تَفْسِيرُ سُورَةِ الأَنْعَامِ
[١/أ] / ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (٣٤) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (٣٥) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٣٦)﴾ [الأنعام: الآيات ٣٣ - ٣٦].
يقول اللَّهُ جل وعلا: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (٣٣)﴾ [الأنعام: آية ٣٣].
قولُه في هذه الآيةِ الكريمةِ: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ قرأه عامَّةُ القراءِ، ما عدا نافعًا: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ﴾ مضارعُ حَزَنَه الأمرُ - بالثلاثيِّ - يَحْزُنُهُ، وقرأه نافعٌ وحدَه: ﴿قد نعلم إنه لَيُحْزِنُك﴾ مِنْ أَحْزَنَهُ الأَمْرُ - بصيغةِ الرباعيِّ - يُحْزِنُهُ (بِضَمِّ الياءِ) (١).
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص١٧١.
فهو أُسْلُوبٌ عَرَبِيٌّ، يخاطبُ الإنسانُ إِنْسَانًا لينقلَ الخطابَ بواسطتِه إلى غيرِه، والقرآنُ بلسانٍ عربيٍّ مبينٍ، ولا سيما أن النبيَّ - ﷺ - هو الْمُشَرِّعُ، فَمَا أُمِرَ بِهِ أو نُهِيَ عنه صارَ مُشَرَّعًا لأُمَّتِهِ (صلواتُ الله وسلامُه عليه) ولذا قال هنا: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾ [الأنعام: آية ١١٤] وقالت جماعةٌ من أهلِ العلمِ: الخطاباتُ في قولِه: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١١٤)﴾ ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: آية ٦٥] كالخطابِ العامِّ الْمُوَجَّهِ لجميعِ الناسِ وإن كان لفظُه مُفْرَدًا (١)، كما هو معروفٌ، كقولِ طَرَفَةَ بنِ العبدِ (٢):

سَتُبْدِي لَكَ الأَيَّامُ مَا كُنْتَ جَاهِلاً وَيَأْتِيكَ بِالأَخْبَارِ مَنْ لَمْ تُزَوِّدِ
فَإِنَّ هذا الخطابَ لفظُه كأنه مفردٌ، ومعناه عامٌّ مُوجَّهٌ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه الخطابُ. هذا معنَى قولِه: ﴿فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (١٤٧)﴾ أي: لا تَكُونَنَّ يا نَبِيَّ اللَّهِ. أي: يا مخاطبُ مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الخطابُ: ﴿مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٤٩)﴾ أي: في الشَّاكِّينَ في أن هذا الكتابَ مُنَزَّلٌ من اللَّهِ. أي: لا تَكُونَنَّ من الممترين في أن الذين آتَيْنَاهُمُ الكتابَ يعلمونَ أنه مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بالحقِّ.
﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (١١٥)﴾ [الأنعام: آية ١١٥] ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾ قرأ هذا الحرفَ جمهورُ القراءِ ما عدا الكوفيين الثلاثةَ، قرأه من السبعةِ: نافعٌ وابنُ كثيرٍ وأبو عمرٍو وابنُ عَامِرٍ كُلُّهُمْ قرؤوا: ﴿وتمت كلماتُ ربك صدقًا وعدلا﴾ بصيغةِ الجمعِ، وقرأه الكوفيونَ، أَعْنِي: عَاصِمًا وحمزةَ والكسائيَّ: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً﴾
_________
(١) انظر: البحر المحيط (٤/ ٢٠٩).
(٢) البيت من معلقته. وهو في شرح القصائد المشهورات (١/ ٩٤).
قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٣٣)﴾ [الأعراف: آية ٣٣].
﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ قرأ هذا الحرف حمزة وحده: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ وقرأ بقية القراء: ﴿قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ (١) وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحدهما دون غيرهما: ﴿ما لم يُنْزِلْ به سلطاناً﴾ بضم الياء وكسر الزاي. وقرأ الجمهور: ﴿مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً﴾ بفتح النون وتشديد الزاي، مضارع (نزَّل).
قل لهم يا نبي الله: هذا الذي تحرمونه ليس هو الذي حرّمه الله، الذي حرمه ربي إنما حرَّمه ربي على الحقيقة، والحرام هو ما حرمه الله، والحلال هو ما أحله الله.
