الآخرة، والعذاب الذي نفي عنهم هو عذاب الدنيا، ثم بيّن تعالى ما لأجله يعذبهم، فقال: ﴿وهم يصدّون﴾ أي: يمنعون النبيّ ﷺ والمسلمين ﴿عن المسجد الحرام﴾ أن يطوفوا به وذلك عام الحديبية، ونبه تعالى على أنهم يصدّونهم لادعائهم أنهم أولياؤه، فكانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، فنصد من نشاء وندخل من نشاء، ثم بيّن تعالى بطلان هذه الدعوى بقوله تعالى: ﴿وما كانوا أولياءه﴾ كما زعموا ﴿إن﴾ أي: ما ﴿أولياؤه إلا المتقون﴾ أي: الذين يتحرّزون عن المنكرات الذين لا يعبدون فيه غيره، وقيل: الضميران لله ﴿ولكنّ أكثرهم﴾ أي: الناس ﴿لا يعلمون﴾ أن لا ولاية لهم عليه وكأنه نبه بالأكثر على أنّ منهم من يعلم ويعاند، أو أراد به الكل كما يراد بالقلة العدم.
﴿وما كان صلاتهم عند البيت﴾ أي: دعاؤهم أو ما يسمونه صلاة، أو ما يضعون موضعها ﴿إلا مكاء﴾ أي: صفيراً ﴿وتصدية﴾ أي: تصفيقاً، قال ابن عباس: كانت قريش يطوفون بالبيت عراة يصفرون ويصفقون.
وقال مجاهد: كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبيّ ﷺ في الطواف ويستهزؤون به، ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون، ويخلطون عليه طوافه وصلاته، فالمكاء جعل الأصابع في الشدق، والتصدية الصفير، وقال مقاتل: كان النبيّ ﷺ إذا دخل المسجد الحرام قام رجلان عن يمينه ورجلان عن يساره يصفران ويصفقان ليخلطوا على النبيّ ﷺ صلاته ﴿فذوقوا العذاب﴾ أي: عذاب القتل والأسر ببدر في الدنيا، وعذاب النار في الآخرة ﴿بما﴾ أي: بسبب ما ﴿كنتم تكفرون﴾ اعتقاداً وعملاً. ولما ذكر تعالى عبادة الكفار البدنية، وهي المكاء والتصدية، ذكر عقبه عبادتهم المالية التي لا جدوى لها في الآخرة بقوله تعالى:
﴿إنّ الذين كفروا ينفقون أموالهم﴾ في حرب النبيّ ﷺ ﴿ليصدّوا عن سبيل الله﴾ أي: ليصرفوا عن دين الله تعالى نزلت في المطعمين يوم بدر، وكانوا إثني عشر رجلاً منهم: أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة، وكلهم من قريش، وكان يطعم كل واحد منهم أيام بدر عشر جزائر، أو في أبي سفيان استأجر يوم أحد ألفين من العرب سوى من استجاش أي: اتخذه جيشاً، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية اثنان وأربعون مثقالاً، أو في أصحاب العير، فإنه لما أصيب قريش ببدر قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمد لعلنا ندرك ثأرنا ففعلوا ﴿فسينفقونها ثم تكون﴾ أي: عاقبة الأمر ﴿عليهم حسرة﴾ أي: ندامة لفواتها وفوات ما قصدوه ﴿ثم يغلبون﴾ أي: آخر الأمر وإن كان الحرب بينهم سجالاً قبل ذلك كما اتفق لهم في بدر، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوّة، ولم يغن عنهم شيء من ذلك بل كان وبالاً عليهم فإنه كان سبباً لجراءتهم حتى قدموا فما كان في الحقيقة إلا قوّة للمؤمنين ﴿والذين كفروا﴾ أي: ثبتوا على الكفر ﴿إلى جهنم يحشرون﴾ أي: يساقون إليها يوم القيامة فهم في خزي في الدنيا والأخرة.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل تعالى: وإلى جهنم يحشرون؟ أجيب: بأنه أسلم منهم جماعة كأبي سفيان بن حرب والحرث بن هشام وحكيم بن حزام، بل ذكر أن الذين ثبتوا على الكفر يكونون كذلك.
