بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب تبياناً لكل شيء، والصلاة والسلام على القائل: "ألا إني أُوتيتُ القرآنَ ومثلَه معه" (١).
وعلى صحابته المروي عنهم:
(إلا فهماً يعطيه الله رجلاً في كتابه) (٢) الأثر، الموعودين بالحسنى؛ وأتباعهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فلقد تصفحت ما كتبه فضيلة الشيخ د. خالد بن عثمان السبت (حفظه الله) وقام به من جهد ينبيء عن علو همة ورغبة في الخير، وقد ظهر في الذي وقفت عليه من عمله أمانة علمية، وتجشم للصعاب.
وإذا كانت النفوسُ كباراً تعبتْ في مرادِهَا الأجسامُ (٣)
(١) أخرجه أحمد (١/ ١٣١)، وأبو داود: كتاب السنة، باب في لزوم السنة، حديث رقم: (٤٥٨٠) (١٢/ ٣٥٤)، والبيهقي في السنن (٩/ ٢٣٢)، وفي الدلائل (٦/ ٥٤٩)، وابن حبان (١/ ١٠٧)، والدراقطني (٤/ ٢٨٧)، والطبراني في الكبير (٢٠/ ٢٨٣)، والطحاوي في شرح المعاني (٤/ ٢٠٩)، وابن عبد البر في التمهيد (١/ ١٥٠)، والخطيب في الفقيه والمتفقه (١/ ٢٦٣)، وانظر: صحيح أبي داود (٣٨٤٨).
(٢) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب العلم، باب كتابة العلم، رقم: (١١١) (١/ ٢٠٤). وأطرافه في (٣٠٤٧، ٣٩٠٣، ٦٩١٥) من قول علي (رضي الله عنه).
(٣) البيت للمتنبي، وهو في ديوانه (بشرح البرقوقي ٤/ ٦٤).

الأرحامِ، والمرادَ بـ (المُسْتَوْدَع): المُستَقَر في الأصلابِ. يعني أولَ نَشْأَتِكُمْ من نفسٍ واحدة، ثم صار بعد ذلك النُطف يُقِرُّهَا اللَّهُ في الأصلابِ، ثم ينقلها فتستقرُّ في الأرحامِ، فَيُخْرِج منها بشرًا سَوِيًّا، وهذا عليه أكثرُ المفسرين، أن (المُستَقَر): هو استقرارُ الجنينِ في الرحمِ، و (المُسْتَوْدَع): هو استيداعُ اللَّهِ للنطفةِ الذي خُلِقَ منها في أَبِيهِ (١).
وكان بعضُ العلماءِ يختارُ: أن (المُسْتَقَر): الاستقرارُ على وجهِ الأرضِ أيامَ الحياةِ، وأن (المُسْتَوْدَعَ): الاستيداعُ في بَطْنِ الأرضِ في القبورِ (٢).
وبعضُ العلماءِ يقولُ: المُسْتَقَر في الأصلابِ، والمُسْتَوْدَعُ في الأرحامِ (٣). عكس ما ذَكَرْنَا.
والذي عليه أكثرُ المفسرين: أنها تُشِيرُ إلى بعضِ أطوارِ الإنسانِ؛ لأن اللَّهَ (تبارك وتعالى) نَبَّهَ الإنسانَ على أنه نَقَلَهُ من حالٍ إلى حالٍ، وَجَعَلَ خلقَه طورًا بعد طورٍ كقولِه: ﴿مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)﴾ [نوح: الآيتان ١٣، ١٤]، أي: خلقكم على طَورٍ ثم نقلكم من ذلك الطورِ إلى طَورٍ آخَرَ. وقال جل وعلا: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾ [الزمر: آية ٦]، بعد أن كُنْتُمْ نُطَفًا تصيرونَ عَلَقًا، ثم مُضغًا، ثم عِظَامًا. وقد بَيَّنَ اللَّهُ (جل وعلا) هذه المراتبَ بيانًا شافيًا في آياتٍ كثيرةٍ مِنْ أَوْضَحِهَا آيةُ:
_________
(١) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٦٣) القرطبي (٧/ ٤٦)، البحر المحيط (٤/ ١٨٨).
(٢) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٦٤)، البحر المحيط (٤/ ١٨٨).
(٣) انظر: ابن جرير (١١/ ٥٦٥)، البحر المحيط (٤/ ١٨٨).
محذوف: هذا كتاب أُنزل إليك. خلافاً لمن زعم أن ﴿المص (١)﴾ اسم لهذه السورة، وأنه في محل مبتدأ، وأن ﴿كِتَابٌ﴾ خبره (١)، والمعنى: السورة المسماة ﴿المص (١)﴾ كتاب أُنزل إليك. والقرآن يطلق على كل سورة منه أنها كتاب وأنه كتب عديدة؛ لأنه مكتوب في صحف كثيرة، كما بينه تعالى في سورة البينة حيث قال: ﴿رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (٢) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣)﴾ [البينة: الآيتان ٢، ٣] فعبر عن القرآن بأنه كتب قيمة. ولكن الأظهر هو ما عليه الجمهور: أن قوله: ﴿كِتَابٌ﴾ خبر مبتدأ محذوف: هذا كتاب. والكتاب (فِعال) بمعنى: (مفعول) والمعنى: كلام الله مكتوب، فالكتاب بمعنى المكتوب. وإنما قيل له كتاب: لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، كما قال الله: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (٢٢)﴾ [البروج: الآيتان ٢١، ٢٢] ومكتوب في صحف بأيدي الملائكة، كما قال تعالى: ﴿فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (١٣) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥)﴾ [عبس: الآيتان ١٣ - ١٥] وكون الكتاب بمعنى المكتوب هو (فِعَال) بمعنى (مفعول).
