عقد الصلح بالحديبية وأعانوا بني بكرة على خزاعة وهذا يدلّ على أنّ قتال الناكثين أولى من قتال غيرهم من الكفار ليكون ذلك زجراً لغيرهم وثانيها قوله تعالى: ﴿وهموا بإخراج الرسول﴾ من مكة حين اجتمعوا في دار الندوة على ما ذكر في قوله تعالى: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا﴾. وقيل: هم اليهود نكثوا عهد الرسول وهموا بإخراجه من المدينة وهذا من أوكد ما يجب القتال لأجله. وثالثها قوله تعالى: ﴿وهم بدؤوكم﴾ أي: بالقتال ﴿أوّل مرّة﴾ أي: هم الذين كانت منهم البداءة بالمقاتلة؛ لأن رسول الله ﷺ جاءهم بالكتاب المنير وتحدّاهم به، فعدلوا عن المعارضة لعجزهم عنها إلى القتال فهم البادؤون بالقتال والبادىء أظلم، فما يمنعكم من أن تقاتلوهم بمثله وأن تصدموهم بالشر كما صدموكم، وبخهم الله تعالى بترك مقاتلتهم وحضهم عليها ثم وصفهم بما يوجب الحض عليها، وتقرر أن من كان في مثل صفاتهم من نكث العهد وإخراج الرسول والبدء بالقتال من غير موجب حقيق بأن لا تترك مصادمته، وأن يوبخ من فرّط فيها. ﴿أتخشونهم﴾ أي: أتخافونهم أيها المؤمنون فتتركون قتالهم ﴿فا أحق أن تخشوه﴾ فقاتلوا أعداءه ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي: مصدقين بوعد الله تعالى ووعيده؛ لأنّ قضية الإيمان الصحيح أن لا يخشى المؤمن إلا ربه ولا يبالي بمن سواه كقوله تعالى: ﴿ولا يخشون أحداً إلا الله﴾ (الأحزاب، ٣٩)
ولما وبخهم الله تعالى على ترك القتال جدّد له الأمر به بقوله تعالى:
﴿قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم﴾ أي: بالقتل والأسر واغتنام الأموال.
فإن قيل: قد قال الله تعالى: ﴿وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم﴾ (الأنفال، ٣٣)
فكيف قال تعالى هنا: ﴿يعذبهم الله بأيديكم﴾ ؟ أجيب: بأن المراد بالعذاب في الآية الأولى عذاب الاستئصال، وبهذه الآية القتل والأسر. والفرق: أنّ عذاب الاستئصال قد يتعدّى إلى غير المذنب، وإنه في حقه لمزيد الثواب وعذاب القتل مقصور على المذنب وهذا كالتصريح بأنّ هذا الفعل وما عطف عليه فعله تعالى وإن كان جارياً على أيدي العباد كسباً لا يرد على ذلك أنه لا يقال يعذب الله المؤمنين بأيدي الكافرين؛ لأنّ ذلك إنما امتنع لشناعة العبارة كما لا يقال: يا خالق القاذورات والأبوال والعذرات وإن كان هو الخالق لها. ﴿ويخزهم﴾ أي: بالذل والفضيحة في الدنيا والعذاب في الآخرة ﴿وينصركم عليهم﴾ أي: يمكنكم من قتلهم وإذلالهم ﴿ويشف صدور قوم مؤمنين﴾ أي: طائفة من المؤمنين وهم خزاعة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: هم بطون من اليمن وسبأ قدموا مكة فأسلموا فلقوا من أهلها أذى شديداً فبعثوا إلى رسول الله ﷺ يشكون إليه فقال: أبشروا فإن الفرج قريب.
﴿ويذهب غيظ قلوبهم﴾ أي: كربها ووجدها، وقد وفى الله تعالى بما وعد، والآية من المعجزات. وقوله تعالى: ﴿ويتوب الله على من يشاء﴾ استئناف أي: إنّ الله تعالى يهدي من يشاء إلى الإسلام كما فعل بأبي سفيان بن حرب وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، فهؤلاء كانوا من أئمة الكفر ورؤساء المشركين ثم مَنَّ الله تعالى عليهم بالإسلام يوم فتح مكة فأسلموا وحسن إسلامهم. ﴿وا عليم﴾ أي: يعلم ما سيكون كما يعلم ما قد كان فهو عليم بكل شيء، فيعلم من يصلح للتوبة ومن لا يصلح لها، أو يعلم ما في قلوبكم من الإقدام والإحجام ﴿حكيم﴾ أي: أحكم جميع أموره.
