سُورَةُ القِيَامَةِ
(مَكِّيَّة)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قوله عزَّ وجلَّ: (لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (١) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (٢)
لا اختلاف بين الناس أن معناه أقسِم بيوم القيامَةِ.
واختلفوا في تفسير " لاَ "، فقال بعضهم " لا " لَغوٌ وإن كانت في أول السورة، لأن القرآن كله كالسورَةِ الوَاحِدَةِ، لأنه متَصِلٌ بَعْضه بِبَعْضٍ فجعلت " لا " ههنا بمنزلتها في قوله: (لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ).
وقال بعض النحوبين: " لاَ " رَد لِكَلاَمِهِمْ.
كَأنهم أنكروا البعث فقيل لا ليس الأمر كما ذَكَرْتُمْ أقسم بيوم القيامة
وقوله: (إنكم مَبْعوثونَ) دَلَّ على الجواب (١).
* * *
قوله: (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (٤)
المعنى: بلى لَنَجْمَعَنكمْ قَادِرِين، المعنى أقسم بيوم القيامة والنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ لَنَجْمَعنَّها قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ.
وجاء في التفسير بلى نقدر على أن نجعله كخفِّ البَعِيرِ. والذي هو
أشكل بجمع العِظَامِ بلى نَجْمَعها قَادِرِين، عَلَى تَسْوِيَةِ بَنَانِه على ما كانت، وإن قَلَّ عِظَامهَا وَصَغرت وبلغ مِنها البِلَى.
والنفس اللوامة تفسيرها أن كل نفسٍ تلوم صاحبها في الآخِرَةِ إن كان
عَمِلَ شرًّا لَامَتْهُ نفسه وأن كان عمل خَيراً لَامَتْهُ على ترك الاستكثار منه.
(١) قال السَّمين:
قوله: ﴿لاَ أُقْسِمُ﴾: العامَّةُ على «لا» النافيةِ. واختلفوا حينئذٍ فيها على أوجهٍ، أحدُها: أنها نافيةٌ لكلامٍ متقدِّمٍ، كأنَّ الكفارَ ذَكروا شيئاً. فقيل لهم: لا، ثم ابتدأ اللَّهُ تعالى قَسَماً. الثاني: أنها مزيدةٌ. قال الزمخشري: «وقالوا إنها مزيدةٌ، مِثْلُها في: ﴿لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب﴾ [الحديد: ٢٩] وفي قولِه:
٤٤٠٢ في بِئْرِ لاحُورٍ سَرَى وما شَعَرْ... واعترضوا عليه: بأنها إنما تُزاد في وسط الكلام لا في أولِه. وأجابوا: بأنَّ القرآنَ في حُكْمِ سورةٍ واحدةٍ متصلٍ بعضُه ببعضٍ. والاعتراضُ صحيحٌ؛ لأنها لم تقَعْ مزيدةً إلاَّ في وسط الكلامِ، لكن الجوابَ غيرُ سديدٍ. ألا ترى إلى امرىء القيسِ كيف زادَها في مستهلِّ قصيدتِه؟ قلت: يعني قولَه:
٤٤٠٣ لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ... يِ..........................
كما سيأتي، وهذا الوجهُ والاعتراضُ عليه والجوابُ نقله مكي وغيرُه. الوجه الثالث: قال الزمخشري:»
إدخالُ «» لا «النافيةِ على فعلِ القسمِ مستفيضٌ في كلامِهم وأشعارِهم. قال امرؤ القيس:
لا وأبيك ابنةَ العامرِيْ... يِ لا يَدَّعِي القومُ أنِّي أفِرّْ
وقال غُوَيَّةُ بن سُلْميٍّ:
٤٤٠٤ ألا نادَتْ أُمامةُ باحْتمالِ... لِتَحْزُنَني فلابِك ما أُبالي
وفائدتُها توكيدُ القسم»
ثم قال بعد أَنْ حكى وجهَ الزيادةِ والاعتراضَ والجوابَ كما تقدَّمَ «والوَجهُ أَنْ يُقال: هي للنفي، والمعنى في ذلك: أنه لا يُقْسِمُ بالشيءِ إلاَّ إعظاماً له يَدُلَّكَ عليه قولُه تعالى: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة: ٧٥ - ٧٦] فكأنه بإدخالِ حرفِ النفي يقول: إنَّ إعظامي له بإقسامي به كلا إعظامٍ، يعني أنه يَسْتَأْهِلُ فوق ذلك. وقيل:» إنَّ «لا» نفيٌ لكلامٍ وَرَدَ قبل ذلك «. انتهى. فقولُه:» والوجهُ أَنْ يُقال «إلى قولِه:» يعني أنه يستأهِلُ فوق ذلك «تقريرٌ لقولِه:» إدخالُ «لا» النافيةِ على فعلِ/ القسمِ مستفيضٌ «إلى آخره. وحاصلُ كلامِه يَرْجِعُ إلا أَنَّها نافيةٌ، وأنَّ النفيَ مُتَسَلِّطٌ على فعل القسمِ بالمعنى الذي شَرَحَه، وليس فيه مَنْعٌ لفظاً ولا معنىً ثم قال: فإن قلتَ: قولُه تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ﴾ [النساء: ٦٥] والأبياتُ التي أَنْشَدْتُها المُقْسَمُ عليه فيها منفيٌّ، فهلا زَعَمْتَ أنَّ» لا «التي قبلَ القسمِ زِيْدَتْ موطئةً للنفيِ بعدَه ومؤكِّدةً له، وقَدَّرْتَ المقسم عليه المحذوفَ ههنا منفيَّاً، كقولِك: لا أُقْسم بيومِ القيامةِ لا تُتركون سُدى؟ قلت: لو قَصَروا الأمرَ على النفيِ دونَ الإِثباتِ لكان لهذا القول مَساغٌ، ولكنه لم يُقْصَرْ. ألا ترى كيف لُقِيَ ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾ [البلد: ١] بقولِه: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان﴾ وكذلك قولُه: ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم﴾ [الواقعة: ٧٥] بقوله: ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ وهذا من محاسنِ كلامِه فتأمَّلْه. وقد تقدَّم الكلامُ على هذا النحوِ في سورة النساءِ، وفي آخر الواقعة، ولكنْ هنا مزيدُ هذه الفوائدِ.