﴿إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ الفواحش جمع فاحشة، وهو جمع قياسي؛ لأن (الفاعِلَة) مطلقاً و (الفَاعِل) إن كان اسماً أو صفة لما لا يعقل كله ينقاس جمع تكسيره على (فواعل) (٢) والفاحشة: هي كل خصلة تناهت في القبح حتى صارت قبيحة بالغة نهاية القبح من الذنوب والمعاصي (٣).
﴿مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ﴾ [الأعراف: آية ٣٣] قد قدمنا أقوال العلماء على هذا في الأنعام في قوله: ﴿وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ﴾ [الأنعام: آية ١٢٠] وأنها كلها ترجع إلى شيءٍ واحد، فقال بعضهم: الفواحش الظاهرة هي الزنا مع البغايا ذوات الرايات،
_________
(١) انظر: المبسوط لابن مهران ص٢١٩.
(٢) مضى عند تفسير الآية (١٥١) من سورة الأنعام.
(٣) السابق.
وقد بيّنا في هذه الدروس مرارًا وكررنا (١) أن هذا الخسران أقسم الله في سورة عظيمة من كتابه أنه لا ينجو منه أحد إلا بشروط معينةٍ منصوصة في كتاب الله، كما أوضح الله ذلك في قوله: ﴿وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (٢)﴾ ﴿إِنَّ الإِنسَانَ﴾ الألف واللام للاستغراق، فهو بمعنى: أن كل إنسان كائنًا من كان ﴿لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (٣)﴾ [العصر: الآيات ١ - ٣].
وقد كررنا في هذه السور الماضية مرارًا (٢) أن العلماء ضربوا لهذا الخسران مثلين، في كل منهما موعظة يتعظ بها المؤمن في دار الدنيا وقت إمكان الفرصة، كررناها مرارًا، ولا نزال نكررهما لعل الله أن يرسل موعظة لقلوب إخواننا تهديهم إلى ما يرضي الله، وتنهاهم عما يكرهه خالقهم، فمن ذلك:
أن العلماء قال بعضهم: إن الله (جل وعلا) أعطى كل إنسان رأس مال، وأمره بالتجارة فيه مع خالقه، ورأس هذا المال المعطى لكل إنسان هو الجواهر النفيسة، والأعلاق العظيمة التي لا مثيل لها في الدنيا، ألا وهي: ساعات العمر ودقائقه وثوانيه. فليعلم كلٌّ منا أن رأس ماله الذي أعطاه خالقه جواهر لا مثيل لها في الدنيا، ولا نظير لها، ولا يوجد شيء أكبر منها فائدة إذا أُعملت على الوجه الأتم، ألا وهي: ساعات عمره ودقائق حياته وثوانيها.
_________
(١) مضى عند تفسير الآية (٩) من سورة الأعراف.
(٢) السابق.
فعطف (سواها) بـ (أم) على الضمير المخفوض، وهو كثير في كلام العرب.
الوجه الثاني: أن قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ في محل نصب معطوف على المحل؛ لأن الكاف من قوله ﴿حَسْبُكَ﴾ وإن كان في محلِّ خَفْض مضاف إليه ما قبله فأصْلُهُ مفعول؛ لأن الحسب بمعنى الكفاية، والأصل: يكفيك. فالكاف في محلّ المفعول، والمعروف في علم العربية أن المخفوض بالإضافة الذي أصْلُهُ النَّصْب يجوز العطف عليه مخفُوضاً، وتجوز مراعاة محلِّه فينصب المعطوف عليه وهو معروف في محلّه.
الوجه الثالث: وهو أظهرها وأبينها وأقلها تكلفاً: أن قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ في محل نصب على أنه مفعول معه، بناء على القول بأن العطف ضعيف، وهو العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض فيتعيّن حينئذٍ النصب على المفعول معه (حسبك الله مع من اتبعك من المؤمنين) وهذا واضح لا إشكال فيه، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر (١):
إِذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وانْشَقَّتِ العَصَا فَحَسْبُكَ وَالضَّحَاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ
فنصب (والضحاك) مفعولاً معه. أي: حَسْبُكَ مع الضحاكِ.
الوجه الرابع: أن قوله: ﴿وَمَنِ اتَّبَعَكَ﴾ في محل رَفْع على أنه مبتدأ خَبَرُهُ مَحْذُوف دلّ ما قبله عَلَيْهِ. أي: ومَنِ اتَّبَعَك من المؤمنين
_________
(١) البيت في القرطبي (٨/ ٤٢)، الدر المصون (١/ ٣٨٤)، ذيل الأمالي ص١٤٠، ونسبه لجرير، وليس في ديوانه.


الصفحة التالية
Icon