما قرأ هذه السورة وبلغ إلى قوله تعالى: ﴿لنسفعاً بالناصية﴾ قال: أبو جهل: أنا أدعو قومي حتى يمنعوا عني ربك». قال الله تعالى: ﴿فليدع ناديه سندع الزبانية﴾ فلما ذكر الزبانية رجع فزعاً، فقيل: له: خشيت منه؟ قال: لا ولكن رأيت عنده فارساً وهدّدني بالزبانية فلا أدري الزبانية، ومال إليّ الفارس فخشيت منه أن يأكلني. قال ابن عباس رضي الله عنهما: والله لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته».
وقوله تعالى: ﴿كلا﴾ ردع لأبي جهل، أي: ليس الأمر على ما يظنه أبو جهل ﴿ولا تطعه﴾ أي: فيما دعاك إليه من ترك الصلاة كقوله تعالى: ﴿ولا تطع المكذبين﴾ وقوله تعالى: ﴿واسجد﴾ يحتمل أن يكون بمعنى السجود في الصلاة، وأن يكون سجود التلاوة في هذه السورة، ويدل لهذا ما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سجدت مع رسول الله ﷺ في ﴿إذا السماء انشقت﴾ (الانشقاق: ١)
وفي ﴿اقرأ باسم ربك الذي خلق﴾ سجدتين، وهذا نص أن المراد سجود التلاوة، ويدل للأوّل قوله تعالى: ﴿أرأيت الذي ينهى عبداً إذا صلى﴾ إلى قوله تعالى: ﴿كلا لا تطعه واسجد﴾ أي: ودم على سجودك. قال الزمخشري: يريد الصلاة لأنه لا يرى سجود التلاوة في المفصل والحديث عليه. ﴿واقترب﴾ أي: وتقرّب إلى ربك بطاعته وبالدعاء إليه. قال ﷺ «أما الركوع فعظموا فيه الرب، وأما السجود فاجتهدوا في الدعاء فقمن ـ أي: فحقيق ـ أن يستجاب لكم». «وكان ﷺ يكثر في سجوده من البكاء والتضرّع حتى قالت عائشة رضي الله عنها: قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخر فما هذا البكاء في السجود؟ وما هذا الجهد الشديد؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً». وفي رواية: «أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء». وقرأ ليطغى، واستغنى، إذا صلى، على الهدى، بالتقوى، وتولى حمزة والكسائي جميع ذلك بالإمالة محضة، وورش وأبو عمرو بين بين والفتح عن ورش قليل، والباقون بالفتح. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة العلق أعطي من الأجر كأنما قرأ المفصل كله» حديث موضوع.
سورة القدر مدنية
في قول أكثر المفسرين، وحكى الماوردي عكسه، وذكر الواحدي أنها أوّل سورة نزلت بالمدينة وهي خمس آيات وثلاثون كلمة ومائة واثنتا عشر حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الملك الأعظم الذي لا يعبد إلا إياه ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بجوده جميع خلقه أقصاه وأدناه ﴿الرحيم﴾ الذي قرّب أهل طاعته وأبعد من عداهم وأشقاه.
وقوله تعالى: ﴿إنا أنزلناه﴾ أي: بما لنا من العظمة، أي: القرآن فيه تعظيم له من ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه أسند إنزاله إليه وجعله مختصاً به دون غيره.
والثاني: أنه جاء بضميره دون اسمه الظاهر شهادة له بالنباهة والاستغناء عن


الصفحة التالية
Icon