أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (٤٤) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٤٥)} [الأنعام: الآيات ٤٢ - ٤٥].
يقول اللَّهُ (جل وعلا) لِنَبِيِّهِ: لستَ أولَّ نَبِيٍّ كَذَّبَهُ قومُه، فقد أَرْسَلْنَا قبلَك رسلاً كِرَامًا، وجاؤوا بالبيناتِ والمعجزاتِ الواضحاتِ، فَكَذَّبَتْهُمْ أممُهم كما كَذَّبَتْكَ أُمَّتُكَ. وَكُلُّ هذا من تسليةِ النبيِّ - ﷺ -.
واللامُ في (لقد) توطئةٌ لقسمٍ محذوفٍ (وَاللَّهِ لقد أرسلنا) وصيغةُ الجمعِ في ﴿أَرْسَلْنَا﴾ للتعظيمِ.
وفي هذه الآيةِ الكريمةِ حَذْفَانِ، كِلاَهُمَا دَلَّ المقامُ عليه (١):
الحذفُ الأولُ: حذفُ المفعولِ به، وتقديرُه: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رسلاً إلى أممٍ من قَبْلِكَ) فَحُذِفَ المفعولُ لدلالةِ المقامِ عليه، وَحَذْفُ الفَضْلَةِ إذا دَلَّ المقامُ عليها سائغٌ مُطَّرِدٌ.
الحذفُ الثاني الذي دَلَّ المقامُ عليه: هو حذفُ (الفاءِ) وما عَطَفَتْ. وحَذفُ (الفاء) وما عَطَفَتْ إن دَلَّ المقامُ عليه: فهو مُطَّرِدٌ في لغةِ العربِ، كثيرٌ في القرآنِ، أشارَ له ابنُ مالكٍ في الخلاصةِ بقولِه (٢):
وَالْفَاءُ قَدْ تُحْذَفُ مَعْ مَا عَطَفَتْ............................
وتقديرُه هنا: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا﴾ أي: (أَرْسَلْنَا رُسُلاً) ﴿إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ فَكَذَّبَتْ تلك الأممُ ﴿فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ﴾ ابتلاءً لَمَّا كَذَّبُوا. هذانِ الحذفانِ.
_________
(١) انظر: القرطبي (٦/ ٤٢٤)، البحر المحيط (٤/ ١٣٠)، الدر المصون (٤/ ٦٣٢).
(٢) الخلاصة ص (٤٨)، وانظر: شرحه في الأشموني (٢/ ١١٩).
نظامِ الحكمِ، ثم تَمَكَّنَتْ منه أن تَقْتُلَهُ شَرَّ قِتْلَةٍ فالكافرُ تمردَ على نظامِ مَنْ خَلَقَهُ، واستعملَ نِعَمَ اللَّهِ في معصيةِ اللَّهِ، يريدُ بذلك قَلْبَ نظامِ حُكْمِ السماءِ؛ لعدمِ رِضَاهُ بنظامِ السماءِ، فأصحابُ الدولةِ الإسلاميةِ الذين هم وكلاءُ اللَّهِ في أَرْضِهِ، ويستعملُهم في طاعتِه؛ لِيُنَفِّذُوا ما يريدُ من خيرٍ، وَيَنْهَوْنَ عَمَّا يَنْهَى عنه من شرٍّ قَاتَلُوا هذا الكافرَ قِتَالاً مَرِيرًا، فبعدَ أن أَمْسَكُوهُ كان لهم أن يقتلوه؛ لأنه كان عَدُوًّا لهم يريدُ أن يقلبَ نظامَ السماءِ، فأمَرَ مَنْ خَلَقَهُ بِقَتْلِهِ قِتْلَةً دونَ قِتْلَةٍ، وهي أنه طَرَدَهُ عن مرتبةِ الإنسانِ إلى مرتبةٍ تَقْرُبُ من مرتبةِ الحيوانِ، بل هي مرتبةُ الحيوانِ؛ لأنه يُبَاعُ ويُشْرَى ويُوهَبُ، مع أنه لم يَقْتُلْهُ من الدنيا، بخلافِ الدولةِ التي تَنْشُرُ الكفرَ لو تَمَكَّنَتْ من المتمردِ عليها الذي يريدُ قلبَ نظامِها لَشَنَقَتْهُ وَقَتَلَتْهُ شَرَّ قِتلَةٍ!!
فاللَّهُ أَمَرَ بِقَتْلِهِ قِتْلَةً دونَ قِتْلَةٍ، وأنه تُنَزَّلُ منزلتُه عن درجةِ الإنسانِ الكاملِ إلى درجةِ الحيوانِ، ويبينُ حقوقَه كاملةً، فَيَأْمُرُ سيدَه بالإحسانِ إليه، وألا يُكَلِّفَهُ من العملِ إلا ما يطيقُ، وإن كَلَّفه أَعَانَهُ.
