سورة الرحمن
مكية كلها في قول الحسن، وعروة بن الزبير، وعكرم، وعطاء، وجابر.
وقال ابن عباس : إلا آية منها، وهي قوله تعالى :﴿يسئله من في السموات والارض﴾ [الحمن : ٢٩ ] الآية.
وقال ابن مسعود ومقاتل : هي مدنيةكلها.
والأول لأصح، لما روى عروة بن الزبير، قال : أول من جهر بالقرآن ب"مكة" بعد النبي ﷺ ابن مسعود، وذلك أن الصحابة - رضي الله عنهم - قالت : ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر به قط، فمن رجل يسمعموه، فقال ابن مسعود : أنا، فقالوا : نخشى عليك، وإنما نريد رجلا له عشيرة يمنعونه، فأبى ثم قام عند المقام، فقال : بسم الله الرحمن الرحيم.
"الرحمن، علم القرآن" ثم تمادى بها رافعا صوته، وقريش في أنديتها، فتأملوا، وقالوا : ما يقول ابن أم عبد ؟ قالوا : هو قول : الذي يزعم محمد أنه أنزل عليه، ثم ضربوه حتى أثروا في وجهه.
وصح أن النبيث صلى الله عليه ةسلم قام يصلي الصبح ب "نخلة"، فقرأ سورة "الرحمن"، ومر النفير من الجن فآمنوا به.
٢٩٠
وهي ثمان وسبعون آية، وثلاثمائة وإحدى وخمسون كلمة، وألف وستمائة وستة وثلاثون حرفا.
جزء : ١٨ رقم الصفحة : ٢٩٠
قال تعالى :" الرَّحْمن " فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أنه خبر مبتدأ مضمر، أي :" الله الرحمن ".
الثاني : أنه مبتدأ وخبره مضمر، أي :" الرحمن ربنا " وهذان الوجهان عند من يرى أن " الرحمن " آية مع هذا المضمر معه، فإنهم عدُّوا الرحمن " آية ".
ولا يتصور ذلك إلا بانضمام خبر أو مخبر عنه إليه ؛ إذ الآية لا بد أن تكون مفيدة، وسيأتي ذلك في قوله :﴿مُدْهَآمَّتَانِ﴾ [الآية : ٦٤].
الثالث : أنه ليس بآية، وأنه مع ما بعده كلام واحد، وهو مبتدأ، خبره " عَلَّم القُرْآنَ ".
فصل في بيان مناسبة السورة افتتح السورة التي قبلها بذكر معجزة تدل على القهر [والغلبة] والجبروت، وهو انشقاق القمر، فمن قدر عليه قدر على قطع الجبال وإهلاك الأمم، وافتتح هذه السورة بذكر معجزة تدلّ على الرحمة، وهي القرآن، وأيضاً فأولها مناسب لآخر ما قبلها ؛ لأن آخر تلك أنه ﴿مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ﴾ [القمر : ٥٥] وأول هذه أنه رحمن.
قال بعضهم : إن " الرحمن " اسم علم، واحتج بقوله تعالى :﴿قُلِ ادْعُواْ اللَّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَانَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَآءَ الْحُسْنَى ﴾ [الإسراء : ١١٠].
وأجاز أن يقال :" يالرحمن " باللام، كما يقال :" يا الله " وهذا ضعيف، وهو مختص بالله تعالى، فلا يقال لغيره.
٢٩١
قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي :" الرحمن " فاتحة ثلاثة سور إذا جمعن كن اسماً من أسماء الله تعالى :" الر " و " حم " و " نون " فيكون مجموع هذه " الرحمن ".
ولله - تعالى - رحمتان : رحمة سابقة بها خلق الخلق، ورحمة لاحقة بها أعطاهم الرزق والمنافع، فهو رحمن باعتبار السَّابقة، رحيم باعتبار اللاحقة، ولما اختص بالإيجاد لم يقل لغيره : رحمن، ولما تخلق بعض خلقه الصالحين ببعض أخلاقه بحسب الطَّاقة البشرية، فأطعم ونفع، جاز أن يقال له : رحيم.
قوله :" عَلَّم القُرآن " فيه وجهان : أظهرهما : أنه " علم " المتعدية إلى اثنين أي عرف من التعليم، فعلى هذا المفعول الأول محذوف.
قيل : تقديره : علم جبريل القرآن.
وقيل : علم محمداً.
وقيل : علم الانسان، وهذا أولى لعمومه، ولأن قوله :" خَلَقَ الإنْسان " دال عليه.
والثاني : أنها من العلامة، والمعنى : جعله علامة، وآية يعتبر بها، أي : هو
٢٩٢
علامة النبوة ومعجزة، وهذا مناسب لقوله تعالى :﴿وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ [القمر : ١].
على ما تقدم أنه ذكر في أول تلك السورة معجزة من باب الهيبة، وذكر في هذه السورة معجزة من باب الرحمة، وهو أنه يسر من العلوم ما لا يسره غيره، وهو ما في القرآن، أو يكون بمعنى أنه جعله بحيث يعلم كقوله تعالى :﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر : ١٧]، فالتعليم على هذا الوجه مجاز كما يقال لمن أنفق على متعلم وأعطى أجرة معلمه : علمته.
فإن قيل : لم ترك المفعول الثاني ؟.
فالجواب : أن ذلك إشارة إلى أن النعمة في التعليم لا تعليم شخص دون شخص ؛ فإن قيل : كيف يجمع بين هذه الآية، وبين قوله :﴿وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ﴾ [آل عمران : ٧] ؟ فالجواب : إن قلنا بعطف الرَّاسخين على " الله " فظاهر.
وإن قلنا بالوقف على الجلالة، ويبتدأ بقوله :" والرَّاسِخُون " فلأن من علم كتاباً عظيماً فيه مواضع مشكلة قليلة، وتأملها بقدر الإمكان، فإنه يقال : فلان يعلم الكتاب الفلاني، وإن كان لم يعلم مراد صاحب الكتاب بيقين في تلك المواضع القليلة، وكذا القول في تعليم القرآن، أو يقال : المراد لا يعلمه من تلقاء نفسه، بخلاف الكتب التي تستخرج بقوّة الذكاء.

فصل في نزول هذه الآية قال المفسرون : نزلت هذه الآية حين قالوا : وما الرحمن ؟.


وقيل : نزلت جواباً لأهل " مكة " حين قالوا :﴿إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ﴾ [النحل : ١٠٣]، وهو رحمن " اليمامة "، يعنون : مسيلمة الكتاب فأنزل الله - تعالى - ﴿الرحمن، علَّم القُرآن﴾ أي : سهله لأن يذكر ويُقرأ.
كما قال :﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ﴾ [القمر : ٢٢].
قوله تعالى :" خلق الإنسان ".
قال ابن عباس وقتادة، والحسن : يعني آدم - عليه الصلاة والسلام -.
قوله :" علَّمهُ البَيانَ " علمه أسماء كل شيء.
وقيل : علمه اللغات كلها، وكان آدم يتكلم بسبعمائة ألف لغة أفضلها العربية.
وعن ابن عباس أيضاً، وابن كيسان : المراد بالإنسان هنا محمد - عليه الصلاة والسلام - والمراد من البيان بيان الحلال من الحرام، والهدى من الضلالة.
٢٩٣


الصفحة التالية
Icon