﴿ليميز الله الخبيث﴾ أي: الفريق الكافر ﴿من الطيب﴾ أي: من الفريق المؤمن ﴿ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً﴾ أي: يجمعه متراكماً بعضه على بعض
بلغتهم، فبيّن أنه تعالى سمّاهم بذلك لهذا الغرض، وهذا لا يليق إلا بالله تعالى، وإنما كانوا شهداء على الناس لسائر الأنبياء؛ لأنهم لم يفرقوا بين أحد منهم وعلموا أنّ أخبارهم من كتابهم على لسان نبيهم محمد ﷺ فلذلك صحت شهادتهم وقبلها الحكم العدل وعن كعب أعطيت هذا الأمة ثلاثاً لم يعطهن إلا الأنبياء: جعلهم شهداء على الناس وما جعل عليهم في الدين من حرج، وقال تعالى: ﴿ادعوني أستجب لكم﴾، وعن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال: لم يذكر الله بالإيمان والإسلام غير هذه الأمّة ذكرها بهما وكرّرهما جميعاً، ولم يسمع بأمة ذكرت بالإسلام والإيمان غيرها وعن مكحول أنّ النبيّ ﷺ قال: «تسمى الله عز وجل باسمين سمى بهما أمّتي؛ هو السلام وسمى أمتي المسلمين، وهو المؤمن وسمى أمتي المؤمنين».
تنبيه: في الآية دليل على أنّ شهادة غير المسلم ليست مقبولة، ولما ندبهم تعالى ليكونوا خير الأمم تسببب عن ذلك قوله تعالى: ﴿فأقيموا الصلاة﴾ التي هي أركان قلوبكم وصلة ما بينكم وبين ربكم أي: داوموا عليها ﴿وآتوا الزكاة﴾ التي هي طهرة أبدانكم، وصلة بينكم وبين إخوانكم ﴿واعتصموا بالله﴾ أي: المحيط بجميع صفات الكمال في جميع ما أمركم به من المناسك التي تقدمت وغيرها، ثم علل تعالى أهليته بقوله تعالى: ﴿هو﴾ أي: وحده ﴿مولاكم﴾ أي: المتولي لجميع أموركم فهو ينصركم على كل من يعاديكم بحيث أنّ تتمكنوا من إظهار هذا الدين من مناسك الحج وغيرها، ثم علل الأمر بالاعتصام وتوحده بالولاية بقوله تعالى: ﴿فنعم المولى﴾ أي: هو ﴿ونعم النصير﴾ أي: الناصر لكم لأنه تعالى إذا تولى أحداً كفاه كل ما أهمه وإذا نصر أحد أعلاه عن كل من خاصمه «ولا يزال العبد يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببت الحديث إنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت، وهذا نتيجة التقوى، وما قبله من أفعال الطاعة دليلها فقد انطبق آخر السورة على أوّلها ورد مقطعها على مطلعها، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي ﷺ «من قرأ سورة الحج أعطي من الأجر كحجة حجها وعمرة اعتمرها بعدد من حج واعتمر فيما مضى وفيما بقي» حديث موضوع.
