تَفْسِيرُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

[١/أ] / ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (٤٧)﴾ [البقرة: الآيات ٤٥ - ٤٧].
يقول الله جل وعلا: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (٤٦)﴾ [البقرة: الآيتان ٤٥ - ٤٦].
﴿اسْتَعِينُوا﴾ اسْتِفْعَالٌ من العَوْنِ، وياؤه مُبْدَلةٌ من واوٍ، أَصْلُهُ: (اسْتَعْوِنُوا) تَحَرَّكَتِ الوَاوُ بعدَ ساكنٍ صحيحٍ؛ فَوَجَبَ نقلُ حركتِها إلى الساكنِ الصحيحِ (١)، على حَدِّ قولِه في الخلاصةِ (٢):
لِسَاكِنٍ صَحَّ انْقُلِ التَّحْرِيكَ مِنْ ذِي لِينٍ أَتَى عَيْنَ فِعْلٍ كَأَبِنْ
والسينُ والتاءُ للطلبِ، فمعنى ﴿اسْتَعِينُوا﴾ اطْلُبُوا العونَ على أُمُورِكُمُ الدنيويةِ والأخرويةِ.
_________
(١) انظر: الدر المصون (١/ ٥٩، ٣٢٩).
(٢) الخلاصة ص ٧٨، وراجع شرحه في الأشموني (٢/ ٦٢٩)، ضياء السالك (٢/ ٤٠٥).
﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ﴾ [الزمر: آية ٦] ظلمةِ البطنِ، وظلمةِ الرَّحِمِ، وظلمةِ المشيمةِ، لم يَحْتَجْ خالقُ السماواتِ إلى أن يشقَّ البطنَ، ويشقَّ الرحمَ، ويزيلَ المشيمةَ التي على الولدِ، حتى يتمكنَ بصرُه، لا، بَصَرُهُ (جل وعلا) وعلمُه نافذٌ، يفعلُ هذه الأفعالَ الغريبةَ العجيبةَ، ولم تَمْنَعْهُ من ذلك الظلماتُ الثلاثُ، ثم قال: ﴿ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو﴾ ثم قال - وهو محلُّ الشاهدِ -: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)﴾ [الزمر: آية ٦].
﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦)﴾ أين تُصْرَفُ عقولُكم، وتذهبُ عن فعلِ خالقِكم جل وعلا فيكم؟! ولذا قال (جل وعلا): ﴿اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الرعد: آية ١٦] وقد بَيَّنَ غرائبَ صنعِه وعجائبَه، أشارَ لِخَلْقِهِ للِإنسانِ كما كُنَّا نقولُ: ﴿يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ﴾ [الزمر: آية ٦] وهذا الخلقُ بعدَ الخلقِ، والطَّوْرُ بعدَ الطَّوْرِ، المذكورُ في قولِه: ﴿وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤)﴾ [نوح: آية ١٤]، بَيَّنَهُ (جل وعلا) في سورةِ (قد أفلح المؤمنون) قال: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِّنْ طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (١٤)﴾ [المؤمنون: الآيات ١٢ - ١٤] هذه أفعالُ اللَّهِ جل وعلا فِينَا الدالةُ على أنه الربُّ وحدَه، المعبودُ وحدَه (جل وعلا) (١)؛ وَلِذَا قال: ﴿وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ﴾ يعني: أَنَّ مَنْ فَعَلَ هذه
_________
(١) مضى نحو هذا البسط عند تفسير الآيتين (٩٨، ٩٢) من سورة الأنعام، وسيأتي نحوه عند تفسير الآيتين (١١، ٤٥) من سورة الأعراف، والآية (٣٨) من سورة التوبة.
مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ (٤٥)} [الحج: آية ٤٥] والمعنى: أن آبارها تعطلت لم يبق من يستقي عليها لهلاك أهلها وفنائهم عن آخرهم. وكقوله: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ (١١) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (١٢) لاَ تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (١٣) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (١٤) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ (١٥)﴾ [الأنبياء: الآيات ١١ - ١٥] والآيات بمثل هذا كثيرة. ومن هذه القرى التي أهلكها الله قرى قوم لوط (سدوم) وغيرها، رفعها إلى السماء وقلبها فجعل عاليها سافلها، وأرسل عليها حجارة السجيل؛ ولأجل أنه قلبها وجعل عاليها سافلها سُميت القرى: (المؤتفكات) وسُميت عاصمتها: (المؤتفكة) لأن جبريل أَفَكَها، أي: قلبها فجعل عاليها سافلها. والإفك: قلب الشيء، ومنه قيل لأسوأ الكذب (إفك) لأنه قلب للحقائق عن ظواهرها. ومن تلك القرى: قوم مدين (أصحاب شعيب) الذين أهلكتهم الظُّلة، وقوم صالح الذين واعدهم ثلاثة أيام وعداً غير مكذوب، فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين، ومنهم قوم هود أرسل الله عليهم الريح العقيم فَدَمَّرهُم، ومنهم قوم نوح أرسل الله عليهم الطوفان فدَمَّرَهم، كما جاء مفصلاً في الآيات القرآنية.
