بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

المقدمة
الحمدُ لِلَّهِ الذي جَعَلَ في كل زمانِ فترةٍ من الرسلِ بقايا من أهلِ العلمِ، يَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إلى الهدى، ويصبرونَ منهم على الأَذَى، يُحيُونَ بكتابِ الله الموتى، ويُبَصِّرُون بنورِ اللَّهِ أهلَ العَمَى، فَكَمْ من قتيلٍ لإبليسَ قد أَحْيَوْهُ، وكم من ضَالٍّ تَائِهٍ قد هَدَوْهُ، فما أَحْسَنَ أثرَهم على الناسِ، وأقبحَ أثرَ الناسِ عليهم. يَنْفُونَ عن كتابِ اللَّهِ تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين، الذين عَقَدُوا ألويةَ البدعةِ، وَأَطْلَقُوا عقالَ الفتنةِ، فَهُمْ مختلفونَ في الكتابِ، مُخَالِفُونَ للكتابِ، مُجْمِعون على مُفَارَقَةِ الكتابِ، يقولون على اللَّهِ وفي اللَّهِ وفي كتابِ اللَّهِ بغير علمٍ، يتكلمون بالمتشابهِ من الكلامِ، ويخدعونَ جُهَّالَ الناسِ بما يُشَبِّهُونَ عليهم، فنعوذُ باللَّهِ من فِتَنِ الْمُضِلِّينَ (١).
_________
(١) مقتبس من كلام الإمام أحمد (رحمه الله) في مقدمة الرد على الزنادقة والجهمية، ص ٦. وأورد نحوه ابن وضاح في كتاب البدع والنهي عنها ص١٠ عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) بغير إسناد.
اللسانَ لِيَرُدَّ به شاردَ الطعامِ على أضراسِه عند المضغِ، وَيُبِينُ به الكلامَ، حتى يقضيَ حاجتَه من بَنِي الإِنْسَانِ، ثم إنه (جل وعلا) يضعُ الكبدَ في مَحَلِّهِ، وَالْكُلْيَتَيْنِ في محلهما، وكلُّ موضعٍ في محله، وَيُوَكِّلُهُ بوظيفتِه في تدبيرِ الجسمِ، ويفتحُ الشرايينَ ليدورَ الدمُ، ويفتحُ مجاريَ البولِ والغائطِ.
ولو شُرِّحَ عضوٌ واحدٌ من أعضاءِ الإنسانِ تَشْرِيحًا حَقِيقيًّا لَبَهَرَ العقولَ ما أَوْدَعَ اللَّهُ (جل وعلا) فيه من غرائبِ صنعِه وعجائبِه، فليس في الواحدِ مِنَّا مَوْضِعُ رأسِ إبرةٍ إِلاَّ وفيه من غرائبِ صنعِ خالقِه وعجائبِه ما يُبْهِرُ العقولَ لو فَكَّرَ (١).
وأنا أُؤَكِّدُ لكم أن هذه العملياتِ الهائلةَ التي تُفْعَلُ في الواحدِ منا، العليمُ القديرُ الذي فَعَلَهَا لم يَحْتَجْ إلى أن يَشُقَّ بطنَ أُمِّ الواحدِ مِنَّا، وَلَمْ يُبَنِّجْهَا، ولم يُنَوِّمْهَا في صحية، بل فعل فيها هذه الأعمالَ الهائلةَ العجيبةَ الغريبةَ من حيثُ لاَ تشعرُ، وهي لاهيةٌ تَفْرَحُ وتمرحُ، لا تَدْرِي عَمَّا يُفْعَلُ في بطنِها من غرائبِ الصُّنعِ وعجائبِه، مع أن الجنينَ الذي يُفْعَلُ فيه هذا من الغرائبِ والعجائبِ هو مندرجٌ في ثلاثِ ظلماتٍ: ظلمةِ بطنِ أُمِّهِ، وظلمةِ رَحِمِهَا داخلَ البطنِ، وظلمةِ المشيمةِ التي على الولدِ؛ لأنه في داخلِ الرحمِ يكونُ عليه المشيمةُ، والسَّلاَ يُغَطِّيهِ، فالله (جل وعلا) عِلْمُهُ نَافِذٌ، وبصرُه نافذٌ، لا يحتاجُ إلى كهرباء، ولا إلى نورٍ يكشفُ به تلك الظلماتِ، بل علمُه وقدرتُه نافذةٌ، فيفعل في الإِنْسَانِ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ويرتبُ بعضَه مع بعضٍ، ويخلقُه هذا الخلقَ العجيبَ.
_________
(١) للاستزادة في هذا الموضوع انظر مثلاً: مفتاح دار السعادة (١/ ١٨٧، ٢٥٥) فما بعدها، أقسام القرآن ٢٩٥ فما بعدها.
بعض، كما قال نابغة ذبيان (١):
وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ بهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
ولذلك قيل للخياطين: (كاتبين) فالعرب تسمي الخائط كاتباً، وتسمي الخياطة كتابة؛ لأن الخياط يضم أطراف الثوب بعضها إلى بعض، وكذلك الخَرَّاز تسميه العرب كاتباً؛ لأنه يضم بعض أطراف الجلد إلى بعض ويخرزها فيجمعها بالسير، فقيل له: كاتب؛ لأنه ضم بعض الأجزاء إلى بعض. وفي لُغَز الحريري في مقاماته (٢):
وَكَاتِبِينَ وَمَا خَطَّتْ أَنَامِلُهُمْ حَرْفاً وَلاَ قَرَءُوا مَا خُطَّ فِي الْكُتُبِ
يعني بهم الخياطين؛ ولذا تسمي العرب الخُرْزَة الذي يجمع السير وجهيها تسميها (كُتبة) وتسمي السير أيضاً الذي يجمعها (كُتبة) (فُعلة) من الكَتْب بمعنى الضم والجمع، ومن هذا المعنى وهو تسمية الخُرْزَة التي يجمع السير طرف وجهيها في خياطة الجلود أنها تسمى (كُتْبة) وتجمع على (كُتَب) بضم الكاف وفتح التاء، ومن هذا المعنى: قول غيلان ذي الرمة (٣):
مَا بَالُ عَيْنَيْكَ مِنْهَا المَاءُ يَنْسَكِبُ... كَأَنَّهُ مِنْ كُلى مَفْرِيَّةٍ سَرَبُ...
وَفْرَاءَ غَرْفيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزهَا مُشَلْشَلٌ ضيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الكُتَبُ
يعني أن دمعه يسيل بِكَثْرَةٍ؛ كما أن الخُرَز إذا اتَّسَعَتْ عَنِ السَّير وصارت فيها فجوات انْصَبَّ الماءُ مِنْهَا من السّقاء بكثرة؛ ولذا كانت العرب تقول: «اكْتُب بغْلتك، واكْتُب ناقتك» يعنون: أن يجمع طرفي
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام.
المحكم المنزل الذي هو نور الله وهُدَاه. وإيضاح ذلك: أن الله أوضح هذين الأساسين وارتباط أحدهما بالآخر في غاية الإيضاح في أوْجَزِ عبارة وأتمها وكملها، وذلك بقوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ [الشورى: آية ١١] فنؤمل -أيها الإخوان- أن تتأملوا في قوله: ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ بعد قوله: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ وتربطوا أول الآية بآخرها، وآخرها بأولها لتهتدوا كما ينبغي، وإيضاح ذلك: أن السمع والبصر -ولله المثل الأعلى- هما صفتان يتصف بهما -من حيث هما سمع وبصر- سائر الحيوانات، فجميع الحيوانات تسمع وتبصر، والله (جل وعلا) يسمع ويبصر -سبحانه وله المثل الأعلى- ولكن لما أراد أن يبين لنا أنه يسمع ويبصر وضع الأساس الأعظم أولاً فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ [الشورى: آية ١١] لأن الأساس لإثبات الصفات هو التنزيه عن المماثلة وعن التشبيه، فوضع التنزيه هو الأساس الأول فقال: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ ثم قال:... ﴿وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ مبنيًّا على أساس: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ﴾ أي: سمعًا وبصرًا لا يماثلهما سمع مخلوق ولا بصره أبدًا ألبتة في حال من الأحوال. فكان أول هذه الآية الكريمة يدل على التنزيه التام من غير تعطيل، وآخرها يدل على الإيمان بالصفات إيمانًا حقيقيًّا من غير تشبيه ولا تمثيل. فعلينا أن نعتقد أولها: وهو التنزيه.
ونعتقد آخرها: وهو إثبات الصفات إثباتًا حقيقيًّا على أساس ذلك التنزيه، فكأن الله يقول لك: يا عبدي، يا عبدي تفهَّم وكن عاقلاً، ولا تذهب بسمعي وبصري إلى سمع المخلوقين وأبصارهم حتى تقول: هذه الصفة تُوهِمُ غَيْرَ اللائِقِ فيجب
الجر الذي هو الباء، ودخول حرف الجر من علامات الاسم. والمحققون من علماء العربية: أن (نِعْم وبئس) فعلان ماضيان جامدان لإنشاء [المدح أو] (١) الذم. قالوا: وقول الأعرابي: ما هي بِنِعْم الولد. وقول الآخر: نِعْمَ السَّير على بِئس العَير (٢) محكي قول محذوف، أي: ما هي بولد مقول في جنسه نِعْمَ الولد.
وقوله: ﴿نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (المولى) فسرناه الآن، و (النصير): (فَعِيلٌ) بمعنى (فَاعِل)، بمعنى الناصر، وأصل النصر في لغة العرب: إعانة المظلوم، وتخليصه بالإعانة من الظلم، فإنه (جل وعلا)، كأنه في هذه الآية بيَّن الثناء على نفسه، الثناء الكامل الذي يستحقه في ولايته لأوليائه، ونصره لهم.
قال بعض العلماء: بين (المولى) و (النصير) عموم وخصوص من وجه، يجتمع (المولى) و (النصير) في بني عمك وعصبتك إذا كانت لهم قدرة على نصرك، وإعانتك على عدوك، فإذا جاء دونك بنو عمك وعصبتك ومنعوك من أعدائك، اجتمع فيهم أن كل واحد منهم مولى، وأنه نصير، وينفرد (المولى) عن (النصير) في قرابتك وعصبتك إذا كانوا ضعفاء، لا يقدرون على نصرتك، فالواحد منهم مولى وليس بنصير؛ إذ لا طاقة له على النصر، وينفرد (النصير) عن (المولى) بالأجنبي الذي ليس بينك وبينه سبب ولاية إذا نصرك وأعانك ومنعك من عدوك، فهو نصير وليس بمولى. وهذا واضح.
قال تعالى: {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ
_________
(١) بين المعقوفين [] زيادة يقتضيها السياق.
(٢) المصدر السابق.


الصفحة التالية
Icon