سُورَةُ المُزَّمِّل
(مَكِّيَّة)
ما خلا آيتين من آخرها مدنية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
قوله: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢)هذا خطاب للنبي عليه السلام، وقيل إنه نزل عليه هذا وعليه قطيفة.
والْمُزَّمِّلُ أصله المُتَزَمِّل، ولكن التاء تدغم في الزاي لقربها منها، يقال: تَزَمَّل
فُلان إذا تلفف بثيابه، وكل شيء لافف فَقَدْ زُمِّلَ.
قال امرؤ القيس:
كأَنّ أَبَاناً في أَفَانِينِ وَدْقِهِ... كبيرُ أُناسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ
وقيل إنه كان مُتَزَمِّلًا في حال هيئة الصلاة.
* * *
قوله: (قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)
فالمعنى - واللَّه أعلم - أن (نصفه) بدل من (الليل) كما تقول: ضربت زيداً
رَأْسَهُ فإنما ذكرت زيداً لتؤكد الكلام، وهو أوكد من قولك ضربت رأس زيداً فالمعنى قم نصف الليل إلا قليلاً أو انقص من النصف أو زد على النصف، وذكَر (أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا) بمعنى إلا قليلاً ولكنه ذُكِرَ مَع الزِيادة، فالمعنى قم نصف الليل أو انقص من نصف الليل أو زد على نصف.
وهذا - واللَّه أعلم - قبل أن يقع فرض الصلوات الخمس (١).
ومعنى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (٤)
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾: للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى.
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» بدلُ بعضٍ من كلٍ. و «إلاَّ قليلاً» استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في «مِنْه» و «عليه» عائدٌ على النصفِ.
والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: «وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه». قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله].
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: «والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال:» وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: «أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه»، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ «. قلت: الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ: فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ. ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال:» والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل «] فأعاد الضميرَ على القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.
ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه:» قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً «بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وجدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ ما فيه.
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال:» نصفَه «بدلٌ من» الليل «و» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في» منه «و» عليه «عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه».
قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً.
الثاني: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً»، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: «وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» نصفَه «بدلاً مِنْ» قليلاً «، وكان تخييراً بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ». قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من «الليل» كما تقدَّمَ.
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: «وإذا كان» نصفَه «بدلاً مِنْ» إلاَّ قليلاً «فالضميرُ في» نصفَه «: إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو» الليلَ «، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً ألبتَّةََ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من» الليل «، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه. وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال:» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من البدلِ، وهو» نصفَه «، وأنَّ التقديرَ: قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ» نصفَه «بدلٌ مِنْ» إلاَّ قليلاً «والضميرُ في» نِصفَه «عائدٌ على» الليل «، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً».
قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ. أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ، والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال تعالى: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]. وقال تعالى: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ.
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ «قليلاً» مستثنى من «الليل»، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه.
ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ «أو زِدْ عليه» على «انقُصْ منه» فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في «مِنْه»، وفي «عليه» عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ أَنْ تقول: «له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً» فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.
الثالث: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «منه» و «عليه» عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «وإنْ شِئْتَ قلت: لَمَّا كان معنى ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾ إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من» الليل «: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل، رَجَعَ الضميرُ في» منه «و» عليه «إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ».
الرابع: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» كما تقدَّمَ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: «ويجوز إذا أَبْدَلْتَ» نصفَه «مِنْ» قليلاً «وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ» قليلاً «الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه. ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع» انتهى. وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: «وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ». قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!.
الخامس: أَنْ يكونَ «إلاَّ قليلاً» استثناءً مِنْ القيامِ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: «إلاَّ قليلاً» أي: إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: «التي تُخِلُّ بقيامِها» فأَبْدَلْتُها: «التي تَتْرُكُ قيامَها». وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس: قال الأخفش: «إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه، قال:» كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «.
أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً «. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم:» أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً «. وقول الآخر:
٤٣٦٤ كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا... يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ. وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.
السابع: قال التبريزيُّ:» الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي: ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن «وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.
الثامن: أنَّ» نصفَه «منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/، أي: قُمْ نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال:» نصفَه بدلٌ من «الليل» وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه «. قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).
قوله: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾: للناس في هذا كلامٌ كثيرٌ، واستدلالٌ على جوازِ استثناءِ الأكثرِ والنصفِ، واعتراضاتٌ وأجوبةٌ عنها. وها أنا أذكرُ ذلك مُحَرِّراً له بعون اللهِ تعالى.