سورة المؤمنين
مكية
وهي مائة وثمان أو تسع عشرة آية، وألف وثمانمائة وأربعون كلمة، وأربعة آلاف وثمانمائة حرف
﴿بسم الله﴾ الذي له الأمر كله ﴿الرحمن﴾ الذي عم إنعامه ﴿الرحيم﴾ الذي خص من أراد بالإيمان عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: «كان رسول الله ﷺ إذا نزل عليه الوحي يسمع عند وجهه دويّ كدويّ النحل، فأنزل عليه يوماً فمكث ساعة حتى سرّي عنه، فاسقبل القبلة ورفع يديه فقال: اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنا، وأعطنا ولا تحرمنا، وآثرنا ولا تؤثر علينا، اللهم أرضنا وارض عنا، ثم قال: لقد أنزل عليّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة»، ثم قرأ:
﴿قد أفلح المؤمنون﴾ حتى ختم العشرة آيات، قال ابن عباس: قد سعد المصدّقون بالتوحيد وبقوا في الجنة، وقيل: الفلاح البقاء والنجاة، روى هذا الحديث الترمذي وغيره وأنكره النسائي
إلى النار} (القصص: ٤١)
﴿ومثلاً﴾ أي: حديثاً عجيب الشأن سائراً سير المثل ﴿للآخرين﴾ أي: الذين خلفوا بعدهم من زمنهم إلى آخر الدهر فيكون حالهم عظة لناس وإضلالاً لآخرين فمن أريد به الخير وفق لمثل خير يرده عن غيه، ومن أريد به الشر اقتدى به في الشر، وقرأ حمزة والكسائي: بضم السين واللام والباقون بفتحهما، فأما الأولى: فتحتمل ثلاثة أوجه؛ أحدها: أنه جمع سليف كرغيف ورغف وسمع القاسم بن معن من العرب: سليف من الناس كالفريق منهم، والثاني: أنه جمع سالف كصابر وصبير، والثالث: أنها جمع سلف كاسد وأسد، وأما الثانية: فتحتمل وجهين؛ أحدهما: أن يكون جمعاً لسالف كحارس وحرس وخادم وخدم وهذا في الحقيقة اسم جمع لا جمع تكسير إذ ليس في أبنية التكسير صيغة فعل، والثاني: أنه مصدر يطلق على الجماعة تقول سلف الرجل يسلف سلفاً أي: تقدم والسلف كل شيء قدمته من عمل صالح أو قرض وسلف الرجل آباؤه المتقدمون والجمع أسلاف وسلاف، وقال طفيل: سلفوا سلفاً فصد السبيل عليهم صروف المنايا والرجال تغلب واختلف في سبب نزول قوله تعالى:
﴿ولما ضرب ابن مريم مثلاً﴾ فقال ابن عباس رضي الله عنهما وأكثر المفسرين: نزلت في مجادلة عبد الله بن الزبعرى مع النبي ﷺ في شأن عيسى عليه السلام لما نزل قوله تعالى ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ كما تقدم في سورة الأنبياء والمعنى: ولما ضرب عبد الله بن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلاً وجادل رسول الله ﷺ بعبادة النصارى إياه ﴿إذا قومك﴾ أي: من قريش ﴿منه﴾ أي: من هذا المثل ﴿يصدون﴾ أي: يرفع لهم ضجيج فرحاً بسبب ما رأوا من سكوت النبي ﷺ فإن العادات قد جرت بأن أحد الخصمين إذا انقطع أظهر الخصم الثاني الفرح والضجيج، وقال قتادة: يقولون ما يريد محمد منا إلا أن نعبده ونتخذه إلهاً كما عبدت النصارى عيسى.
﴿وقالوا آلهتنا﴾ أي: التي نعبدها من الأصنام ﴿خير أم هو﴾ قال قتادة: يعنون محمداً ﷺ فنعبده ونطيعه ونترك آلهتنا، وقال السدي وابن زيد: يعنون عيسى عليه السلام قالوا: توهم محمد أن كل ما نعبد من دون الله فهو في النار فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة في النار قال الله تعالى: ﴿ما ضربوه﴾ أي: المثل ﴿لك إلا جدلا﴾ أي: خصومة بالباطل لعلمهم أن لفظ ما لغير العاقل فلا يتناول من ذكروه ﴿بل هم قوم﴾ أي: أصحاب قوة على القيام فيما يحاولونه ﴿خصمون﴾ أي: شديدُ الخصام.
روى الإمام أحمد عن أبي أمامة قال رسول الله ﷺ «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال». وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم يصدون بكسر الصاد، والباقون بضمها وهما بمعنى واحد يقال صد يصد ويصد كعكف يعكف ويعكف وعرش يعرش ويعرش، وقيل: الضم من الصدود وهو الإعراض، وقرأ الكوفيون: آلهتنا بتحقيق الهمزتين، والباقون بتسهيل الثانية واتفقوا على إبدال الثانية ألفاً، ثم إنه تعالى بين أن عيسى عبد من عبيده الذين أنعم عليهم بقوله تعالى:
﴿إن﴾ أي: ما ﴿هو﴾ أي: عيسى عليه السلام ﴿إلا عبد﴾ أي: وليس هو بإله ﴿أنعمنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿عليه﴾ أي: بالنبوة والإقدار على
على ذلك من غروب الشمس ﴿حتى﴾ أي: إلى ﴿مطلع الفجر﴾ أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. وقرأ الكسائي بكسر اللام على أنه كالمرجع، واسم زمان على غير قياس كالمشرق، والباقون بفتحها.
ومن فضائلها أنّ من قامها غفرت له ذنوبه ففي الصحيحين: «من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه». قال النووي في «شرح مسلم» : ولا ينال فضلها إلا من أطلعه الله تعالى عليها فلو قامها إنسان ولم يشعر بها لم ينل فضلها. قال الأذرعي وكلام المتولي ينازعه حيث قال: يستحب التعبد في كل ليالي العشر حتى يحوز الفضيلة على اليقين اه.
وهذا أولى نعم حال من أطلق أكمل إذا قام بوظائفها. وعن أبي هريرة مرفوعاً «من صلى العشاء الأخيرة في جماعة من رمضان فقد أدرك ليلة القدر»، أي: أخذ حظاً منها. ويسنّ لمن رآها أن يكتمها، ويسنّ أن يكثر الدعاء والتعبد في ليالي رمضان وأن يكون من دعائه: «اللهمّ إنك عفوّ كريم تحب العفو فاعف عني».
ومن علاماتها أنّ الشمس تطلع صبيحتها لا شعاع لها، رواه مسلم عن أبيّ بن كعب وعن ابن مسعود: قال: «إنّ الشمس تطلع كل يوم بين قرني شيطان إلا صبيحة ليلة القدر فإنها تطلع يومئذ بيضاء ليس لها شعاع». فإن قيل: لا فائدة في هذه العلامة فإنها قد انقضت. أجيب: بأنه يستحب أن يجتهد في ليلتها ويبقى يعرفها كما مرّ عن الشافعي أنها تلزم ليلة واحدة. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبيّ ﷺ «من قرأ سورة القدر أعطى من الأجر كمن صام رمضان وأحيا ليلة القدر» حديث موضوع.
سورة لم يكن
وتسمى القيامة، وتسمى المنفكين مكية في قول يحيى بن سلام، ومدنية في قول الجمهور، وهي ثمان آيات وأربع وتسعون كلمة وثلاث مائة وتسعون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي لا يخرج شيء عن مراده ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بنعمه جميع عباده ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بإسعاده.
ولما كان الكفار جنسين أهل كتاب ومشركين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه:
﴿لم يكن الذين كفروا﴾ أي: في مطلق الزمان الماضي والحال والاستقبال ﴿من أهل الكتاب﴾ أي: من اليهود والنصارى الذين كان أصل دينهم حقاً فألحدوا فيه بالتبديل والتحريف والاعوجاج في صفات الله تعالى، ثم نسخه الله تعالى بما شرع من مخالفته في الفروع وموافقته في الأصول فكذبوا. ﴿والمشركين﴾ أي: بعبادة الأصنام والنار والشمس، ونحو ذلك ممن هم عريقون في دين لم يكن له أصل في الحق، بأن لم يكن لهم كتاب.
تنبيه: من للبيان. وقوله تعالى: ﴿منفكين﴾ خبر يكن، أي: منفصلين وزائلين عما كانوا عليه من دينهم انفكاكاً يزيلهم عنه بالكلية بحيث لا تبقى لهم به علقة، ويثبتون على ذلك الانفكاك، وأصل الفك الفتح والانفصال لما كان ملتحماً من فك الكتاب والختم والعظم إذا أزيل ما كان ملتصقاً أو متصلاً به، أو عن الموعد باتباع الحق إذا جاءهم الرسول المبشر به، فإنّ أهل الكتاب كانوا يستفتحون به، والمشركين كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من


الصفحة التالية
Icon