وكل هؤلاء القرى التي دمَّرها الله إنما دَمَّرَهَا لأنه أنزل إليها وحياً وتشريعاً على لسان نبي كريم وقال لها: ﴿اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ﴾ ولا تتبعوا غيره. فتمردوا، ولم يتبعوا ما أنزل الله، واتبعوا غيره فَدَمَّرَهُم اللهُ تدميراً مستأصلاً؛ ولذا يُحذر هذه الأمة على لسان نَبِيِّها أن لا تتَّبِعَ غير ما أنزل الله، لئلا يهلكها بهلاك مُسْتَأْصِل.
الحجام؛ لأن حمار الحجام لا خطب له ولا شأن، فلا يطلق فيه النبأ، وإنما يطلق فيه الخبر. وإنما كانت هذه الأنباء عن هذه القرى أخبار لها خطب وشأن؛ لأنها دَلَّتْ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ الله، وعلى صبر أنبيائه، وعلى شدة بطشه وعدالته وإنصافه، وإهلاكه للظالمين، وأن فيها من التخويف للموجودين من عذاب الله وسخطه ما ينهاهم أن يقع منهم مثل ما وقع من الأوَّلِين، ولذا كان لها شأن وخطب؛ ولذا قال: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ [الأعراف: آية ١٠١].
ثم قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ اللام مُوطئة لقسم محذوف، وقوله: ﴿جَاءتْهُمْ﴾ ضمير جماعة الذكور راجع إلى سكان القرى المعبّر عنهم بقوله: ﴿تِلْكَ الْقُرَى﴾ فأنث في قوله: ﴿نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا﴾ نظرًا إلى لفظ القرى، وذكَّر في قوله: ﴿وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ﴾ نظرًا إلى سكانها.
وبعض العلماء يقول: القرى تطلق إطلاقين: تطلق على الأبنية، كما تطلق على السكان. وعلى هذا فلا إشكال.
﴿وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ قد قدمنا فيما مضى (١) أن البينات جمع بينة، وأن البينة هي الحجة القاطعة التي لا تترك في الحق لبسًا، ومنه (البينات في الشهادات)؛ لأنها شهادات قوم عدول لا تترك في الحق لبسًا، فالبينات: الحجج الواضحة البينة التي لا تترك في الحق لبسًا. ومعنى (البينات) هنا على التحقيق: المعجزات؛ لأن الله ما أرسل نبيًّا قط إلا ومعه معجزة تُقارب التحدِّي، يعجز عنها الخلق، فتثبت بها نبوته؛ لأن إثبات الله للمعجزات للرسل هي بمثابة قوله
_________
(١) مضى عند نفسير الآية (٧٣) من سورة الأعراف.
وهي نصيب اليتامى والمساكين وابن السبيل. وجماهير العلماء على خلاف هذا.
وقوله: ﴿وَلِذِي الْقُرْبَى﴾ [الأنفال: الآية ٤١] اختلف العلماء في المراد بـ (ذي القربى) (١) فقال بعضهم: بنو هاشم. وقال بعضهم: قريش. والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه: أن المراد بـ (ذي القربى) بنو هاشم وبنو المطلب خاصة، وقد ثبت هذا في الصحيح عن النبي ﷺ فلا ينبغي العدول عنه. هذا هو المذهب الحق الذي لا شك فيه، وهو مذهب الإمام الشافعي وأحمد (رحمهما الله)، وُيروى عن أبي حنيفة. أما ما ذهب إليه مالك من أنهم خصوص بني هاشم. وما قاله بعض القرشيين من أنهم قريش كلهم فهو خلاف التحقيق. والدليل على هذا القول: هو ما ثبت في صحيح البخاري وغيره أن النبي ﷺ لما قسم أموال خيبر وأخرج خُمُسَهَا أعْطَى نَصِيبَ القَرَابَةِ مِنْ خُمس خيبر لخصوص بني هاشم وبني المطلب، ولم يُعْطِ لإخوانهم الآخرين -أعني بني عبد شمس وبني نوفل- فجاء عُثْمَان بن عَفَّان وهو مِنْ بَنِي عبد شمس، وجبير بن مطعم وهو مِنْ بَنِي نوفل، فقالوا: يا رَسُول الله ﷺ أعطيت إخواننا مِنْ بَنِي المُطَّلِبِ ونحن وهم بالنسبة إليك سواء، فلِمَ تُعْطِهِمْ وتَمْنَعنا؟ فأعْطِنَا كما أعطيتهم. فقال صلى الله عليه وسلم: «إنّا وَبَنو المُطَّلِب شَيْءٌ وَاحِدٌ»، وفي بعض رواياته: «لَمْ نَفْتَرِقْ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلاَ إِسْلاَمٍ» (٢)؛ لأن هؤلاء الأربعة إخوة؛ لأن عبد مناف
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٥٥٣) القرطبي (٨/ ١٢)، الأضواء (٢/ ٣٦١).
(٢) البخاري في فرض الخمس، باب من الدليل على أن الخمس للإمام، حديث رقم: (٣١٤٠) (٦/ ٢٤٤). وأخرجه في موضعين آخرين، انظر الحديثين: (٣٥٠٢، ٤٢٢٩).


الصفحة التالية
Icon