اعلم أنَّ في هذه الآيةِ ثمانيةَ أوجهٍ أحدُها: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» بدلُ بعضٍ من كلٍ. و «إلاَّ قليلاً» استثناءٌ من النصفِ كأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ. والضميرُ في «مِنْه» و «عليه» عائدٌ على النصفِ.
والمعنى: التخييرُ بين أمرَيْنِ: بينَ أَنْ يقومَ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ على البَتِّ، وبين أَنْ يَخْتارَ أحدَ الأمرَيْن، وهما: النُّقْصانُ من النصفِ والزيادةُ عليه، قاله الزمخشريُّ: وقد ناقَشَه الشيخ: بأنه يَلْزَمُه تكرارٌ في اللفظِ؛ إذ يَصير التقديرُ: قُم نِصفَ الليلِ إلاَّ قليلاً مِنْ نِصْفِ الليل، أو انقُصْ مِنْ نصفِ الليل. قال: «وهذا تركيبٌ يُنَزَّهُ القرآنُ عنه». قلت: الوجهُ فيه إشكالٌ، لا من هذه الحيثية فإنَّ الأمرَ فيها سهلٌ، بل لمعنىً آخرَ [سأَذْكرهُ قريباً إنْ شاء الله].
وقد جعل أبو البقاءِ هذا الوجهَ مرجوحاً فإنه قال: «والثاني هو بدلٌ مِنْ قليلاً يعني النصف قال:» وهو أَشبهُ بظاهرِ الآية لأنه قال: «أو انقُصْ منه أو زِدْ عليه»، والهاءُ فيهما للنِّصْفِ. فلو كان الاستثناءُ من النصف لصار التقديرُ: قُم نصفَ الليل إلاَّ قليلاً أو انقُصْ منه قليلاً، والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّر، فالنقصانُ منه لا يُعْقَلُ «. قلت: الجوابُ عنه: أنَّ بعضَهم قد عَيَّنَ هذا القليلَ: فعن الكلبيِّ ومقاتلٍ: هو الثلثُ، فلم يكن القليلُ غيرَ مقدَّرٍ. ثم إنَّ في قولِه تناقضاً لأنه قال:» والقليلُ المستثنى غيرُ مقدَّرٍ، فالنقصانُ منه [لا يُعْقَل «] فأعاد الضميرَ على القليل، وفي الأولِ أعادَه على النصفِ.
ولقائلٍ أن يقولَ: قد يَنْقَدحُ هذا الوجهُ بإشكالٍ قويٍّ: وهو أنَّه يَلْزَمُ منه تكرارُ المعنى الواحدِ: وذلك أنَّ قولَه:» قُمْ نِصْف الليلِ إلاَّ قليلاً «بمعنى: انقُصْ مِنْ الليل؛ لأنَّ ذلك القليل هو بمعنى النقصانِ، وأنت إذا قلت: قُمْ نصفَ الليلِ إلاَّ القليلَ مِن النصفِ، وقُمْ نصفَ الليل، أو انقُصْ من النصفِ، وجدتَهما بمعنىً. وفيه دقةٌ فتأمَّلْه، ولم يَذْكُرِ الحوفيُّ غيرَ هذا الوجهِ المتقدِّمِ، فقد عَرَفْتَ ما فيه.
ومِمَّنْ ذَهَبَ إليه أبو إسحاقَ فإنه قال:» نصفَه «بدلٌ من» الليل «و» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من النصفِ. والضميرُ في» منه «و» عليه «عائدٌ للنصف. المعنى: قُمْ نصفَ الليل أو انقُصْ من النصفِ قليلاً إلى الثلثِ، أو زِدْ عليه قليلاً إلى الثلثِ، أو زِد عليه قليلاً إلى الثلثَيْن، فكأنَّه قال: قُمْ ثلثَيْ الليلِ أو نصفَه أو ثلثَه».
قلت: والتقديراتُ التي يُبْرزونها ظاهرةٌ حسنةٌ، إلاَّ أنَّ التركيبَ لا يُساعِدُ عليها، لِما عَرَفْتَ من الإِشكال الذي ذكَرْتُه لك آنفاً.
الثاني: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً»، وإليه ذهب الزمخشريُّ وأبو البقاء وابنُ عطية. قال الزمخشريُّ: «وإنْ شِئْتَ جَعَلْتَ» نصفَه «بدلاً مِنْ» قليلاً «، وكان تخييراً بين ثلاثٍ: بين قيامِ النصفِ بتمامِه، وبين قيامِ الناقصِ منه، وبين قيامِ الزائدِ عليه، وإنما وَصَفَ النصفَ بالقِلَّةِ بالنسبة إلى الكلِّ». قلت: وهذا هو الذي جعله أبو البقاء أَشْبَهَ مِنْ جَعْلِه بدلاً من «الليل» كما تقدَّمَ.
