والمستقيمُ: الذي لاَ اعوجاجَ فيه (١) وَمِنْهُ قولُ جريرٍ يمدحُ عمرَ بنَ عبدِ العزيزِ (٢):
أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى صِرَاطٍ إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمُ
وهذا الصراطُ المستقيمُ، أي: الطريقُ الواضحُ الذي لا اعوجاجَ فيه: طريقُ دينِ الإسلامِ، دينِ الحنيفيةِ السمحةِ، التي بَعَثَ اللَّهُ بها إبراهيمَ، وَحَاصِلُهَا: اعتقادٌ نَافِعٌ، اعتقادٌ بجميعِه لِلَّهِ (جل وعلا) وَمَا يَجِبُ اعتقادُه، مع امتثالِ الأمرِ، واجتنابِ النهيِ بإخلاصٍ، مُطَابِقًا للوجهِ الذي شَرَعَهُ اللَّهُ (جل وعلا).
﴿ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام: آية ٨٨] ذلك الْهُدَى الذي هَدَى اللَّهُ به هؤلاءِ الأنبياءَ الكرامَ المذكورين فِي سورةِ الأنعامِ هو هُدَى اللَّهِ، ولا هُدًى إلا هُدَى اللَّهِ، كما قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى﴾ [البقرة: آية ١٢٠].
﴿يَهْدِي بِهِ﴾ أي: بِهُدَاهُ مَنْ يَشَاءُ أن يَهْدِيَهُ من عبادِه. ومفهومُ مخالفةِ الآيةِ: أَنَّ مَنْ لَمْ يَشَأْ أَنْ يَهْدِيَهُ فلاَ هاديَ له؛ لأَنَّ مَنْ هَدَاهُ اللَّهُ فَلاَ مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هاديَ لَهُ. فالهدايةُ والإضلالُ كُلُّهَا بمشيئتِه وحدَه (جل وعلا). وهذا معنَى قولِه: ﴿يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ ومفعولُ ﴿يَشَاءُ﴾ محذوفٌ. أي: مَنْ يَشَاءُ هِدَايَتَهُ مِنْ عِبَادِهِ.
_________
(١) السابق.
(٢) انظر: تفسير ابن جرير (١/ ١٧٠)، المحتسب (١/ ٤٣)، الدر المصون (١/ ٦٤).
لك مائة نفس ومتِّ مائة موتة بكل نفس من تلك الأنفس فإني لا أرجع عن دين الإسلام أبداً، إن شئت فكُلي وإن شئت فموتي! فأنزل الله: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا﴾ [العنكبوت: آية ٨] ثم قال (١): ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً﴾ (٢) [لقمان: آية ١٥] فأمره بأن يصاحبهما بالمعروف وهما كافران، فما بالك بالمُؤمِنَين؟!
وقد جاء عن بعض العلماء أن سبب نزول الآية التي في سورة الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ﴾ [الممتحنة: آية ٨] أن أسماءَ بنت أبي بكر (رضي الله عنها) ليست شقيقة عائشة وعبد الرحمن؛ لأن عائشة وعبد الرحمن شقيقان، أمهما أم رومان الفراسية من بني فراس، من بطون كنانة، وأسماء أمها امرأة أُخرى تسمى: قَيْلَة، وقد جاءت إلى المدينة زائرة ابنتها أسماء، والأم كافرة، فما رضيت أسماء أن تُنزل أمها حتى تستشير النبي - ﷺ -، مع أنها جاءت زائرة! ومعها هدايا من هدايا البادية، فأمرها النبي أن تنزلها وتحسن إليها (٣). قال بعض العلماء:
_________
(١) هذه ليست من آية العنكبوت كما لا يخفى، وإنما هي من سورة لقمان. وقد جاء في بعض الروايات ما يدل على أن الآيتين نزلتا فيه.
(٢) أخرجه مسلم في فضائل الصحابة، باب في فضل سعد بن أبي وقاص (رضي الله عنه)، حديث رقم: (١٧٤٨)، (٤/ ١٨٧٧).
(٣) البخاري في الهبة، باب الهدية للمشركين، حديث رقم: (٢٦٢٠)، (٥/ ٢٣٣)، وأخرجه في مواضع أخرى، انظر الأحاديث: (٣١٨٣، ٥٩٧٨، ٥٩٧٩)، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين... ، حديث رقم: (١٠٠٣)، (٢/ ٦٩٦).
الرياحَ وَنَشَفَتِ الأرضُ، ويبست من آثارِ ذلك الطوفانِ نَزَلَ نوحٌ وَمَنْ مَعَهُ، وَتَنَاسَلَ مَنْ مَعَهُ، وصارَ جميعُ الدنيا من أولادِه الثلاثةِ الذين كانوا مَعَهُ، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ (٧٧)﴾ [الصافات: آية ٧٧].
والمؤرخونَ يُسَمُّونَ نوحًا: آدمَ الأصغرَ؛ لأن جميعَ مَنْ بَعْدَهُ من الدنيا من نَسْلِهِ. وأولادُه الذين مَعَهُ: سام وحام ويافث. وبعضُ المؤرخين يقولونَ: إن جميعَ الموجودين في الدنيا راجعٌ إلى تلك الأصنافِ التي هِيَ مِنْ نسلِ هؤلاء الرجالِ، ويزعمونَ أن سَامًا من نسلِه: العربُ والرومُ والفرسُ، وأن حامًا من نسلِه: القبطُ والسوادين والبربرُ، وأن يافث من نسلِه: الصقالبةُ ويأجوجُ ومأجوجُ والتركُ. وأن جميعَ أنواعِ الناسِ يرجعُ في الأصلِ إلى هذه العناصرِ، هكذا يقولونَ، وَاللَّهُ تعالى أَعْلَمُ (١). وَلِذَا قال تعالى: ﴿فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ﴾ [الأعراف: آية ٦٤].
الْفُلْكُ: السفينةُ. وهذه السفينةُ تَمْشِي في البحرِ تحملُ الناسَ، آية من آياتِ الله، كما قال: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّاتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١)﴾ [يس: آية ٤١] وفي القراءةِ الأخرى (٢): ﴿ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (٤٤)﴾ [يس: الآيات ٤١ - ٤٤] الفلكُ: السفينةُ، وَيُطْلَقُ على جمعِ السفنِ، فهو يُطْلَقُ على المفردِ وعلى الجمعِ. قال بعضُ علماءِ العربيةِ (٣): إن أُطْلِقَ على
_________
(١) انظر: البداية والنهاية (١/ ١١٥).
(٢) انظر: المبسوط لابن مهران ص٣٧١.
(٣) انظر: المفردات للراغب ص٦٤٥.
تفسير سورة الأنفال
[١/أ] /... ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (٦)﴾ [الأنفال: الآيات ١ - ٦].
﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١)﴾ [الأنفال: الآية ١].
الجماهير من العلماء (١) على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أنها نزلت في غنائم بدر، لما اصطف المسلمون لقتال المشركين
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٣/ ٣٢٧)، القرطبي (٧/ ٣٦٠)، ابن كثير (٢/ ٢٨٣)، الأضواء (٢/ ٣٤٢).
أما الذين قالوا: تجبُ في الحليِّ المباحِ زكاةٌ فاحتجوا أيضًا بأحاديثَ جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وبآثارٍ عن السلفِ، وبوضعِ اللغةِ، وبالقياسِ أيضًا (١).
أما وضعُ اللغةِ مِنْ حجةِ الأولينَ فقولُهم: إنه ﷺ قال: «وَفِي الرِّقَّةِ (٢) رُبُعُ الْعُشْرِ» (٣) وقال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنَ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» (٤). قالوا: والورقُ لا تُطْلَقُ إلا على الدراهمِ المنقوشةِ، ولا تطلقُ على الحليِّ. هذا من حجةِ الأولينَ بالوضعِ اللغويِّ.
وأما الذين قالوا: تجبُ الزكاةُ فيه فاحتجوا أيضًا بأحاديثَ جاءت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وآثارٍ عن السلفِ، وبالقياسِ، وبوضعِ اللغةِ أيضًا.
_________
(١) انظر: الأضواء (٢/ ٤٥١).
(٢) قال في الأضواء (٢/ ٤٥٠): «قال أبو عبيدة: الرقة عند العرب: الورق المنقوشة ذات السكة السائرة بين الناس، ولا تطلقها العرب على المصوغ، وكذلك قيل في الأوقية. قال مقيده - عفا الله عنه -: ما قاله أبو عبيد هو المعروف في كلام العرب، قال الجوهري في صحاحه: الورق: الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة، والهاء عوض عن الواو وفي القاموس. الورق - مثلثة، وككتف -: الدراهم المضروبة، وجمعه أوراق ووراق كالرقة» اهـ.
(٣) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: زكاة الغنم. حديث رقم: (١٤٥٤) (٣/ ٣١٧ - ٣١٨).
(٤) أخرجه البخاري في الزكاة، باب: ليس فيما دون خمس ذود صدقة. حديث رقم: (١٤٥٩) (٣/ ٣٢٢). وأخرجه في موضع آخر، انظر رقم: (١٤٨٤). ومسلم في الزكاة، حديث رقم: (٩٧٩) (٢/ ٦٧٣) من حديث أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه). وأخرجه مسلم أيضًا من حديث جابر (رضي الله عنه) في الزكاة، حديث رقم: (٩٨٠) (٢/ ٦٧٥).