﴿أم حسبتم﴾ أي: أظننتم ﴿أن تتركوا﴾ فلا تؤمروا بالجهاد ولا تمتحنوا ليظهر الصادق من
دعوات إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: ربنا أبصرنا وسمعنا، فيجابون: حق القول مني، فينادون ألفاً: ربنا أمتنا اثنتين، فيجابون: ذلكم بأنه إذا دعي الله وحده كفرتم، فينادون ألفاً: يا مالك ليقض علينا ربك، فيجابون: إنكم ماكثون، فينادون ألفاً: ربنا أخرجنا منها، فيجابون: أولم تكونوا أقسمتم، فينادون ألفاً: أخرجنا نعمل صالحاً، فيجابون: أولم نعمركم، فينادون ألفاً: رب ارجعون، فيجابون: اخسؤوا فيها ولا تكلمون، ثم لا يكون لهم إلا الزفير والشهيق والعواء، ثم علل ذلك بقوله تعالى:
﴿إنه كان﴾ أي: كوناً ثابتاً ﴿فريق﴾ أي: ناس قد استضعفتموهم ﴿من عبادي﴾ وهم المؤمنون ﴿يقولون﴾ مع الاستمرار ﴿ربنا﴾ أي: أيها المحسن إلينا بالخلق والرزق ﴿آمنا﴾ أي: أوقعنا الإيمان بجميع ما جاءتنا به الرسل ﴿فاغفر لنا﴾ أي: استر لنا زللنا ﴿وارحمنا﴾ أي: افعل بنا فعل الراحم ﴿وأنت خير الراحمين﴾ لأنك تخلص برحمتك من كل شقاء وهوان.
﴿فاتخذتموهم﴾ أي: فتسبب عن إيمانهم أن اتخذتموهم ﴿سخرياً﴾ أي: تسخرون منهم وتستهزؤن بهم، وقرأ نافع وحمزة والكسائي بضم السين، والباقون بالكسر وهو مصدر سخر كالسخر إلا أن في ياء النسب زيادة قوّة في الفعل كما قيل: الخصوصية في الخصوص، وعن الكسائي والفرّاء أن المكسور من الهزء والمضموم من السخرية والعبودية، أي: تسخرونهم وتتعبدونهم؛ قال الزمخشري: والأول مذهب الخليل وسيبويه، انتهى. وأظهر الذال عند التاء ابن كثير وحفص، والباقون بالإدغام ﴿حتى أنسوكم ذكري﴾ أي: بأن تذكروني فتخافوني، وأضاف ذلك إليهم لأنهم كانوا السبب فيه لفرط اشتغالهم بالاستهزاء بهم ﴿وكنتم منهم تضحكون﴾ استهزاء بهم نزلت في كفار قريش كانوا يستهزئون بالفقراء من أصحاب رسول الله ﷺ مثل بلال وعمار وصهيب وخباب، ولما تشوّقت النفس بعد العلم بما فعل بأعدائهم إلى جزائهم قال الله تعالى:
﴿إني جزيتهم اليوم﴾ أي: بالنعيم المقيم ﴿بما صبروا﴾ أي: على عبادتي ولم يشغلهم عنها تألمهم بأذاكم، كما يشغلكم عنها التذاذكم بإهانتهم ففازوا دونكم وهو معنى قوله تعالى: ﴿إنهم هم الفائزون﴾ أي: بمطلوبهم الناجون من عذاب النار، وقرأه حمزة والكسائي بكسر الهمزة على الاستئناف والباقون بفتحها على أنها مفعول ثان لجزيتهم، ثم إن الله تعالى:
﴿قال﴾ لهم على لسان الملك المأمور بسؤالهم تبكيتاً وتوبيخاً لأنهم كانوا يظنون أن بعد الموت يدوم الفناء ولا إعادة، فلما حصلوا في النار وأيقنوا أنها دائمة، وأنهم فيها مخلدون سألهم ﴿كم لبثتم في الأرض﴾ على تلك الحال في الدنيا التي كنتم تعدونها فوزاً ﴿عدد سنين﴾ أنتم فيها ظافرون ولأعدائكم قاهرون، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي: قل كم، بضم القاف وسكون اللام على الأمر للملك أو لبعض رؤساء أهل النار، والباقون بفتح القاف واللام وألف بينهما خبراً وتقدم توجيهه وأظهر الثاء المثلثة عند التاء المثناة فوق نافع وابن كثير وعاصم وأدغمها فيها الباقون.
