سورة الفاتحة
اسم الكتاب : تفسير اللباب في علوم الكتاب
قولُه تعالى :﴿الْحَمْدُ للَّهِ﴾.
الحمدُ : الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعمةً مُبْتدأة إلّى أَحَدٍ أَمْ لاَ.
يُقال : حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به، وحمدتُه على شَجَاعته، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ، دون عمل الجَوَارح، إذ لا يُقالُ : حمدت زيداً أيْ : عملت له بيدي عملاً حسناً، بخلاف الشكر ؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير.
يُقال : شَكَرْتُه على ما أعطاني، ولا يُقالُ : شكرتُه على شَجَاعَتِه، ويكون بالقلبِ، واللِّسانِ، والجَوَارح ؛ قال الله تعالى :﴿اعْمَلُوا ااْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً﴾ [سبأ : ١٣] وقال الشاعرُ :[الطويل].
٣٧ - أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً
يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا
فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه.
وقيل : الحمدُ هو الشكر ؛ بدليلِ قولِهم :" الحمدُ لِلَّهِ شُكراً ".
وقيل : بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق.
والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
وقيلَ : الحمدُ : الثناءُ عليه تعالى [بأوصافِه، والشكرُ : الثناءُ عليهِ بِأَفْعاله] فالحامدُ قِسْمَانِ : شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة.
وقيل : الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِن كان منقولاً عن ثَعْلَب ؛ لأنَّ المقلوبَ اقلُّ استِعمالاً من المقلوب منه، وهذان مُسْتَوِيانِ في الاستعمالِ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْسِ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيِن.
١٦٨
وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المَدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْدِ، فإنه يُقالُ : حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال : مَدَحْتُه، ولو كانَ مَقْلُوباً لما امتنع ذلك.
ولقائلٍ : أَنْ يقولَ : منع من ذلك مانِعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك.
وقال الرَّاغِبُ :" الحَمْدُ لله " : الثناءُ بالفَضِيلَةِ، وهو أخصُّ من المدحِ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار، فقد يُمْدَح الإنسانِ بطولِ قَامَتِهِ، وصَبَاحةِ وجهه، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ.
قال ابنُ الخَطِيبِ - رحمه الله تعالى - : الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه : أحدها : أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلحَيِّ، ولغيرِ الحَيِّ، أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ، فإنه يَمْدَحُها ؟ فثبتَ أنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ.
الثَّاني : أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ، وقد يكونُ بعدَه، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان.
الثالث : أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه ؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ :" احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهُ المَدَّاحينَ ".
أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - :" مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ " الرابعُ : أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل.
وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدَّالُّ على كونه مختصَّا بِفَضيلة مُعَيَّنَةٍ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ.
وأمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ، فهو أنَّ الحمدَ يَعَمُّ إذا وَصَلَذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك، وأما الشُّكْرُ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك.
وقال الرَّاغِبُ - رحمه الله - : والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً، وكل حمد مَدْحٌ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً.
١٦٩
ويقال : فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ.
واحمدُ أَيْ : أَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ.
والألفُ : واللام في " الحَمْد " قِيل : للاستغراقِ.
وقيل : لتعريفِ الجِنْس، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ ؛ وقال الشاعر :[الطويل] ٣٨ -..................
إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٦٨
وقيل : للعَهْدِ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ، ولم يُبَيِّنْ وجهةَ ذلك، ويشبه أن يُقالَ : إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ، لا الإخبار به، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه، بخلاف كونها للجِنسِ.
والصلُ في " الحَمْدِ " المصدريّة ؛ فلذلك لا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ.
وحكى ابنُ الأَعْرَابِيُّ جَمْعَهُ على " أَفْعُل " ؛ وأنشد :[الطويل] ٣٩ - وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنضاءِ خَصَصْتُهُ
بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي


الصفحة التالية
Icon