وقرأ قنبل والبزي بخلافٍ عنه «لأُقْسِمُ بيوم»
بلامٍ بعدَها همزةٌ دونَ ألفٍ. وفيها أربعةُ أوجهٍ، أحدُها: أنها جوابٌ لقسمٍ مقدرٍ، تقديرُه: واللَّهِ لأُقْسِمُ، والفعلُ للحالِ؛ فلذلك لم تَأْتِ نونُ التوكيدِ، وهذا مذهبُ الكوفيين. وأمَّا البصريُّون فلا يُجيزون أَنْ يقعَ فعلُ الحالِ جواباً للقسم، فإنْ وَرَدَ ما ظاهرُه ذلك جُعل الفعل خبراً لمبتدأ مضمرٍ، فيعودُ الجوابُ جملةً اسميةً قُدِّرَ أحدُ جزأَيْها، وهذا عند بعضِهم من ذلك، التقديرُ واللَّهِ لأنا أُقْسِمُ. الثاني: أنه فعلٌ مستقبلٌ، وإنما لم يُؤْتَ بنونِ التوكيدِ؛ لأنَّ أفعالَ اللَّهِ حقٌّ وصدقٌ فهي غنية عن التأكيدِ بخلاف أفعالِ غيره. على أنَّ سيبويهِ حكى حَذْفَ النونِ إلاَّ أنَّه قليلٌ، والكوفيون يُجيزون ذلك مِنْ غير قلةٍ إذ مِنْ مذهبهم جوازُ تعاقُبِ اللامِ والنونِ فمِنْ حَذْفِ اللامِ قولُ الشاعر:
٤٤٠٥ وقتيلِ مَرَّةَ أَثْأَرَنَّ فإنَّه... فَرْغٌ وإنَّ أخاكم لم يُثْأَرِ
أي: لأَثْأَرَنَّ. ومِنْ حَذْفِ النونِ وهو نظيرُ الآية قولُه:
٤٤٠٦ لَئِنْ تَكُ قد ضاقَتْ عليكم بيوتُكُمْ... لَيَعْلَمُ ربي أنَّ بيتيَ واسعٌ
الثالث: أنها لامُ الابتداءِ، وليسَتْ بلامِ القسمِ. قال أبو البقاء: «نحو: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ﴾ [النحل: ١٢٤] والمعروفُ أنَّ لامَ الابتداءِ لا تَدْخُل على المضارع إلاَّ في خبر» إنَّ «نحو: ﴿وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ﴾ وهذه الآيةُ نظيرُ الآيةِ التي في يونس [الآية: ١٦] ﴿وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ فإنهما قرآها. بقصر الألف، والكلامُ فيها قد تقدَّم. ولم يُخْتَلَفْ في قولِه:» ولا أُقْسِم «أنه بألفٍ بعد» لا «؛ لأنه لم يُرْسَمْ إلاَّ كذا، بخلاف الأولِ فإنه رُسِمَ بدون ألفٍ بعد» لا «، وكذلك في قولِه: ﴿لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد﴾ لم يُختلَفْ فيه أنَّه بألفٍ بعد» لا «.
وجوابُ القسمِ محذوفٌ تقديرُه: لتُبْعَثُنَّ، دلَّ عليه قولُه:»
أيحسَبُ الإِنسانُ «. وقيل: الجوابُ أَيَحْسَبُ. وقيل: هو» بلى قادِرين «ويُرْوَى عن الحسن البصري. وقيل: المعنى على نَفْيِ القسم، والمعنى: إني لا أُقْسِم على شيء، ولكن أسألُك: أيحسَبُ الإِنسانُ. وهذه الأقوالُ شاذَّةٌ مُنْكَرةٌ لا تَصِحُّ عن قائليها لخروجِها عن لسانِ العرب، وإنما ذكرْتُها للتنبيهِ على ضَعْفها كعادتي.
اهـ (الدُّرُّ المصُون).


الصفحة التالية
Icon