إلاَّ أنَّ الشيخ اعترض هذا فقال: «وإذا كان» نصفَه «بدلاً مِنْ» إلاَّ قليلاً «فالضميرُ في» نصفَه «: إمَّا أَنْ يعودَ على المبدلِ منه أو على المستثنى منه، وهو» الليلَ «، لا جائِزٌ أَنْ يعودَ على المبدلِ منه؛ لأنه يَصيرُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ؛ إذ التقديرُ: إلاَّ قليلاً نصفَ القليل، وهذا لا يَصِحُّ له معنىً ألبتَّةََ، وإن عاد الضميرُ على الليل فلا فائدةَ في الاستثناءِ من» الليل «، إذ كان يكونُ أَخْصَرَ وأوضحَ وأَبْعَدَ عن الإِلباس: قُمِ الليلَ نصفَه. وقد أَبْطَلْنا قولَ مَنْ قال:» إلاَّ قليلاً «استثناءٌ من البدلِ، وهو» نصفَه «، وأنَّ التقديرَ: قُم الليلَ نصفَه إلاَّ قليلاً منه، أي: من النصفِ. وأيضاً: ففي دَعْوى أنَّ» نصفَه «بدلٌ مِنْ» إلاَّ قليلاً «والضميرُ في» نِصفَه «عائدٌ على» الليل «، إطلاقُ القليلِ على النصفِ، ويَلْزَمُ أيضاً أَنْ يصيرَ التقديرُ: إلاَّ نصفَه فلا تَقُمْه/، أو انقُصْ من النصفِ الذي لا تقومه وهذا معنىً لا يَصِحُّ وليس المرادَ من الآيةِ قطعاً».
قلت: نقولُ بجواز عَوْدِه على كلٍ منهما، ولا يَلْزَمُ محذورٌ. أمَّا ما ذكره: مِنْ أنه يكونُ استثناءَ مجهولٍ مِنْ مجهولٍ فممنوعٌ، بل هو استثناءُ معلومٍ من معلومٍ، لأنَّا قد بَيَّنَّا أنَّ القليل قَدْرٌ معيَّنٌ وهو الثلثُ، والليل، فليس بمجهولٍ. وأيضاً فاستثناءُ المُبْهَمِ قد وَرَدَ. قال تعالى: ﴿مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ﴾ [النساء: ٦٦]. وقال تعالى: ﴿فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٩] وكان حقُّه أَنْ يقولَ: لأنه بدلُ مجهولٍ مِن مجهولٍ. وأمَّا ما ذكره مِنْ أَنَّ أَخْصَرَ منه وأَوْضَحَ كيتَ وكيت: أمَّا الأخْصَرُ فمُسَلَّمٌ. وأمَّا أنه مُلْبِس فممنوعٌ، وإنما عَدَلَ عن اللفظِ الذي ذكَرَه لأنه أَبْلَغ.
وبهذا الوجهِ اسْتَدَلَّ مَنْ قال بجوازِ استثناءِ النصفِ والأكثرِ. ووجهُ الدلالةِ على الأولِ: أنَّه جَعَلَ «قليلاً» مستثنى من «الليل»، ثم فَسَّر ذلك القليلَ بالنصفِ فكأنه قيل: قُمِ الليلَ إلاَّ نصفَه.
ووَجْهُ الدلالةِ على الثاني: أنَّه عَطَفَ «أو زِدْ عليه» على «انقُصْ منه» فيكونُ قد استثنى الزائدَ على النصفِ؛ لأنَّ الضميرَ في «مِنْه»، وفي «عليه» عائدٌ على النصفِ. وهو استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الكثرة إنما جاءَتْ بالعطفِ، وهو نظيرُ أَنْ تقول: «له عندي عشرةٌ إلاَّ خمسةً ودرهماً ودرهماً» فالزيادةُ على النصفِ بطريقِ العطفِ لا بطريقِ أن الاستثناءِ أخرجَ الأكثرَ بنفسِه.
الثالث: أنَّ «نصفَه» بدلٌ من «الليلَ» أيضاً كما تقدَّم في الوجه الأولِ، إلاَّ أنَّ الضميرَ في «منه» و «عليه» عائدٌ على الأقلِّ من النصف. وإليه ذهب الزمخشري فإنه قال: «وإنْ شِئْتَ قلت: لَمَّا كان معنى ﴿قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً نِّصْفَهُ﴾ إذا أَبْدَلْتَ النصفَ من» الليل «: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليل، رَجَعَ الضميرُ في» منه «و» عليه «إلى الأقلِّ من النصفِ، فكأنه قيل: قُمْ أقلَّ مِنْ نصفِ الليلِ أو قُمْ أنقصَ مِنْ ذلك الأقلِّ أو أزيدَ مِنْه قليلاً، فيكون التخييرُ فيما وراءَ النصفِ بينه وبينَ الثُّلُثِ».