والقرآن وإن كان مكتوباً في اللوح المحفوظ فنزوله على النبي ﷺ ليس أن جبريل ينظر في اللوح المحفوظ (٢)، بل الله (جل وعلا) يكلم جبريل بما يريد إنزاله من أنجم القرآن، فيسمعه جبريل من كلام الله على الوجه اللائق بكمال الله وجلاله. وإذا تكلم الله
_________
(١) انظر: القرطبي (٧/ ١٦٠)، الدر المصون (٥/ ٢٤١).
(٢) للشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- رسالة بعنوان: (الجواب الواضح المستقيم في التحقيق في كيفية إنزال القرآن الكريم) رد فيها على مَنْ زَعَمَ أَنَّ جِبْرِيلَ (عليه السلام) أخَذَ القُرْآنَ من اللوح المحفوظ، وقد طُبعت مُسْتَقِلَّة، كما أنها ضمن المجموع في فتاواه (١/ ٢١٤).
مرارًا (١) لشدة الحاجة إليه-: أن المذهب المُنجي في صفات الله تبارك وتعالى التي ازدحمت فيها عقول العقلاء، وضلّ آلاف الناس من جهة التعطيل، وضلّ آلاف الناس من جهة التشبيه، والتمثيل، أن المذهب المنجي عند الله -الذي لا شك فيه، وأنه الذي كان عليه رسول الله ﷺ وأصحابه الكرام وسلف هذه الأمة-: وهو ما يقال له: «مذهب السلف» في اصطلاح الناس، أن انتهاجه هو الصواب، وهو المنجي عند الله، وهو العمل بنور القرآن الذي لا شك فيه، فقد أوضحناه لكم مرارًا سنين متعددة، ولا نزال نوضحه ونكرره لشدة الحاجة إليه، وكثرة من غلط فيه من فحول النظار.
اعلموا أيها الإخوان - وفقنا الله وإياكم لما يرضيه - أن العمل بضوء هذا المحكم المنزل الذي لا شك أنه على قدم الصواب أن تُجرى آيات الصفات على ثلاثة أصول، إن لقيتم الله وأنتم على هذه الأصول الثلاثة -لم تُخلّوا بواحد منها- فلا شك أنكم تلقون ربكم وأنتم على عقيدة صحيحة، وصلة بالله متينة، ومذهب حق. وإن أخللتم بشيء منها أدخلتم أنفسكم في بلية. واحذروا من قال وقيل، وعلم الكلام، وغير ذلك.
وهذه الأصول الثلاثة:
الأول منها: - أيها الإخوان - هو أساس التوحيد الأكبر، وهو الحجر الأساسي للصلة بالله صلة صحيحة. هذا الأساس الأعظم هو تنزيه خالق السماوات والأرض (جل وعلا) عن أن يشبه شيئًا من خلقه في شيء من ذواتهم أو صفاتهم أو أفعالهم، وكيف يشبهونه؟!
_________
(١) راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٢) من سورة الأنعام.
عليهم، و (المولى) وزنه في الميزان الصرفي (مَفْعَل) من الولاية، والمولى في لغة العرب (١): هو كُلّ مَنْ يَنْعَقِدُ بينك وبينه سبب يجعلك تُوَاليه ويُوَالِيكَ؛ ولذا كثر إطلاق الموْلَى على ابن العم؛ لأن عصبية العُمُومة تجعله ينتصر لك وتنتصر له. وقد أطلق الموالي على العصبة في قوله: ﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ﴾ [النساء: الآية ٣٣] العصبة الوارثون. ومنه قول الفضل بن العباس من ذرية أبي لهب (٢):
مَهْلاً بني عَمِّنَا مَهْلاً مَوَالينا لاَ تُظْهِرُوا لَنَا مَا كَانَ مَدْفُونَا
ومن هذا المعنى قول طرفة بن العبد (٣):
وأَعْلمُ عِلْماً لَيْسَ بالظنِّ أَنَّهُ إِذَا ذَلَّ مَوْلَى المَرءِ فَهْوَ ذَلِيلُ
ولكون المولى في لغة العرب يطلق على كل مَنْ بَيْنَكَ وبينه سبب موالاة يُوَالِيكَ بِهَا وتوالِيهِ بها، وكثرت معانيه فأُطلق على بني العم، وعلى العصبة، وعلى المعتَقِين، والمُعْتِقِين بالفتح والكسر، وعلى الناصر، وعلى الصاحب. لأن كلاًّ ينعقد بينك وبينه سبب، فلما انعقد بين الكفار وبين النار سبب تجعلهم يدخلونها، ويخلدون فيها، وهي تؤذيهم بِحَرِّهَا قال تعالى: ﴿هِيَ مَوْلاَكُمْ﴾ [الحديد: الآية ١٥] فجعل النار مولاهم لانعقاد السبب بَيْنَهُمْ وبينها بكفرهم،
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام.
(٢) البيت في الكامل للمبرد (٣/ ١٤١٠)، القرطبي (١١/ ٧٨)، الدر المصون (٧/ ٥٦٧). وقائله هو الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب، من شعراء بني أمية. وصدر الشطر الثاني: «لا تنبشوا بيننا».
(٣) مضى عند تفسير الآية (١١٦) من سورة الأنعام.


الصفحة التالية
Icon