وقال غيرهما: الصحيح إنّ الأمر موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام، وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً وهذا ظاهر.
وقرأ شعبة بكسر السين، والباقون بالفتح ﴿وتوكل على الله﴾ أي: فوض أمرك إليه فيما عقدته معهم؛ ليكون عوناً لك في جميع أحوالك ﴿إنه هو السميع﴾ ؛ لأقوالهم فهو يسمع كل ما أبرموه في ذلك، وفي غيره كما يسمعه علانية ﴿العليم﴾ بنياتهم فهو يعلم كل ما أخفوه كما إنه يعلم كل ما أعلنوه.
﴿وإن يريدوا﴾ أي: الكفار ﴿أن يخدعوك﴾ أي: بإظهار الصلح ليستعدوا لك ﴿فإن حسبك﴾ أي: كافيك ﴿الله هو الذي أيدك بنصره﴾ في سائر أيامك، فإن أمر النبيّ ﷺ من أوّل حياته إلى وقت وفاته كان أمراً إلهياً وتدبيراً علوياً، وما كان لكسب الخلق فيه مدخل ﴿و﴾ أيدك ﴿بالمؤمنين﴾ أي: الأنصار.
فإن قيل: فإذا كان الله تعالى مؤيده بنصره، فأيّ حاجة مع نصره تعالى إلى المؤمنين؟ أجيب: بأن التأييد ليس إلا من الله تعالى دائماً لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة، والثاني ما يحصل بذلك فالأوّل هو المراد من قوله تعالى: ﴿أيدك بنصره﴾، والثاني: هو المراد من قوله تعالى: ﴿وبالمؤمنين﴾ والله تعالى هو مسبب الأسباب، وهو الذي أقامهم بنصره ثم بيّن تعالى كيف أيده بالمؤمنين بقوله تعالى:
﴿وألف﴾ أي: جمع ﴿بين قلوبهم﴾ وذلك إنّ النبيّ ﷺ بعث إلى قوم أنفتهم شديدة، وحميتهم عظيمة حتى لو أنّ رجلاً من قبيلة لطم لطمةً واحدة، قاتلت عنه قبيلته حتى يدركوا ثأره، ثم إنهم انقلبوا عن تلك الحالة حتى قاتل الرجل أباه وأخاه وابنه، واتفقوا على الطاعة وصاروا أنصاراً دعاة، فإزالة تلك العداوة الشديدة وتبديلها بالمحبة القوية، مما لا يقدر عليها إلا الله تعالى، وصارت تلك معجزة ظاهرة على صدق نبوّة محمد ﷺ ولهذا قال تعالى: ﴿لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم﴾ أي: تناهت عداوتهم إلى حد لو أنفقت في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم تقدر على الإلفة والصلاح بينهم ﴿ولكن الله ألف بينهم﴾ بقدرته البالغة، فإنه تعالى المالك للقلوب يقلبها كيف يشاء ﴿إنه﴾ أي: الله تعالى ﴿عزيز﴾ أي: غالب على أمره لا يعصى عليه ما يريد ﴿حكيم﴾ لا يخرج شيء عن حكمته، وقيل: الآية نزلت في الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم فأنساهم الله تعالى ذلك، وألف بين قلوبهم بالإسلام حتى تصادقوا وصاروا أنصاراً، وما ذاك إلا بلطيف صنعه وبليغ قدرته.
﴿يأيها النبيّ حسبك﴾ أي: كافيك ﴿ا﴾.
فإن قيل: هذا مكرّر، أجيب: بأنه تعالى لما وعده بالنصر عند مخادعة الأعداء وعده بالنصر والظفر في هذه الآية مطلقاً على جميع التقديرات، فلا يلزم حصول التكرار؛ لأنّ المعنى في الآية الأولى: إن أرادوا خداعك كفاك الله تعالى أمرهم، والمعنى في هذه الآية عام في كل ما يحتاج إليه في الدين وقوله تعالى: ﴿ومن اتبعك من المؤمنين﴾ إمّا في محل نصب على المفعول معه كقول الشاعر:
*فحسبك والضحاك سيف مهند*
يروي الضحاك بالنصب على أنه مفعول معه، والمعنى: كفاك وكفى أتباعك المؤمنين الله ناصراً، أو رفع عطفاً على اسم الله تعالى أي: كفاك الله وكفى المؤمنين، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، وعن سعيد بن
الظاهر موضع ضميرهم للتعليل وبعداً وسحقاً ونفراً وتخويفاً ونحوها مصادر موضوعة مواضع أفعالها وهي من جملة المصادر التي قال سيبويه: نصبت بأفعال لا يستعمل إظهارها.