﴿قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ يشكون في ذلك. فإن قيل: كيف يصح في جوابهم أن يقولوا ذلك، ولا يقع من أهل النار الكذب؟ أجيب: بأنهم نسوا ذلك لكثرة ما هم فيه من الأهوال، وقد اعترفوا بهذا النسيان حيث قالوا: ﴿فاسأل العادين﴾ أي: الملائكة المحصين أعمال الخلق وأعمارهم؛ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين، وقيل: قالوا ذلك
التجدد والاستمرار ﴿من دابة﴾ مما تعلمون ومما لا تعلمون بما في ذلك من مشاركتكم بالاختيار والهداية للمنافع بإدراك الجزيئات ومخالفتكم في الصورة والعقل وإدراك الكليات وغير ذلك من مخالفة الأشكال والطبائع والمنافع وغير ذلك ﴿آيات﴾ دالة على قدرة الله تعالى ووحدانيته.
وقرأ حمزة والكسائي آيات بكسر التاء حملاً على اسم إن، والباقون بالرفع حملاً على محل إن واسمها، ولما كانت آيات الأنفس أدق وأدل على القدرة والاختيار بما لها من التجدد والاختلاف قال تعالى ﴿لقوم﴾ أي: فيهم أهلية القيام بما يحاولونه ﴿يوقنون﴾ أي: يتجدد لهم العروج في درجات الإيمان إلى أن يصلوا إلى شرف الإيقان فلا يخالجهم شك في وحدانيته.
﴿واختلاف الليل والنهار﴾ بذهاب أحدهما ووجود الآخر بعد ذهابه على التعاقب آية متكررة للدلالة على القدرة على الإيجاد بعد الإعدام بالبعث وغيره ﴿وما أنزل الله﴾ أي: الذي تمت عظمته فنفذت كلمته ﴿من السماء من رزق﴾ أي: مطر وغيره من الأسباب المهيئة لإخراج الرزق ﴿فأحيا به﴾ أي: بسببه ﴿الأرض﴾ أي: الصالحة للحياة ولذلك قال تعالى ﴿بعد موتها﴾ أي: يبسها وتهشيم ما كان فيها من النبات ﴿وتصريف﴾ أي: تحويل ﴿الرياح﴾ باختلاف جهاتها وأحوالها.
وقرأ حمزة والكسائي بالتوحيد، والباقون بالجمع وقوله تعالى ﴿آيات﴾ فيه القراءتان المتقدمتان، أما الرفع فظاهر وأما الكسر ففيه وجهان؛ أحدهما: أنها معطوفة على اسم إن والخبر قوله ﴿وفي خلقكم﴾ كأنه قيل: وإن في خلقكم وما يبث من دابة آيات، والثاني: أن تكون كررت تأكيداً لآيات الأولى ويكون ﴿في خلقكم﴾ معطوفاً على ﴿في السموات﴾ كرر معه حرف الجر توكيداً، ونظيره أن تقول: إن في بيتك زيداً وفي السوق زيداً فزيداً الثاني تأكيد للأول كأنك قلت: إن زيداً زيداً في بيتك وفي السوق وليس في هذه عطف على معمولي عاملين ألبتة.
ولما كانت هذه الآية أوضح دلالة من بقيتها على البعث قال تعالى فيها ﴿لقوم يعقلون﴾ الدليل فيؤمنون وأبدى بعض المفسرين معنى لطيفاً فقال: إن المنصفين إذا نظروا في السموات والأرض وأنه لا بد لهما من صانع آمنوا وإذا نظروا في خلق أنفسهم ونحوها ازدادوا إيماناً فأيقنوا، فإذا نظروا في سائر الحوادث عقلوا واستحكم علمهم.
ولما ذكر هذه الآيات العظيمات قال تعالى مشيراً إلى علو رتبتها بأداة البعد:
﴿تلك﴾ أي: الآيات المذكورة ﴿آيات الله﴾ أي: حجج المحيط بصفات الكمال التي لا شيء أجل منها الدالة على وحدانيته ﴿نتلوها﴾ أي: نقصها ﴿عليك﴾ سواء أكانت مرئية أو مسموعة ملتبسة ﴿بالحق﴾ أي: الأمر الثابت الذي لا يستطاع تحويله ليس بسحر ولا كذب ﴿فبأي حديث﴾ أي: خبر عظيم صادق يتجدد علمه به يستحق أن يتحدث به واستغرق كل حديث فقال تعالى ﴿بعد الله﴾ أي: حديث الملك الأعظم وهو القرآن ﴿وآياته﴾ أي: حججه ﴿يؤمنون﴾ أي: كفار مكة أي: لا يؤمنون، وقرأ ابن عامر وشعبة والكسائي بتاء الخطاب رأوا أن ذلك الخطاب صرف إلى خطاب النبي ﷺ في قوله تعالى ﴿نتلوها عليك بالحق﴾، والباقون بياء الغيبة ردوه على قوله تعالى ﴿وفي خلقكم﴾ وهو أقوى تبكيتاً.
ولما بين الآيات للكفار وبين أنهم إذا لم يؤمنوا بها بعد ظهورها فبأي حديث بعدها يؤمنون؟ أتبعه
ومن الطاعن والدخان بتأمين النبيّ صلى الله عليه وسلم
وعن ابن زيد: كانت العرب يغير بعضها على بعض، ويسبي بعضهم بعضاً فأمنت قريش ذلك لمكان الحرم. وقيل: شق عليهم السفر في الشتاء والصيف فألقى الله تعالى في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً في السفن، فحملوا فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات، فكان أهل مكة يخرجون إلى جدّة بالإبل والحمر فيشترون الطعام على مسيرة ليلتين. وقيل: إنّ قريشاً لما كذبوا النبيّ ﷺ دعا عليهم فقال: «اللهم اجعلها عليهم سنين كسنين يوسف» فاشتدّ القحط فقالوا: يا محمد، ادع الله لنا فإنا مؤمنون. فدعا رسول الله ﷺ فأخصبت تبالة وجرش من بلاد اليمن فحملوا الطعام إلى مكة وأخصب أهلها». وقال الضحاك والربيع في قوله تعالى: ﴿وآمنهم من خوف﴾، أي: من خوف الحبشة. وقال عليّ: ﴿وآمنهم من خوف﴾ أن تكون الخلافة إلا فيهم. قال الزمخشريّ: من بدع التفاسير ﴿وآمنهم من خوف﴾ أن تكون الخلافة في غيرهم اه. لكن إن ثبت ذلك عن علي كرم الله وجهه فليس كما قال وقيل: كفاهم أخذ الإيلاف من الملوك. وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن رسول الله ﷺ «من قرأ سورة لإيلاف قريش أعطاه الله عشر حسنات بعدد من طاف بالكعبة واعتكف بها» حديث موضوع.
سورة الدين وتسمى
سورة الماعون مكية
في قول عطاء وجابر وأحد قولي ابن عباس رضي الله عنهما، ومدنية في قول له آخر وهو قول قتادة وغيره، وهي سبع آيات وخمس وعشرون كلمة ومائة وثلاثة وعشرون حرفاً.
﴿بسم الله﴾ الذي له كل كمال ﴿الرحمن﴾ الذي عم جميع عباده بالنوال ﴿الرحيم﴾ الذي خص أولياءه بنعمة الإفضال.
وقوله تعالى: ﴿أرأيت﴾ استفهام معناه التعجب. وقرأ نافع بتسهيل الهمزة بعد الراء ولورش أيضاً إبدالها ألفاً، وأسقطها الكسائيّ. قال الزمخشريّ: وليس بالاختيار لأن حذفها مختص بالمضارع، ولم يصح عن العرب ريت، ولكن الذي سهل من أمرها وقوع حرف الاستفهام في أول الكلام، ونحوه:

*صاح هل ريت أو سمعت براع رد في الضرع ما قرى في الحلاب*
وخففها الباقون، والمعنى: أرأيت ﴿الذي يكذب﴾ أي: يوقع التكذيب لمن يخبره كائناً من كان ﴿بالدين﴾ أي: بالجزاء والحساب، أي: هل عرفته أم لم تعرفه.
﴿فذلك﴾ بتقدير هو بعد الفاء، أي: البغيض البعيد المبعد من كل خير ﴿الذي يدُّع﴾ أي: يدفع دفعاً عظيماً بغاية القسوة ﴿اليتيم﴾ ولا يحث على إكرامه لأنّ الله تعالى نزع الرحمة من قلبه، ولا ينزعها إلا من شقي لأنه لا حامل على الإحسان إليه إلا الخوف من الله تعالى، فكان التكذيب بجزائه مسبباً للغلظة عليه. وقال قتادة: يقهره ويظلمه فإنهم كانوا لا يورّثون النساء ولا الصغار، ويقولون: إنما يحوز المال من يطعن بالسنان ويضرب بالحسام. وقال ﷺ «من ضم يتيماً من المسلمين حتى يستغني فقد وجبت له


الصفحة التالية
Icon