نعم، هنا يبقى سؤالٌ: وهو أن يقولَ طالبُ العلمِ: ما دامَ كَافِرًا مُتَمَرِّدًا على نظامِ السماءِ فَقَتْلُهُ قِتْلَةً دونَ قِتلَةٍ هذا أمرٌ معقولٌ، ولكن إذا أَسْلَمَ وَصَلَّى أخًا لنا يُصَلِّي معنا في المساجدِ، ويصومُ معنا رمضانَ، ويعبدُ اللَّهَ معنا، فما الحكمةُ إذًا وَمَا المُسَوِّغُ بِأَنَّا نَشْتَرِيهِ، ونبيعُه وقد زالَ الموجبُ المُسَوِّغُ لذلك؟
والجوابُ عن هذا: هي قاعدةٌ معروفةٌ لَدَى جميعِ العقلاءِ، وهي أن الحقَّ الثابتَ لاَ يرفعُه الحقُّ اللاحقُ، فالمجاهدونَ عندما وضعوا عليه أيديَهم وهو كافرٌ ثَبَتَتْ لهم ملكيتُه، فَلَمَّا أَسْلَمَ استحقَّ رفعَ الملكيةِ، وَلَكِنْ كان حقُّه متأخرًا، فَقُدِّمَ عليه الحقُّ السابقُ،
الرؤساء المتبوعون (١). أجاب الرؤساء المتبوعون: ﴿وَقَالَتْ أُولاَهُمْ﴾ أي: أولى الأمم، الرؤساء المتبوعون، وهم سادة الكفر العظام الذين دخلوا النار أولاً ﴿لأُخْرَاهُمْ﴾ قالوا: ﴿لأُخْرَاهُمْ﴾ اللام: لام التبليغ؛ أي: للأتباع الذين شكوهم وطلبوا أن يزيد الله مضاعفة العذاب عليهم ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل﴾ الظاهر أن الفاء هي التي يقولون لها: (الفصيحة). إن شكوتمونا وسألتم لنا ضِعْف العذاب فما لكم علينا من فضل، أنتم في النار عملتم في الدنيا بالكفر كما عملنا وستخلدون في النار كما خلدنا -والعياذ بالله- وهذا معنى: ﴿فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْل﴾ فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكسبون في دار الدنيا، كما قال الله عنهم إنهم قالوا: ﴿أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ﴾ [سبأ: آية ٣٢] يعنون: الرسل جاءتكم بآيات واضحات، ومعجزات، وكتب سماوية، ونحن ما جئناكم بشيء، فَلِمَ تتبعونا وتتركون الحق واضحاً فأنتم الذين جنيتم على أنفسكم ﴿فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ﴾ بسبب الذي كنتم تكسبونه في دار الدنيا.
ثم قال (جلّ وعلا) بعد أن ذكر ما للكفار - أتباعهم ومتبوعيهم - من عذاب النار، ومضاعفة العذاب -والعياذ بالله- قال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا﴾ [الأعراف: آية ٤٠] من الأتباع والمتبوعين الكفرة ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء﴾ قرأ هذا الحرف أبو عمرو: ﴿لاَ تُفْتَحُ لهم أبواب السماء﴾ بالتاء الفوقية مع التخفيف. وقرأه حمزة والكسائي: ﴿لاَ يُفْتَح لهم أبواب السماء﴾ وقرأه الباقون وهم
_________
(١) انظر: ابن جرير (١٢/ ٤١٧، ٤١٩)، القرطبي (٧/ ٢٠٥)، ابن كثير (٢/ ٢١٢).
وقال بعض العلماء (١): (لعل) هي للرجاء، يعني: على رجائكم أيها الخلق الذين لا تعلمون العواقب وما تؤول إليه الأمور، أما الله (جل وعلا) فهو عالم بما تؤول إليه الأمور فلا تجري له (لعل)؛ ولذا قال لموسى وهارون: ﴿فَقُولاَ لَهُ﴾ يعني فرعون ﴿قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: آية ٤٤] على رجائكما أن يتذكر أو يخشى ومبلغ علمكما، أما الله فهو عالم بأنه لا يتذكر ولا يخشى، ولا يجري عليه (لعل). هذان الوجهان معروفان، والتعليل هنا أنسب.
وقوله: ﴿تَهْتَدُونَ﴾ تكونون على طريق الهدى التي هي موصلة إلى القصد والصواب من رضا الله (جل وعلا) ونيل ما عنده من الخلود في الجنة. (٢) [٢٢/أ] / ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)﴾ [الأعراف: الآيتان ١٥٩، ١٦٠].
يقول الله (جل وعلا): ﴿وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ﴾ [الأعراف: آية ١٥٩] موسى هو نبي الله موسى بن عمران (عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام). وقومه: هم بنو إسرائيل.
وأصل (القوم) في لغة العرب: اسم جمع لا واحد له من
_________
(١) السابق.
(٢) جاء في أول الشريط المسجل لهذا الدرس (كما في إحدى النسخ) ما نصه: «اليوم:


تفسير سورة التوبة
[١/أ] / يقول الله (جل وعلا): ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢) وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٣) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٤)﴾ [التوبة: الآيات ١ - ٤].
نزلت هذه السورة الكريمة عام تسع، رجوع النبي ﷺ من غزوة تبوك، وكان بعض الصحابة يقول: آخر سورة نزلت بتمامها من القرآن براءة (١).
واعلم أن الصحابة (رضي الله عنهم) لم يكتبوا في المصاحف العثمانية سطر ﴿بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ﴾ قبل هذه السورة الكريمة، مع أنهم كتبوه في كل سورة من سور القرآن غير
_________
(١) البخاري عن البراء (رضي الله عنه)، كتاب التفسير، باب ﴿بَرَاءةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... ﴾ حديث رقم: (٤٦٥٤) (٨/ ٣١٦).


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
يوم الخميس، الموافق ٢/ رمضان المبارك سنة (١٣٩١هـ) » اهـ، وهو التاريخ المثبت كتابيًّا على إحدى النسخ.