القصة الثالثة: المذكورة في قوله تعالى:
﴿ثم أنشأنا﴾ أي: بعظمتنا التي يضرها تقديم ولا تأخير ﴿من بعدهم﴾ أي: من بعد من قدّمنا ذكره من نوح والقرن الذي بعده ﴿قرونا﴾ أي: أقواماً ﴿آخرين﴾ فهو سبحانه وتعالى تارة يقص علينا في القرآن مفصلاً كما تقدم، وتارة يقص مجملاً كما هنا، وقيل: المراد قصة لوط وشعيب وأيوب ويوسف عليهم السلام، وعن ابن عباس: بني إسرائيل، ثم إنه تعالى أخبر بأنه لم يعجل على أحد منهم قبل الأجل الذي أجل لهم بقوله تعالى:
﴿ما تسبق من أمة أجلها﴾ أي: الذي قدر لها بأنّ تموت قبله ﴿وما يستأخرون﴾ عنه.
تنبيه: ذكر الضمير بعد تأنيثه رعاية للمعنى ومن زائدة.
﴿ثم أرسلنا رسلنا تتراً﴾ أي: متتابعين بين كل اثنين زمان طويل، وقرأ أبو عمرو: رسلنا بسكون السين، والباقون برفعها، وقرأ تترا، ابن كثير وأبو عمرو في الوصل بتنوين الراء على أنه مصدر بمعنى التواتر وقع حالاً، والباقون بغير تنوين، ولما كان كأنه قيل: فكان ماذا؟ قيل: ﴿كلما جاء أمّة رسولها﴾ أي: بما أمرناه من التوحيد ﴿كذبوه﴾ أي: كما فعل هؤلاء بك لما أمرتهم بذلك.
تنبيه: أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو، والباقون بتحقيقهما، وهم على مراتبهم في المدّ ﴿فأتبعنا﴾ القرون بسبب تكذيبهم ﴿بعضهم بعضاً﴾ في الإهلاك، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى: ﴿وجعلناهم أحاديث﴾ أي: أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون، وما أحسن قول القائل:
*ولا شيء يدوم فكن حديثاً
... جميل الذكر فالدنيا حديث
والأحاديث تكون جمعاً للحديث، ومنه أحاديث رسول الله ﷺ وتكون جمعاً للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهياً وتعجباً وهو المراد هنا، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى: ﴿فبعداً لقوم﴾ أي: أقوياء على ما يطلب منهم ﴿لا يؤمنون﴾ أي: لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.
القصة الرابعة: قصة موسى وهارون عليهما السلام المذكورة في قوله تعالى:
﴿ثم أرسلنا﴾ أي: بما لنا من العظمة ﴿موسى وأخاه هارون بآياتنا﴾ قال ابن عباس: الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات ﴿وسلطان مبين﴾ أي: حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها، وكونها حارساً وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلواً ورشاء، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى: ﴿من كان عدوّاً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال﴾، ويجوز أنّ يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية
تحرجوا به لهلكت، نزل القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى البيت المعمور في السماء الدنيا، ثم نزل بعد ذلك في أنواع الوقائع حالاً فحالاً، وقال قتادة وابن زيد: أنزل الله تعالى القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ثم نزل به جبريل عليه السلام على النبي ﷺ نجوماً في عشرين سنة وقوله تعالى ﴿إنا﴾ أي: على ما لنا من العظمة ﴿كنا﴾ أي: دائماً لعبادنا ﴿منذرين﴾ أي: مخوفين استئناف بين به المقتضى للإنزال وكذلك قوله تعالى:
﴿فيها﴾ أي: الليلة المباركة سواء قلنا إنها ليلة القدر أو ليلة النصف ﴿يفرق﴾ أي: ينشر ويبين ويفصل ويوضح مرة بعد مرة ﴿كل أمر حكيم﴾ أي: محكم الأمر لا يستطاع أن يطعن فيه بوجه من جميع ما يوحي به من الكتب وغيرها والأرزاق والآجال والنصر والهزيمة والخصب والقحط وغيرها من جميع أقسام الحوادث وجزئياتها في أوقاتها وأماكنها، ويبين ذلك للملائكة من تلك الليلة إلى مثلها من العام المقبل فيجدونه سواء فيزدادون بذلك إيماناً، قال ابن عباس: يكتب في أم الكتاب في ليلة القدر ما هو كائن في السنة من الخير والشر والأرزاق والآجال حتى الحجاج يقال: يحج فلان ويحج فلان، وقال الحسن ومجاهد وقتادة: يبرم في ليلة القدر في شهر رمضان كل عمل وأجل وخلق ورزق وما يكون في تلك السنة، وقال عكرمة: ليلة النصف من شعبان يبرم فيها أمر السنة وتنسخ الأحياء من الأموات فلا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أحد قال ﷺ «تقطع الآجال من شعبان إلى شعبان حتى إن الرجل لينكح النساء ويولد له وقد خرج اسمه في ديوان الموتى».
