شُكْرٌ وَرَجَاءٌ
أشكرُ كُلَّ مَنْ أَعَانَ على إخراجِ هذا العملِ بِرَأْيٍ، أو فائدةٍ، أو مقابلةٍ، أو مراجعةٍ، أو غيرِ ذلك.
فأسألُ اللَّهَ أن يجزلَ لهم المثوبةَ وَيُعْظِمَ لهم الأجرَ ويختمَ لهم بالسعادةِ إنه قريبٌ مُجِيبٌ.
كما أرجو كُلَّ مَنْ وَقَفَ عليه ورأى فيه نقصًا أو خَلَلاً أن يرشدني إليه وله مني الشكرُ والدعاءُ.
ثم مَنْ كان لديه مزيدٌ على ما وقفتُ عليه من دروسِ الشيخِ المسجلةِ - وهي المذكورةُ ضمنَ هذه المقدمةِ - فَلْيُطْلِعْنِي عليه إِتْمَامًا لهذا العملِ، ونشرًا لعلمِ الشيخِ (رحمه الله)، ومشاركةً في بذلِ النفعِ للخلقِ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لنا ولإخواننا الذين سَبَقُونَا بالإيمانِ، ولا تَجْعَلْ في قلوبنا غِلاًّ للذين آمنوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدنيا حسنةً، وفي الآخرةِ حسنةً، وَقِنَا عذابَ النارِ.
ما يُبْهِرُ العقولَ، كيف جعل هذا النورَ الذي يَشِعُّ لهذا الِإنسانِ يجتلب عليه جميعَ مصالحِه، ومن ذلك - من الظاهرِ الواضحِ - أنه جَعَلَ للعينِ شحمةً لئلا يُجَفِّفَهَا الهواءُ والريحُ، وجعل ماءَ العينِ مِلحًا لئلاَّ تُنْتِنَ الشحمةُ، لأن الملحَ يزيلُ النتنَ، وَصَبَغَ له بعضَها بصبغٍ أسودَ، وبعضَها بصبغٍ أبيضَ، وفتحَ له فَمًا، وجعل له عينًا عذبةً من الريقِ يأكلُ بها الطعامَ، لو جَفَّ رِيقُهُ لَمَا قَدَرَ أن يبتلعَ الزبدَ الذائبَ، ومن كمالِ قدرةِ اللَّهِ أن الريقَ إذا كان يأكلُ به يبُل به الطعامَ ويبتلعُه ويجم له الريق، وإذا كان غيرَ وقتِ الحاجةِ ينقطعُ عنه الجَمُّ؛ لئلا يُتْعِبَهُ التفلُ. فلو جَعَلَ له عَيْنَيْهِ في قدميه لَمَا رَأَى بهما شيئًا، ولو جعلَه عمودًا واحدًا كالخشبةِ من غيرِ مفاصلَ لَتَعِبَ، رَتَّبَ بعضَ مفاصلِه ببعضٍ لِيَنْثَنِيَ، وَرَتَّبَ فقراتِ الظهرِ بعضَها ببعضٍ، وفرَّق له أصابعَ يديه، لو جَعَلَ يدَه ملتصقةً كيدِ البعيرِ لَمْ يَحُلَّ شيئًا ولم يَعْقِدْ شيئًا، وَشَدَّ له رؤوسَ أصابعِه بالأظفارِ، وأودعَ فيه من الغرائبِ والعجائبِ شيئًا يُبْهِرُ العقولَ.
ونحن نلفتُ أنظارَ إخوانِنا دائمًا لِمَا لفتَ اللَّهُ أنظارَنا إليه، بِأَنَّ كُلَّ هذه العملياتِ - أيها الِإخوانُ - عَمِلَهَا ربُّنا فينا من غيرِ أن يشقَّ بطنَ أمهاتِنا، ولا أن يخيطَها، كُلُّ هذه العملياتِ الهائلةِ والأُمُّ بطنُها لم يُشَقَّ، ولم يَحْتَجْ إلى أن تُبنج، ولا أن تنومَ في صحيّة، يعملُه خالقُ الكونِ وهي لا تدري: ﴿هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦)﴾ [آل عمران: آية ٦].
وهذا نُنَبِّهُ الناسَ إليه دائمًا؛ لأَنَّ اللَّهَ يُعجِّبُ خلقَه منهم كيفَ ينصرفونَ عن هذا؟!! حيث قال في السورةِ الكريمةِ سورةِ الزمرِ: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾ [الزمر: آية ٦].
على عروشها لما سخطنا على أهلها ﴿فَجَاءهَا بَأْسُنَا﴾ في حال كون أهلها بائتين، أو في حال كونهم قائلين، أي: مستريحين وقت القيلولة.
وفي هذه الآية الكريمة حذف النعت، وحذف النعت يقول بعض علماء العربية: إنه قليل، كما قال ابن مالك في الخلاصة (١):

وَمَا مِنَ المَنْعُوتِ وَالنَّعْتِ عُقِلْ يَجُوزُ حَذْفُه وفِي النَّعْتِ يَقِل
ولكنه بِتَتَبّع اللغة العربية يُعلم أن حذف النعت كثير. والنعت المحذوف هنا هو قوله: «وكم من قرية ظالمة عاصية غير متبعة ما أُنزل إليها». والدليل على هذا النعت المحذوف: أن الله لا يهلك قرية إلا قرية ظالمة، كما صرح به في قوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (٥٩)﴾ [القصص: آية ٥٩] فدلت هذه الآيات على أن القرية يُحذف نعتها هنا. أي: «وكم من قرية ظالمة عاصية ممتنعة من اتباع ما أنزلنا، متبعة للأولياء المضلين غير ما أنزلنا، كم من قرية بهذه المثابة أهلكناها».
وحَذفُ النعت (٢) مشهور في كلام العرب، ومن أمثلته في القرآن قوله تعالى: ﴿وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩)﴾ [الكهف: آية ٧٩] لأن المراد كل سفينة صحيحة صالحة؛ إذ لو كان يأخذ المعِيبَة المَخْرُوقَة لما كان في خرق الخضر للسفينة فائدة؛ لأنه لما خرقها خرقها ليعيبها لتسلم بذلك العيب من أخذ الملك الغاصب لها؛ لأن عيبها بالخرق يزهده في أخذها؛ ولذا قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٧١) من سورة البقرة.
(٢) السابق.
وهذه الفكرة أن شعاعه يتصل بالدماغ، وأنه بين هذا وهذا، فمن قال في القلب فقد صدق، كما جاء به الوحي، ومن قال في الدماغ بهذا الاعتبار فقد صدق لاتصال نوره به. من قال هذا فقوله أهون، والمسألة على قوله أسهل؛ لأنها لا تستلزم تكذيب الله.
ومعلوم أن البحث في العقل بحث فلسفي معروف، وأن الفلاسفة بحثوا في العقول أكثر من مائة نوع من البحوث مختلفة، ومنها بحثهم في محل مركزه، وقدماء الفلاسفة كانوا يستدلون على أن مركز العقل الدماغ، ويستدلون بما إذا نُظر في الاصطلاح إذا هو شرطيّ مركب من شرطية متصلة لزومية، يظنون أنها لزوميّة وهي اتفاقية!! وإيضاح ذلك: أنهم بحسب
الاستقراء والتتبع وجدوا كل ما يؤثر على الدماغ من جميع المؤثرات يضر بالعقل، وهذا أمر مُشاهد لا نزاع فيه؛ لأن كل ما يضرّ بالدماغ يؤثر على العقل، فَزَعَمُوا مِنْ هُنَا أنَّ مَرْكَزَهُ الدماغ لتأثره بما يؤثر عليه، فقالوا: في الشرطية المتصلة المذكورة: لو لم يكن محله الدماغ لما تأثر بجميع المؤثرات على الدماغ، لكنه تأثر بها، ينتج: محله في الدماغ.
ومتأخروهم يزعمون أن عندهم آلات رصدوه بها حتى رأوا حركة الفكر أنها في الدماغ.
وعلى كل حال فهذه النظرات الفلسفية إنما يُنظر فيها إذا لم تخالف نصوص كتاب الله، ومقصودنا أن ننبهكم على أن لا تنجرفوا مع أقوال الكفرة، ضاربين بقول خالق السماوات والأرض الحائط، وأن لا تقبلوا إلا شيئًا يمكن ألا يكون مخالفًا لكتاب الله كما أشرنا إليه، وهذا معنى قوله: ﴿وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٠٠].
وإن كان فيه مصحف فإنَّهُ لاَ يَحْرِقُهُ، وقد غلّ رجل في بعض الغزوات فيها بعض المسلمين فحرقوا متاعه ووجدوا فيه مصحفاً فباعوا المصحف وتصدقوا بِثَمَنِهِ (١) كذا قال بعضهم، والله أعلم.
وقوله تعالى في هذه الآية: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال: الآية ٤١] قال بعض العلماء (٢): الخمس ستة أنصباء: نصيب لله، ونصيب للرسول صلى الله عليه وسلم، ونصيب لذي القرابة، ونصيب لليتامى، ونصيب للمساكين، ونصيب لابن السبيل. ومن قال: إنها ستة أنصباء، لم أعلم أحداً اشتهر عنه هذا القول إلا أبا العالية (رحمه الله) فإنه قال: الخمس يُجعل ستة أنصباء، قال: ونَصِيبُ اللهِ هُوَ أنَّهُ إِذا جاء المال يأخذ الإمام ويملأ يده منه ويجعلها في رِتَاج (٣) الكعبة. فعنده: نصيب الله يُصرف في مصالح الكعبة. وهذا القول لا يَخْفَى ضَعْفُهُ؛ لأنه لا دليل عليه. والتحقيق -إن شاء الله- الذي عليه جماهير العلماء: أن نصيب الله ونصيب الرسول ﷺ واحد، وأن اسم الله ذُكر للاستفتاح والتعظيم لشأنه (جل وعلا) (٤)؛ لأن كل شيء له جل وعلا ﴿إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ﴾ [النمل: الآية ٩١] فنصيب الله هو نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم،
_________
(١) أخرجه سعيد بن منصور (٢/ ٢٦٩)، والدارمي (٢/ ١٤٩)، وأبو داود في الجهاد، باب في توبة الغال، حديث رقم: (٢٦٩٦) (٧/ ٣٨١)، والترمذي في الحدود، باب ما جاء في الغال ما يصنع به، حديث رقم: (١٤٦١) (٤/ ٦١).
(٢) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٥٠)، القرطبي (٨/ ١٠)، الأضواء (٢/ ٣٥٧).
(٣) قال في المصباح المنير: «والرِّتاج -بالكسر-: الباب العظيم، والباب المغلق أيضاً. وجعل فلان ماله في رتاج الكعبة، أي: نَذَرَهُ هَدْياً. وليس المراد نفس الباب» اهـ (المصباح المنير: مادة: رَتَجَ) ص٨٣.
(٤) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٤٨)، الأضواء (٢/ ٣٥٨).


الصفحة التالية
Icon