الرابع: أَنْ يكونَ «نصفَه» بدلاً مِنْ «قليلاً» كما تقدَّمَ، إلاَّ أنَّك تجعلُ القليلَ الثاني رُبْعَ الليلِ. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا أيضاً فقال: «ويجوز إذا أَبْدَلْتَ» نصفَه «مِنْ» قليلاً «وفَسَّرْتَه به أَنْ تجعلَ» قليلاً «الثاني بمعنى نصفِ النصفِ، بمعنى الربع، كأنه قيل: أو انقص منه قليلاً نصفَه، وتجعلَ المزيدَ على هذا القليل أعني الربعَ نصفَ الربع، كأنه قيل: أو زِدْ عليه قليلاً نصفَه. ويجوزُ أَنْ تجعلَ الزيادةَ لكونِها مُطْلَقَةً تتمَّةَ الثلثِ فيكون تخييراً بين النصفِ والثلثِ والرُّبُع» انتهى. وهذه الأوجهُ التي حَكَيْتُها عن أبي القاسم مِمَّا يَشْهدُ له باتِّساعِ عِلْمِه في كتاب الله. ولَمَّا اتسَعَتْ عبارتُه على الشيخ قال: «وما أوسعَ خيالَ هذا الرجلِ!! فإنه يُجَوِّزُ ما يَقْرُبُ وما يَبْعُدُ». قلت: وما ضَرَّ الشيخَ لو قال: وما أوسعَ عِلْمَ هذا الرجلِ!!.
الخامس: أَنْ يكونَ «إلاَّ قليلاً» استثناءً مِنْ القيامِ، فتجعلَ الليلَ اسم جنسٍ ثم قال: «إلاَّ قليلاً» أي: إلاَّ اللياليَ التي تترُكُ قيامَها عند العُذْرِ البيِّن ونحوِه: وهذا النَّظر يَحْسُنُ مع القولِ بالنَّدْبِ، قاله ابنُ عطية، احتمالاً مِنْ عندِه. وفي عبارته: «التي تُخِلُّ بقيامِها» فأَبْدَلْتُها: «التي تَتْرُكُ قيامَها». وفي الجملة فهذا خلافُ الظاهرِ، وتأويلٌ بعيدٌ.
السادس: قال الأخفش: «إنَّ الأصل: قُم الليلَ إلاَّ قليلاً أو نصفَه، قال:» كقولك: أَعْطِه درهماً درهَمْين ثلاثةً «.
أي: أو درهمَيْن أو ثلاثةً «. وهذا ضعيفٌ جداً؛ لأن فيه حَذْفَ حرفِ العطفِ، وهو ممنوعٌ لم يَرِدْ منه إلاَّ شَيْءٌ شاذٌّ يمكن تأويلُه كقولِهم:» أكلْتُ لحماً سَمَكاً تَمْراً «. وقول الآخر:
٤٣٦٤ كيف أَصْبَحْتَ كيف أَمْسَيْتَ مِمَّا... يَزْرَعُ الوُدَّ في فؤادِ الكريم
أي: لحماً وسمكاً وتمراً، وكذا كيف أصبَحْتَ وكيف أمسَيْتَ. وقد خَرَّجَ الناس هذا على بَدَلِ البَداء.
السابع: قال التبريزيُّ:» الأمرُ بالقيام والتخييرُ في الزيادةِ والنقصان، وقعَ على الثلثَيْن مِنْ آخرِ الليلِ؛ لأنَّ الثلثَ الأولَ وقتُ العَتَمَةِ، والاستثناءُ واردٌ على المأمورِ به، فكأنه قال: قُمْ ثُلُثي الليلِ إلاَّ قليلاً، أي: ما دونَ نصفِه، أو زِدْ عليه، أي: على الثلثَيْنِ، فكان التخيير في الزيادةِ والنقصانِ واقعاً على الثلثَيْن «وهو كلامٌ غريبٌ لا يَظْهَرُ من هذا التركيبِ.
الثامن: أنَّ» نصفَه «منصوبٌ على إضمارِ فِعْلٍ/، أي: قُمْ نصفَه، حكاه مكيٌّ عن غيرِه، فإنَّه قال:» نصفَه بدلٌ من «الليل» وقيل: انتصبَ على إضمارِ: قُمْ نصفَه «. قلت: وهذا في التحقيقِ هو وجهُ البدلِ الذي ذكرَه أولاً؛ لأنَّ البدلَ على نيةِ تَكْرارِ العاملِ.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).