وعن ابن عباس: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة النصف من شعبان ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدور، وروي: أن الله تعالى أنزل القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة ووقع الفراغ في ليلة القدر فدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل ونسخة الحروب إلى جبريل وكذلك الزلازل والصواعق والخسف ونسخة الأعمال، قال ابن عادل: إلى إسرافيل وقال الزمخشري: إلى إسماعيل صاحب سماء الدنيا وهو ملك عظيم ونسخة المصائب إلى ملك الموت، قال الزمخشري: وعن بعضهم يعطى كل عامل بركات أعماله فيلقى على ألسنة الخلق مدحه وعلى قلوبهم هيبته وقوله تعالى:
﴿أمراً﴾ أي: فرقاً حال من فاعل أنزلناه ومن مفعوله أي: أنزلناه آمرين أو مأموراً به كائناً ﴿من عندنا﴾ على مقتضى حكمتنا وقوله تعالى: ﴿إنا كنا﴾ أي: أزلاً وأبداً ﴿مرسلين﴾ جواب ثالث أو مستأنف أو بدل من قوله تعالى: ﴿إنا كنا منذرين﴾ أي: لنا صفة الإرسال بالقدرة عليها في كل حين والإرسال لمصالح العباد لا بد فيه من الفرقان بالبشارة والنذارة وغيرهما حتى لا يكون لبس فلا يكون لأحد على الله تعالى حجة، قال البقاعي: وهذا الكلام المنتظم والقول الملتئم بعضه ببعض المتراصف أجمل رصف في وصف ليلة الإنزال دال على أنه لم ينزل صحيفة ولا كتاباً إلا في هذه الليلة، فيدل على أنها ليلة القدر للأحاديث الواردة في أن الكتب كلها نزلت فيها، وكذلك قوله تعالى في سورة القدر: ﴿تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر﴾ (القدر: ٤)
فإن الوحي الذي هو مجمع ذلك هو روح الأمر الحكيم ثم بين تعالى حال الرسالات بقوله تعالى:
﴿رحمة﴾ وعدل لأجل
عليه السلام يزن به أعمال بني آدم، فعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: موازين لكل حادثة ميزان، وقيل: الموازين الحجج والدلائل قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد بقول الشاعر:
*قد كنت قبل لقائكم ذا مرّة | عندي لكل مخاصم ميزانه* |
﴿وأمّا من خفت﴾ أي: طاشت ﴿موازينه﴾ أي: غلبت سيئاته، أو لم تكن له حسنة لاتباعه الباطل وخفته عليه في الدنيا.
﴿فأمّه﴾ أي: التي تؤويه وتضمه إليها كما يقال للأرض أم لأنها تقصد لذلك، ويسكن إليها كما يسكن إلى الأمّ وكذا المسكن ﴿هاوية﴾ أي: نار نازلة سافلة جدّاً، فهو بحيث لا يزال يهوي فيها نازلاً فهو في عيشة ساخطة فالآية من الاحتباك ذكر العيشة أولاً دليلاً على حذفها ثانياً وذكر الأمّ ثانياً، دليلاً على حذفها أوّلاً، والهاوية اسم من أسماء جهنم وهي المهواة لا يدرك قعرها.
وقال قتادة: هي كلمة عربية كان الرجل إذا وقع في أمر شديد يقال: هوت أمّه. وقيل: أراد أمّ رأسه يعني أنهم يهوون في النار على رؤوسهم، وإلى هذا التأويل ذهب قتادة وأبو صالح. وروي عن أبي بكر أنه قال: وإنما ثقلت موازين من ثقلت موازينهم يوم القيامة باتباع الحق وثقله في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحسنات أن يثقل، وإنما خفت موازين من خفت موازينه باتباعهم الباطل وخفته في الدنيا، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا السيئات أن يخف.
﴿وما أدراك﴾ أي: وأيّ شيء أعلمك وإن اشتدّ تكلفك ﴿ماهيه﴾ أي: الهاوية، والأصل ما هي فدخلت الهاء للسكت وقرأ حمزة في الوصل بغيرها بعد الياء التحتية ووقف بها، والباقون بإثباتها وصلاً ووقفاً.
فإن قيل: قال هنا: ﴿وما أدراك ماهيه﴾ وقال أوّل السورة: ﴿وما أدراك ما القارعة﴾ ولم يقل ما أدراك ما الهاوية؟.
أجيب: بأنّ كونها قارعة أمر محسوس وكونها هاوية ليس كذلك فظهر الفرق.
وقوله تعالى: ﴿نار حامية﴾ خبر مبتدأ مضمر، أي: هي، أي: الهاوية نار شديدة الحرارة. روى مسلم أنّ النبيّ ﷺ قال: «ناركم هذه التي توقد جزء من سبعين جزءً من حرّ جهنم، قالوا: وإنها لكافية يا رسول الله؟ قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءً كلها مثل حرّها» وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري: عن النبيّ ﷺ «من قرأ سورة القارعة ثقل الله بها ميزانه يوم القيامة» حديث موضوع.
سورة التكاثر مكية
وهي ثمان آيات وثمانية وعشرون كلمة ومائة وعشرون حرفاً
﴿بسم الله﴾ ذي الجلال والإكرام ﴿الرحمن﴾ الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بتمام الإنعام.
ولما ختم القارعة بالشقي افتتح هذه بفعل الشقاوة ومبتدأ الحشر لينزجر السامع. فقال تعالى:
﴿ألهاكم التكاثر﴾ أي: شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة